التنمية وحقوق الإنسان أية علاقة؟ - المفضل العيادي - عائشة الفضلي

 




التنمية وحقوق الإنسان أية علاقة؟

Development and human rights have no relationship?

المفضل العيادي/  دكتور في القانون كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية طنجة

عائشة الفضلي/ بسلك الدكتوراه القانون العام والعلوم السياسية. كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية طنجة

Youssef TAMALKOUTAN

 

مقدمة

اعتمدت هيئة الأمم المتحدة سنة  1956 يتعريفا للتنمية بأنها " العمليات التي بمقتضاها توجه الجهود لكل من الأهالي والحكومة بتحسين الأحوال الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في المجتمعات المحلية، لمساعدتها على الاندماج في حياة الأمم والإسهام في تقدمها بأفضل ما يمكن"[1].

ويعتبر مفهوم التنمية من أهم المفاهيم العالمية في القرن العشرين، حيث أطلق على عملية تأسيس نظم اقتصادية وسياسية متماسكة فيما يسمى بـ "عملية التنمية"، بعد حصول عدة دول على الاستقلال خاصة في اسيا وإفريقيا، وهذا المفهوم لم يعد مرتبط بالاقتصاد وقياس الدخل القومي والناتج المحلي والعمالة وتفاوت الدخول.

كما تجدر الإشارة إلى أن مفهوم التنمية Development  بداية في علم الاقتصاد حيث استخدم للدلالة على عملية إحداث مجموعة من التغيرات الاقتصادية التي تكسب بلدا معينا القدرة على التطور الذاتي المستمر، تحسين حياة الافراد وزيادة درجات إشباع حاجياتهم الأساسية، ثم ترشيد استغلال الموارد الاقتصادية وحسن توزيع عائداتها. ثم انتقل مفهوم التنمية إلى حقل السياسة منذ ستينيات القرن العشرين، حيث ظهر كحقل منفرد يهتم بتطوير البلدان غير الأوربية تجاه الديمقراطية.  وتعرف التنمية السياسية بأنها " عملية تغيير اجتماعي متعدد الجوانب، غايته الوصول إلى مستوى الدول الصناعية"، ويقصد بمستوى الدولة الصناعية إيجاد نظم تعددية على شاكلة النظم الأوربية تحقق النمو الاقتصادي والمشاركة الانتخابية والمنافسة السياسية، وترسخ مفاهيم الوطنية والسيادة والولاء للدولة القومية، وفيما بعد تطور مفهوم التنمية ليرتبط بالعديد من الحقول المعرفية. فأصبح هناك التنمية الثقافية التي تسعى لرفع مستوى الثقافة في المجتمع وترقية الإنسان، وكذلك التنمية الاجتماعية التي تهدف إلى تطوير التفاعلات المجتمعية بين أطراف المجتمع. وانطلاقا مما سبق سنحاول مقاربة هذا الموضوع من خلال إشكالات النشأة والتأصيل لمفهوم التنمية وحقوق الإنسان، والعلاقة بينهما، ثم التنمية كحق أساسي من حقوق الإنسان. 

المبحث الأول: الإطار المفاهيمي للتنمية وحقوق الإنسان

تساهم التنمية في تعزيز جميع حقوق الإنسان وحمايتها. والتنمية أساسية لتحسين مستويات المعيشة ورفاهية السكان في كل دولة، كما تساهم في التمتع بجميع حقوق الإنسان. وأن التنمية وإعمال حقوق الإنسان والحريات الأساسية مترابطان بشكل وثيق ويعزز كل منهما الآخر. فما مفهومهما؟

المطلب الأول: مفهوم التنمية

تعتبر التنمية " عملية ديناميكية تتكون من سلسلة من التغيرات الهيكلية والوظيفية في المجتمع، وتحدث نتيجة للتدخل في توجيه حجم ونوعية الموارد المتاحة للمجتمع، وذلك لرفع مستوى رفاهية الغالبية من أفراد المجتمع عن طريق زيادة فاعلية أفراده في استثمار طاقات المجتمع إلى الحد الأقصى"[2]. وهي "تنمية طاقات الإنسان إلى أقصى حد مستطاع، أو أنها إشباع الحاجات الاجتماعية للإنسان للوصول بالإنسان إلى مستوى معين من المعيشة"[3].

