مبدأ المساواة في المادة الجنائية
فتاح ربيع
دكتور في القانون الخاص
The principle of equality of the criminal article
Fattah RABBIE
مقدمة
لعبت الثورات التي شهدها العالم دورا محوريا في خلخلة المفاهيم السائدة وكذا في وضع أسس حقوق الإنسان من خلال إيجاد تعريفات جديدة لها وللحريات ضمن الدولة، كما تم التأكيد على ضرورة العدل والمساواة بين الأفراد أمام القانون. بعد ذلك جاءت الحرب العالمية الثانية لتدفع نتائجها بالدول إلى التأكيد على ضرورة إيجاد قانون دولي لحفظ الحقوق يقوم على احترام الرأي العام العالمي من خلال قانون إنساني لا يتسم بأيديولوجية معينة سوى أنه إنساني. وكان من بين أهم ما تمت الدعوة إليه تطبيق المحاكمات العادلة باعتبارها أحد الأعمدة الأساسية التي تهدف إلى حماية الإنسان من التعسف والشطط في استعمال السلطة والتمييز، والتي تعتبر من بين أهم مواضيع حقوق الإنسان كمؤشر على مدى احترام الدولة لحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها دوليا وقياسا أصيلا في بناء دولة القانون.
وكمعيار لاعتبار أن المحاكمة عادلة من عدمها يجب ملاحظة مدى احترامها لما ينص عليه القانون من إتباع للمساطر والإجراءات عند متابعة الأفراد، ومدى احترام هذه الإجراءات لحقوق الفرد. ومن بين أهم المبادئ التي تعتبر ملازمة لحقوق الفرد وتصون كرامته هي الاستفادة من القانون على قدم المساواة بين جميع فئات المجتمع.
يكاد التلازم بين مبدأ المساواة والحقوق والحريات العامة أن يكون تلازما حتمياً فلا يمكن لأحدهما أن يستغني عن الأخر، فلا مساواة بلا حرية ولا حرية إذا لم يعامل الحاملون للحقوق والحريات العامة على قدم المساواة وبلا تمييز على أساس الجنس أو اللون أو العقيدة أو اللغة أو... الخ، لذلك فلا مناص من القول إن مبدأ المساواة هو الأساس الذي تقوم عليه الحقوق والحريات العامة كافة فلا سبيل لتمتع الأفراد بأي حرية من الحريات إذا لم يكن ذلك متاحاً للجميع بلا تمييز بين شخص وأخر.
كما دفع عدم المساواة الذي كان يميز الأنظمة العقابية القديمة والقسوة المبالغة في العقاب العديد من مفكري القرن الثامن عشر، لإنكار هذا الوضع الذي لا يتفق وآدمية الإنسان، فطالبو بتخفيف حدة النظام العقابي برد هذا العقاب إلى أسس وضوابط تحول دون المبالغة والتحكم في فرضه، وبإقامة مساواة حتى في العقوبة، وقد مهدت آراء هؤلاء الفلاسفة والمفكرين لتصحيح تجاوزات الأنظمة العقابية القديمة.
أما بخصوص المشرع المغربي فهو أيضا سار على هذا المنوال محاولا أن يواكب الدعوات الرامية إلى تجسيد المساواة الفعلية على أرض الواقع من خلال مصادقته على الاتفاقيات التي تدعو إلى نبذ التمييز واللامساواة بين فئات المجتمع، أيضا عمل على ملائمة ما تدعو له المواثيق الدولية بخصوص المساواة مع التشريع الجنائي المغربي.
فنجد أن الدستور المغربي عمل على وضع مجموعة من المبادئ لتأطير مفهوم المحاكمة العادلة وعمل على تقويتها بمجموعة من الضمانات. ومنه، فالمحاكمة العادلة في القانون المغربي اليوم أصبحت تستمد مرجعيتها من دستور 2011 الذي حاول تكريسها في الفصل 23 منه والدي ينص على " قرينة البراءة والحق في المحاكمة العادلة مضمونان" وهذه الضمانة ثم ترسيخها في الفصل 120 من الدستور الذي أكد على أن "لكل شخص الحق في محاكمة عادلة وفي حكم يصدر في أجال معقول"
كما نجد بأن أهم الضمانات القانونية التي يتضمنها الدستور المغربي للمحاكمة العادلة نجدها في صلب تصديره حيث تم الإقرار ولأول مرة سمو المواثيق الدولية على القانون الوطني ما لم يكن هناك مخالفة لأحكام الدستور والقانون الوطني والهوية الوطنية، وهدا يعني أن مصادقة المغرب على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وما يتضمنه من ضمانات في مادته 10 ومصادقته للعهد الدولي الخاص بالحقوق السياسية والمدنية وما تتضمنه من ضمانات للمحاكمة العادلة في إطار المادة 14 تسمو على القوانين الوطنية كما ركز دستور 2011 على اعتبار هدا التصدير جزءا لا يتجزأ من الدستور.
كما أن الفصل السادس من الدستور أتى بمجموعة من الضمانات المهمة في المحاكمة الجنائية حيث يؤكد على (أن القانون يعتبر أسمى تعبير عن الأمة والجميع أشخاص ذاتيين أو اعتباريين بما فيهم السلطات العمومية متساوون أمامه وملزمون بالامتثال له) أما فيما يتعلق بالضمانات القضائية فقد نص الدستور ولأول مرة اعترافا بالسلطة القضائية كسلطة مستقلة عن باقي السلط حيث تم الارتقاء بالقضاء من مجرد وظيفة إلى سلطة قضائية مستقلة عن السلطة التشريعية والتنفيذية.
