دور التنظيم القضائي في الإرتقاء بفعالية ونجاعة القضاء - مراد الرايشي

 




دور التنظيم القضائي في الإرتقاء بفعالية ونجاعة القضاء

The role of the judicial organization in promoting the effectiveness and efficiency of the judiciary

مراد الرايشي / دكتور في القانون العام باحث في شؤون العدالة.

Mourad EL RRAICHI

 

مقدمة:

يقصد بالفعالية أو النجاعة تحقيق أفضل النتائج بأقل تكلفة زمنية وبشرية ومادية ممكنة، ورغم أن هناك من يميز بين مفهوم الفعالية ومفهوم النجاعة، على أساس أن الأول يأخذ بعين الإعتبار النتيجة فقط، في حين يهتم الثاني بالطريقة أيضا، فإن أغلب إستخدامات المفهومين تصب في إتجاه إستعمالهما على سبيل الترادف. ومن هذا المنطلق فإن الفعالية أو النجاعة القضائية تعني حق الإنسان في الولوج السهل للقانون والعدالة وإستصدار حكم قضائي عادل في مدة زمنية معقولة مع ضمان تنفيذه، وهذا ما عبر عنه الفصل 120 من الدستور بقوله "لكل شخص الحق في محاكمة عادلة وفي حكم يصدر داخل أجل معقول".

خلص الميثاق الوطني لإصلاح منظومة العدالة في تشخيصه لمستوى فعالية ونجاعة القضاء في المغرب إلى أن المتقاضي يواجه صعوبات متنوعة في ولوجه للقانون والعدالة، وعزا ذلك إلى عدة عوامل من بينها عدم إنسجام مقتضيات التنظيم القضائي وتضخم الخريطة القضائية وتعقد المساطر والإجراءات القضائية بما فيها إجراءات التبليغ والتنفيذ، فضلا عن ضعف بنية الإستقبال والتواصل ومحدودية المساعدة القضائية وغياب المساعدة القانونية ومحدودية اللجوء إلى الوسائل البديلة لحل المنازعات.

لتحقيق  النجاعة القضائية، كهدف رئيسي، فإن الميثاق الوطني حدد سبعة أهداف فرعية تتمثل على التوالي في إرساء التنظيم القضائي على مبدأي الوحدة والتخصص، ودعم فعالية الجهاز القضائي، وتقريب القضاء من المتقاضين وعقلنة الخريطة القضائية، والبث في القضايا وتنفيذ الأحكام خلال أجل معقول، والرفع من جودة الأحكام وضمان الأمن القضائي، وتسهيل الولوج إلى العدالة والقانون، وتشجيع اللجوء إلى الوسائل البديلة لحل المنازعات. وتحتاج هذه الأهداف في ترجمتها على أرض الواقع إلى مدخلين قانونيين رئيسيين أولهما التنظيم القضائي، بفرعيه قانون التنظيم القضائي ومرسوم الخريطة القضائية، وثانيهما المساطر القضائية بمعناها الواسع الذي يتـجاوز المسطرتين المدنيـة والجنائية.

التنظيم القضائي هو الإطار القانوني الذي ينظم النشاط القضائي، ويتم ذلك عبر تحديد مبادئ وقواعد التقاضي، وتنظيم هيكلة وتأليف وإختصاصات المحاكم المكونة للخريـــطة القضائية. وبهـــذا يعتبر التنظيم القضائي القانون الأكثر تأثيرا على العمليــــة القضائية، من حيث علاقته بالحق في الولــــــوج للعدالة وفعالية الأجهزة القضائية، وبالتالي فهو الطريق الرئيسي نحو تحقيق النجاعـــة القضائية.

ورغم ذلك فإن الحوارالوطني لإصلاح منظومة العدالة لم يولي لهذا الموضوع الإهتمام الكافي، على غرار موضوع إستقلال السلطة القضائية، حيث لم يسفر إلا عن بضع توصيات حول التنظيم القضائي عرفت عدة خلافات بين مكونات منظومة العدالة.