وتعني التنمية حسب الأمم المتحدة بأنها " تلك العمليات التي يمكن بها توحيد جهود المواطنين والحكومة لتحسين الأحوال الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في المجتمعات المحلية، ومساعدتها على الاندماج في حياة الأمة والمساهمة في تقدمها بأقصى قدر مستطاع"[4].

ويشير العديد من الباحثين في حقل التنمية بأن مفهومها - التنمية - قد برز بصورة أساسية منذ الحرب العالمية الثانية، وأنه قبل هذا التاريخ كان يستخدم مصطلحان للدلالة على حدوث التطور في المجتمع وهما: التقدم المادي والتقدم الاقتصادي[5]. وقد برز مفهوم التنمية في علم الاقتصاد حيث استخدم للدلالة على عملية إحداث مجموعة من التغيرات الجذرية في مجتمع معين بهدف اكتساب ذلك المجتمع القدرة على التطور الذاتي المستمر، بمعدل يضمن التحسن المتزايد في نوعية حياة كل فرد، وبمعنى آخر، زيادة قدرة المجتمع على الاستجابة للحاجات الأساسية والحاجات المتزايدة لأعضائه بالصورة التي تكفل زيادة درجات إشباع تلك الحاجات، عن طريق الترشيد  المستمر لاستغلال الموارد المتاحة وحسن توزيع عائدات ذلك الاستغلال، ويرى  ناصر عارف أن هذا المفهوم قد انتقل إلى حقل السياسة منذ الستينيات، حين ظهر حقلا منفردا يهتم بتطوير البلدان غير الأوروبية تجاه الديمقراطية، ولاحقا تطور مفهوم التنمية ليرتبط بعدد من الحقول المعرفية فأصبحت هناك التنمية الثقافية، وكذلك التنمية الاجتماعية وغيرها"[6].

يمكن القول بأنه يوجد اختلاف بين العلماء في نظرتهم إلى هذا المفهوم، فنجد مثلا روستوف Rostow يعرف التنمية بأنها عملية تخلي المجتمعات المتخلفة على السمات التقليدية السائدة فيها، وتبني الخصائص السائدة في المجتمعات المتقدمة. أما عبد المنعم شوقي فيقول " إن عملية التنمية هي ذلك الشكل المعقد من الإجراءات والعمليات المتتالية…. التي يقوم بها الإنسان في مجتمع ما من خلال عمل تغيير مقصود وموجه يهدف إلى إشباع حاجة" وبالنسبة لكارل ماركس " فالتنمية هي تلك العملية الثورية التي تتضمن تغييرات جديدة جذرية وشاملة في البنيات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والقانونية أيضا،

 زيادة إلى نمط الحياة وأساليب العيش والقيم الثقافية"، كما يؤكد كارل ماركس كذلك أن البلدان الأكثر تقدما من الناحية الصناعية تمثل المستقبل الخاص بالنسبة إلى البلدان الأقل تقدما، ويقول سميلسر Smelser: “" إن التحديث والتنمية هما عملية تتضمن عدة تحولات في متغيرات الحياة مثل التّكنولوجيا وذلك عن طريق تقدم هذا الميدان وتعقيده… والسكان عن طريق التمدن والتحضر والزراعة بالمزيد من المنتوجات التجارية، أما بالدوين Baldwin، فإن " عملية التنمية تحتاج عنده إلى توفير معدلات عالية من النمو في الميادين الاقتصادية والاجتماعية والسياسية"[7].

وبالنسبة إلى بول باسكون Paul Pascon تعد التنمية مستوى شاملا للوعي بالتغير المجتمعي، وعيا يختلف لدى القروي عنه لدى الحضري، ويتخذ صيغا متغيرة ومتباينة عند الطبقات والفئات والنخب الاجتماعية، بحيث تتجاذبه تقابلات تجعله متراوحا بين الاستلاب والتحرر، الوهم والواقع، الأصالة والمعاصرة، التقليد والتحديث، الاطمئنان والقلق، الفعل ورد الفعل[8].

