حرية الإثبات في المادة التجارية - دراسة على ضوء التشريع الموريتاني - علي محمد الدوه

 




حرية الإثبات في المادة التجارية - دراسة على ضوء التشريع الموريتاني

Freedom of proof in the commercial article - a study in the light of Mauritanian legislation

علي محمد الدوه / دكتورا في قانون الأعمال، أستاذ بكلية الشريعة، جامعة العلوم الإسلامية-لعيون، موريتانيا.

Aly MOHAMED DOUA

 

ملخص البحث:

تدور الدراسة حول الإثبات التجاري من خلال مبدأ حرية الإثبات الذي أكدته التشريعات وأعطى الخصوصية للقانون التجاري في انسجام مع خاصيتي السرعة والائتمان وتعزيز الثقة بين التجار، وقد تعرضت للاستثناءات الواردة على المبدأ خصوصا الشكلية المطلوبة في عقد الشركة، والتصرفات الواردة على الأصل التجاري، والذين اشترط فيهما القانون الكتابة وعبر صراحة عن الخروج عن مبدأ الحرية في الإثبات حرصا على المصالح ومراعاة لخطورة التصرفات الواردة على هذه العقود، كما تعرضت لدفاتر التجار والفوترة الذين يمثلان خصوصية في الإثبات التجاري وخرقا لأهم مبادئ الإثبات.

الكلمات المفتاحية: الإثبات التجاري، الشكلية، عقد الشركة، الأصل التجاري، دفاتر التاجر، الفاتورة، مبدأ حرية الإثبات

 

                                                  

Abstract:

The study revolves around commercial proof through the principle of freedom of evidence confirmed by legislation and gave privacy to commercial law in harmony with the characteristics of speed and credit and enhancing confidence between merchants, and has been exposed to exceptions contained in the principle, especially the formalty required in the company’s contract, and the actions contained in the commercial asset, in which the law stipulated writing and explicitly expressed the departure from the principle What is the seriousness of the actions contained in these contracts, as well as the books of merchants and billing, who represent a privacy in commercial proof and violating the most important principles of proof.

Key words: commercial, formal, company contract, commercial asset, merchant books, billing, principle of freedom of evidence.

 

 


 

مقدمة

سرعة الحركة وحسن المبادرة والقدرة على اتخاذ قرارات سريعة وحاسمة، وتحمل مسؤولية القرار ربحا أو خسارة، هي أهم سمات القانون التجاري، وهي لا شك أمور تتنافيى مع الشكلية وتعقيداتها، وهو ما سارت عليه التشريعات فأطلقت مبدأ حرية الإثبات في المادة التجارية، مبدأ عاش على إطلاقه وتمدد في الحياة التجارية وكان متنفسا وملاذا في ظل نزاعات التجار والتجارة واستعصائها على وسائل الإثبات المدنية[1] إلا ما كان من بعض المنغصات على مستوى إثبات عقد الشركة والتصرف الوارد على الأصل التجاري، وربما يعتبر ميدان التبادل الالكتروني مخلصا جديدا للتجارة من التعقيدات وإمعانا في مرونتها مع أن التشريعات لا تزال ترزح تحت وطأة بعض العوائق إذ لم تطلق بعد الحرية كاملة ولا تزال رهينة لبعض القواعد وجدت سبيلها للميدان الإلكتروني بعد صدور القوانين المؤطرة له ومعززة لمكانة التجارة الإلكترونية.

  وتعد نظرية الإثبات من أهم النظريات القانونية وأكثرها تطبيقا في الحياة العملية بل هي النظرية التي لا تنقطع المحاكم عن تطبيقها كل يوم فيما يعرض عليها من قضايا كما قال السنهوري، وأكبر دليل على أهميتها أن وظيفتها تتمحور حول رد الحقوق لأصحابها وهو أسمى مقاصد الشريعة وأنبل أهداف القانون.