يذكر أن التنظيم القضائي المغربي مر بعدة مراحل، غالبا ما تصنف أكاديميا إلى مرحلة ما قبل الحماية، التي تميزت بتنظيم قضائي عرفي يضم القضاء الشرعي والقضاء المخزني والقضاء العبري والقضاء القنصلي، ومرحلة الحماية التي إنتقلت إلى إصدار ظهائر منظمة للقضاء الذي أصبح يشمل محاكم عرفية وأخرى عصرية إضافة إلى المحاكم المخزنية والشرعية والعبرية، وأخيرا مرحلة الإستقلال التي تشمل بدأت سنة 1956 تحت عنوان تأسيس تنظيم قضائي مغربي مستقل وتواصلت سنة 1965 بصدور قانون التوحيد والمغربة والتعريب، وعرفت سنة 1974 صدور عدة قوانين أهمها التنظيم القضائي الذي خضع لعدة تعديلات.

قدم التنظيم القضائي المغربي وكثرة التعديلات التي طرأت عليه، بسبب إحداث المحاكم المتخصصة وحذف المحاكم الإستثنائية، جعل مقتضياته تفتقد للإنسجام، كما أن المستجدات الدستورية المتعلقة بإستقلال السلطة القضائية والقوانين التنظيمية المرتبطة بها فرضت إدخال تغيرات جذرية على هذا التنظيم. والسبيل إلى ذلك إخراج القوانين ذات الصلة إلى حيز الوجود، ويتعلق الأمر بمرسوم الخريطة القضائية وقانون التنظيم القضائي، وذلك بهدف ملاءمتهما مع المستجدات السياسية والقانونية التي عرفها المغرب (المحور الأول)، وبهدف حل معادلة القرب والفعالية خدمة للنجاعة القضائية (المحور الثاني).

المحور الأول: التنظيم القضائي وهاجس الملاءمة

حصل إجماع كبير لدى الدارسين والمهتمين على أن المقتضيات المتعلقة بالتنظيم القضائي المغربي تجاوزتها الأحداث بفضل المستجدات الدستورية والتشريعية والتنظيمية، فضلا عن المتغيرات السياسية والإقتصادية والإجتماعية التي عرفها المغرب. ومن هذا المنطلق كان لزاما وضع تنظيم قضائي جديد يأخذ بعين الإعتبار هذه المستجدات التي جاء بها الدستور والقوانين التنظيمية للسلطة القضائية من جهة وتوصيات الميثاق الوطني لإصلاح منظومة العدالة من جهة أخرى، وذلك من خلال ملائمة الخريطة القضائية مع التقسيم الإداري الجديد، وملائمة قانون التنظيم القضائي مع المستجدات المرتبطة بإستقلال السلطة القضائية.

بخصوص الخريطة القضائية فهي ذلك الجزء من التنظيم القضائي الذي يحدد التوزيع الجغرافي للمحاكم على تراب المملكة، عبر إحداث محاكم جديدة أو حذف محاكم موجودة أو ترقيتها أو تغيير دائرة نفوذها. وتتم هذه العملية عبر مراسيم، وليس قوانين كما هو الأمر بالنسبة لباقي مقتضيات التنظيم القضائي، طبقا للفقرة الأخيرة من الفصل الأول من قانون التنظيم القضائي لسنة 1974، وهو نفس الأمر المنصوص عليه في مشروع القانون 15.38 الخاص بالتنظيم القضائي، والذي قيد تغيير الخريطة القضائية بعدة معايير[1].

فتحت المادة الثانية من مشروع قانون التنظيم القضائي الجديد الباب أمام إمكانية تحديد الخريطة القضائية على أسس علمية وموضوعية بدل الإعتبارات الظرفية والمعايير الأحادية، التي أسفرت عن تضخم في عدد المحاكم مع تفاوت كبير بينها في النشاط القضائي. غير أنه قبل دخول القانون المذكور حيز التنفيذ، صدر مرسوم عدد 688.217 سنة 2017 يقضي بتغيير المرسوم الصادر بتاريخ 16 يوليوز 1974 والمتعلق بالتنظيم القضائي للمملكة (الخريطة القضائية)، وقد أسفرت هذه المراجعة عن المستجدات التالية[2]:

- إحداث محكمة إستئناف جديدة بكلميم، ليصبح عدد المحاكم  الإستئنافية 22 محكمة، وقد تم تعديل المرسوم المذكور بإضافة محكمة الإستئناف رقم 23 بالداخلة[3]   

