علاقة وسائل الإثبات الرقمية بأداء الأجر - ياسر غالم




علاقة وسائل الإثبات الرقمية بأداء الأجر

ياسر غالم

باحث بسلك الدكتوراه، تخصص العلوم القانونية، جامعة سيدي محمد بن عبد الله

 

Relationship of digital proof to pay performance

Yasser GHALEM

 

الملخص: يعد الأجر أحد عناصر عقد الشغل الأساسية، ويحظى في نظر الأجير بأهمية بالغة لما له من دور معيشي واقتصادي لا تستقيم حياة الأجير بدونه، لذا كان من اللازم إقرار حماية قانونية صارمة تستجيب لحاجة هذا الأخير الملحة للحصول على أجر قار يكفل له ولأسرته العيش الكريم، وفي إطار أداء الأجر قد حدد المشرع المغربي بعض الوسائل التي من خلالها يعتبر الأجير قد توصل بأجره وهي ورقة الأداء، ودفتر الأداء، وفي ظل التطور التكنلوجي أصبح الأجر يعرف متغيرات على مستوى أدائه باعتماد وسائل حديثة رقمية تساهم في اختصار عنصر الزمان والمكان، لكن يبقى الإشكال المطروح على مستوى الإثبات بهذه الوسائل في ظل التحول الرقمي الذي أصبحت تشهده كل نواحي الحياة البشرية، هو كيف حاول القضاء التعامل مع النزاعات المطروحة في إطار الإثبات الرقمي للوفاء بالأجر، خاصة وأن هناك فئة عريضة من الطبقة العاملة وحتى بعض المشغلين لم يسايروا إلى حد الآن عصر التعامل الرقمي، ولذلك اخترت هذا الموضوع ليكون محل دراسة لهذه الإشكالية.

 

Summary: Remuneration is one of the elements of the basic contract of employment and, in the wage's view, is of the utmost importance as it has a living and economic role without which the wage will not reside. It was therefore necessary to establish strict legal protection that would respond to the latter's urgent need for a decent wage that would guarantee him and his family a decent living. In the context of remuneration, the Moroccan legislator has identified certain means by which the wage is deemed to have been obtained, namely the performance paper, And the performance book, and in the light of technological evolution, pay is known as variables in its performance level by adopting modern digital means that contribute to shortening the element of time and space, But the problem remains at the level of proof by these means in the light of the digital transformation that is taking place in all aspects of human life. ", was how the judiciary tried to deal with disputes in digital proof of pay fulfilment, Especially because there is a broad category of working class and even some operators have not yet kept up with the age of digital interaction, so I chose this topic to be examined for this problem.

 

مقدمــــــة

أصبحت الوسائل الإلكترونية أحد العناصر الأساسية والمهمة في إطار علاقة الشغل، بما فيها الأداء الإلكتروني والتوقيع الرقمي، وهي من المستجدات التي أصبح يعرفها العالم الحالي في إطار كل ما هو اقتصادي واجتماعي وقانوني وبوجه الخصوص في مجال علاقات الشغل، وبذلك كان من اللازم على الأطراف في إطار علاقات الشغل مسايرة هذه التطورات التكنلوجية والمعلوماتية وحتى القانونية. وقد همت هذه الوسائل الرقمية جل مراحل علاقات الشغل بدءا من مرحلة إبرام العقد الذي أصبح يبرم عن بعد، مرورا بتنفيذه إن على مستوى أداء العمل أو حتى في إطار التواجد داخل مقر العمل حيث أضحت هذه الوسائل تشكل جزءا كبيرا داخل المقاولة كالبوابة الإلكترونية للمقاولة أثناء الدخول والخروج (البصمة الالكترونية، البطاقة الرقمية ...).

ومن أهم المحاور التي عرفت كذلك تحولا رقميا في العلاقة الشغلية تلك المتعلقة بالأجر هذا الأخير الذي يعتبر عنصرا أساسيا في عقد الشغل، وهو ذلك المقابل الذي يتلقاه الأجير كمقابل ومعاوضة عن العمل الذي أداه إلى الطرف الآخر وهو المشغل بغض النظر عن طريقة الأداء،[1] وقد عرفته اتفاقية الشغل العربية في المادة الأولى على أنه " كل ما يتقاضاه العامل مقابل عمله بما فيها العلاوة والمكافئات والمنح والمزايا وغير ذلك من عمليات الأجر". وقد عرف هذا المكون تحولات تكنولوجيا ومعلوماتية على مستوى أدائه باعتماد آليات رقمية مرنة غايتها اختصار الزمان والمكان للأطراف التعاقدية خصوصا بالنسبة للأجير.