مشكلة الدراسة: تدور مشكلة الدراسة حول حقيقة اختلاف الإثبات في المادة التجارية ومدى حرية الإثبات في الميدان التجاري، وحالات الخروج على المبدأ، وأمثلة على خصوصية بعض الإثباتات من قبيل الدفاتر والفوترة، وأطرح الأسئلة التالية:

ما هو أصل المبدأ ومبرراته في الحياة التجارية؟ هل وردت عليه استثناءات؟ كيف للتاجر أن يقدم دفاتره كدليل إثبات لصالحه؟  ما مدى مقبولية الفواتير في المعاملات التجارية؟

الفرضيات:

المبدأ العام في ميدان المعاملات هو الرضائية واستحكام سلطان الإرادة الذي يمكن الأفراد من عقد الاتفاقات بالشكل الذي يرونه مناسبا، ولا يشترط غير رضى الطرفين إلا في الحالات التي ينص عليه القانون وتستدعيها حماية مصلحة أولى بالحماية.

المبدأ في الميدان التجاري هو تأكيد للمبدأ أعلاه وتعزيز لسلطان الإرادة إلا ما كان من استثناءات ارتأى المشرع أنها أولى بالحماية.

للقانون التجاري خصوصيته التي تعتبر خروجا تاما على بعض قواعد القانون المدني وهو مبرر الانفصال والاختلاف التام في بعض الأحكام 

أهمية الدراسة:

 تكمن أهمية الموضوع في إبراز الاختلاف وتجلياته في الميدان التجاري وتأكيده لخروج قواعد الإثبات التجاري عن القواعد العامة للإثبات وزعزعة بعض المسلمات.

أهداف الدراسة:

 الدراسة تهدف لتقديم ما يفيد الباحث ويكشف عن خصوصية الإثبات في الميدان التجاري وإعطاء أمثلة على هذه الخصوصية والتميز الذي حاولت إبرازه من خلال تناول أحكام الإثبات وخصوصيته في الميدان التجاري  

منهج الدراسة:

 أعتمد في هذه الدراسة المنهج التحليلي للوقوف على خصوصية الإثبات التجاري من خلال تناول بعض الأحكام التي أوردها الفقه والقانون والتي جسدت خصوصية الإثبات التجاري ومَيَّزته.

خطة البحث:

المبحث الأول- مبدأ حرية الإثبات

§       الفقرة الأولى- تأصيل مبدأ حرية الإثبات

§       الفقرة الثانية- الاستثناء الواردة على أصل المبدأ

المبحث الثاني- أحكام الإثبات

§       الفقرة الأولى- الإطار العام للإثبات التجاري

§       الفقرة الثانية - عبء الإثبات

المبحث الثالث- نماذج من حرية الإثبات وخصوصيته في المادة التجارية

§       الفقرة الأولى- دفاتر التاجر

§       الفقرة الثانية- الفاتورة

 

المبحث الأول- مبدأ حرية الإثبات

أدت السرعة إلى تفرد القانون التجاري بقواعد خاصة تتسم بالمرونة وتتجرد من الشكليات، من ذلك مثلا تقرير مبدأ الإثبات، إذ يجوز الإثبات بأية وسيلة طبقا للمادة 8 من مدونة التجارة، وهو خلاف الوضع في القانون المدني الذي حدد وسائل الإثبات على سبيل الحصر في المادة 402 من قانون الالتزامات والعقود[2].

والسرعة تقتضي الابتعاد عن الشكليات، إلا أنه يلاحظ أن ذلك ليس على إطلاقه، فالعقود المهمة في مجال التجارة يجب أن تحرر كتابة، وهذا ما يفرضه القانون بالنسبة لعقد الشركة[3] وعقد بيع الأصل التجاري، وهو استثناء إنما يؤكد أصل القاعدة، وفي فقرتين ندرس أصل المبدأ والاستثناءات الواردة عليه.

  الفقرة الأولى- تأصيل مبدأ حرية الإثبات

أكد المشرع الوطني على المبدأ العام للإثبات في المجال التجاري حيث نصت المادة 8 من مدونة التجارة على أنه: ((يمكن إثبات الأعمال التجارية بكل الوسائل بالنسبة للتجار ما لم يقتضي القانون غير ذلك)) فهذه هي القاعدة العامة في الميدان التجاري وهي أن كل الوسائل معتبرة ولها حجيتها الثبوتية مع تفاوتها من حيث القوة والإلزام .

