التنظيم الدستوري للجان تقصي الحقائق البرلمانية بالمغرب: دراسة في النص والممارسة - عثمان الحيمر

 




التنظيم الدستوري للجان تقصي الحقائق البرلمانية بالمغرب: دراسة في النص والممارسة

عثمان الحيمر

دكتور في القانون الدستوري والعلوم السياسية، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية – المحمدية، جامعة الحسن الثاني الدار البيضاء، المغرب

 

Constitutional organization of parliamentary fact-finding committees in Morocco: a study in text and practice

Othman AL-HIMER

 

الملخص: يعتبر التحقيق أو التقصي من أهم الوسائل التي يملكها البرلمان لمباشرة مهامه الرقابية على أعمال الحكومـة وكشف العيوب والاختلالات التي تعتري عملها، وإستظهار ما يهمه من حقائق ذات مصلحة عامة، ولا يعتمد البرلمان بهذا الخصوص على ما تقدمه الحكومة إليه من معلومات أو بيانات ربما تكون مشكوك فيها، بحيث يعمد لإستقاء المعلومات بنفسه بإجراء تحقيق عن طريق لجنة يؤلفها من أعضائه، وتتولى التحقيق بإسمه ولحسابه وتسمى ”لجان التقصي” ، والتي على ضوء ما تنتهي إليه مهامها يحدد البرلمان موقفه حول ما إذا كان هناك ثمة تصرفات مشبوهة للحكومة تستتبع مسؤوليتها السياسية أم العكس.

سعت هذه الدراسة إثبات مدى القوى الكامنة داخل هذه الوسيلة بالنظام الدستوري المغربي وإبراز أهميتها في تتبع النشاط الحكومي، وفق رؤية تحليلية تسلط الضوء على تنظيمها القانوني، ورصد واقعه بحيز التطبيق، وإستخلاص القيود التي تحد من فعالية هذه الآلية الرقابية.

الكلمات المفتاحية: لجان تقصي الحقائق، رقابة برلمانية، إدانة الحكومة، واقع التحقيق البرلماني بالمغرب.

 

Summary: Investigation or investigation is considered one of the most important means that Parliament has to carry out its oversight tasks over the government’s work, uncover the defects and imbalances in its work, and reveal the facts of interest to it that are of public interest. In this regard, Parliament does not rely on the information or data provided to it by the government that may be questionable. So, he intends to obtain information himself by conducting an investigation through a committee he forms from his members, which undertakes the investigation in his name and for his account and is called “Inquiry Committees.” In light of the outcome of their tasks, Parliament determines its position on whether there are suspicious actions of the government that entail its political responsibility.

This study sought to prove the extent of the forces inherent within this means in the Moroccan constitutional system and highlight its importance in tracking government activity, according to an analytical vision that highlights its legal organization, monitors its reality in practice, and extracts the restrictions that limit the effectiveness of this oversight mechanism.

Keywords: Fact-finding commissions, parliamentary oversight, Condemn the government, The reality of parliamentary investigation in Morocco.

 

مقدمة:

تعتبر الرقابة التي يمارسها البرلمان على أعمال الحكومة من أقدم الوظائف التاريخية لهذا الأخير وأشهرها سياسيا، فالبرلمان لا يعد مشرعا فحسب بقدر ما يعد مسؤولا عن مراقبة وتقييم الأداء الحكومي، ومدى إتفاقه والمصلحة العامة للدولة والمجتمع، وحماية مصلحة الشعب ومنع إنحراف الحكومة عن أدوارها الدستورية والحفاظ على الأموال العامة.

إن نقطة البدء في أي إصلاح سياسي في أي دولة تعتمد على تفعيل الدور الرقابي للبرلمان، وبقدر جدية هذا الدور و إحترامه من لدن الحكومة بقدر التطور الديموقراطي الذي تحققه الدولة، حيث لا يتصور وجود نظام ديموقراطي دون رقابة برلمانية واعية ومستنيرة.