و في هذا الصدد، يعتبر بول باسكون أن تساؤل سوسيولوجية التنمية في الأمم الفتية عن كيف يدرك التغير الاجتماعي، وكيف يمكن التأثير في التغير الاجتماعي، يلتبس مع التساؤل الراهن للمجتمع وهو يبحث عن معرفة ذاته، وضرورة التحليل النقدي للوعي بالتغير الاجتماعي كشرط لمباشرة العمل التنموي، قد يعطي كل دلالته لتعبير جاك بيرك الذي يبدو متناقضا لأول وهلة، إذ يؤكد  أن ليس هناك مجتمعات متخلفة، ولكن مجتمعات لم تحلل تحليلا كافيا[9].

ويرى عبد العزيز بلال Abdelaziz Bilal أن " التنمية هي عبارة عن عملية تغيير اجتماعي وبالتالي هي عملية صراع طبقي بين طبقات تستفيد من الوضع القائم وأخرى تطمح للتغيير، إنها عملية سياسية في نهاية التحليل[10].

 أما جاك براسول Jacques Brasseul ، فالتنمية عنده تقتضي الزيادة في تلبية الحاجات الأساسية كالتغذية، الصحة، التربية، وتقليص اللامساواة والبطالة والفقر[11]. وبالنسبة للمفكر والعالم الاقتصادي الهندي أمارتيا صن Amartya Sen فإنه يرى أن التنمية يمكن النظر إليها، باعتبارها عملية توسع في الحريات الحقيقية التي يتمتع بها الناس، فالتنمية في حقيقتها هي إزالة مصادر افتقاد الحرية كالفقر والاستبداد والغلو والتطرف وإهمال المرافق العامة[12].

وانطلاقا مما سبق " فإن مفهوم التنمية مفهوم شاسع يختلف الباحثون في تعريفه، ولكن ما لا يمكن نفيه هو أن التنمية عملية شمولية لا تقبل الاختزال الذي غالبا ما رجحته النظريات السائدة في مرحلة الستينيات بوجه خاص، كما أن التنمية لا يمكن اختزالها في مجرد اقتباس نموذج رأسمالي أو غيره باعتباره الوصفة الطبية الجاهزة لمرض التخلف المزمن".

فالتنمية إذن عملية شمولية تتداخل فيها مجموعة من الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، إذ هي تنطلق من الإنسان لتوجه إلى الإنسان ثم تخدم الإنسان، الذي يعتبر محور التنمية وهو صانعها وهو من تجب أن تؤول إليه كل الخيرات، فالتنمية الحقة هي بالضرورة تنمية بشرية أو إنسانية،  وأن الاعتماد الأساسي في التنمية هو الاعتماد على البشر، ويترتب عن ذلك أمران مهمان وهما، ضرورة الاهتمام بالبشر بإعطاء أقصى اهتمام ممكن لإشباع حاجاتهم الأساسية، وهذا يعني توجيه طاقات الاقتصاد لإنتاج السلع والخدمات الاستهلاكية، وإهمال بناء الصناعات غير الاستهلاكية، وإنما يعني هذا تكوين هيكل صناعي بالمعنى الواسع، ثم ضرورة إشراك البشر في صنع القرارات في كافة المجالات وعلى كافة المستويات، وعدم الاكتفاء بتنفيذهم لها، وهذا يعني أن يكون الحكم ديمقراطيا بالمعنى الأوسع للكلمة.

 فالإنسان في مفهوم التنمية  ليس مجرد عنصر من عناصر الانتاج شأنه شأن الأرض أو الآلة، كما أنه ليس مجرد وسيلة للتنمية، وإنما هو غاية التنمية وهدفها[13].