أهمية الموضوع:

تتجلى أهمية الموضوع من خلال مجموعة من العناصر لعل أبرزها أداء الأجر بالطرق الرقمية وهذه الأهمية تتجلى بالخصوص في مسايرة الثورة الصناعية التي أصبح يشهدها العالم بأسره لما لها من سرعة في اختصار الوقت ورفع المشقة على الأجير، ومن أهمية الموضوع كذلك تلك المتعلقة بحجية هذه الوسائل الرقمية في إثبات الحقوق ومكانة القضاء للبت في هذه النزاعات.

أهداف البحث:

انطلاقا من الأهمية التي يتميز بها موضوع البحث فإننا نهدف من خلال هذه الدراسة إلى تحديد مكانة هذه الوسائل الرقمية في إطار المنازعات الناتجة عن عقود الشغل خاصة فيما يتعلق بأداء الأجور، كما نهدف كذلك إلى إبراز الحماية القانونية للأطراف في ظل التعامل بهذه الوسائل سواء بالنسبة للأجير أو حتى بالنسبة للمشغل.

إشكالية البحث:

رغم أهمية هذه الوسائل الرقمية في أداء الأجر خصوصا على مستوى السرعة وربح الوقت، يبقى الإشكال المطروح على مستوى الإثبات ومدى حجيتها القانونية، خاصة وأن هناك فئة عريضة من الطبقة العاملة وحتى بعض المشغلين لم يسايروا إلى يومنا هذا عصر التعامل الرقمي وبذلك طرحنا السؤال المحوري التالي:

إلى أي حد كان القضاء المغربي موفقا في اعتبار الوسائل الحديثة للوفاء بالأجر في إطار قانون الشغل حجة إثبات لحل النزاعات الشغلية؟

تتفرع عن هذا السؤال المحوري الأسئلة التالية:

§         ما هي طبيعة الأجر وشروط أداءه؟

§         أين تتجلى الوسائل الرقمية في أداء الأجر؟

§         هل تتمتع الوسائل الرقمية بقوة الإثبات للوفاء بالأجر؟

فمن خلال الإشكالية المركزية والأسئلة المتفرعة عنها قمنا بدراسة الموضوع بالاعتماد على المنهج التحليلي والمقارن وفق التصميم التالي:

المطلب الأول: طبيعة الأجر في قانون الشغل وشروط أدائه

المطلب الثاني: وسائل الإثبات الحديثة للوفاء بالأجر في مدونة الشغل وحجيتها

المطلب الأول: طبيعة الأجر في قانون الشغل وشروط أدائه

لقد انعكس التطور التاريخي الذي عرفته علاقات الشغل على الطبيعة القانونية للأجر، كموضوع أساسي من مواضيعها، وعلى النظرة التي كان المحللون القانونيون والاقتصاديون ينظرون إليه منها. في إطار هذا المطلب سنتطرق إلى كبيعة الأجر في قانون الشغل (الفقرة الأولى)، وبعد ذلك سننتقل إلى بيان شروط أداء الأجر (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى: طبيعة الأجر في قانون الشغل

لقد أدى تطور علاقات الشغل، وتطور مفهوم الأجر ذاته، وما صار يقوم به من دور حيوي في حياة الأجير وحياة أسرته أعطاه طبيعة اجتماعية، إلى جانب طبيعة قانونية واقتصادية.