- تغيير نفوذ سبعة محاكم إبتدائية وهي: المحكمة الإبتدائية بوزان التي أصبحت تابعة لدائرة نفوذ محكمة الإستئناف بتطوان بدل القنيطرة، والمحكمة الإبتدائية بميدلت التي أصبحت تابعة لمحكمة الإستئناف بالرشيدية بدل مكناس، والمحكمة الإبتدائية بخنيفرة التي أصبحت تابعة لمحكمة الإستئناف ببني ملال بدل مكناس، والمحكمة الإبتدائية بكرسيف التي أصبحت تابعة لمحكمة الإستئناف بوجدة بدل تازة، والمحاكم الإبتدائية بكلميم وطانطان وأسا الزاك التي ستصبح تابعة لمحكمة الإستئناف بكلميم بدل أكادير             

- إحداث ثلاث عشرة محكمة إبتدائية جديدة عبر ترقية إثنتي عشر مركزا قضائيا إلى محاكم إبتدائية، ويتعلق الأمر بمراكز تيفلت ومشرع بلقصيري وبوزنيقة وتنغير والحاجب وبيوكري وسيدي إفني والمضيق وسوق السبت أولاد النمة وجرادة والدريوش وتارجيست، مع إحداث محكمة جديدة بتاحناوت، وبهذا أصبح عدد المحاكم الإبتدائية 83 محكمة بدل 70، وذلك قبل أن يصبح العدد 84 بإحداث المحكمة الإبتدائية ببوجدور[4].

بررت الحكومة الإسراع بتعديل مرسوم الخريطة القضائية بتنفيذ مخرجات الحـــــــوار الوطني لإصلاح منظومة العدالة (التوصية 111 من الميثاق الوطني)، وتقريب القضاء من المتقاضين وضرورة الملائمة مع التنظيم الإداري والجهوي على الشكل التالي:

- ضرورة توفر كل جهة من جهات المملكة على محكمة إستئناف واحدة على الأقل، وهو ما يبرر إحداث محكمتي إستئناف بكلميم والداخلة. وملائمة الدوائر القضائية للمحاكم الإبتدائية مع التقسيم الجهوي للمملكة، وهو ما يفسر تغيير تبعية سبعة محاكم إبتدائية من دائرة إستئنافية لدائرة إستئنافية أخرى وفيما يخص المراكز القضائية، فإضافة إلى  ترقية 12 مركزا إلى محاكم إبتدائية، فقد تم الإبقاء على 65 مركزا مع تفعيل 08 مراكز وحذف 93 مركزا قضائيا[5].

- إحداث محكمة إبتدائية واحدة على الأقل بكل عمالة من عمالات وأقاليم المملكة، وهو ما يبرر ترقية المراكز القضائية بكل من تنغير والحاجب وبيوكري وسيدي إفني والمضيق وجرادة والدريوش إلى محاكم إبتدائية.

- بالنسبة لوضعية باقي المراكز القضائية بين الإبقاء والحذف، فقد إسترشدت الوزارة الوصية بحجم النشاط القضائي والمسافة الفاصلة بين المركز والمحكمة الإبتدائية التي يتبع لها ووضعية الطرق ووسائل النقل وحالة البناية والموارد البشرية وحجم الساكنة[6].

أثار مرسوم التنظيم القضائي نقاشات في الأوساط القانونية والقضائية من حيث صدوره قبل قانون التنظيم القضائي المؤهل للحسم في مسألة الإختصاص المتعلق بوضع الخريطة القضائية، وعدم مراعاة المعطيات الموضوعية المتعلقة بحجم الموارد البشرية والبنيات التحتية المطلوبة لتفعيل المحاكم  الجديدة، فضلا عن صعوبة المطابقة بين التقسيمين القضائي والإداري. ويلاحظ أيضا عدم تنصيص المرسوم الجديد على أي تعديل فيما يخص خريطة القضاء المتخصص بنوعيه الإداري والتجاري، كما أن تنزيل مقتضياته شابته مجموعة من  التعثرات والمشاكل التنظيمية[7].

فيما يخص قانون التنظيم القضائي فإن الوزارة الوصية إنتظرت حتى إنتهاء الحوار الوطني لإصلاح منظومة العدالة لإعداد المشروع المتعلق به قصد أخذ توصيات الميثاق بعين الإعتبار، والتي تم التنصيص عليها في الهدف الرئيسي الرابع المتعلق بالإرتقاء بفعالية ونجاعة القضاء. وقد تم تحديد سنة 2014 كسقف زمني لذلك، لكن هذا الأجل لم يتم إحترامه بسبب إرتفاع سقف الإنتظارات المرتبطة بهذا القانون وتأخر صدور القوانين التنظيمية للسلطة القضائية فضلا عن الإنتخابات التشريعية لسنة 2016[8].