 إلا أن المشرع استثنى بعض الحالات حيث نصت المادة 205 من مدونة التجارة على أنه"يجب إثبات النظام الأساسي بمكتوب وإلا كان باطلا... يجب أن تثبت الاتفاقيات بين الشركاء كتابة"، فالنظام الأساسي المنشئ للشركة يجب أن يحرر في مكتوب، ولم يشترط المشرع فيه الرسمية إنما مجرد الكتابة وذلك تحت طائلة بطلان عقد الشركة، وإنما جاء إقرار الشكلية في عقد الشركة حماية للحقوق المترتبة، ونظرا للمخاطر المحيطة بعدم الضبط ودقة الالتزامات ومعرفة التفاصيل المهمة والتي لا يمكن أن توكل إلى ذاكرة الأفراد وإنما يجب أن تحرر ويوقعها الأطراف.

 وهو ما سار عليه المشرع في المادة 117 م.ت التي نصت على أنه (( يتم بيع الأصل التجاري  أو تفويته وكذا تقديمه حصة... بعقد رسمي أو عرفي)) ، وعليه فإن بيع الأصل[4] أو المحل التجاري يجب أن يتم بمقتضى محرر مكتوب تحت طائلة البطلان.

وبالتالي فقد اشترط المشرع الكتابة في هذه العقـــــود نظــــرا للآثار المترتبة عليها والأخطار الجسام  التي يمكن أن تترتب على غـــــياب الكتابة والضبط، ونظرا لأهمية ضبـــط الالتزامات ارتأى المشـــرع أن يخرج بهذه العقود عن أصل الرضائية وألزم بوضعــــها في قالب شكلي احترازا من الشـــحناء والنزاع. 

وقبل ذاك بقرون اعتبر التشريع الإسلامي الإثبات في الميدان التجاري حرا طليقا نظرا لخصوصية التجارة فسمح بأي وسيلة إثبات عند نشـــوب نزاع فقال جل من قائل " إلا أن تكــون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جـــناح ألا تكتبوها"[5]، وربما تخليـــص المشرع للتجارة من القيود كان تعويلا على تقديره أن دراية التاجـــر وخبرته تجعله قادرا على استيـــعاب الآثار القانونيـــة المترتبـــة على تصرفاته، ومتحسبا للعواقب، وعلى استـــعداد لتحمل التبعات والمخاطرة التي هي جزء مهـــم في العمل التجاري.

ومعلوم كما أسلفنا أن المبدأ ليس على إطلاقه فقد اشترط المشرع الشكلية أحيانا لإثبات بعض العقود، وأحايين أخرى اشترط الكتابة الرسمية كشرط لانعقادها كالشركات والتصرفات الواردة على الأصل التجاري.

والسبب هنا في اشتراط الكتابة هو طبيعة هذه العقود وحجم المخاطرة وما يمكن أن ينجر عنها من أضرار تتجاوز أطراف العقد.

ويتحدد نطاق إعمال المبدأ في الميدان التجاري، في المعاملات التجارية التي تتم بين التجار أنفسهم أو مع عملائهم، وعليه يشترط للتمسك بالمبدأ أن يكون طرفا العلاقة تاجرين، أو يكون محل الإثبات عملا قام به التاجر أثناء مباشرته مهمته التجارية سواء كان الطرف الثاني تاجرا أن غير تاجر.

والحقيقة أن أصل المبدأ يرجع إلى الشريعة الإسلامية إذ ورد في الآية الكريمة "يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه..." " إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها"[6] والآية طويلة وفي المقطع الذي أوردناه نستخلص أن الشطر الأول يتعلق بالإثبات المدني والذي اشترطت فيه الكتابة، والشطر الثاني يتعلق بالتجارة ويظهر فيها تقدير المولى عز وجل لخصوصيتها لذلك استثنى القائمين عليها من الكتابة فيما يجرون من تصرفات[7].