بهذا الشأن تولي أغلب الدساتير عناية كبيرة لمسألة ضبط وتنظيم العلاقات القائمة بين هاتين السلطتين؛ حيث تعمل على تحديدها بشكل دقيق تفاديا لأي فراغ أو ثغرات يمكن أن تمثل مصدر أزمات سياسية ودستورية. ولم يخرج المشرع الدستوري المغربي عن هذه القاعدة لا سيما في دستور 2011 بتثبيت علاقة جديدة بين البرلمان والحكومة، بشكل يحفظ التوازن بين هاتين المؤسستين ويقيم إطارا مضبوطا ومعقلنا لعملهما، من مميزاته حكومة تعمل في إطار دستوري يجعلها خاضعة لرقابة برلمانية قوية ومحكمة من خلال مجموعة من الآليات الرقابية، هذه الأخيرة بطبيعتها متعددة ومتدرجة في القوة والأثر، حيث تنقسم إلى آليات ذات أثر ترتب مسؤولية الحكومة، وأخرى عديمة الأثر لا ترتب أية مسؤولية.

ويعتبر التحقيق البرلماني أهم تلك الوسـائل التي يمكن للبرلمان بمقتضاه الوقوف على حقيقة القصور في الأداء الحكومي والتقرير في الطرق والمسالك التي تمكن من الحد منه. والبرلمان هنا يقوم بتشكيل لجان للتحقيق (تقصي الحقائق ) من أجل الحصول على بيانات ومعلومـات غيـر متوفرة لدى أعضاء المجلس، كما قد يلجأ إليها للوقوف على خلل خطير في جهاز من أجهزة الدولة أو ما إلى ذلك، وفي هذه الحالة يحمل اللجوء إلى هذه الطريقة معنى الرقابة أكثر مما يحمل مجرد معنى الحصول على المعلومات.

ويرجع حق البرلمان في استخدام التحقيق إلى البرلمان الإنجليزي منذ نهاية القرن السابع عشر، حيث تم تشكيل أول لجنة لتقصي الحقائق في عهد الملك إدوارد الثاني سنة 1689 للتحقيق في مسألة الحرب مع إيرلندا، في حين لم تظهر هذه اللجان في فرنسا إلا سنة 1828 للتحري عن المخالفات الاقتصادية للحكومة [1](1). كذلك لم تكن لجان تقصي الحقائق حكرا على النظام البرلماني، بل أيضا تبناها الرئاسي كالنظام الأمريكي حيث تعتبر من أقوى وسائل الرقابة البرلمانية [2](2).

بدوره حذا المشرع المغربي بهذا الشأن حذو هذه الأنظمة فأقر بموجب الدستور والنظام الداخلي لمجلسي البرلمان أن ينشئ الأخير في إطار إختصاصاته لجان تحقيق في القضايا ذات المصلحة العامة في أي وقت شاء.

أهمية الدراسة:

يحظى هذا الموضوع بأهمية بالغة لاسيما بالوقت الراهن الذي عرف تطورا متناميا ومستمرا لأدوار ووظائف الحكومة بسبب تطور حاجات المجتمعات والحياة بصفة عامة، والحال أنه بقدر ما تتعاظم مهام الحكومة جراء ذلك بقدر ما يؤدي لزيادة الضغوط والأعباء عليها، وهو ما يتيح بصورة عفوية حصول قصور أو إهمال من قبل الأخيرة في تدبيرها لأحد القطاعات المسؤولة عنها سواء بقصد أو بغير قصد، من هنا تبرز أهمية التحقيق البرلماني كأحد فضل الوسائل التي تمكن البرلمان من مراقبة فعالة لأنشطة السلطة التنفيذية عبر البحث والتقصي حول حقيقة مكمن الزلل في أداء الحكومة وتحديد الجهة المسؤولة عنه، ويمكن ﺃﻥ تمتد صلاحيات التحقيق لتشمل سير  كافة ﻷﻋﻤﺎل ﻓﻲ مصالح  الدولة والكشف على ما يعتريها من خلل، ﻓﻼ يمكن للبرلمان ﺃﻥ يكشف ﻋيوب ﻟﺠﻬﺎ الحكومي سواء من الناحية الإدارية أو المالية أو السياسية، كما ﻻ يمكن أن يتعرف ﻋﻠﻰ حاجيات البلاد بغير هذه الطريقة.