وتنطوي كثير من النظريات الاجتماعية على خلط غير قليل بين مفاهيم مجاورة لمفهوم التنمية كالتغيير والتطور والنمو والتقدم، ويمكن تحديد أوجه الاختلاف بين اصطلاحي النمو والتنمية، في أن النمو  يشير إلى عملية الزيادة الثابتة أو المستمرة التي تحدث في جانب معين من جوانب الحياة، أما التنمية فهي عبارة عن تحقيق زيادة سريعة تراكمية ودائمة عبر فترة من الزمن.

إن عملية التنمية الاقتصادية هي التي يتحول خلالها الاقتصاد بشكل جذري، مثل أن يتحول الاقتصاد الناشئ إلى متقدم، أو الاقتصاد البسيط إلى آخر صناعي متطور، وتصحب عملية التحول تلك ارتفاعا في مستويات الدخل، إلى جانب تحسن جوانب الرفاهية من صحة وتعليم وإسكان.

ومن جانب آخر، فإن هذه العملية تعكس التحسن النوعي والكمي للاقتصاد، وتركز على التحولات التي شهدتها البلدان خلال فترات طويلة للغاية، ولا يمكن قياسها ببساطة عبر مؤشر مثل الناتج المحلي الإجمالي، فهي تحتاج لعدد من المؤشرات مع وضع التغيرات الزمنية في الحسبان.

فعادة ما يتم وقوع نوع من الخلط بين النمو والتنمية وهذا نظرا لوجود علاقة بين المفهومين فمفهوم النمو الاقتصادي له عدة تعاريف منها ما تعتبره الزيادة المستمرة في كمية السلع و الخدمات المنتجة من طرف الفرد في محيط اقتصادي معين، غير أنه هناك من يعرف النمو الاقتصادي بالزيادة الكمية لكل من الدخل القومي والناتج القومي، أما الاقتصادي" S.Kuznets " في كتابه " النمو والهيكل الاقتصادي" يعرف النمو الاقتصادي كـما يلي " النمو الاقتصادي هو أساسا ظاهرة كمية، وبالتالي يمكن تعريف النمو الاقتصادي لبلد ما، بالزيادة المستمرة للسكان و الناتج الفردي" ويعرفه " جون ريفوار" بـ التحول التدريجي للاقتصاد عن طريق الزيادة في الإنتاج أو الرفاهية، بحيث الوضعية التي يصل إليها الاقتصاد هي في اتجاه واحد نحو الزيادة لهذه الأخيرة، وبصفة أكثر دقة يمكن تعريف النمو، بالزيادة في إجمالي الدخل الداخلي للبلد مع كل ما يحققه من زيادة في نصيب الفرد من الدخل الحقيقي، ومن خلال هذه التعاريف تتضح الخصائص التالية:

§       يجب على الزيادة في الدخل الداخلي للبلد أن يترتب عنها الزيادة في دخل الفرد الحقيقي، أي أن معدل النمو الاقتصادي هو عبارة عن معدل نمو الدخل الوطني مطروح من معدل النمو السكاني .

§       أن تكون الزيادة في دخل الفرد حقيقية، أي أن الزيادة النقدية في دخل الفرد مع عزل أثر معدل التضخم.

§       يجب أن تكون الزيادة في الدخل على المدى الطويل، أي أنها لا تختفي بمجرد أن تختفي الأسباب.

ويمكن تصنيف أنواع النمو إلى :

أ‌- النمو الاقتصادي الموسع( Croissance extensive )، يتمثل هذا النمو في كون نمو الدخل يتم بنفس معدل نمو السكان، أي أن الدخل الفردي ساكن.

ب‌- النمو الاقتصادي المكثف (Croissance intensive)، يتمثل هذا النمو في كون نمو الدخل يفوق نمو السكان وبالتالي فإن الدخل الفردي يرتفع.

وعليه المرور من النمو الموسع إلى النمو المكثف يمثل نقطة الانقلاب، أي أن المجتمع يتحول تماما والظروف الاجتماعية تتحسن.