1_ الطبيعة الاجتماعية للأجر

للأجر أهمية بالغة بالنسبة للأجير، فإذا كان ذلك الأجر يعتبر من العناصر الأساسية في عقد الشغل ومن الالتزامات التي تقع على عاتق المشغل من حيث أدائه فهو بالمقابل يشكل أهمية للأجير كما قلنا من حيث إشباع حاجاته وحاجات أسرته، من أجل ذلك لم يعد من الممكن الوقوف عند مجرد النظرة إلى هذا الأجر كمقابل للعمل كقاعدة عامة، ولكن أبعد من ذلك فقد صارت التشريعات المقارنة تحرص أن يضطلع بوظيفته الاجتماعية باعتباره مورد أساسي إن لم يكن الوحيد لضمان حد أدنى من الحياة الكريمة لذلك أصبح اليوم يقال إن للأجر وظيفة اجتماعية معيشية[2].

2_ الطبيعة الاقتصادية

لقد ظل الفكر الاقتصادي منذ مدة ينظر إلى الأجر باعتباره الثمن الذي يتحدد على ضوء العرض والطلب للعمل الذي يعرض في سوق الشغل، وقد ترتب عن هذه النظرية مساوئ كبيرة للطبقة العاملة نظرا لاختلال موازن القوة بين عنصري الإنتاج (العمل ورأس المال)، حيث انخفضت الأجور بشكل كبير مع ما صاحب ذلك من أوضاع اقتصادية واجتماعية مزرية للطبقة لعاملة، مما دفع بالتشريعات المقارنة إلى التدخل حماية للدور المعيشي للأجر، مما تغيرت معه تلك النظرة إلى الأجر الذي أصبح ينظر إليه انطلاقا من غايته المتمثلة في تأمين وسائل العيش للأجير ولأسرته، مما كرس وظيفته المعيشية[3].

3_ الطبيعة القانونية للأجر

يعتبر الأجر من الناحية القانونية عنصرا لا يتجزأ عن العناصر المكونة لعقد الشغل، حيث بدونه لا نكون إزاء عقد شغل، وهو ما تضمنه الفصل [4]723 من قانون الالتزامات والعقود، وبالتالي فلا يتصور من الناحية القانونية وجود عقد شغل إلا إذا كان هناك أجر مؤدى للأجير الذي التزم بأداء عمله، والنص كان صريح سواء في ق.ل.ع أو حتى في إطار مدونة الشغل من خلال المادة 6 التي نصت على ضرورة حصول الأجير على أجر نظير عمله، لذلك فتخلف عنصر الأجر يستفاد منه بصفة تلقائية أن العقد المبرم بين الطرفين لا يكون عقد شغل وإنما قد يكون عقد تبرع أو في إطار تقديم الخدمات المجانية.

بقيت الإشارة إلى أنه إذا لم يتم تحديد أجر الخدمة أو العمل، فإن المحكمة هي التي تتولى تحديد قيمته وفق العرف، فإذا وجدت تعريفته أو أسعارا محددة افترض في المتعاقدين أنهما ارتضياها[5].

هذا فيما يتعلق بالطبيعة الاجتماعية والاقتصادية والقانونية التي يتميز بها مفهوم الأجر في قانون الشغل، فماذا عن شروط استحقاقه؟

الفقرة الثانية: شروط أداء الأجر

فإذا كان الأجر هو ذلك المقابل الذي يأخذه الأجير بسبب أدائه لعمل معين متفق عليه مسبقا، فإنه لا يستحق أي أجر إلا بتواجد شرطين أساسيين وهما كالآتي:

1_ وجود عقد شغل صحيح

فالشرط الأول يتجلى في قيام عقد شغل صحيح بين الأجير ومشغله، لأن الأجر التزام من الالتزامات المترتبة عليه، فإذا لم يكن هناك عقد صحيح بين الطرفين، أو كان هناك ولكنه باطل أو قابل للإبطال وحكم بإبطاله، فإن الأجير لا يستحق الأجر المتفق عليه، ولو كان قد قدم عمل لحساب المشغل، فكل ما له في هذه الحالة هو تعويض يعادل ما أداه من عمل، ما لم يكن هذا العمل مخالفا للنظام العام والأخلاق العامة، وهو تعويض موكول للسلطة التقديرية للقاضي، ومن ثم فهذا التعويض لا يدخل في إطار الأجر المنصوص عليه بمقتضى القانون.