وفق ما سلف تعتمد هذه الدراسة في بنائها للموضوع على مستويين: أحدهما نظري والآخر عملي، حيث لا يمكن أن ينهض أحدهما دون الآخر:

المستوى الاول: -نظري- يركز على توضيح ماهية التحقيق البرلماني، ثم بيان احكام النصـوص الدستورية والقانونية التي تحكم لجان تقصي الحقائق البرلمانية من حيث تشكيلها وسلطاتها.

المستوى الثانى: المستوى العملي، يحاول تشخيص واقع لجان تقصي الحقائق البرلمانية في الحياة السياسية المغربية، وما يعترضها من عوائق تنتقص من فعاليتها وأثارها المترتبة، مع التنبيه لأهمية وضرورة تطوير الجوانب العملية لتفعيل هذه الوسيلة الرقابية على الوجه الأكمل، وتسخير كل الوسائل للجان التقصي لإنجاح مهامها وإدراك الغاية من إنشائها.

إشكالية الدراسة:

تلقى هذه الدراسة الضوء على التحقيق البرلماني عن طريق لجان تقصي الحقائق كوسيلة فعالة يملكها البرلمان في مواجهة السلطة التنفيذية، وهي محاولة نحو تقدير قيمة هذه الوسيلة البرلمانية وتطويرها، وبعبارة أكثر وضوحا: إن إشكالية البحث تدور حول تحديد طبيعة لجان التقصي البرلمانية، وأبرز السلبيات التي تكتنف عملها كخطوة أساسية نحو تطوير آلية التحقيق البرلماني بالنظام  الدستوري المغربي. على هذا الأساس يطرح التساؤل التالي: ما مدى فعالية لجان تقصي الحقائق البرلمانية في مراقبة أعمال الحكومة وتقرير مسؤوليتها من عدمها؟

تتفرع عن الإشكالية المركزية للدراسة مجموعة من التساؤلات الفرعية، وتتمثل فيما يلي:

- ماهي الأسس الدستورية والقانونية التي تقوم عليها لجان تقصي الحقائق؟

- ما حقيقة الممارسة الواقعية للجان التقصي للأدوار المرسومة له؟

- ما مدى القيود الواردة على وظائف لجان تقصي الحقائق في الممارسة المغربية؟ و ما نطاقها؟

فرضية الدراسة:

تنطلق هذه الدراسة من فرضية أساسية تذهب بالقول إلى أن الدستور الحالي لم يقم سوى بإعادة إستعمال وإغناء ما نصت علية الدساتير السابقة بخصوص لجان تقصي الحقائق من لدن البرلمان، حيث إنه زاد من شدة قيود المفروضة عليها، ما يجعلها قاصرة عن الإرتقاء بالدور الرقابي المنوط بها، وتظل دون فعالية ولا ترتب أي أثر.

 المنهجية المعتمدة:

اعتمدت دراسة موضوع لجان تقصي الحقائق على منهجين:

المنهج النسقي: يأتي توظيف هذا المنهج لرصد التفاعلات الدينامية للجان تقصي الحقائق وما تمثله في النظام الدستوري المغربي، فإذا كان رسم الأخير للجان التقصي هو يجري بشكل واعي ومقصود، فإن محرك الإتجاه الرئيسي بهذا الخصوص هو محاولة فهم غاية المشرع الدستوري المغربي منها و إلى أين يريد أن يصل بها مقارنة مع غيره بالأنظمة الأخرى، وتحليلها ونقدها إن دعت الضرورة لذلك، ومعاينة مدى تأثيرها على سلوكات النواب من جهة، وعلى الحكومة من جهة ثانية.

المنهج المقارن: إقتضت ضرورة تعميق النقاش حول موضوع الدراسة استحضار المنهج المقارن الذي يسلط الضوء على وضع لجان تقصي الحقائق بالدستور  الحالي مقارنة بينه والمحطات الدستورية السابقة. وحيث تكون المقارنة مع الذات تكون المقارنة مع الأخر  كان لابد من استحضار تجارب بعض النماذج المقارنة بهذا الشأن لتبيان أوجه التشابه والإختلاف بينها وبين التجربة المغربية.