انطلاقا مما سبق سأحاول معالجة الموضوع من خلال طرح إشكالية كالتالي، مبدأ المساواة والعدالة الجنائية أية علاقة؟ وللإجابة عن هذه الإشكالية سنقسم الموضوع إلى مبحثين
المحور الأول: ماهية مبدأ المساواة
المحور الثاني: حدود تطبيق مبدأ المساواة
المحور الأول: ماهية مبدأ المساواة في المادة الجنائية
يعد الحق في المساواة من بين الحقوق المهمة للإنسان إن لم يكن أهمها على الإطلاق، وهو يُعد مبدأً أساسياً في كافة الدول والنظم الديمقراطية في العالم أجمع وحجر الزاوية فيها. وتأتي أهمية هذا الحق كونه أساس تمتع الفرد بجميع الحقوق والحريات الأخرى على قدم المساواة مع غيره من الأفراد، فالتمتع بحقوق الإنسان مشروط ابتداء بالمساواة وعدم التمييز وصولا إلى باقي الحقوق الأخرى. وبناء عليه سنحاول تحديد مصادره المتعددة في (الفقرة الثانية)، على أن نخصص (الفقرة الأولى) لتحديد مفهوم مبدأ المساواة.
الفقرة الأولى مفهوم مبدأ المساواة في المادة الجنائية
يعتبر تحديد الماهية أو المفهوم أحد أصعب الأمور التي يصادفها الباحث في مجال العلوم القانونية، لأنه بتحديد مفهوم معين فنحن نضع له حدودا لغوية قد تتسبب في خنقه وتجعله حبيس مصطلحات محددة قد لا تساير التحول السريع داخل المجتمع، إلا أنه في نفس الوقت يساعدنا في تحديد مجال البحث وعن ماذا نريد أن نبحث، خاصة أن مجال التعريف أو التحديد المفاهيمي تركه المشرع للفقه وللباحثين، وهذا ما سنقوم به من خلال هذه الفقرة: (1) تحديد مفهوم مبدأ المساواة في النظم الوضعية الحديثة ثم (2) تحديد مفهوم مبدأ المساواة المطلقة والنسبية ثم (3) المساواة أمام القضاء أو أمام القانون.
1- مفهوم مبدأ المساواة في النظم الوضعية الحديثة
مبدأ المساواة بصفة عامة عرف تطورا كبيرا بعد الحرب العالمية الثانية لما خلفته هذه الكارثة البشرية من نتائج كارثية، ولهذا بدأ البحث عن مفهومه انطلاقا من مرجعيات محددة، أبرزها المرجعية اللبرالية، والتي كانت لوثيقة إعلان حقوق الإنسان والمواطن الفرنسي 1789 الفضل في تقرير مبدأ المساواة بصورة رسمية ومضامين هذه الوثيقة تؤكد ذلك من خلال تنصيصها على الحق في " الحرية، المساواة، الملكية، حق الأمن،..." .
وعلى أساس ذلك يستند مبدأ المساواة في النظم الغربية للفكر الأيديولوجي للمذهب الفردي الوثيق الصلة بالقانون الطبيعي وفكرة العقد الاجتماعي، وكان شعار الثورة الفرنسية التي جاءت بإعلان لحقوق الإنسان هو (الحرية، الإخاء، المساواة)، والمساواة التي يقصدها المذهـب الفردي هي المساواة القانونية وليست المساواة الفعلية (أي المساواة مـن الناحيـة المادية والاقتصادية) وهذا المبدأ يضمن استفادة جميع المواطنين من مزايا القاعدة القانونية على قدم المساواة .
وفقا لرؤية جان جاك روسو كأحد أعمدة نظرية العقد الاجتماعي، فإن مبدأ المساواة الجنائية يعد ركيزة أساسية لتحقيق العدالة في المجتمع فالبشر يولدون متساوين في حقوقهم الطبيعية، وأن التفاوتات الاجتماعية هي نتاج تطورات تاريخية وليست انعكاسا للطبيعة البشرية .
ومن هذا المنطلق، فإن القوانين الجنائية يجب أن تطبق على الجميع دون تمييز أو استثناء، بحيث يخضع الأفراد، بغض النظر عن مكانتهم الاجتماعية أو الاقتصادية، لنفس المعايير القانونية، ويرتبط هذا المبدأ بفكرة الإرادة العامة، التي تعبر عن المصلحة المشتركة لجميع أفراد المجتمع، ما يستوجب أن تكون القوانين، بما في ذلك الجنائية، تعبيرا عن هذه الإرادة لضمان الإنصاف. كما يرفض روسو الامتيازات القانونية التي قد تمنح لفئات معينة، مؤكدا أن المساواة أمام القانون شرط أساسي لتحقيق مجتمع عادل يحترم حقوق الأفراد ويصون كرامتهم. إذا فمفهوم مبدأ المساواة في هذا النظام يعني استفادة جميع الأفراد من الحقوق ومطالبتهم بواجبات دون التمييز بينهم تحت أي اعتبار.
في حين نجد التوجه النقيض للمذهب اللبرالي متمثلا في الاشتراكية يركز على الجانب المادي من حياة الفرد انطلاقا من أن لكل شخص حاجاته، بغض النظر عن كفاءته أو أي اعتبار آخر، ويختلف مفهوم المساواة في هذا النظام حسب تطور المجتمع( مشاعي، إقطاعي، رأسمالي، اشتراكي، شيوعي)، فمبدأ المساواة لا يتحقق في المراحل الأولى للاشتراكية وهو ما يصطلح عليه بدكتاتورية البلوريتاريا، لأن المساواة هنا شكلية وإنما يتم تحققها في المرحلة الموالية التي تعرف بمرحلة المجتمع الشيوعي حيث تنتفي الطبقات الاجتماعية ويتوفر لدينا إشباع لكافة حاجيات الأفراد دون أن يكون العمل مقياسا لذلك ودون نظم أو قوانين، وذلك في ظل الاضمحلال التام للدولة
2-مفهوم مبدأ المساواة بين النسبية والإطلاق
أولا يجب التفريق بين المساواة المطلقة والمساواة النسبية، بمعنى يجب القول أن المساواة تعني في صورتها المجردة عدم التمييز بين الأفراد بسبب الأصل أو اللغة أو العقيدة أو الجنس، لأن البشر كلهم متساوون في التكاليف والأعباء العامة والحقوق والحريات، في حين نجد أن المـواهب التي يملـكها الأفراد غير متساوية، وكذلك تنـمية هذه المـواهب غير متساوية بين الأفراد وذلك لاختلاف الأوضاع الاجتماعية للأفراد، فالتنشئة التي يتلقاها الفرد مختلفة حسب الإمكانيات المتوفرة لكل شخص بحسب بيئته، وبالتالي اختلاف التكوين، ولهذا فالأصل أن المساواة يجب أن تتمـيز بالعمـومية المطلقة بحيث ينطبق القانون على الجميع دون اختلاف ، وهذه يمكن تصنيفها على أنها مساواة نسبية، ولمزيد من التوضيح نعطي مثالا بالوظيفة فهي مثلا متاحة لكافة أفراد المجتمع، ولكن الشروط التي تتطلبها الوظيفة لا تتوفر في كل أفراد المجتمع، لذلك نقول في هذا الموضع أن المساواة نسبية وليست مطلقة، فلا يمكن أن نتحدث عن هذه المساواة بطريقة حسابية بل بمبدأ تكافؤ الفرص بين الأفراد .