أدخلت الوزارة الوصية عدة تعديلات على المشروع الأصلي بناء على المذكرات التي تلقتها من الجمعيات المهنية والهيئات المهتمة، وأحالته على مجلس النواب الذي صادق عليه بتاريخ 28 يونيو 2016، بينما لم يصادق عليه مجلس المستشارين إلا في 24 يوليوز 2018. وقد شهدت  الفترة المذكورة صدور القوانين التنظيمية للسلطة القضائية وقانون نقل إختصاصات وزير العدل بشأن تنفيذ السياسة الجنائية لرئاسة النيابة العامة، مما ألقى على المشروع ضغوطات إضافية، خصوصا بعد التعديلات التي أدخلها عليه مجلس المستشارين والتي صادق عليها مجلس النواب في القراءة الثانية بتاريخ 18 دجنبر2018[9].

بعد إستكمال مسطرة المصادقة على قانون التنظيم القضائي الجديد من طرف البرلمان وإحالته على الحكومة، قامت هذه الأخيرة بإحالته على المحكمة الدستورية بناء على الفصل 132 من الدستور، مبررة ذلك بالأهمية التي يكتسيها هذا القانون رغم كونه قانونا عاديا وليس تنظيميا، وهي خطوة رأى فيها البعض استجابة للضغوطات التي قامت بها السلطة القضائية والجمعيات المهنية للقضاة، التي اعتبرت أن مجموعة من مقتضيات القانون الجديد تمس باستقلال السلطة القضائية.

أصدرت المحكمة الدستورية قرارها بشأن مدى مطابقة مواد القانون رقم 38.15 المتعلق بالتنظيم القضائي لأحكام الدستور، والذي قضى في الشق الشكلي المتعلق بالإجراءات المتبعة لإقرار القانون بعدم مطابقة مسطرة إقرار التعديلات، المدخلة على بعض المواد من طرف مجلس النواب في القراءة الثانية، للدستور لكون طبيعة تلك التعديلات كانت تستوجب إحالتها على مجلس المستشارين من أجل قراءة ثانية طبقا للفصل 84 من الدستور. أما على مستوى الموضوع فإن قرار المحكمة الدستورية صرح بعدم دستورية عدة مقتضيات بشكل كلي، وبعضها بشكل جزئي، مع تأويل بعض المقتضيات التي أقر بدستوريتها.

ميز قرار المحكمة الدستورية، على مستوى الموضوع، بين ثلاثة أنواع من المقتضيات[10]:

أ- التصريح بعدم دستورية ثلاثة عشر مادة كليا أو جزئيا وهي:

§       المادة 19 (الفقرة الأولى) لعدم مراعاتها طبيعة عمل النيابة العامة بتوحيدها كتابة الضبط

§       المادة 23 (الفقرة الثالثة) التي خولت للكاتب العام للمحكمة ممارسة مهام كتابة الضبط القضائية، الشيء الذي يشكل مسا باستقلال السلطة القضائية وفصل السلط

§       المواد 27 (الفقرة الأولى) و28 (الفقرة الأولى) و93 فيما خولته من صلاحيات تقريرية  للكاتب العام للمحكمة في أشغال مكتب المحكمة المتعلقة بالشأن القضائي

§       المواد 27 (الفقرة الثانية) و28 (الفقرة الثانية) و60 و78  فيما نصت عليه من تعيين وكيل الملك والوكيل العام للملك ممثلين عنهم للقيام بمهام النيابة العامة لدى المحاكم الإبتدائية التجارية ومحاكم الاستئناف التجارية، لعدم إحترامها لمبدأ التخصص

§       المواد 32 (الفقرة الأخيرة) و35 و96 (الفقرة الثالثة) التي أغفلت عدم تمكن الجمعية العامة للمحكمة من الإنعقاد أو عدم مصادقتها في إجتماعها الثاني على برنامج العمل

§       المادة 49 (الفقرة الأخيرة) والمادة 72 (الفقرة اّلأخيرة) بخصوص الصلاحيات التي أسندتها للرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية حول تعيين قضاة التحقيق والأحداث وتطبيق العقوبات والتوثيق، والتي تبقى من إختصاصات المجلس حماية لإستقلال القضاة

§       المادة 52 فيما أوكلته من مهام قضائية لمكتب المساعدة الإجتماعية دون إشراف قضائي.