2_ أداء العمل

فالأجر كما هو معلوم من عناصر عقد الشغل، وهو لا يؤدى إلا بأداء العمل من طرف الأجير[6]، اللهم إلا إذا كان عدم أداء الأجير لعمله على الوجه  المتفق عليه في العقد لا يعود إليه، وإنما إلى الطرف الآخر في التعاقد[7]، أو إلى ظروف خارجة عن إرادة الطرفين، كما هو الأمر في الأحوال الجوية غير المألوفة، بالنسبة للقطاع الفلاحي، ففي هذه الحالة يستحق الأجير أجره أو نصفه، حسب الحالات طالما أن عدم أداء الشغل كان لسبب خارج عن إرادته، وذلك حسب مقتضيات المادة 347 من مدونة الشغل المغربية جاء فيها " إذا تعذر على المشغل في النشاطات الفلاحية، توفير الشغل، بسبب حالات جوية غير مألوفة فإن الأجير الذي يكون رهن إشارة المشغل طيلة الصباح وما بعد الزوال يستفيد من أجره نصف يوم إذا ظل عاطلا اليوم بكامله ".

هذا فيما يتعلق بالطبيعة التي يتميز بها الأجر في إطار قانون الشغل المغربي وشروط استحقاقه، فماذا عن وسائل أدائه خاصة تلك الوسائل الرقمية ومدى حجيتها في الإثبات؟

المطلب الثاني: وسائل الإثبات الحديثة للوفاء بالأجر في مدونة الشغل وحجيتها

على اعتبار أن عقد الشغل هو عقد مدني في أساسه، فإنه يخضع لقواعد خاصة ينفرد بها، وينطبق عليه القانون الاجتماعي، فإلى جانب وسائل الإثبات التقليدية فمجال العلاقات الاجتماعية يزخر بمجموعة من الوثائق التي ألزم المشرع المؤاجر بمسكها أو منحها للأجير[8].

ووسائل الإثبات في المادة الاجتماعية هي عديدة ولا تقع على سبيل الحصر، لكننا سنكتفي بالإشارة إلى تلك الوسائل الحديثة التي أصبح التعامل بها واسعا في مجال الرقمنة، ولسوف نتطرق إلى نقطة مهمة حول حجية هذه الوسائل أمام القضاء لحل النزاعات الناتجة عن أداء الأجر.

الفقرة الأولى: الوسائل الحديثة للوفاء بالأجور

لضمان أداء الأجر قررت مدونة الشغل قواعد خاصة مخالفة أحيانا للقواعد العامة خاصة على مستوى الإثبات ووسائله، فإذا كان المشغل كمدين بالأجر يلتزم بإثبات حصول أدائه، فإن هناك وسائل خاصة بمجال علاقات الشغل تسهل عملية الإثبات على الطرفين معا ويندرج بعضها في إطار الالتزامات القانونية التي تقع على عاتق المشغل كبطاقة الأداء ودفتر الأداء كوسيلتين لإثبات الأداء حسب مقتضيات المادة 370 من مدونة الشغل المغربية التي تنص على أنه

 " يجب على كل مشغل، أن يسلم أجراءه عند أداء أجورهم، وثيقة إثبات تسمى ورقة الأداء، وأن يضمنها وجوبا البيانات التي تحددها السلطة الحكومية المكلفة بالشغل "،

كما نص المشرع في إطار مقتضيات المادة 371 من نفس القانون على أنه " يجب على كل مشغل، أو من ينوب عنه أن يمسك في كل مؤسسة أو جزء منها، أو في كل ورشة، دفترا يسمى دفتر الأداء تحدد نموذجه السلطة الحكومية المكلفة بالشغل ".

غير أن المشرع المغربي لم يمنع من وسائل أخرى حديثة لأداء الأجور كما نص على ذلك في إطار مقتضيات المادة 372 من نفس القانون حيث جاء فيها على أنه " يمكن بطلب من المشغل الاستعاضة عن دفتر الأداء، باعتماد أساليب المحاسبة الميكانوغرافية أو المعلوماتية، أو أية وسيلة أخرى من وسائل المراقبة ... "،

ومن هذه الوسائل التي يمكن الاعتماد عليها في أداء الأجور هي أولا العقد الإلكتروني كوسيلة لإبرام عقد الشغل، ثم التحويل البنكي الإلكتروني كوسيلة في أداء أجور العمال.