وبخصوص مسألة الإطلاقية فالقاعدة القانونية يجب أن تكون عامة عمومية مطلقة تنطبق على جميع أفراد الجماعة بغير استثناء أو تمييز، لان ذلك إنكار للامتيـازات الخاصة وإتاحة للفرص المتكافئة بتيسيرها أمـام الجميع بالقانـون الواحد وهـذا يستحيل عملا، فالقانون فيه شروط وقواعد تحكم تطبيقه، فمن المستـحيل أن تتوافر هذه الشروط أو تلك في جميع أفراد الجمـاعة . فلن تتوافر شروط الوظيفة مثلا في جميع الأفراد، كما أن الظروف المحيطة بمجرم في مكان ما تختلف عنه في مكان آخر.
3-المساواة القانونية والقضائية
ولربط التعريفات والمفاهيم السالفة الذكر بموضوع بحثنا بشكل أكبر سنحاول تحديد مفهوم مبدأ المساواة الثنائية أمام القضاء والقانون، بحيث نجد أن بعض الباحثين عرف مبدأ المساواة القانونية بأن القانون يقوم على أساس العدل فمؤدى ذلك أن يتقيد بكل ما يتقرر من تكاليف، فلا يتجاوز حدود العدالة ومدى إقامتها، وهذا الوضع يتطلب قبل كل شيء أن يراعي المشرع فيما يقرره من أحكام ضمان المساواة بين المخاطبين بأحكامه. كما أن البعض عرفه بكون "هذا المبدأ يفيد بأن تخلو القوانين من التمييز وتمنح معاملة متماثلة للأشخاص الذين تتحقق فيهم نفس الشروط أي عدم التمييز في حالة تساوي المراكز القانونية وتجب مخاطبة الجميع على هذا الأساس خاصة وأن القانون يعبر عن القواعد العامة والمجردة والحاكمة للسلوك البشري دونما أدنى تمييز" .
أما فيما يخص مبدأ المساواة القضائية فيقصد به تساوي الجميع في إجراءات التقاضي أمام المحاكم وأن لكل إنسان الحق في اللجـــــــوء إلى المحاكم أيا كانت درجتــــــها ونوعـــــــها والتي يجــــــــب عليها معاملـــــة الناس معاملة متساوية . إضافة إلى هذا التعريف أورد بعــــــض الباحثين بأن "مفهوم المــــــــــساواة أمام القضاء في ممارسة مواطـــــــني الدولة الواحدة لحق التقاضي وفقا لمبدأ المحاكمة العلنيــــــــة العادلة، بواسطـــــة جهة قضائيـــــــة موحدة، محايدة ومستقلة يتمتع المتقاضـــــــون أمامها دون تفرقة بينهم بكفالة حقــــــــوق الدفاع أصالة أو بالوكالة، استهدافا لتحقيق الغاية النهائية له والمتمثلة في دفع المظالم عن أصحاب الحقوق والحريات وإنصافهم، وبغض النظر عن أي تفاوتات أو اختلاف بينهم في المكانة أو القوة أو الانتماء العنصري أو العقائدي أمام قاضيهم الطبيعي".
وعليه يمكن القول أن مبدأ المساواة سواء القانونية أو القضائية هي استفادة الأشخاص من الترسانة القانونية والقواعد العامة لما يشرعه المشرع وتنزيل ذلك في جميع مراحل الدعوة القضائية وذلك بغض النظر عن أي سبب يدعو إلى التمييز بين الأفراد أو المؤسسات.
الفقرة الثانية: المصادر الخارجية والداخلية لمبدأ المساواة الجنائية
شكلت المحاكمة العادلة محور اهتمام العديد من المواثيق والعهود الدولية وكذا الدساتير الوطنية التي تسعى لحماية حقوق الإنسان وتحقيق المحاكمة العادلة وذلك لارتباطها الوثيق بدولة القانون وبقيم العدل والعدالة، حيث نجد العديد من الدساتير التي تناولت المساواة انطلاقا من توصيات المواثيق والاتفاقيات الدولية، وسنحاول جرد بعض لاتفاقيات التي تبرز لنا ما تتضمنه من تنصيص على مبدأ المساواة في المجال الجنائي شكليا وموضوعيا. وسنتطرق لهذه المصادر من خلال:
أولا- المصادر الخارجية لمبدأ المساواة
1- الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948
خطى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان خطوة مهمة في سبيل تفعيل أحكام ميثاق الأمم المتحدة الخاصة بحقوق الإنسان عامة والحق في المساواة وعدم التمييز خاصة، فالإعلان يحتوي على عدد من المواد البالغ ثلاثين والذي يعنى صراحة بمبدأ المساواة وعدم التمييز، وتستهل ديباجة الإعلان فتشير إلى المبدأ ضمنا وذلك من خلال التأكيد على شمول الناس جميعا بعبارة "لما كان الإقرار بما لجميع أعضاء الأسرة البشرية من كرامة أصيلة فيهم، ومن حقوق متساوية وثابتة، يشكل أساس الحرية والعدل والسلام في العالم" .