الفقرة الثانية- الاستثناءات الواردة على أصل المبدأ

ونورد في هذه الفقرة أمثلة من الاستثناءات الواردة على أصل المبدأ:

أولا- الشكلية في الأصل التجاري:

نصت المادة 117 على أنه " يتم بيع الأصل التجاري أو تفويته وكذا تقديمه حصة في شركة أو تخصيصه بالقسمة أو المزاد، بعقد رسمي أو عرفي"، وهو خروج ببيع الأصل التجاري عن أصل الرضائية وإدخاله في دائرة التقييد، وعليه أصبح بيع الأصل التجاري عقدا شكليا تعتبر الكتابة أحد أركانه لا مجرد وسيلة إثبات، بل ركن انعقاد يَنْهدُّ العقد بإغفالها ويلحقه البطلان. وواضح أن المشرع هنا يريد تعزيز الأمن التعاقدي فأحاط التصرفات الواردة على الأصل بالشكلية الضرورية لوأد النزاع والشحناء، فلا يجوز إذا إثبات هذه العقود إلا بمحرر مكتوب رسمي أو عرفي، وهو المبدأ الذي تبناه المشرع الفرنسي في المادة الأولى من القانون الفرنسي الخاص ببيع ورهن المحل التجاري[8].

فالشكلية في عقد بيع الأصل التجاري غايتها حماية الدائنين الذين جعلوا من الأصل ضمانة لديونهم في إطار عمليات الائتمان..

  ثانيا-الشكلية في عقد الشركة:

 نصت المادة 205 من مدونة التجارة على أنه " يجب إثبات النظام الأساسي بمكتوب وإلا كان باطلا، كما أنه يجب أن تثبت الاتفاقيات بين الشركاء كتابة" ولا تقبل أية حجة فيما بينهم مُعارضة لما تضمنه عقد الشركة، وأقر المشرع إمكانية كتابتها عرفيا ورتب عليه آثارا.

وعليه فإن شرط الكتابة شرط أساسي لقيام الشركة التجارية و في أي تعديل[9] قد يطرأ عليها تحت طائلة البطلان ويشكل عقد تأسيس الشركة نظامها الأساسي الذي يجب أن يتضمن مجموعة من البيانات الإلزامية[10] تختلف باختلاف الشركات،  كما يجب أن يتم إشهار النظام الأساسي للشركة وإيداعه لدى كتابة ضبط المحكمة التجارية التي تقع الشركة بدائرتها، وهي إجراءات شكلية استدعاها ميلاد هذا الشخص المعنوي الذي يتعامل في السوق باسمه ولحسابه، وهو ما يتطلب إعلان ميلاد بدأ من تاريخ تسجيله في السجل التجاري، وأنبه إلى أن عدم تقييد الشركة في السجل التجاري لا يبطلها بل تبقى قائمة بين أطرافها كشركة واقع، لكنها لا تكون مؤهلة لاكتساب الشخصية الاعتبارية، ذلك أن تقييد الشركة في السجل يضفي عليها الشخصية الاعتبارية وليس شرطا لوجودها. 

المبحث الثاني- أحكام الإثبات

    الإثبات بمعناه القانوني هو إقامة الدليل أمام القضاء بالطرق التي حددها القانون على وجود واقعة قانونية ترتب في مواجهة من ينكرها أثرا قانونيا لمن يدعيها[11]، وعرفه محمد الزحيلي بقوله "الإثبات إقامة الحجة أمام القضاء بالطرق التي حددتها الشريعة على حق أو واقعة ترتب عليها آثار شرعية"[12]، وندرس في فقرتين أحكام الإثبات، وعبأ إثباته.

الفقرة الأولى- الإطار العام للإثبات التجاري

أولا- خصائص الإثبات:

 وخصائص الإثبات أنه:

§       يقع أمام القضاء: باعتباره الهيئة المختصة بالفصل في النزاعات وعليه سمي بالإثبات القضائي

§       ينصب على الواقعة القانونية مصدر هذا الحق سواء كانت فعلا ماديا كالعمل النافع والعمل الضار، أو تصرفا قانونيا كالبيع والإيجار.