أولا: العقد الإلكتروني

يعتبر العقد الإلكتروني بمثابة اتفاق بين المشغل والأجير يتلاقى فيه الإيجاب والقبول عبر تقنيات الاتصال عن بعد بهدف إنشاء رابطة قانونية أساسها أداء العمل في مقابل أداء مقابل العمل لمدة محددة أو غير محددة دون الحاجة إلى التقاء أطراف العقد في مكان معين، أي انتفاء مجلس العقد الحقيقي.

وقد عرف المشرع المغربي العقد المبرم بشكل إلكتروني بطريق غير مباشر في المادة الأولى من القانون رقم 05.53 التي جاء فيها " يحدد هذا القانون النظام المطبق على المعطيات القانونية التي يتم تبادلها بطريقة إلكترونية وعلى المعادلة بين الوثائق المحررة على الورق، وتلك المعدة على دعامة إلكترونية، وعلى التوقيع الإلكتروني"[9].

أما بالنسبة للتشريعات المقارنة فقد عرفه القانون التونسي بأن المبادلات الإلكترونية " هي تلك المبادلات التي تتم باستعمال الوثائق الإلكترونية "[10]، وفي القانون المدني الأردني عرفه المشرع هو " ذاك الاتفاق الذي يتم انعقاده بوسائل إلكترونية كليا أو جزئيا ".

 فيما عرفته لجنة الأمم المتحدة للقانون التجاري الدولي _أنسترال_ في 16 ديسمبر 1996 وكذلك البرلمان والمجلس الأوربي، في الاتحاد الأوربي، رقم 9727 والصادر في 20 مايو 1997 باسم التعاقد عن بعد، وجاء في المادة الثانية من هذا التوجيه بأن العقد عن بعد هو " كل عقد يتعلق بالبضائع أو الخدمات، أبرم بين مورد ومستهلك في نطاق نظام لبيع أو تقديم خدمات عن بعد ....".

ثانيا: التحويل البنكي الإلكتروني

إن التحويل البنكي الإلكتروني يعد من أحدث الوسائل لأداء الأجر في إطار مدونة الشغل المغربيةّ، حيث يمكن بمقتضاه نقل مبلغ نقدي من المشغل إلى الأجير لكل منهما حساب لدى المؤسسة البنكية ذاتها أو مؤسسات بنكية مختلفة، والمشرع المغربي لم يقم بتنظيم عمليات التحويل البنكي الإلكتروني بشكل مستقل عن العمليات البنكية المختلفة على خلاف ما هو عليه الأمر بالنسبة للتشريعات المقارنة التي عرفت التحويل البنكي الإلكتروني بشكل مستقل، حيث نصت المادة 25 من قانون المعاملات الإلكترونية الأردني رقم 85 لسنة 2001، على أن التحويل الإلكتروني للأموال " يعتبر تحويل الأموال بوسائل إلكترونية وسيلة مقبولة لإجراء الدفع، ولا يؤثر هذا القانون بأية صورة كانت على حقوق الأشخاص المقررة بمقتضى التشريعات ذات العلاقة النافذة المفعول "[11].

وفي قانون التجارة المصري رقم 17 لسنة 1999 تنص المادة (399/1) منه " النقل المصرفي عملية يقيد البنك بمقتضاها مبلغا معينا في الجانب المدين من حساب الآمر بالنقل بناء على أمر كتابي منه وفي الجانب الدائن من حساب آخر، ويجوز بهذه العملية إنجاز ما يأتي:

أ_ نقل مبلغ معين من شخص إلى آخر لكل منهما حساب لدى البنك ذاتها ولدى بنكين مختلفين.

ب_ نقل مبلغ معين من حساب إلى آخر كلاهما مفتوح باسم الآمر بالنقل لدى البنك ذاته أو لدى بنكين مختلفين "[12]

وفي التقنين التجاري الموحد الأمريكي بشأن تحويل الأموال لسنة 1989، عرف التحويل البنكي بأنه سلسلة من الإجراءات تبدأ بأمر الدفع أو التحويل للمستفيد، يشمل هذا أمر صادر عن بنك الآمر أو البنك الوسيط الآمر بالتحويل البنكي ليتم نقل الأموال بقبول البنك المستفيد لدفع قيمة الحوالة لمصلحة العميل المبين في أمر التحويل[13].