ونصوص الإعلان ذات الصلة الوثيقة بالمساواة وعدم التمييز هي نصوص المادة الأولى والثانية والسابعة. وتذكر المادة الأولى من الإعــــــــــلان أن الناس أحرار ومتساوين فـــــــــي الكرامة والحقــــوق"، أما المادة الثانية منه فتحظــــــــر التمييــــــــز لأن جميع الناس يولدون متساوين" على الوجـــــــه الآتي "لكل إنسان حق التمتع بجميع الحقــــــــوق والحريات المذكورة في هذا الإعلان، دونما تمييز من أي نوع، ولا سيما التمييز بسبــــــب العنصر، أو اللون أو الجنس، أو اللغة أو الدين أو الرأي سياسيا وغير سياسي، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي، أو الثروة، أو المولد، أو أي وضع آخر".
2- العهدان الدوليان لحقوق الإنسان 1966
يعتبر هذان العهدان من أبرز العهود التي دعت إلى احترام حقوق الإنسان، لما يتوفران عليه من أحكام تفصيلية خاصة، إضافة إلى تحديد آلية للتنفيذ لا تتوفر في غالبية الصكوك أو الاتفاقيات، والحديث هنا عن العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية 1966، وكذا العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية 1966، وسنتطرق لهما كما يلي:
2.1 العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية 1966
تتعلق بنود هذا العهد بمختلف نواحي الحياة السياسية والمدنية خاصة مبدأ المساواة وعدم التعرض للتمييز، وهذا ما أـكدت عليه الفقرة الأولى من المادة الثانية من العهد " تتعهد كل دولة طرف في هذا العهد باحترام الحقوق المعترف بها فيه، وبكفالة هذه الحقوق لجميع الأفراد الموجودين في إقليمها والداخلين في ولايتها، دون أي تمييز بسبب العرق أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدين، أو الرأي السياسي أو غير السياسي، أو الأصل القومي أو الاجتماعي، أو الثروة أو النسب، أو غير ذلك من الأسباب" إذا فهذا النص جاء صريحا ولا يحتمل التأويل، ويدعو إلى ضمان مبدأ المساواة. كما أن المادة 26 من نفس العهد تضيف ضمانات أكثر بتنصيصها على أن " الناس جميعا سواء أمام القانون ويتمتعون دون أي تمييز بحق متساو في التمتع بحمايته. وفي هذا الصدد يجب أن يحظر القانون أي تمييز وأن يكفل لجميع الأشخاص على السواء حماية فعالة من التمييز لأي سبب، كالعرق أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدين، أو الرأي سياسيا كان أو غير سياسي، أو الأصل القومي أو الاجتماعي، أو الثروة، أو النسب، أو غير ذلك من الأسباب".
ولربطه أكثر بموضوع البحث فنجد أن المادة 14 منه تتطرق لمبدأ المساواة في قانون الإجراءات الجنائية " أن جميع الأشخاص متساوون أمام القضاء ولكل فرد الحق عند النظر في أي تهمة جنائية ضده أو في حقوقه والتزاماته في إحدى القضايا القانونية في محاكمة عادلة وطنية بواسطة محكمة مختصة ومستقلة وحيادية قائمة استنادا إلى القانون".
يمكن أن نلخص ما جاء في هذا العهد وإن كان يصعب تناول جميع ما جاء فيه فنقول، من أهم مقومات العدل بين الأفراد مبدأ المساواة القانونية كحق التمتع بالضمانات القانونية والفعلية أثناء المحاكمة، وذلك أمام محكمة علنية نزيهة حيادية ومستقلة ومكونة بحكم القانون (المادة 11 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية)، والحق في توكيل محام للدفاع عن المتهم في أية تهمة موجهة إليه (المادة 14 من العهد المذكور) الحق في افتراض البراءة، وأن المتهم أصلا بريء إلى أن تثبت إدانته( م 9 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية) والتي تنص عليها المادة الأولى من قانون المسطرة الجنائية ، والحق في إتاحة ما يكفي من الوقت والتسهيلات للدفاع، والحق في مناقشة شهود الإثبات والنفي( م14 من نفس العهد) .
2.2 العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية 1966
يوجب هذا العهد مثله مثل العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، على الدول الأطراف فيه ضمان مساواة الذكور و الإناث في حق التمتع بجميع الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المنصوص عليها في هذا العهد" (المادة الثالثة).
و تشدد ديباجة العهد على "ما لجميع أعضاء الأسرة البشرية من حقوق متساوية وثابتة"، كما أنها تقر صراحة بحق "كل فرد" في التمتع بمختلف الحقوق المنصوص عليها فيه.
3 الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان
الاتفاقية حضرت جميع أشكال التمييز عند التمتع بالحقوق المضمنة فيها ومنها حق التمتع لجميع المواطنين على قدم المساواة بمحاكمة عادلة علنية....كما نصت المادة السادسة منها "على حق كل شخص مقبوض عليه أن يحاكم أمام محكمة مستقلة ومحايدة تستمد من القانون خلال مدة مقبولة".
ثانيا_المصادر الداخلية لمبدأ المساواة في المادة الجنائية
من أهم ركائز دولة الحق والقانون إرساء العدل بين جميع المواطنين، ولترسيخ هذا العدل يجب أن يعامل الناس على قدم المساواة فيما بينهم بغض النظر عن مناصبهم ومراكزهم ووضعياتهم، وهذا ما عملت على تنزيله الدساتير والقوانين الوطنية وهو ما سنحاول توضيحه من خلال:
مبدأ المساواة في دستور المغرب 2011.