خطة الدراسة:

إستنادا للإشكالية والفرضية المطروحة تقوم هذه الدراسة في البداية على توضيح ماهية التحقيق البرلماني، ثم بيان الأحكام العامة للجان التحقيق البرلماني من حيث تشكيلها وسلطاتها، والفصل في كافة الإشكالات والتساؤلات التي تثار بهذا الخصوص (المحور الأول) ، مع الإعتماد على نقطة إرتكاز هامة تتمثل في نقل النص إلى حيز التطبيق، حيث يبقى القصد هنا ليس فقط القراءة النصية للنصوص القانونية المتعلقة للجان تقصي الحقائق؛ بل أيضا محاولة البحث عن إنعكاساتها على الحياة السياسية إنطلاقا من تحديد نوع الممارسة ومحاكمتها (المحور الثاني).

المحور الأول: لجان تقصي الحقائق وسيلة لمراقبة أعمال الحكومة.

تتمتع لجان تقصي الحقائق بتكريس دستوري وإعتراف قانوني في النظام السياسي المغربي كآلية رقابية لأعمال الحكومة ، وذلـك لأهمية النتائج المترتبة على عملها والتي لا يمكن إنكارها في كشف ثغرات الحكومة وتدارك الأخطاء التي تقع بها، بل إن الأمر يمكن أن ينتهي بنتيجة خطيرة و إدانة الحكومة إذا ثبت تقصيرها. وعلى هذا الأساس يحاول هذا المحور ضبط الاطار المفاهيمي للتحقيق البرلماني حتى يتسنى لنا فهمه وتوظيفه بشكل جيد، لنقف بعد ذلك على الأسس والأحكام الخاصة بلجنة التحقيق البرلماني.

أولا: مفهوم التحقيق البرلماني.

عمد الفقه بتقديم تعريفات متعددة لمفهوم التحقيق البرلماني دون الإهتمام بدرجة كافية بوضع تصور  عام له، فيما تحقق شبه إجماع حول تمييزه عن باقي أنواع التحقيقات الأخرى.

1- تعريف التحقيق البرلماني.

تعددت تعريفات الفقه للتحقيق البرلماني، فمنه من يعرفه بأنه: "شكل من أشكال الرقابة التي يمارسها المجلس النيابي على الحكومة، بغاية الاطلاع على واقع التدبير المالي والإداري للمؤسسات العمومية الكبرى، أو  فحص بعض الأمور  المنسوبة إلى أحد الوزراء تمهيدا لإتهامه، فإذا أراد المجلس أن يفصل في الأمر، فأمامه أحد طريقتين، أن يقتنع  بالبيانات التي تقدمها الحكومة عبر أجهزتها المختلفة، أو أن يحاول الوقوف على الحقيقة بنفسه إذا شكك  بصحة المعلومات المقدمة من لدن الأخيرة[3]

وقد عرفه بعض الفقه بأنه: " شكل من أشكال الرقابة التي يمارسها المجلس النيابي على الحكومة، وتقوم بالتحقيق لجنة مؤلفة من أعضاء ينتخبهم المجلس، همهم الكشف عن  كافة العناصر المادية والمعنوية في مسألة، أو قضية ذات مصلحة عامة، ويحق لها الإطلاع على المستندات والوثائق وإستدعاء المسؤولين للمثول أمامها، والإستفسار عن جميع الملابسات والوقائع " [4](1).

فيما عرفه البعض الأخر على أنه: " عملية من عمليات تقصي الحقائق عن وضع معين في أجهزة السلطة التنفيذية، تمارسه لجنة مؤلفة من عدد محدد من أعضاء المجلس التشريعي للوقوف على المخالفات السياسية بوضع إقتراحات معينة كتحريك المسؤولية السياسية، أو إصلاح ضرر معين، أو تجنبه، وتعرض أعمالها على المجلس التشريعي في صورة تقرير"، وعليه فإن التحقيق يحمل معنى الرقابة أكثر  منه الحصول على المعلومات [5] (2).