فانطلاقا من هذه التعاريف للتحويل البنكي الإلكتروني يمكن للمشغل في إطار العلاقة التعاقدية بينه وبين الأجير أن يتم أداء مقابل العمل وفق هذه الوسيلة الرقمية حيث إن مقتضيات المادة 372 من مدونة الشغل المغربية، قد أحالت على مثل هذه الوسائل الإلكترونية في الأداء بالإضافة إلى تلك الوسائل التقليدية المعمول بها في مدونة الشغل، وهو نفس المقتضى أقرته الاتفاقية الجماعية لضيعة شركة " أفرور"[14] في إطار مقتضيات المادة 21 من هذه الاتفاقية حيث جاء فيها " يمكن باتفاق بين الطرفين تحويل أجر الأجير مباشرة إلى حسابه البنكي ".

ومن صور التحويل البنكي الإلكتروني ما يلي:

_ التحويل البنكي بحسب البنك، وتتضمن هذه الحالة صورتان، الأولى تتمثل في التحويل البنكي بين حسابين في البنك الواحد والثانية في التحويل بين حسابين في بنكين مختلفين، ففي الصورة الأولى يقوم البنك بخصم مبلغ الحوالة من حساب الآمر (المشغل) وإضافته إلى حساب المستفيد (الأجير)، وتعد هذه الصورة من أبسط صور تحويل الحوالات والأسرع والأكثر استخداما، حيث تتم هذه العملية في لحظة واحدة، إذ يبدوا انعدام الفارق الزمني واضحا بين عملية الخصم والإضافة عند استعمال القيد في الحاسوب، وأما الصورة الثانية تتمثل بين حسابين مختلفين في بنكين مختلفين[15].

_ سرعة التحويل البنكي الإلكتروني، وهي الميزة الأهم في التعاملات البنكية الإلكترونية التي تتميز بالمرونة والسرعة في الإنجاز واختصار الوقت، وقد شهد التحويل الإلكتروني للأموال في الآونة الأخيرة تغيرا ملموسا من جانب السرعة في التحويل، بظهور شركات متخصصة في خدمة الحوالات تمتلك شبكة واسعة من الوكلاء في جميع أنحاء العالم.

وإذا كانت هذه الوسائل الحديثة هي الأكثر تطبيقا في العلاقات التعاقدية خاصة في إطار العلاقة الشغلية بين المشغل وأجراءه، والتي من خلالها يتم الوفاء بالأجور حسب مدونة الشغل المغربية وبعض الاتفاقيات الجماعية التي أشرنا إليها سالفا، يبقى السؤال المطروح ما مدى حجية هذه الوسائل في الإثبات؟

الفقرة الثانية: حجية الوسائل الرقمية للوفاء بالأجر أمام المحكمة

لقد سبق وأشرنا على أن المشرع المغربي قد فتح الباب أمام المشغل باعتماد وسائل حديثة إلكترونية للوفاء بالأجور، بالإضافة إلى تلك الوسائل المعمول بها في إطار مدونة الشغل، وذلك من أجل مواكبة عصر الرقمنة والتكنلوجيا من جهة، ومن ناحية أخرى اختصار عنصر الزمان والمكان سواء بالنسبة للمشغل، أو حتى بالنسبة للأجير ورفع حرج التنقل بالنسبة لهذا الأخير، ورغم كل ما تتميز به هذه الوسائل يبقى السؤال الذي يطرح نفسه ما هي حجية هذه الوسائل الرقمية عند المنازعة في أداء الأجر؟

هذا السؤال يمكن استخلاصه من الواقع العملي والعمل القضائي المغربي، حيث يتبين أن القضاء تطرق لهذا النوع من المنازعات واعتبر في كثير من القرارات والأحكام الصادرة عنه بأن الوسائل الحديثة الإلكترونية تعتبر وسيلة إثبات وحجية على من يدعي العكس، فقد جاء في قرار صادر عن محكمة النقض على أن " التعبير عن الإيجاب من خلال شبكة عالمية للاتصالات عن عد وقبول التعبير عنه بوسيلة إلكترونية له أثر يلزم طرفي العقد، فمطالبة الأجير بالعمولة المحددة بالعقد الإلكتروني دليل على قبوله ما دام العقد الإلكتروني لا يعدو أن يكون عقدا عاديا لا يختلف عنه إلا في الطريقة التي انعقد بها عبر وسائل الاتصال الحديثة".[16]