فيما تعددت  تعاريف التنمية، حيث يعرفها" صبحي محمد قنوص" على أنها "تحسنا على المستوى الفردي في مستويات المهارة، والكفاءة الإنتاجية، وحرية الإبداع، والاعتماد على الذات وتحديد المسؤولية"[14]،  وتعرف كذلك على أنها العملية التي تسمح بمرور بلد ما من وضعية معينه من تخلف إلى وضعية التقدم،  غير أنه ما يجب معرفته هو التفرقة بين النمو والتنمية، حيث أن هذه الأخيرة تشمل النمو الاقتصادي، والذي يدلنا عن الزيادة في النشاط الاقتصادي ولا يدلنا عن الظروف الاجتماعية للسكان، رغم إمكانية هذا الأخير من رفع الظروف الاجتماعية للسكان، و بوجود النمو فإن ذلك لا يؤدي بالضرورة إلى التنمية، ومن خصائصها:

أ‌- تغيرات في كل من الهيكل و البنيان الاقتصادي، و المتمثلة في اكتشاف موارد إضافية جديدة و تراكم رأس المال، مع إدخال طرق فنية جديدة للإنتاج وتحسين المهارات ونمو السكان.

ب‌- تغيرات في تركيبة السكان من حيث الحجم و السن، و تتمثل كذلك التنمية في إعادة توزيع الدخل، وفي تغيير الأذواق مع إدخال تعديلات مرفقية وتنظيمية.

ونظرا لصعوبة تحديد التنمية الاقتصادية قامت منظمة الأمم المتحدة(ONU ) في إطار برنامج الأمم المتحدة للتنمية (P N U D )، بإصدار مقياس للتنمية و المتمثل في دليل التنمية البشرية (H D I ) والذي ظهر سنة 1990، يشمل ثلاث معايير أساسية متمثلة في المستوى الصحي المعبر عنه بالسن المتوقع عند الميلاد، والمستوى التعليمي، و العامل الثالث مستوى المعيشة المعبر عنه بمستوى الدخل الحقيقي المعدل، بالإضافة إلى هذا الدليل هناك دليل أخر يأخذ بعين الاعتبار عدم العدالة في توزيع القدرات البشرية بين الذكور والإناث بالإضافة إلى المعايير الثلاثة السابقة المذكورة، ويتمثل هذا المقياس في دليل التنمية البشرية المعدل للجنس" G D I"، أما الدليل الأخير للتنمية يتمثل في دليل الفقر التنموي " H P I "  والذي أضيف سنة 1997، حيث عند التطرق إلى التنمية فبطبيعة الحال نتكلم على الفقر، غير أن هذه الأخيرة لا تقتصر فقط على الدول النامية، وإنما توجد أيضا في الدول المتقدمة، وبالتالي من أجل قياسه يجب التفرقة بين الفقر المطلق و الفقر النسبي، حيث يتمثل الأول في عدم تلبية الحاجيات الأساسية عند تعريف مجموعة من السلع و الخدمات ممثلة لحد محدد للعيش، وبالتالي يعتبر فقير كل من لا يصل إلى هذا الحد في استهلاكه، أما الفقر النسبي يتمثل في وجود فرق بين ما نملكه وما يملكه الآخرون رغم حيازتنا على أكثر من الحد المحدد للعيش.

المطلب الثاني: مفهوم حقوق الانسان

من المداخل الضرورية لفهم أي علم، معرفة ماهية هذا العلم، والإحاطة بالمفاهيم المفتاحية التي تمكن الدارس له من إدراك موضوع العلم وما يتفرع عنه. في هذا الإطار، يعتبر مفهوم حقوق الإنسان ضروريا كمدخل لفهمه والإحاطة به، وهو كمصطلح علمي حديث النشأة، ولكن مضامين الحقوق ومعانيها قديم بقدم الإنسان نفسه. ويعتبر هذا المفهوم من المفاهيم المشكلة لعدة أمور، منها:

- إن نشأة مصطلح حقوق الإنسان ولد قبل ثلاثة قرون تقريبا في ظروف سياسية وفكرية حادة، اتخذت موقفا حادا وإقصائيا من الدين، وترعرع المفهوم في بيئة فكرية وقانونية واحدة، وهي أوروبا، واكتملت مفاهيمه التي تحولت إلى مبادئ أممية ومواثيق عالمية ملزمة.