§       الإثبات تضبطه قواعد وتنظمه إجراءات قانونية تجب مراعاتها، على سبيل ما نصت عليه المادة 399 من أنه إذا قرر القانون شكلا معينا، لم يسغ إجراء إثبات الالتزام أو التصرف بشكل آخر يخالفه، إلا في الأحوال التي يستثنيها القانون.

ثانيا- طبيعة قواعد الإثبات:

 يشمل نوعين من القواعد:

1.     قواعد موضوعية تبين حالات استخدام الدليل وقيمته القانونية كما تبين محل الإثبات وعلى من يقع عبأ الإثبات، وقد نصت المادة 397 على أن إثبات الالتزام على مدعيه".

2.     قواعد شكلية تخاطب القاضي أكثر وتوضح الإجراءات المتبعة في إقامة الدليل كإجراءات استدعاء الخصوم وسماع الشهود...، وتعتبر القواعد الإجرائية أو الشكلية من النظام العام إذ لا يجوز الاتفاق على مخالفتها لكونها تهدف إلى تحسين سير العدالة.

ثالثا- مذاهب الإثبات:

1.     مذهب الإثبات الحر يرى أصحابه بحرية الخصوم بتقديم الدليل الذي يرونه مناسبا أي أن القانون لا يحدد طرقا معينة للإثبات وبذلك يكون للقاضي دور إيجابي وله مطلق الحرية في تقدير صحة الأدلة، وقد أخذ بهذا المذهب القانون الألماني والأنگلو أمريكي وتأخذ به جميع الشرائع في المجال الجنائي[13]

2.     مذهب الإثبات المقيد يرى أصحاب أن القانون هو الذي يحدد الطرق التي يتم بها الإثبات، وقيمة كل وسيلة إثبات، ويعين على من يقع عبء الإثبات وشروط قبول كل دليل، وموقف القاضي هنا سلبي فلا يقضي بعلمه، ومن مميزاته تحقيق استقرا المعانلات ويعرف بمبدأ شرعية الإثبات.

ويرى البعض أن نظام الإثبات المقيد هو نوع من الشكلية في القانون بينما ينسجم نظام الإثبات الحر مع مبدأ الرضئاية [14] إذ "لا يطلب أي شكل خاص لإثبات الالتزامات إلا في الحالة التي يقرر فيها القانون شكلا معينا".

الفقرة الثانية - عبء الإثبات

الأصل أن عبء الإثبات يقع على المدعي لأن الأصل براءة الذمة ومن ادعى العكس عليه إثبات مصدر الالتزام، فإثبات الالتزام على مدعيه [15]وعلى من يدعي انقضاءه أو عدم نفاذه تجاهه أن يثبت ادعاءه[16].

وقد كرست الشريعة الإسلامية مبدأ "البينة على من ادعى واليمين على من أنكر" وتحديد على من يقع عبء الإثبات مهم جدا لأنه مناط إقرار الحق أو ضياعه، لذا تدخلت التشريعات لتوزيع عبء الإثبات، فالحقوق الشخصية الأصل فيها براءة الذمة وإذا ادعى طرف دنا له على آخر كان عليه إقامة الدليل لأنه يكون مدعيا خلاف الوضع الثابت وعليه إثبات وجود عقد أو فعل ضار مثلا، أما من يتمسك ببراءة الذمة فهو متمسك بالوضع الثابت أصلا وبالتالي يعفى من الإثبات.

أما الحقوق العينين فالأصل فيها احترم الوضع الثابت ظاهرا، فالحق العيني سلطة على شيء فحائز الأرض ظاهرا يعد مالكا فلا يطلب منه الدليل على ذلك فإذا ادعى أجنبي خلاف ذلك يكون في دعواه مخالفا للوضع الظاهر فيقع عليه عبء الإثبات، وإلى جانب الوضع الثابت أصلا أو عرضا أو ظاهرا فقد يزيح المشرع عبء الإثبات عن المكلف به إلى خصمه بمقتضى قرائن قانونية.