مجمل ما يستخلص من هذه التعاريف هو أن التحقيق البرلماني وسيلة رقابية يباشر من خلالها المجلس التشريعي الرقابة على كل المسائل المرتبطة بنشاط الحكومة، وتقوم بالتحقيق لجنة مؤلفة من أعضاء يكلفهم البرلمان للكشف عن كافة العناصر المادية والمعنوية حول ما يثار من مشكلات ناتجة عن سياسة معينة، أو  قضية ذات مصلحة عامة، ﺃﻭ  ي مشروع عام، ويحق ﻟﻠﺠﻨﺔ ﺃﻥ تجمع كل ما تراه مفيدا في بيان الملابسات والوقائع، ﻤ ترى ﺴﻤﺎ ﻭﺍﻟﻪ ضرورة، والإطلاع على كل الوثائق والمستندات المتعلقة بها، أو غير ذلك كما أن التحقيق البرلماني هو عكس وسائل الرقابة الأخرى كالأسئلة والإستجواب، كونه يتميز عنها مـن حيث أنه سلسلة من الأسئلة والمناقشات وليس مجرد سؤال وإجابة عليه أو  عدة أسئلة ورد عليها[6]. 

جدير بالذكر  أن اللجان البرلمانية التي تتولى التحقيق تتميز عن لجان التحقيق البرلمانية الدائمة، كون أن الثانية تتولى مراقبة العمل التشريعي والحرص على جودته وتلافي القصور فيه، في حين يبقى دور الأولى الرقابي يتصل بتتبع ومراقبة الأعمال التنفيذية الإدارية والسياسية للحكومة، أي أن موضوعات وظيفتها الرقابية هي سياسية محظة تقف عندها ولا تتجاوزها، و تنتهي إما بتقرير مسؤولية الحكومة أو انتفائها، وهي لها طابع مؤقت، حيث تنتهي مهامها لمجرد رفع تقريرها للمجلس المنشىء لها.

2- تمييز  التحقيق البرلماني عن صور  التحقيقات الأخرى.

يتجه بعض الفقه [7] (4) إلى التمييز  من داخل التحقيق البرلماني بين ثلاثة أنواع منه، وهي: التحقيق التحقيق السياسي –موضوع الدراسة – الذي سبق تعريفه والتحقيق التشريعي، والتحقيق الانتخابي، وبين نوعين اخرين من التحقيق لا يدخلان ضمن الصلاحية البرلمانية هما: التحقيق الإداري والتحقيق القضائي.

- التحقيق التشريعي Enquête legislative : ويقصد به جميع التحقيقات والأعمال التحضيرية التي تفضي لاستصدار   قانون أو   تشريع  أو  دراسة أحد المسائل القانونية التي تهم الدولة، وهو  الوظيفة الأساسية للسلطة التشريعية انطلاقا من دورها التشريعي، وبالتالي فإن التحقيق التشريعي لا يعد من وسائل الرقابة على عمل الحكومة، بل عمل تحضيري لصياغة القواعد التشريعية الخاصة بمسألة تشغل البرلمان، فهو  ليس إلا رقابة على جودة القوانين ومسار تنزيلها،[8] يتجلى الفرق بين التحقيق  السياسي و التحقيق التشريعي في كون أن الأول يتصل بموجب الوظيفة الرقابية للبرلمان بمحاسبة ومسائلة الحكومة عن كل خطأ أو  تقصير  ينسب إليها،أي أن الغاية المرجوة من هذا النوع من التحقيق تجد أساسها في ما هو سياسي فقط، أما الثاني فهو  يتصل بضمان جودة صناعة تشريع متوافق مع نص الدستور  والمواثيق الدولية.

- التحقيق الانتخابي  Enquête Electoral : و يقصد بها التحقيق الذي يجريه البرلمان للفصل في صحة عضوية أعضائه المطعون في صحتها، عن طريق إحدى لجان المجلس التي يوكل لها مهمة التيقن من مدى سلامة وقانونية إجراءات انتخابهم [9].  يتضح الفرق هنا بين التحقيق السياسي والتحقيق الانتخابي في كون أن النوع الأول يسعى لرقابة أعمال السلطة التنفيذية فـي حـالات الإشتباه فـي إرتـكاب مخالفـات، أما النوع الثاني فهدفه التحقق من صحة عضوية أعضاء المجلس حال التشكيك في شرعيتها.