وقد ساهم في تعميق مفاهيم حقوق الإنسان داخل المجال الأوروبي العام مجموعة من مفكري عصر التنوير والحداثة في أوروبا، لذلك اتسم مصطلح حقوق الإنسان بتلك الظروف واصطبغت مفاهيمه بها، ولكن خروج هذا المصطلح وما ترافق معه من مفاهيم خارج الحدود الأوربية جعلها تحت وطأة وشروط النقد العلمي لدى كثير من الثقافات العالمية الأخرى، وبسبب انفتاح العالم على بعضه زادت عمليات النقد والمراجعة، كما أن ظهور نظريات فكرية "ما بعد حداثية" ساهم مرة أخرى في مشروع النقد لتلك المبادئ الأوروبية لحقوق الإنسان.

- يكتنف مصطلح "حقوق الإنسان" عند الاستعمال في وقتنا المعاصر بعض الإشكالات القيمية والغموض في سياقاته، وذلك بسبب التوظيف السياسي البارز لهذا المفهوم، فأصبح الاستعمال مزدوجا بين حقوق الإنسان في أوروبا وبين حاله في أفريقيا، بين ممارسات الغرب الحقوقية في بلادهم وانتهاكاتهم الصارخة في بلاد غيرهم، فأصبحت الممارسة السياسية للحقوق الإنسانية مصدر شك وتوظيف سياسي خطير يشوبه الخوف، عندما يرفع رايته دول استعمارية تريد من خلاله تحقيق منفعة مادية، وليس بغرض الدفاع عن الإنسان وحقوقه.

وأبرز مثال يشكك في الدعاوى الحقوقية الغربية تغاضي سياساتهم عن حقوق الشعب الفلسطيني، مقابل الانتهاكات الصارخة لإسرائيل منذ احتلالها للأراضي الفلسطينية عام 1948م، ومأساة شعب الروهينجا البورمي، الذي يتعرض لأسوأ اضطهاد بشع في التاريخ المعاصر على يد حكومة ميانمار[15]، وغيرها من توظيفات سياسية شوهت مفهوم حقوق الإنسان لدى الإنسان العادي في العالم.

- من الإشكالات التي تطرأ على مفهوم حقوق الإنسان خصوصا عند المسلمين، أنه علم لم يستقل ذكره في نصوص الوحي ولا في تراث المسلمين لمدة قرون، ولم تصنف الكتب الكثيرة في المجال الحقوقي باستقلال. وهذا الإشكال في الفهم نحتاج إلى توضيحه من خلال ما يلي:

أ- قد يصح من حيث التصور أن علماء المسلمين لم يصنفوا في مجال حقوق الإنسان وفق الطريقة المعاصرة بصورة مستقلة، وهذا الأمر ليس دقيقا من الناحية العلمية، بل الثابت أن هناك مؤلفات قديمة ذكرت الحقوق بتفصيل واسع، مثل ما كتبه الإمام زين العابدين علي بن الحسين (المتوفى 95هـ) رسالة سماها "رسالة الحقوق" تتضمن ذكرا لخمسين (50) حقا من حقوق العباد على أنفسهم وفيما بينهم[16].

ب- أن نصوص الوحي لم تهمل ذكر حقوق الإنسان، والقرآن في أول آية نزلت على النبي عليه الصلاة والسلام كانت لأجل العناية بالإنسان: " اقرأ باسم ربك الذي خلق "[17]. وكل سور القرآن الكريم تعنى برعاية الإنسان وحماية حقوقه من الظلم والحيف والزيف.  وكذلك الأمر في السنة النبوية الشريفة حيث قال الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث "حق المسلم على المسلم ست: إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه"[18]. إلى غيرها من النصوص التي تحدثت عن حق الزوجة على زوجها، وحق الوالد على ولده، وحقوق الجار، وحق الطريق، وحقوق البيئة، وغيرها مما هو معروف في مدونات السنة النبوية[19].

ج- إن كتب التراث في مجال الأخلاق تناولت هذا الموضوع في السلام والعيادة، والمروءات والرفق والحلم والبر  وغيرها من الآداب[20]، وتناولته كتب السياسة الشرعية في بيان حقوق الراعي والرعية[21]، واستلهمت الحقوق في أدب القضاء والتقاضي[22]، وغيرها.