ومن أهم مبررات إقرار مبدأ حرية الإثبات هو الائتمان والثقة بين المتعاملين لا سيما أن أغلب المعاملات آجلة وقوامها الائتمان والثقة المتبادلة بين الأطراف وهو ما يقتضي الابتعاد عن الشكليات والقيود. وتحديد نطاق المبدأ يقتضي معرفة طبيعة الأنشطة موضوع النزاع إذ يرتبط الإثبات الحر بالنشاط التجاري، ومؤخرا لم يعد يستثنى من ضرورة إثبات تجارية العمل إلا الأعمال التجاري الشكلية، وما سواها يجب إثبات تجاريته لانطباق مبدأ حرية الإثبات عليه[17].

والنطاق الموضوعي لإعمال المبدأ يتمثل في أن حرية الإثبات تشمل الأعمال التجارية، فأي عمل يمارسه التاجر يعتبر تجاريا ما لم يقم دليل على خلافه، لكنها قرينة بسيطة قابلة لإثبات العكس وبكافة طرق الإثبات، كما لو أثبت أن شراء الأفرشة والأثاث هو لبيته ولا تتصل بشؤون تجارته، وعلى من يدعي خلاف ذلك أن يقدم دليلا مكتوبا وفق أحكام القانون المدني فيما لو تمسك التاجر المدعى عليه بالصفة المدنية للعمل.

المبحث الثالث- نماذج من حرية الإثبات وخصوصيته في المادة التجارية

يمكن إثبات الأعمال التجارية بكل الوسائل بالنسبة للتجار ما لم يقتض القانون غير ذلك، وهو ترسيخ لمبدأ الشرعية وفتح للباب على مصراعيه أمام أي وسيلة إثبات، ولعل النموذج الأمثل لحرية وخصوصية الإثبات يتمثل في دفاتر التاجر والفوترة ونحوها من الوسائل المعتبرة التي تدخل في إطار الإثباتات المعترف بها قانونا وتشكل ميزة للقانون التجاري وجوهرا لتميزه عن غيره من فروع القانون ، وندرسها في فقرتين:

الفقرة الأولى- دفاتر التاجر

يمكن قبول دفاتر التاجر التي تم مسكها بصورة قانونية لدى القضاة للاحتجاج بها بين التجار في أعمال تجارتهم[18]، فيجوز للتاجر أن يستند على دفاتره التجارية للإثبات لمصلحته خروجا على القاعدة التىي تقضي بأنه "لا يجوز للشخص أن ينشئ دليلا لمصلحته" ، غير أنه لا يجوز الاحتجاج بالدفاتر التي لم تراعى فيها الشكليات المقررة لصالح ماسكيها.

كما يجوز لخصم التاجر الاستناد لدفاتر التاجر لاستخلاص الدليل لصالحه خلافا للأصل الذي يقضي "بعدم إجبار الشخص على تقديم الدليل ضد نفسه"[19]، فإذا طلب أحد الخصوم الاعتماد على دفاتر خصمه وامتنع خصمه عن تقديمها من غير عذر مقبول اعتمد القاضي قول الطالب بيمينه.

ومسألة حجية الدفاتر هذه تتطلب شرطين: الأول أن تكون المعاملة بين تجار والثانية أن يرتبط النزاع بعمل تجاري، فإذا كان النزاع مدنيا بالنسبة لأحد الأطراف فإن العقد يكون مختلطا ولا تكون محاسبة التاجر حجة على خصمه[20].