وفي قرار آخر جاء فيه أنه " من المقرر أن الوسائل الإلكترونية تعتبر وسيلة إثبات أمام القضاء ما لم يثبت عكسها ... "[17]. وفي قرار آخر حول الرسالة الإلكترونية ومدى حجيتها جاء فيه " إذا كانت الوثيقة المحررة على دعامة إلكترونية، تتمتع بنفس قوة الإثبات التي تتمتع بها الوثيقة المحررة على ورق، فإن ذلك مشروط بأن تكون الوثيقة مذيلة بتوقيع إلكتروني مؤمن ومختومة زمنيا وفق للشروط المنصوص عليها بالفصلين 417_2 و417_3 من قانون الالتزامات والعقود .... ".[18]

فمن خلال هذه القرارات القضائية يتبن أن القضاء المغربي قد تعامل بنوع من الجدية والمبالاة في حل النزاعات الناتجة عن أداء الأجور بالطرق الإلكترونية وبالتالي اعتبرها العمل القضائي وسائل إثبات شأنها في ذلك شأن الوسائل التقليدية المعمول بها في إطار قانون الشغل المغربي شريطة احترام بعض الشكليات كما جاء في القرار الذي يتعلق بالرسالة الإلكترونية الذي تطلب فيه التوقيع الإلكتروني.

وفي إطار هذه الوسائل الحديثة سواء التحويل البنكي الإلكتروني أو العقد الإلكتروني وغيرها من الوسائل يتعين توفير الحماية القانونية للمعطيات الشخصية لأطراف العلاقة الشغلية أثناء التعاقد حماية لخصوصياتهم، وفي هذا الإطار قد صدر القانون رقم 09.08  المتعلق بحماية الأشخاص الذاتيين تجاه معالجة المعطيات ذات الطابع الشخصي[19] حيث نص القانون في إطار المادة 23 منه على أنه " يجب على المسؤول عن المعالجة القيام بالإجراءات التقنية والتنظيمية الملائمة لحماية المعطيات ذات الطابع الشخصي من الإتلاف العرضي أو الغير المشروع أو الضياع العرضي أو التلف أو الإذاعة أو الولوج غير المرخص، خصوصا عندما تستوجب المعالجة إرسال معطيات عبر شبكة معينة، وكذا حمايتها من أي شكل من أشكال المعالجة غير المشروعة، ويجب أن تضمن هذه الإجراءات مستوى ملائما من السلامة بالنظر إلى المخاطر التي تمثلها المعالجة وطبيعة المعطيات الواجب حمايتها وذلك مع الأخذ بعين الاعتبار التقنيات المستعملة في هذا المجال والتكاليف المترتبة عن القيام بها ".



[1]  لم يتعرض المشرع المغربي في نصوص مدونة الشغل إلى تعريف الأجر كما فعلت بعض التشريعات المقارنة، كالتشريع المصري الذي عرف الأجر على أنه " كل ما يتقاضاه العامل، لقاء عمله نقدا مضافا إليه جميع العلاوات أيا كان نوعها".

_ انظر قانون العمل المصري رقم 137 سنة 1981.

[2]  عبد اللطيف خالفي، الوسيط في مدونة الشغل، الجزء الأول، علاقات الشغل الفردية، الطبعة الأولى، 2004، المطبعة والوراقة الوطنية، زنقة أبو عبيدة، الحي المحمدي، مراكش، ص 290.

[3]  دنيا مباركة، القانون الاجتماعي المغربي، دراسة مقارنة في ظل التشريع الحالي ومدونة الشغل المرتقبة، دون ذكر الطبعة، س 2001، ص 59.

[4]  ينص الفصل 723 من ق.ل.ع على أن " الاجارة الخدمة أو العمل عقد يلزم بمقتضاه أحد طرفيه بأن يقدم للآخر خدماته الشخصية لأجل محدد أو من أجل أداء عمل معين نظير أجر يلتزم هذا الأخير بدفعه له".