ب- الإقرار بدستورية مضمون المادتين 102و109، المتعلقتين بالتفتيش المالي والإداري مع التصريح بكونهما تكتسبان طابعا تنظيميا وليس تشريعا.

ج- التصريح بمطابقة باقي مواد التنظيم القضائي الجديد للدستور، مع مراعاة التفسيرات المقدمة بشأن المواد التالية:

§       المادة 7 (الفقرة الأولى): حيث أوضح القرار أن عبارة "تمارس المحاكم مهامها تحت إشراف المسؤولين القضائيين والإداريين بها" تخص التدبير المالي والإداري للمحاكم، أما التدبير القضائي فهو إختصاص حصري للمسؤولين القضائيين.

§       المادة 19 (الفقرة الثانية) التي تقول أن "موظفو كتابة الضبط يعملون تحت سلطة ومراقبة  الوزير المكلف بالعدل، ويمارسون مهامهم تحت إشراف المسؤولين القضائيين بالمحكمة" تخص المهام الإدارية والمالية، أما المهام القضائية فتخضع لإشراف المسؤول القضائي.

§       المادة 23 (الفقرة الرابعة) التي تقول "يخضع الكاتب العام للمحكمة إداريا لسلطة ومراقبة الوزير المكلف بالعدل" تخص المهام الإدارية المالية فقط.

 أثار قرار المحكمة الدستورية ردود أفعال متباينة، فقد رأى البعض أن المحكمة الدستورية تجاوزت إختصاصاتها، حينما بثت في مقتضيات أقرت هي نفسها بكونها ذات طبيعة تنظيمية[11]. في حين توزعت آراء مهنيي العدالة بين مرحبة بالقرار جمل تفصيلا، وأخرى إعتبرت القرار مهما لكنه غير كاف لتحصين إستقلال السلطة القضائية[12]، وثالثة رأت أن بعض مقتضيات القرار مشوبة بعيب في التعليل أو مخالفة للثابت من القانون والممارسة أو شابها نوع من الإضطراب على مستوى التقعيد[13].

المحور الثاني: التنظيم القضائي ومعادلة القرب والفعالية

إضافة إلى ضرورة الملائمة مع المستجدات الدستورية (إستقلال السلطة القضائية) والتوجهات الإستراتيجية للدولة (الجهوية واللاتمركز الإداري)، فإن تحديث قانون التنظيم القضائي فرضته ضرورة إستيعاب التوجهات الجديدة في القانون وحقوق الإنسان والإدارة والتكنولوجيا. كما يهدف هذا التحديث إستعادة الإنسجام المفقود في التنظيم القضائي المغربي بسبب كثرة التعديلات التي طرأت على قانون 1974، وخصوصا ما يتعلق بالمحاكم المتخصصة، وهي المحاكم الادارية والمحاكم التجارية، وكذلك الأقسام المختصة، وهي أقسام قضاء الأسرة وأقسام قضاء القرب وأقسام الجرائم المالية[14].

فيما يخص التقريب الجغرافي للقضاء من المتقاضين، لعبت المراسيم المتعلقة بالخريطة القضائية دورا مهما، عبر الزيادة في عدد المحاكم الإبتدائية ومحاكم الإستئناف والمراكز القضائية. غير أن هذه الإجراءات إعتبرت غير كافية لتركيزها على البعد الجغرافي للقرب دون البعد الوظيفي، الذي حاولت التعديلات التي طرأت على قانون التنظيم القضائي أخذه  بعين الإعتبار، وهي الفكرة التي تم التعبير عنها في الميثاق الوطني لإصلاح منظومة العدالة بعبارة "دعم فعالية الجهاز القضائي".

حمل قانون قضاء القرب مقتضيات مهمة فيما يخص تقريب القضاء من المتقاضين في القضايا البسيطة، عبر تبسيط الإجراءات والمسطرة وفتح إمكانية عقد جلسات تنقلية بالجماعات المنتمية لنفس الدائرة القضائية، بالإضافة إلى إقرار مبادئ المجانية والعلنية والشفوية وإجبارية محاولة الصلح في المادة المدنية[15]. إلا أنه تعرض لمجموعة من الإنتقادات أبرزها تلك المتعلقة بتخفيض الإختصاص القيمي في المادة المدنية، وعزوف المحاكم عن تفعيل المقتضى المتعلق بالجلسات التنقلية.