يعتبر مبدأ المساواة أمام القانون من المبادئ الدستورية التي تمثل حجر الزاوية في البناء القانوني لأية دولة حديثة، ولقد تضمنته دساتير الغالبية العظمى من دول العالم ويشمل هذا المبدأ تأكيد المساواة بين الرجال والنساء أمام القانون وحظر التمييز المستند إلى العرق أو اللغة أو الدين أو الجنس أو الوضع الاقتصادي والاجتماعي أو أي سبب آخر مماثل.
وباعتبار المغرب بلدا إسلاميا نجده يأخد قسطا من مبدأ المساواة من الشريعة الإسلامية، فقد ورد في القران الكريم في سورة النساء الآية 105 فيقول عز وجل " إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما"، فهذه دعوة صريحة لمعاملة الناس بما أنزل الله في أحكام القرآن الكريم، الأمر الذي سينعكس بالتساوي بين الأفراد عند تطبيق حكم الله عز وجل.
كما أن الرسول صل الله عليه وسلم أقر مبدأ المساواة في أحاديث كثيرة من بينها " إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها" .وقد تجسدت هذه المساواة من خلال دستور 2011 في الفصل السادس والفصل 19، حيث ينص الفصل السادس على أن " القانون هو أسمى تعبير عن إرادة الأمة والجميع، أشخاصا ذاتيين واعتباريين، بما فيهم السلطات العمومية متساوون أمامه، وملزمون بالامتثال له.
- تعمل السلطات العمومية على توفير الظروف التي تمكن من تعميم الطابع الفعلي لحرية المواطنات والمواطنين، والمساواة بينهم، ومن مشاركتهم في الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية".
كما ينص الفصل 19 على " يتمتع الرجل والمرأة، على قدم المساواة، بالحقوق والحريات المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية، الواردة في هذا الباب (الباب الثاني( من الدستور، وفي مقتضياته الأخرى، وكذا في الاتفاقيات والمواثيق الدولية، كما صادق عليها المغرب، وكل ذلك في نطاق أحكام الدستور وثوابت المملكة وقوانينها...". إذا فالنصوص الواردة في الدستور واضحة لا غبار عليها بحيث تدعو الجميع إلى تطبيق مبدأ المساواة تجسيدا وضمانا للمحاكمة العادلة، ويتأكد ذاك أيضا من خلال الفصل 23 فنجده ينص على أنه " لا يجوز إلقاء القبض على أي شخص أو اعتقاله أو متابعته أو إدانته، إلا في الحالات وطبقا للإجراءات التي ينص عليها القانون..." ، كما أن نفس الفصل في فقرته الخامسة يحظر كل تحريض على العنصرية أو الكراهية أو العنف.
كان هذا جرد لمصادر مبدأ المساواة التي اعتمدها المغرب، وإن كانت بشكل جزئي لأنه لا يمكن الإحاطة بكافة النصوص سواء في المواثيق الدولية أو الوطنية، ثم نترك مسألة فعالية هذه النصوص من حيث التطبيق العملي والذي يحتاج إلى دراسات أعمق للوصول إلى نتائج صريحة وواضحة لمدى تفعيل مبدأ المساواة خاصة في المجال الحنائي باعتبارها تصبو إلى الحفاظ على مصلحتين متنافرتين، هما مصلحة المجتمع في توقيع العقوبة على المجرم، وبين مصلحة الفرد المتمثلة في توفير ضمانة لحرياته وتمكينه من إثبات براءته، وذلك في تناسق تام بين الشق الموضعي المتمثل في القانون الجنائي، وبين الشق الشكلي المتمثل في المسطرة الجنائية التي تزرع الروح في القانون الجنائي، وهذا يقتضي ضمان المساواة أمام القضاء فالمحاكم ليست حرة في إتباع أية طريقة تريدها للوصول إلى الحكم أو تحقيق العدالة لأن ذلك من شأنه أن يخلق عدم المساواة ويقضي على الضمانات الحمائية للأطراف .
ومن خلال اطلاعنا على بعض نصوص القوانين سواء المسطرة الجنائية أو القانون الجنائي فإنننا نلاحظ مبدئيا تمتيع الجميع من حيث النصوص بالحق في الدفاع والمحاكمة العادلة دون تمييز بسبب الجنس أو الدين أو اللغة أو العرق أو غير ذلك، وفق المعايير المتعارف عليها دوليا، وتحقق مساواة الجميع به، وهكذا مثلا بالنسبة للمتهمين ( مغاربة أو أجانب) ممن لا يتحدثون اللغة العربية، لغة التقاضي الرسمية، يكون القاضي ملزما بالاستعانة بمترجم أو بشخص يجيد التخاطب معهم، سواء كان ذلك أثناء التقديم أمام النيابة العامة ، أو أثناء المحاكمة . وسنحاول في ما يلي دراسة المدى الذي يمكن أن تصله المساواة لضمان أقصى قدر من العدالة الجنائية
المحور الثاني: حدود مبدأ المساواة
بعد أن حاولنا تحديد ماهية مبدأ المساواة ومصادره الداخلية والخارجية، سنحاول تحديد حدوده وذلك من خلال التطرق لبعض الحالات التي يجب تطبيق هذا المبدأ وتفعيله مقابل حالات تستوجب عدم تطبيقه حفاظا على عدالة حقيقية وضمانا لعدم السقوط في التمييز بين الأفراد باستغلال النصوص القانونية، وسيكون ذلك من خلال التطرق لبعض النصوص القانونية المتواجدة في القانون الجنائي (الفقرة الثانية) على أن نخصص (الفقرة الأولى) لتحديد حدود تطبيق مبدأ المساواة في قانون المسطرة الجنائية.
الفقرة الأولى: حدود مبدأ المساواة في المسطرة الجنائية.
من الضمانات المقررة لحماية حقوق المتهم حقه في أن يعتبر بريئا حتى تثبت إدانته طبقا للقانون، ويعتبر هذا المبدأ من المبادئ التي تعترف بها جميع النظم القانونية الديمقراطية، فإذا كان للمجتمع مصلحة في معاقبة المجرمين، فأنه لا يمكن المساس بحرية الأبرياء ويجب على هذا المجتمع أن يدافع عن هذه الحريات، وأن يكفلها حتى يتوافر الدليل الكامل على ارتكاب الجريمة، وعند إذ يمكن المساس بالحرية بوصفها عقاب يقرره القانون .