والخلاصة أن دفاتر التجار تعتبر حجة عليهـــم لأنها إقرار مكتوب صادر عنهم، ومعروف فقها وقضاء أن أولى ما يؤاخذ به المرأ هو إقراره على نفسه. وإطلاع المحاكم على الدفاتــــر التجارية إن تعين فيجب أن يقع بحضور التاجر ودون تخليــــه عن حيازتها وتحت مراقبته ولا تبلغ للخصـــــم، وعند رفض التاجر تقديم دفاتره المتعلقة بمعاملاته يعتبــــر ذلك إقرارا ضمنيا منه على صحة ما يدعيه خصمــــه، ويُستخلص قرينة لفائدة خصمه، وللقاضي في هذه الحالة توجيه اليمين المتممة للخصــــم لتعزيز ادعاءاته[21].

الفقرة الثانية- الفاتورة

الفاتورة هي تلك الوثيقة القانونية والمحاسبية التي يعدها العون الاقتصادي ويأمر من خلالها المستهلك بدفع مبلغ السلعة أو الخدمة، وتحتوي على مجموعة بيانات جوهرية تظهر شفافية المعاملة التجارية بين الطرفين، وتسلم بعد التعاقد.

 وبالتالي فإن ما تحتويه هو مجرد تجسيد لما تــــم الاتفاق عليــــه أو مكملا له [22]، وعرفها المشـــرع الفرنسي على أنها "الكتابة الموجهة بمناسبة عملية بيع أو تقديم خدمة والتي تشهد وجود عمليــة تجارية"[23]

وفي عالم التجارة المتميز بالسرعة والائتمان فإن الفاتورة تعد وثيقة ضرورية نظرا لدورها الكبير في إثبات التصرف التجاري، ما دامت مقبولة، كما أنها وثيقة تصدر لصالح المشتري تثبت المنتوجات والكميات والسعر والصنف والجودة، فهي وثيقة محاسبية قانونية يشترط لاعتبارها حجة على الخصم أن تتضمن ما يفهم منه قبولها فتعتبر حينها ذات حجية تفيد المديونية.

وقد نصت المادة 1220 من مدونة التجارة الموريتانية على أنه "يجب أن يكون كل شراء لمواد أو أداء خدمة من أجل نشاط مهني موضوع فاتورة، ويلزم البائع بتسليم الفاتورة، عند اكتمال عملية البيع أو أداء الخدمة وعلى المشتري أن يطلبها، كما يجب أن تحرر الفاتورة في نسختين يحتفظ كل من البائع والمشتري بنسخة منها".

كما يجب أن توضح الفاتورة أسماء الأطراف وعناوينهم، وتاريخ البيع أو أداء الخدمة، والكمية والتسمية المعتمدة، وسعر الوحدة، خاليا من الرسوم بالنسبة للمواد المبيعة أو الخدمات المقدمة، وأي تخفيضات أو انتقاصات أو خصوم ممنوحة، بالإضافة إلى تحديد المبلغ عند البيع وتأدية الخدمة مهما كان تاريخ التسديد، وهذه الإجراءات والدقة في البيانات استدعاها تنظيم الأسواق وإجراءات ضبط المنافسة وحرية الأسعار.



[1] . وسائل الإثبات المدنية نصت عليه المادة 402 بقولها: "وسائل الإثبات التي يقررها القانون هي:

  1.  إقرار الخصم؛

  2.  الحجة الكتابية؛

  3.  شهادة الشهود؛

  4.  القرينة؛

  5.  اليمين والنكول عنها.

[2] . المادة 402.- وسائل الإثبات التي يقررها القانون هي:

1.       إقرار الخصم؛

2.       الحجة الكتابية؛

3.       شهادة الشهود؛

4.       القرينة؛

5.       اليمين والنكول عنها.

[3] . المادة 205 - يجب إثبات النظام الأساسي بمكتوب وإلا كان باطلا.

[4] . المادة 115 .- الأصل التجاري مال منقول معنوي يشمل جميع الأموال المنقولة التي تخول التاجر جلب الزبناء والاحتفاظ بهم.

[5] . البقرة 282

[6] . البقرة 282

[7] . دحماني محمد الصغير، مدى تطبيق مبدأ حرية الإثبات في المواد التجارية والبحرية، مجلة قانون النقل والنشاطات المينائية، المجلد1، العدد 01 لسنة 2014، ص38

[8] . حمد الله محمد حمد الله، حماية مصالح بائع المحل التجاري، دار النهضة العربية، القاهرة، 2000، ص 25.