د- لتعريف حقوق الإنسان في الشريعة الإسلامية لا بد من تعريف الحق في معناه اللغوي والذي يعني نقيض الباطل، وجمعه حقوق وحقاق. وحققه أي صدقه، وأحققته، إذا غلبته على الحق وأثبته[23].

وقال الجرجاني "الحق اسم من أسمائه تعالى، والشيء الحق، أي الثابت حقيقة، ويستعمل في الصدق والصواب أيضا، يقال: قول حق وصواب. وفي اللغة: هو الثابت الذي لا يسوغ إنكاره"[24]. أما الحقّ في الاصطلاح له معنيين رئيسيين وهما: 

أولا: يمكن تعريف الحق بأنه "الحكم المطابق للواقع"، ويطلق كذلك على الأقوال والعقائد والشرائع والأديان والمذاهب المختلفة باعتبارها مشتملة على ذلك، ويقابل الحق هنا الباطل[25].

ثانيا: يأتي الحق في الاصطلاح بمعنى "الواجب الثابت"، وينقسم بناء على ذلك إلى قسمين، وهما: حق الله - عزّ وجل - على العباد، وحق العباد على العباد. فأما حق الله سبحانه وتعالى فيشمل كل ما يتعلق به النفع العام للعالم والإنسان والمخلوقات، كالإيمان والكفارات والحدود، أما حق العباد على العباد، فيشمل كل ما يتعلق به مصلحة خاصة (بفرد من الأفراد) أو مخصوصة (بمصلحة محددة) كالديون وأثمان البيوع ومطعمه ومسكنه وملبسه، وتعرف الحقوق في هذه الحالة بأنها مجموعة من القواعد والقوانين.

أما تعريف الإنسان في اللغة فمعناه مأخوذ من الإنس أي البشر، واصطلاحا فليس هناك تعريف محدد لجهل العالم عنه، فلا يزال يشكل الإنسان مع كل التطور العلمي اللغز الأكبر  في هذا الكون، ولا تزال أهم مكوناته تشكل لغزا محيرا أمام العلماء، مثل حقيقة النفس أو الروح أو العقل، وما تم تعريفه في مدونات العلماء فهو تناول جزئي يخص أصحاب كل تخصص من خلال زاوية علمهم، كما فعل علماء الأحياء أو النفس أو الفلسفة أو العقيدة عندما عرفوا الإنسان، ولهذا اعتبر تعريف الإنسان محيرا في نطاق المفاهيم وسرا غامضا  لم تكشف كل حقائقه، وأما وصفه و أحواله وطباعه فللعلم تقدم كبير في هذا النوع من البحث والتقصي. أما تعريف حقوق الإنسان باعتباره لقبا على علم محدد، فهناك عدد من التعريفات منها:   


[1] - التنمية مفهوم ومنهج ، بسيوني علي عيد الرحمن،  قسم الدراسات العامة، كلية الآداب ، جامعة البحرين، ص255.

[2] - مدحت محمد أبو النصر "إدارة وتنمية الموارد البشرية ( الاتجاهات المعاصرة )"، مجموعة النيل العربية، القاهرة، 2007، ص: 189.

[3] - عبد الرحمان تمام أبو كريشة " علم الاجتماع التنمية" المكتب الجامعي الحديث، الاسكندرية، 2003، ص: 37.

[4] - محمد شفيق، "البحث العلمي (الخطوات المنهجية لإعداد البحوث الاجتماعية) المكتب الجامعي الحديث، الاسكندرية، 1998، ص: 13.

[5] - لحسن مادي " محاربة الأمية مدخل لتحقيق التنمية البشرية "، ط 1، منشورات علوم التربية، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 2006، ص: 9.

[6] - لحسن مادي " محاربة الأمية مدخل لتحقيق التنمية البشرية "، ط 1، منشورات علوم التربية، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 2006، ص: 9، مرجع سابق.