حسب التعريف الذي سقناه حول مبدأ المساواة ومحاولة إسقاطه على الجانب الشكلي في المادة الجنائية، يفترض أن يعامل الجميع بنفس المعاملة وبنفس الإجراءات التي تنص عليها المسطرة الجنائية، وهذا ما دفع المشرع إلى التنصيص بصراحة على مبدأ المساواة في المادة الأولى من مشروع القانون بحيث نجد أن المادة الأولى في فقرتها الأولى تنص على أن " كل الأشخاص متساوون أمام القانون ويحاكمون في أجل معقول من طرف محكمة مشكلة طبقا للقانون، وتوفر للأطراف ضمانات المحاكمة العادلة، وتحترم في كافة مراحلها حقوق الدفاع..." ، إذا فهذه دعوة صريحة من المشرع إلى العمل على عدم التمييز بين أطراف الدعوة العمومية، خاصة أن المراكز القانونية تعطي امتيازا للأجهزة المتدخلة في هذه الدعوى مقابل المتهم أو الضحية. كما أنها إشارة صريحة إلى أن القانون الحالي يعرف فراغا على مستوى التنصيص صراحة على مبدأ المساواة.
ولكي نتحدث عن مدى حدود تطبيق هذا المبدأ لابد من الوقوف على قرينة أساسية مفترضة ألا وهي قرينة البراءة والتي تجسد أكبر داعم للمساواة، خاصة في القانون الحالي الذي لم يورد مصطلح المساواة إطلاقا، وبغض النظر عن كون مبدأ قرينة البراءة هل هو قرينة قانونية بسيطة، أو كونه مبدأ جنائي عام، إلا أنها تلزم الشخص وتلازمه إلى أن يثبت العكس بطريقة إجرائية حسب ما ينص عليه القانون.
ونحن نحاول ربط حدود مبدأ المساواة بقرينة البراءة وحدود هذه الأخيرة التي تجعل الجميع يستفيد منها على قدم المساواة، يطرح لدينا إشكالات عديدة سنحاول الاطلاع على بعضها، مثلا بخصوص قرينة البراءة وعلاقته بالمخالفات أو بالضنين الذي يتابع بجنحة، ألا يفترض فيهما البراءة؟
فباطلاعنا على ما جاء في نص المادة الأولى فالأمر يقتصر على المتهم أو المشتبه فيه بارتكاب جريمة، مما يسقط إمكانية استفادة مرتكب المخالفة أو الضنين الذي يتابع بجنحة من قرينة البراءة، إذا نلاحظ محدودية هذا المبدأ. إلا أنه بالمقابل نجد أن أحد الباحثين والممارسين ذهب إلى أنه لا تأثير لخطورة الجريمة وشخصية المجرم على مبدأ قرينة البراءة، بحيث تفترض هذا الأخيرة بالنسبة لجميع الجرائم سواء كانت بسيطة أو تكتسي خطورة أولها مساس بالأمن العام، دون الأخذ بعين الاعتبار شخص مرتكبيها
إن ملاحظة منطوق المادة الأولى من قانون المسطرة الجنائية ومقارنته بما ورد في الدستور في الفصل 23 نجد أن هذا الأخير جاء أكثر وضوحا وضمانا لقرينة البراءة وبالتالي كان على المشرع أن يتماها مع الدستور لتفادي التناقض و من أجل ضمانات أكثر للمتهم كيف ما كانت تهمته وفي أي مرحلة من مراحل الحكم. إذا فهذا التناقض الموجود بين المسطرة الجنائية والدستور كفيل بأن يوضح بأن صياغة المادة يجب أن يعاد فيها النظرة بجعلها توافق الدستور وأن الأصل في قرينة البراءة هي استفادة الأشخاص الذين يتواجدون أمام القضاء وأمام أجهزة المسطرة الجنائية على قدم المساواة منذ العلم بحدوث الفعل المجرم الذي كانت هناك احتمالية وجود علاقة لهم به.
ثم يمكن أن نضيف ما يزكي هذه اللامساواة فيما يخص الاختلاف بين الجنايات والجنح سواء الضبطية أو التلبسية هو ما ورد في مسودة قانون المسطرة الجنائية المادة 67_1 التي تتعلق بإحداث مسطرة التسجيل السمعي البصري وقد انتقد بعض الباحثين هذا التعديل بحيث أوردت جميلة بوستاوق بأن " وما يعاب على هذا المقتضى حصر مقتضياته على الجنايات والجنح التي تتجاوز عقوبتها سنتين، أي الجنح الضبطية دون التأديبية خاصة إذا علمنا أن الأخيرة هي الأكثر شيوعا وتستوجب مراقبة دقيقة" ، مما يفيد أن المشرع تغاضى ولازال يتغاضى عن الجرائم البسيطة والتي تعتبر الأكثر انتشارا والتي يجب أن تشملها قرينة البراءة، ونحن لا ندعو هنا إلى التساهل مع مرتكبي هذه المخالفات أو الجرائم ولكن دعوتنا إلى ضمان أكثر للحقوق والحريات، لأن محرري المخالفات هم بشر واحتمالية ارتكابهم لأخطاء واردة بقوة، فلا يعقل أن نفرض على المتهم بارتكاب مخالفة واقعا معينا أو دفعه إلى القبول بغرامات تصالحية فقط لكي لا يتم استنزاف وقته و ماله أمام المحاكم.