[5]  تنص المادة 345 من مدونة الشغل على أنه " يحدد الأجر بحرية، باتفاق الطرفين مباشرة، أو بمقتضى اتفاقية شغل جماعية، مع مراعاة الأحكام القانونية المتعلقة بالحد الأدنى القانوني للأجر.

إذا لم يحدد الأجر بين الطرفين وفق المقتضيات الواردة في الفقرة أعلاه، تولت المحكمة تحديده وفق العرف، وإذا كان هناك أجر محدد مسبقا افترض في الطرفين أنهما ارتضياه ".

[6]  دون الإغفال عن الحالات التي يستحق فيها الأجر تعويضا ولو لم يؤدي عمله، كما في حالة العطل المؤدى عنها، حسب مقتضيات الباب الثالث من القسم الثالث من الكتاب الثاني من مدونة الشغل.

[7]  عبد اللطيف خالفي، الوسيط في مدونة الشغل، مرجع سابق، ص 285.

[8]  خليل مرزوق، منازعات القانون الاجتماعي، في ضوء مدونة الشغل والقوانين ذات الصلة، مجلة أطروحة، عدد 3و4، أبريل 2021، ص293.

[9]  المادة 1 من القانون رقم 05,53 المتعلق بالتبادل الالكتروني للمعطيات القانونية الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 129.07.1 بتاريخ 19 ذي القعدة 1428(30 نوفمبر 2007).

[10]  شحاتة غريب، العقد الإلكتروني في التشريعات العربية، دراسة مقارنة، دار الجامعة الجديدة للنشر والتوزيع، سنة 2007، ص35.

[11]  قانون المعاملات الالكترونية الأردني رقم 85 لسنة 2001، منشور في عدد الجريدة الرسمية رقم 4524، بتاريخ 31/12/2001، على الصفحة رقم 6010.

[12]  قانون التجارة المصري رقم 17 سنة 1999، المنشور في الجريدة الرسمية عدد 19 مكرر في 17/05/1999.

[13] Article 4A_ 104 of the UCC ( Uniform Commercial Code), Which P prescribe

“Funds transfer” means the series of transaction, beginning with the originator’s payment order, made for making payment to the beneficiary of the order. The term includes any payment order issued by the originator’s bank or an intermediary bank intended to carry out the originator’s payment order. A funds transfer is complete by acceptance by the beneficiary’s bank of a payment order for the benefit of the beneficiary of the originator’s payment order”.

[14]  الاتفاقية الجماعية لضيعة شركة أرفود، المسجلة بالسجل التجاري تحت عدد 1603 بإنزكان مقرها الاجتماعي الشقة رقم 07، الطابق الثاني، عمارة النجاح حي لشالي، بيوكرى، شتوكا ايت باها.

[15] أحمد محمود المساعدة، التحويل البنكي الإلكتروني، دراسة مقارنة، المجلة الأكاديمية للبحث القانوني، المجلد 11، العدد 01_2015، ص 39.

[16]  قرار عدد 1687، الصادر بتاريخ 26 دجنبر 2013، في الملف الاجتماعي عدد 1628/5/2012.

[17]  القرار عدد 521، الصادر بتاريخ 09 ماي 2017، في الملف الاجتماعي عدد 2390/5/1/2016، مجلة قضاء محكمة النقض، عدد 84.

[18]  القرار عدد 147، الصادر بتاريخ 29 يناير 2019، في الملف الاجتماعي عدد 858/5/1/2018، نشرة قرارات محكمة النقض، الغرفة الاجتماعية، العدد 43.

[19]  القانون رقم 09.08 المتعلق بحماية الأشخاص الذاتيين تجاه معالجة المعطيات ذات الطابع الشخصي، الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 1.09.15 صادر في 22 من صفر الخير 1430 (18 فبراير 2009). الجريدة الرسمية عدد 5711 بتاريخ 27 صفر 1430(23 فبراير 2009).



من أجل تحميل هذا المقال كاملا - إضغط هنا أو أسفله على الصورة

قانونك



من أجل تحميل هذا العدد التاسع عشر - إضغط هنا أو أسفاه على الصورة

مجلة قانونك - العدد الثالث