[7] - امحمد عليلوش، " التربية والتعليم من أجل التنمية" ، الطبعة الأولى، منشورات مجلة علوم التربية، العدد 10، مطبعة النّجاح الجديدة، الدار البيضاء، 2007، ص: 106.

[8] - امحمد عليلوش، " التربية والتعليم من أجل التنمية" ، الطبعة الأولى، منشورات مجلة علوم التربية، العدد 10، مطبعة النّجاح الجديدة، الدار البيضاء، 2007، ص: 106. نفس المرجع أعلاه.

[9] - امحمد عليلوش، " التربية والتعليم من أجل التنمية" ، الطبعة الأولى، منشورات مجلة علوم التربية، العدد 10، مطبعة النّجاح الجديدة، الدار البيضاء، 2007، ص: 106. نفس المرجع السابق، ونفس الصفحة.

[10] -Abdel Aziz Bilal " Développement et facteurs non économiques", SMER, Rabat, 1980, Pp.1- 6.

[11] - Jacques Brasseul,"  introduction à l’économie du développement", Ed. Armand colin, 1989, Pp.15 -16.

[12] - أمارتيا صن: التنمية حرية، ترجمة: شوقي جلال، سلسلة عـالم المـعرفـة، العـدد 303، ماي 2004،ص15-16

[13] - ابراهيم العيسوي " التنمية في عالم متغير ، دراسة في مفهوم التنمية ومؤشراتها" الطبعة الثانية، دار الشروق، منتدى العالم الثالث، مكتبة مصر 2020، ص: 30.

[14] - محمد صبحي  قنوص" أزمة  التنمية دراسة تحليلية  للواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي  لبلدان العالم الثالث، الطبعة الثانية، القاهرة، الدار الدولية للاستشارات الثقافية، 1999، ص: 116.

[15] - جاء في تقرير للأمم المتحدة في فبراير 2017،  أن قوات الأمن في ميانمار ارتكبت أعمال قتل واغتصاب جماعية خلال الحملة الأمنية، تصل بشكل كبير إلى حد ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، وربما التطهير العرقي. صحيفة الحياة عدد 30 مايو 2017.

[16] - الإمام زين العابدين علي بن الحسين، رسالة الحقوق، تحقيق وشرح عباس علي الموسومي، بيروت، دار المرتضى، دار الكتاب الإسلامي، ط2، 1986.

[17] - الآية الأولى من سورة العلق، القرآن الكريم

[18] - حديث نبوي شريف رواه مسلم.

[19] - انظر على سبيل المثال: كتاب الأدب المفرد، لمحمد بن إسماعيل أبو عبدالله البخاري، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، الناشر: دار البشائر الإسلامية– بيروت، الطبعة الثالثة، 1989.

[20] - أبي الحسن البصري الماوردي كتاب " أدب الدنيا والدين" ، نشر دار مكتبة الحياة، 1986.

[21] - كتاب النصيحة للراعي والرعية، لأبي الخير بدل بن أبي المعمر التبريزي، تحقيق عبيد الله الأثري، الناشر: دار الصحابة للتراث، مصر، الطبعة الأولى، 1991.

[22] - أدب القاضي لأبي العباس أحمد الطبري المعروف بابن القاص، تحقيق: د. حسين خلف الجبوري، نشر: مكتبة الصديق، الطائف، الطبعة الأولى، 1989.

[23] - لسان العرب، لابن منظور الأفريقي المصري، الناشر،  دار  صادر، بيروت، الطبعة الأولى، 10/49.

[24] - كتاب التعريفات، لعلي بن محمد الشريف الجرجاني، ضبطه وصححه جماعة من العلماء بإشراف دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1983م، ص 28.

[25] - كتاب التعريفات، لعلي بن محمد الشريف الجرجاني، ضبطه وصححه جماعة من العلماء بإشراف دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1983م، ص 28. نفس المرجع أعلاه.



من أجل تحميل هذا المقال كاملا - إضغط هنا أو أسفله على الصورة


قانونك



من أجل تحميل هذا العدد الثامن عشر - إضغط هنا أو أسفاه على الصورة

مجلة قانونك - العدد الثالث