[9] . المادة 399... إذا قرر القانون أن يكون العقد مكتوبا، اعتبر نفس الشكل مطلوبا في كل التعديلات التي يراد إدخالها على هذا العقد.

[10] . المادة 206 .- يجب تحت طائلة البطلان أن يؤرخ النظام الأساسي وأن يتضمن:

1.       اسم كل واحد من الشركاء الشخصي واسمه العائلي ومقره أو إذا تعلق الأمر بشخص اعتباري تسميته وشكله وموطنه؛

2.       شكل شركة؛

3.       محلها؛

4.       تسميتها؛

5.       مقر الشركة؛

6.       مبلغ رأس مالها؛

7.       مشاركة كل واحد من الشركاء والتقييم الممنوح لها إن كانت المشاركة عينية؛

8.       عدد وقيمة الحصص أو الأسهم الممنوحة لكل شريك؛

9.       مدة استمرار الشركة؛

10.    الأسماء الشخصية والعائلية للشركاء أو للغير الذين يحق لهم التعهد باسم الشركة عند الاقتضاء،

11.    توقيع جميع الشركاء أو وكلائهم؛

12.    كتابة الضبط المودع لديه النظام الأساسي.

[11] . عبد الرزاق السنمهوري" الوسيط في شرح القانون المدني، أثار الإلتزام، الجزء الثاني، دار إحياء التراث العربي، ص13.

[12] .  بن سالم أحمد عبد الرحمن، نظام الإثبات في المواد المدنية والتجارية (دراسة في المفهوم والمبادئ)، مجلة التراث، المجلد 13، العدد 1، ص4

[13]. بن سالم أحمد عبد الرحمن، نظام الإثبات في المواد المدنية والتجارية (دراسة في المفهوم والمبادئ)، مجلة التراث، المجلد 13، العدد 1، ص: 6

[14] .  سمير عبد السيد تناغو، أحكام الإلتزام والإثبات، مكتبة الوفاء القانونية، الإسكندرية، مصر، الطبعة الأولى، 2009، ص9 

[15]. المادة 397 من  الأمر القانوني رقم 89-126 الصادر بتاريخ 14 سبتمبر 1989 المتضمن قانون  الالتزامات والعقود المعدل  بالقانون رقم 2001-31 الصادر بتاريخ 7 فبراير 2001

[16] . المادة 398 قانون  الالتزامات والعقود.

[17]. نويري محمد الأمين، الإثبات في الماة التجارية، مذكرة تكميلية لنيل شهادة الماستر، شعبة القانون ، تخصص قانون الأعمال، جامعة العربي بن مهيدي، 2015-2016، الجزائر، ص31

[18] . المادة 26 من مدونة التجارة الموريتانية.

[19] . المادة 28 من مدونة التجارة الموريتانية.

[20] . ولا يمكن أن يواجه بها الطرف الذي كان العمل بالنسبة إليه مدنيا، ما لم يوجد نص خاص يخالف ذلك.

[21] . المادة 28." إذا طلب أحد الخصوم الاعتماد على دفاتر خصمه وامتنع خصمه عن تقديمها من غير عذر مقبول اعتمد القاضي قول الطالب بيمينه". والمشرع هنا يعامل التاجر سيء الية بنقيض قصده

[22] . أحمد خديجي، قواعد الممارسات التجارية في القانون الجزائري، رسالة دكتوراه في القانون الخاص، جامعة باتنه 1، 2016، ص 59

[23]. بوعزم عائشة، النظام القانوني للفاتورة، مجلة الباحث للدراسات الأكاديمية، العدد الأول مارس 2014، جامعة وهران، ص 113.




من أجل تحميل هذا المقال كاملا - إضغط هنا أو أسفله على الصورة


قانونك



من أجل تحميل هذا العدد الثامن عشر - إضغط هنا أو أسفاه على الصورة

مجلة قانونك - العدد الثالث