ودائما في إطار الحديث عن مبدأ المساواة وعلاقته بقرينة البراءة وحماية لحرية الأشخاص يصادفنا أمر غاية في الغرابة وهو يتعلق بموضوع الخيانة الزوجية، فبمجرد تقديم تنازل من المشتكي تتوقف متابعة الشخص الذي ضبط متلبسا بهذه الجريمة في حين أن المساهم والذي يكون في مرتبة أقل من الفاعل الأصلي يبقى متابعا مع العلم أنه من الممكن أن لا يكون على علم بالوضعية الاجتماعية للشخص المتواجد معه، وهذا أمر في غاية الخطورة إذ يفضي إلى نقض مبدأ المساواة من الاستفادة من التنازل المقدم، وقد ذهب بعض الباحثين إلى أنه يجب على المشرع أن يمنح للمساهم في جريمة الخيانة الزوجية إمكانية الاستفادة من التنازل الذي يقدمه المتضرر من الخيانة الزوجية تماشيا مع مبدأ قرينة البراءة وحماية الحريات مع عدم تشويه موقعه الاجتماعي بوسم المجرم وحرمانه من وصف البريء إذا ارتأى المدعي التنازل عن حقه وبالتالي استفادة المتهمين من العفو والتنازل على قدم المساواة بين الفاعل الأصلي والمساهم.
الفقرة الثانية حدود مبدأ المساواة في القانون الجنائي.
لقد كرس المشرع المغربي في القانون الجنائي إعمال مبدأ المساواة في التجريم والإباحة إعمالا لمبدأ عدم التمييز ومعاملة الجميع على قدم المساواة. ويمتد هذا المبدأ ليشمل العقوبة فهي مقررة للجميع فالناس يتساوون أمام القضاء في تحمل العقوبات كيف ما كان مركزهم في المجتمع، فلا دخل ولا اعتبار للمكانة الاجتماعية للأشخاص بل يجب معاملتهم حسب ما تقتضيه نصوص القانون الجنائي. ولمحاولة تسليط الضوء على هذا الجانب من القانون الجنائي وعلاقته بحدود مبدأ المساواة سنتعرض لنقطتين نناقش من خلالها مدى تفعيل هذا المبدأ، وذلك من خلال (أولا) المساواة بين الجنسين، على أن نترك (ثانيا) لنقطة غاية في الأهمية والتي تجسد كيفية تعامل المشرع مع هذا المبدأ بعدم تطبيقه.
أولا المساواة بين الجنسين في القانون الجنائي
بملاحظتنا لجانب التجريم والعقاب سيتبين لنا مبدئيا أنه لا وجود لأي تمييز بين الجنسين، فالأفعال التي يعتبرها القانون الجنائي جرائم لا تميز فيها بين الرجال والنساء، إلا أن الإشكال يظهر لنا عند محاولة المشرع وضع صور بعض الجرائم وكذا مسألة إثباتها فسيكون الأمر غاية في الصعوبة، فلو نظرنا إلى ما ينص عليه الفصل 493 من القانون الجنائي فإن الشكوى التي تقدمها المرأة بشأن الاستغلال الجنسي سواء ترتب عنه حمل أو لا فسيبقى هذا اعترافا من المعنية بالأمر وفي حالة لم تتمكن من إثبات العلاقة مع أي شخص فستتحمل وحدها تبعات هذا الاعتراف، وفي حالة كانت متزوج فستكون تحت طائلة العقوبات التي تسن بخصوص الخيانة الزوجية، في حين أن هذه الأخيرة لن تتابع إذا لم يكن هناك حمل، وهذا التناقض تجسده المادة 156 من مدونة الأسرة التي تاهت بين مصطلح الخطوبة ووجود ظرف طارئ منع توثيق الزواج، فما مصير المرأة في هذه الحالة إذا استعصى عليها إثبات وتوثيق عقد الزواج وتراجع الخطيب عن وعده بالنفي؟ فتدخل القانون الجنائي هنا سيحملها المسؤولية لوحدها دون الطرف الأخر تطبيقا لما جاء في المادة 493 من القانون الجنائي السابق ذكرها.
من جانب آخر فيما يتعلق بتطبيق بعض العقوبات، يلاحظ أن المادة 488 من القانون الجنائي تتضمن تمييزا يتمثل في ربط تشديد العقوبة بظروف الضحية، مما يُخالف مبدأ المساواة أمام القانون الذي يفترض فيه تطبيق العقوبات بموضوعية وعدالة دون النظر إلى الجنس أو الحالة الجسدية أو العقلية للضحية. ويظهر التناقض بوضوح عند مقارنتها بالفصل 152 من نفس القانون، الذي يعتمد معايير موضوعية ومتوازنة لتحديد ظروف التشديد. ورغم محاولة المشرع مراعاة ظروف الضحايا، إلا أنه وقع في إشكالية التمييز الذي كان يسعى إلى تفاديه.
لذلك، نقترح ضرورة إعادة صياغة النصوص القانونية المتعلقة بالعقوبات لضمان التشديد بناء على طبيعة الجريمة وخطورتها، مع توفير حماية متساوية لجميع الضحايا بغض النظر عن حالتهم. كما ندعو إلى القضاء على أي تمييز قد تكرسه النصوص القانونية بين الجنسين أو بين أفراد الجنس الواحد، مع التأكيد على أن حماية كرامة الأفراد وشرفهم يجب أن تكون في صدارة أولويات التشريع. إن هذا التوجه من شأنه تعزيز الثقة في العدالة الجنائية وضمان مواءمة النصوص القانونية مع المبادئ الدستورية والقواعد الدولية لحقوق الإنسان.