- التحقيق الإداري: هو الخطوة التي يتم بها التحقق من وقوع المخالفة من قبل الإدارة ونسبتها إلى موظف معين ينتمي اليها ويرتبط معها بالرابطة التنظيمية الوظيفة، وتختص بمباشرتها سلطة معينة في محاولة الوصول إلى دليل الإثبات من مجموع ما تحصل لديها من أدلة، ويجوز  للقائمين على التحقيق الإداري صلاحية الإضطلاع على كافة الوثائق و المعلومات وكل ما من شأنه أن يساعد في الحصول على النتائج المرجوة من التحقيق وبيان ما إذا كانت مخالفة أو جريمة وبيان مرتكبها.[10]

- التحقيق القضائي: التحقيق الجنائي هو مجموعة من الإجراءات القضائية التي تمارسها سلطات التحقيق بالشكل المحدد قانونا بغية التثبت من الأدلة في شأن حقيقة الأفعال الجرمية التي ارتكبت وتجميعها، ثم تقديرها لتحديد مدى كفايتها في إحالة المتهم على المحاكمة، أو  أن الأمر   لا يستدعي لإقامة الدعوى بسبب عدم وجود أدلة كافية للتوصل إلى اتهام شخص معين[11] (4).

مما سبق يختلف التحقيق البرلماني عن التحقيق الإداري والجنائي فيما يلي: يشمل التحقيق البرلماني كل ما يتعلق بأعمال الحكومة و ما يدخل في الاختصاص الدستوري للسلطة التشريعية، بينما يعتبر  كل من التحقيق الإداري والقضائي إجراء يتخذ بعد ثبوت وقوع مخالفة بغرض التعرف على مرتكبها وصحة إسنادها إليه وفق النصوص القانونية المنظمة للوظيفة العمومية، والحالات الجنائية.

ثانيا: المقتضيات القانونية للجان تقصي الحقائق.

  لم يترك المشرع الدستوري المغربي لجان التحقيق البرلماني دون ضوابط وحرص على وضع إطار خاص منظم لها، حيث نص في الفقرة الأخيرة من الفصل67 من الدستور على أنه: ((يحدد قانون تنظيمي طريقة تسيير هذه اللجان)).

وبالفعل فقد صدر  ظهير شريف رقم 1.14.125 الصادر في 3 شوال 1435، الموافق ل 31 يوليو 2014  ويتعلق بتنفيذ القانون التنظيمي رقم 085.13 بشأن تسيير هذه اللجان، والذي نص على مجموعة من المقتضيات سواء من حيث تشكيلها، وتنظيمها، وسلطاتها، ونطاق عملها ونتائجه.

1- تشكيل لجان تقصي الحقائق.

خص المشرع الدستوري صلاحية إنشاء لجان تقصي الحقائق بكل من الملك وأعضاء مجلسي البرلمان، فبحسب الفصل 67 من دستور 2011 2  والمادة من القانون التنظيمي رقم 13 .085 تتشكل لجان تقصي الحقائق  بمبادرة من الملك، أو بطلب من ثلث أعضاء مجلس النواب (132 عضوا)، أو ثلث أعضاء مجلس المستشارين (40 عضوا)، يُناط بها جمع المعلومات المتعلقة بوقائع معينة، أو بتدبير المصالح أو المؤسسات والمقاولات العمومية، وإطلاع المجلس الذي شكلها على نتائج أعمالها.

 وتؤكد المادة 3 من القانون التنظيمي رقم 13 .085  أنه في حال تشكيل لجان تقصي الحقائق بمبادرة من الملك توجب على رئيس المجلس المعني أن يقوم  فورا بتشكيل اللجنة المذكورة التي تجتمع وتشتغل وفق أحكام هذا القانون التنظيمي، ثم يرفع رئيس المجلس المعني تقرير لجنة تقصي الحقائق إلى الملك، داخل أجل لا يتعدى شهرا  بعد مناقشته طبقا لأحكام المادة 17 من هذا القانون.          

أما في حال تشكيل لجنة لتقصي الحقائق بمبادرة من أحد المجلسين، يتولى رئيس المجلس المعني إشعار رئيس الحكومة فور التوصل بالطلب داخل أجل لا يتعدى ثلاثة أيام على أكبر  تقدير،  ثم يوجه رئيس الحكومة داخل أجل خمسة عشر يوما من تاريخ إشعاره إلى رئيس المجلس المعني إفادة بأن الوقائع المطلوب في شأنها تقصي الحقائق هي موضوع متابعات قضائية جارية.