دفعت الإعتبارات السابقة إلى تضمين الميثاق الوطني لإصلاح منظومة العدالة عدة  توصيات تصب في إتجاه تقريب القضاء في المتقاضين، وأهمها:

§       الرفع من الإختصاص القيمي لقضاء القرب  وتمكينه من البت في الجنح البسيطة (التوصية 105)

§       حذف الغرف الإستئنافية الموجودة بالمحاكم الإبتدائية (التوصية 107) أو الإبقاء عليها مع جعلها تابعة لمحاكم الإستئناف (التوصية 113)

§       إحداث أقسام وغرف تجارية وإدارية بالمحاكم العادية (التوصية 100)[16]

§       إسناد الإختصاص للمحاكم الإبتدائية التي تتوفر علي مؤسسات سجنية بدائرتها للبث في بعض  القضايا الجنائية (التوصية 104)[17].

إستجاب قانون التنظيم القضائي الجديد لمجموعة من التوصيات السابقة، أبرزها:

§       تحديد معايير تغيير الخريطة القضائية (المادة 2)

§       إمكانية إحداث غرف ملحقة بمحاكم ثاني درجة داخل دائرة نفوذها (المادة 3)

§       عقد جلسات تنقلية من طرف المحاكم داخل دوائر إختصاصها المحلي (المادة 3)

§       حذف الغرف الإستئنافية بالمحاكم الإبتدائية مع إمكانية إحداث أقسام متخصصة في القضاء الإداري والتجاري بالمحاكم الإبتدائية (الفقرة الأولى من المادة 44)

§       إمكانية إحداث مراكز قضائية تابعة للمحكمة الإبتدائية (الفقرة الثانية من المادة 44)

§       إمكانية إحداث غرف إدارية وتجارية على مستوى محاكم الإستئناف (المادة 68) [18].

إضافة إلى البعد الجغرافي، بدأ التركيز على البعد الوظيفي في التنظيم القضائي مع المحاكم الإدارية سنة 1993 ومحاكم الإستئناف الإدارية سنة 2006، والمحاكم التجارية ومحاكم الإستئناف التجارية سنة 1997، وأقسام الجرائم  المالية على مستوى بعض محاكم الإستئناف، والمحاكم المصنفة بالدار البيضاء بناء على تعديل 2011.



[1]- جاء في المادة 2 من المشروع "تحدد الخريطة القضائية وتعيين مقار محاكم أول درجة ومحاكم ثاني درجة، وكذا دوائر اختصاصها المحلي بمرسوم، بعد استطلاع رأي المجلس الأعلى للسلطة القضائية والهيئات المهنية المعنية. يراعى عند تحديد الخريطة القضائية، وتوزيع المحاكم، على الخصوص التقسيم الاداري للمملكة وحجم القضايا والخدمات الادارية والمعطيات الاقتصادية والاجتماعية والديموغرافية والجغرافية".

[2]- المرسوم المتعلق بالخريطة القضائية، الجريدة الرسمية عدد 6634 بتاريخ 28 دجنبر 2017.

[3]- مرسوم رقم 2.22.61، ج ر عدد 7079 بتاريخ 04 أبريل 2022، ص2284.

[4]- مرسوم رقم 2.21.145، ج ر عدد 7001 بتاريخ 05 يوليوز2021، ص5102.

[5]- تجدر الإشارة إلى أن عدد المحاكم التجارية سيصبح 10 وعدد المحاكم الإدارية 09 بعد إحداث محكمتين من كل نوع بمدينتي العيون والداخلة بناء على المرسومين رقم 2.22.62 و2.22.63 المنشورين في الجريدة الرسمية عدد 7079 الصادرة بتاريخ 04 أبريل 2022.

[6]- وزارة العدل: الاصلاح العميق والشامل لمنظومة العدالة، سلسلة حصيلة ومنجزات، 2017، ص 111 ومابعدها.

[7]- عبد اللطيف الشنتوف: مرسوم حكومي بتغيير الخريطة القضائية بالمغرب، استحداث محاكم قبل تأمين الموارد الضرورية، مقال منشور على موقع المفكرة القانونية، بتاريخ 05/12/2017.