ثانيا: عدم تطبيق مبدأ المساواة مراعاة للعدل
إن البحث عن المساواة أمر ضروري وذلك لكون الأنظمة والدول تعتبره أساس الديمقراطية وروح المحاكمة العادلة، وهو ما جعل المشرع المغربي يحاول تطبيقه على أرض الواقع، إلا أنه في بعض الأحيان تعترضنا بعض الحالات تجعل الباحثين والمختصين في حيرة، وتدفعهم إلى التساؤل ماذا أراد المشرع من سنه لبعض النصوص؟
سنحاول من خلال هذه النقطة قلب وجهة النظر والتعامل مع هذا السؤال الفرعي لنفهم ماذا أراد المشرع؟
باستقرائنا لبعض نصوص مجموع القانون الجنائي نجد أنه يعاقب المشارك في البند الرابع من الفصل129 ، فإذا ثبت في حق أي شخص أنه قدم مسكنا أو مأوى أو مكان اجتماع فسيعاقبه القانون، إلا أننا نجد نفس المشرع قد أسقط هذه التهمة في ما يتعلق ببعض الأمور المتعلقة بجرائم الإرهاب، فبقراءة مجموعة من الفصول التي وردت في قانون 03.03 المتعلق بمكافحة الإرهاب ، فقد أعطى سلطة تقديرية واسعة لهيأة الحكم تتعلق من جهة، بحرية المتهم كالفصل 218/6 الذي جاء فيه " غير أنه يمكن للمحكمة أن تعفي أقارب وأصهار من ارتكب جريمة إرهابية أو ساهم أو شارك فيها، إلى غاية الدرجة الرابعة، إذ قدموا له مسكن أو وسائل تعيش شخصية فقط". وأيضا الفصل 218/8 الذي يتحدث عن عدم التبليغ حيث ورد فيه " غير أنه يجوز للمحكمة في الحالة المنصوص عليها في الفقرة الأولى من هذه المادة أن تعفي من العقوبة أقارب وأصهار من ارتكب جريمة إرهابية أو ساهم أو شارك فيها إلى غاية الدرجة الرابعة"
إذا يتضح من هذين الفصلين أعلاه بأن قانون مكافحة الإرهاب قد خرق مبدأ المساواة أمام القانون وغايته من ذلك هو الحفاظ على الروابط الأسرية واحترام خصوصيتها، ضمانا لتماسكها واستقرارها. مما جعله يتعرض للكثير من الانتقادات من الجهات الحقوقية التي تعني بمجال حقوق الإنسان وضمانات المحاكمة العادلة .
كما أننا نلاحظ أن نفس القانون قد نص في الفصل 397 " من قتل عمدا طفلا وليدا يعاقب بالعقوبات المقررة في الفصلين 392 و393، على حسب الأحوال المفصلة فيهما.
إلا أن الأم، سواء كانت فاعلة أصلية أو مشاركة في قتل وليدها، تعاقب بالسجن من خمس سنوات إلى عشر. ولا يطبق هذا النص على مشاركيها ولا على المساهمين" إذا فهذا استثناء صريح للأم من قبل المشرع وخروج عن مبدأ المساواة بتخفيض عقوبتها، لقد كان للمشرع المغربي تبرير لهذا الفعل كون المرأة التي تقدم على قتل وليدها ليس بالأمر العادي وتحت نية التستر على الفضيحة، وتحت تأثير عوامل نفسية وفيزيولوجية تدفعها إلى الإقدام على هذا الأمر الجلل متجاهلة عواطفها، وبناءا على ذلك تتمتع الأم بالعذر المخفف حتى في حالة كون الوليد شرعي، وإن كان هذا مستبعد الحدوث إلا في حالات ناذرة كولادة طفل بتشوهات خلقية، أو رغبة الأم بقطع علاقتها بوالد طفلها .
إلا أن هذه التبريرات تدفعنا إلى التساؤل حول موقع العديد من الأشخاص الذين ارتكبوا جرائم تحت تأثير عوامل خارجية أو داخلية كالضغوطات المتراكمة نتيجة العمل أو الأعباء الأسرية والتي يستحيل إثباتها، أو نتيجة أسباب تكون صعبة الإثبات، فأعتقد بأنه على المشرع المغربي أن يحدد ظروف الاستفادة من التخفيف أو للتشديد بشكل واضح ليستطيع القضاء التعامل مع الجرائم ومع المتهمين بنوع من عدم التمييز، وإن كان ولابد من وجود تمييز إيجابي فيجب أن يكون لصالح الأشخاص الذين يستطيعون إثبات تعرضهم لضغوطات مختلفة، وليس لحالة أو حالتين تحت ذريعة الحفاظ على تماسك الأسرة، والتي قد يستعملها المجرم للتغطية على جريمته.
خاتمة:
ختاما، يعد مبدأ المساواة في المادة الجنائية من الركائز الأساسية لتحقيق العدالة، وهو مبدأ كرسه الدستور المغربي والقوانين الوطنية، خاصة من خلال المادة 6 من الدستور التي تنص على مساواة الجميع أمام القانون، إضافة إلى مقتضيات القانون الجنائي وقانون المسطرة الجنائية التي تسعى إلى ضمان محاكمة عادلة خالية من أي تمييز. ومع ذلك، فإن التطبيق العملي لهذا المبدأ يواجه بعض التحديات، مثل الفوارق في تنفيذ القوانين وتأثير بعض العوامل الاجتماعية أو الاقتصادية على الوصول إلى العدالة، وهو ما يدفعنا إلى تقديم بعض المقترحات التي نعتقد بصحتها، وهي كالتالي:
1. تعزيز ضمانات المحاكمة العادلة من خلال مراجعة التشريعات الجنائية لضمان التطبيق الصارم لمبدأ المساواة أمام القضاء.
2. تطوير التكوين والتدريب للقضاة وأجهزة إنفاذ القانون لضمان فهمهم العميق لمقتضيات المساواة وعدم التمييز في تطبيق الأحكام.
3. توفير المساعدة القانونية المجانية للفئات الهشة لضمان عدم تأثر حقهم في الدفاع بسبب وضعهم الاقتصادي.
4. الاستمرار في إصلاح السياسة الجنائية عبر مراجعة العقوبات التي قد تؤثر بشكل غير متكافئ على بعض الفئات، وضمان تناسبها مع الفعل الجرمي.
5. تعزيز الشفافية والمساءلة في المؤسسات القضائية لضمان عدم وجود أي انحراف أو تمييز في تطبيق القوانين.
بهذه الخطوات، يمكن تعزيز مبدأ المساواة في التشريع الجنائي المغربي، وضمان تحقيق عدالة أكثر إنصافا وفعالية.
من أجل تحميل هذا المقال كاملا - إضغط هنا أو أسفله