هذا ولا يمكن أن يكون طلب تشكيل لجنة تقصي الحقائق موضوع مناقشة إذا أفاد رئيس الحكومة أن المتابعات القضائية قد فتحت في شأن الوقائع التي أسس عليها الطلب. وتوقف المناقشة فورا إذا كان قد شرع فيها. أما في حال عدم توصل رئيس المجلس المعني بالإفادة المذكورة داخل الأجل المحدد فإنه يقوم بإتخاذ الإجراءات اللازمة لتشكيل اللجنة.

كما لا يجوز للمجلسين تشكيل لجنة لتقصي الحقائق بخصوص نفس وقائع، كما لا يجوز لهما ذلك عندما تكون هذه الوقائع موضوع متابعات قضائية، طالما أن هذه المتابعات جارية. وتنتهي مهمة كل لجنة، سبق تشكيلها، فور فتح تحقيق قضائي في وقائع معينة أو  في تدبير مصلحة أو  مؤسسة أو  مقاولة عمومية كلفت بالتقصي في شأنها[12] (1).



[1] إيهاب زكي سلام: (الرقابة على أعمال السلطة التنفيذية في النظام البرلماني)، عالم الكتب،  الطبعة الأولى، القاهرة  1983، ص: 124. 

[2] 2- Bernard CHANTEBOUT :( Droit constitutionnel et science politique), 11éme édition, Armand Colin, Paris 1994, P: 430

 

[3] 1- سليمان محمد الطماوي: (السلطات الثلاث – في الدساتير العربية المعاصرة  وفي الفكر السياسي الاسلامي) –دار الفكر العربي، الطبعة السادسة،القاهرة 1996، ص: 480.

[4] سعيد السيد علي: (القانون الدستوري: الاستجوابات والتحقيقات البرلمانية في النظم المقارنة) ، دار الكتاب الحديث، القاهرة  2009، ص: 14.

[5] خدوجة مخلوفي: (الرقابة البرلمانية على أعمال السلطة التنفيذية في دول المغرب العربي- دراسة مقارنة -)، أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه في القانون العام، جامعة الجزائر1، كلية الحقوق، بنعكنون السنة الجامعية 2011- 2010، ص:377.

[6] إيهاب زكي سلام: (الرقابة على أعمال السلطة التنفيذية في النظام البرلماني)،المرجع السابق، ص: 120.

[7] نفس المرجع، ص: 121.

[8] Robert Arnitz :( Les Enquetes Parlementaire d' ordre politique), édition. Duchemin , Paris 1917, pp:11-15

[9] فارس محمد عمران: (التحقيق البرلماني: دراسة مقارنة)، المركز القومي للاصدارات القانونية، القاهرة   2008، ص: 30

[10] عوض ثروت: (أصول التحقيق الإداري ودور  النيابة الإدارية)، رسالة الدكتوراه، كلية الحقوق، جامعة عين شمس،1994، ص: 191 ، أنظر  أيضا: محمود عاطف البنا: (مبادئ القانون الإداري في الأموال العامة و الوظيفة العامة) ،دار الفكر  العربي، دون سنة نشر،القاهرة ، ص: 331.

[11] عبد الرحيم لحرش-  عبد الكريم رزاق: (التحقيق القضائي في القانون الوضعي)، المجلة الأكاديمية للبحوث القانونية و السياسية، مجلد 3، عدد 2، سنة 2019، ص: 105، أنظر  أيضا: عبد الرحمان مدني: (أصول التحقیق الجنائي وتطبیقاته في المملكة السعودیة)، معهد الإدارة السعودیة، 1435 ھـ، ص: 16.

[12] المادة 4 من القانون التنظيمي رقم 085.13، المتعلق بطريقة تسيير اللجان النيابية لتقصي الحقائق.



من أجل تحميل هذا المقال كاملا - إضغط هنا أو أسفله على الصورة

قانونك



من أجل تحميل هذا العدد 20 - إضغط هنا أو أسفاه على الصورة

مجلة قانونك - العدد الثالث