[8]- حاولت وزارة العدل إعطاء الإنطباع بإعتماد المنهجية التشاركية في إعداد مشروع قانون التنظيم القضائي، حيث قامت بتكوين لجنة مختلطة لوضع أرضية المشروع ضمت ثمانية عشر عضوا، بينهم مسؤولين فضائيين وإداريبن بالمحاكم وقضاة بالإضافة إلى نقيب للمحامين وأستاذ جامعي واحد. وبعد وضع الأرضية تم عرضها على نقاش داخلي في الوزارة ونشرت على موقعها الرسمي لإتاحة الفرصة للجميع للاطلاع عليها ومناقشتها كما تمت مراسلة عدت فعاليات للإدلاء بملاحظاتها، وأخيرا تم تنظيم ندوة وطنية لتقديم مسودة المشروع ومناقشتها قبل عرضها على البرلمان.

[9]- بعد إستكمال مسطرة المصادقة على قانون التنظيم القضائي الجديد من طرف البرلمان وإحالته على الحكومة، قامت هذه الأخيرة بإحالته على المحكمة الدستورية بناء على الفصل 132 من الدستور، مبررة ذلك بالأهمية التي يكتسيها هذا القانون رغم كونه قانونا عاديا وليس تنظيميا، وهي خطوة رأى فيها البعض استجابة للضغوطات التي قامت بها السلطة القضائية والجمعيات المهنية للقضاة، التي اعتبرت أن مجموعة من مقتضيات القانون الجديد تمس باستقلال السلطة القضائية.

[10]- قرار المحكمة الدستورية رقم 19/89 م د بتاريخ 08 فبراير 2019 في الملف عدد 19/041.

-[11] جابر لبوغ و أحمد حجابي: قراءة في بعض حيثيات قرار المحكمة الدستورية رقم 19.85، مقال منشور في موقع مجلة مغرب القانون marocdroit.com.www، تم الاطلاع عليه بتاريخ 01/08/2019.

-[12] عبد اللطيف الشنتوف: قراءة في قرار المحكمة الدستورية بشأن التنظيم القضائي، مقال منشور على موقع المفكرة القانونية على الرابط www.legal-agenda.com، تم الاطلاع عليه بتاريخ 01/08/2019.

-[13] الحسن العباقي: تأملات حول قرار المحكمة الدستورية رقم 19.89 د، مقال منشور على الرابط التالي: www.bibliodroit.com، تم الاطلاع عليه بتاريخ 01/08/2019.

[14]- تبنى التنظيم القضائي لسنة 1974 تجربة محاكم الجماعات والمقاطات كتجسيد لمبدأ تقريب القضاء من المتقاضين، وهي التجربة التي أصبحت متجاورة بفعل تطور فلسفة التنظيم القضائي القائمة على مبدأ إستقلال القضاء، مما جعل المغرب يستغني عنها في تعديلات 2011 التي عوضتها بأقسام قضاء القرب، والتي نصت أيضا على إحداث غرف إستئنافية  بالمحاكم الإبتدائية، كما جاء فيالقانون رقم 10.34 المتعلق بتعديل التنظيم القضائي للمملكة والمنشور في الجريدة الرسمية عدد 5975 بتاريخ 05 شتنبر 2011.

-[15] القانون رقم 42.10 المتعلق بقضاء القرب والمنشور بالجريدة الرسمية عدد5975 بتاريخ 05 شتنبر 2011.

-[16] التوصيات عدد 98 و 100 و 102 من الميثاق الوطني لاصلاح منظومة العدالة.

-[17] يتعلق الأمر هنا بالمحاكم الابتدائية التي تضم في دائرتها القضائية مؤسسة سجنية، وهي المحاكم التي كانت تحظى بجلسات جنائية تنقلية.

-[18] ظهير شريف رقم 1.22.38 صادر بتنفيذ القانون رقم 38.15، الجريدة الرسمية عدد 7108 بتاريخ 14 يوليوز 2022، ص4568.



من أجل تحميل هذا المقال كاملا - إضغط هنا أو أسفله على الصورة


قانونك



من أجل تحميل هذا العدد الثامن عشر - إضغط هنا أو أسفاه على الصورة

مجلة قانونك - العدد الثالث