خطاب الضمان المصرفي ( الإشكالات الفقهية والحلول المتاحة ) - عبد الله محمدن آيا

 

خطاب الضمان المصرفي

( الإشكالات الفقهية والحلول المتاحة )

Bank guarantee letter

(Doctrinal problems and available solutions)

 عبد الله محمدن آيا / باحث في العلوم الفقهية القانونية

Abd Allah Muhammadan Aya

 


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واقتفى أثره إلى يوم الدين، وبعد:

فقد استجدت في عصرنا الحاضر صيغ كثيرة من المعاملات المالية التي لم يعرفها أسلافنا من قبل، ولم يكن لها في التراث الشرعي الإسلامي ذكر، بل كانت استجابة للتطور الهائل الذي عرفته البشرية جراء ظهور النظريات الاقتصادية، وإثر هيمنة الثورة الرقمية.

 إلا أن هذه الصيغ وإن تكاثرت فإن الشريعة الإسلامية تقف لها بالمرصاد، لتجد لها الحلول المناسبة، إما باحتوائها وإلحاقها بمعاملات شرعية، أو برفضها وبيان أنها داخلة حيِّزِ المحظور شرعا.

ومما ابتكره العرف المصرفي وقضى به على الضمانات التقليدية التي كانت سائدة ومتداولة على مستوى الصفقات التجارية الدولية ما يسمى: بخطابات الضمان المصرفية (الضمانات المصرفية المستقلة)، هذه الخطابات التي احتلت في العصر الراهن مركز الصدارة في مجال التأمينات الشخصية بفضل أهميتها العملية، وخصوصيتها الفنية التي لا يشاركها فيها غيرها.

وقد ارتبطت بهذه الخطابات إشكالات فقهية عديدة، سواء تعلق الأمر بالأجرة التي يأخذها المصرف على هذه الخطابات، أوتعلق بالعمولة التي يأخذها كرهن قبل حصول سببه، أو كان متعلقا باستثمار تلك العمولة.

وقد أولى العلماء المعاصرون لخطاب الضمان المصرفي عناية بالغة بحثا عن حلول شرعية  تنأى به عن الوقوع في وحل شبهة المحظور، وسعيا في أن تحجز له مكانا ضمن العقود الداخلة في دائرة المباح.

وسأعالج هذا الموضوع من خلال محورين:

المحور الأول خطاب الضمان المصرفي: مفهومه وتكييفه الفقهي:

المحور الثاني: الإشكالات الفقهية المرتبطة بخطاب الضمان والبدائل الشرعية:

 

المحور الأول: خطاب الضمان المصرفي: مفهومه وتكييفه الفقهي:

من أجل التوصل إلى مفهوم خطاب الضمان وللوقوف على تكييفه الفقهي قسمت المحور إلى الفرعين الآتيين: 

الفرع الأول: مفهوم خطاب الضمان المصرفي:

يقتضي الحديث عن مفهوم خطاب الضمان الوقوف على المعنى اللغوي والاصطلاحي لكل من  "خطاب" و " الضمان" ثم بيان المعنى الاصطلاحي لهذا المركب الإضافي ( خطاب الضمان ) بعد ذلك، على أن يتم التعريج على خصائص خطاب الضمان تكميلا لتعريفه، وتصوره التصور الصحيح.

الفقرة الأولى: تعريف خطاب الضمان:

أولا: تعريف خطاب الضمان في اللغة:

الخطاب بكسر الخاء يطلق في اللغة على (( الكلام بين اثنين، يقال: خاطبه يخاطبه خطابا ))[1]، قال ابن منظور: (( الخطاب والمخاطبة: مراجعة الكلام، وقد خاطبه بالكلام مخاطبة وخطابا، وهما يتخاطبان))[2]، وقال الزمخشري: يطلق الخطاب على ((المواجهة بالكلام ))[3]، قيقال: (( خاطبه بالكلام مخاطبة وخطابا ))[4]، وقال أبو العباس في المصباح المنير: (( خاطبه مخاطبة وخطابا، وهو الكلام بين متكلم وسامع ))[5]، كما يطلق الخطاب على الرسالة[6].

وأما قوله تعالى: ﴿ وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ[7]، فقيل: المراد بها مخاطبة المحاج المجادل، وقيل: المراد بها غالبني في الخِطبة، بمعنى أنه خطب امرأة فخطبها غيره، فخطابه خطابا أي غالبه في الخِطبة فغلبه[8].

وعند قوله تعالى: ﴿وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَاب [9] قال الزمخشري: (( فمعنى فصل الخطاب: البين من الكلام الملخص الذي يتبينه من يخاطَب به لا يلتبس عليه ))[10]، وفي المعجم الوسيط: ((فصل الخطاب ما ينفصل به الأمر ...وهو أيضا الحكم بالبينة أو اليمين، أو الفقه في القضاء، أو النطق ب" أما بعد"، أو أن يفصل بين الحق والباطل، أو هو خطاب لا يكون فيه اختصار مخل، ولا إسهاب ممل ))[11]. وبهذا يتضح أن الخطاب في مدلوله اللغوي وبهذه الصيغة ذاتها يطلق على الكلام: سواء كان موجها إلى شخص حاضر، أو كان رسالة إلى من هو غائب، وهذا المعنى الأخير هو الذي ينطبق على خطاب الضمان؛ لأنه عبارة عن رسالة مكتوبة موجهة إلى طرف ثالث لغرض معين.

أما الضمان فهو مصدر من ضمن الشيء بمعنى تكفل به، يقال: (( ضمنت الشيء ضمانا كفلت به، فأنا ضامن وضمين ))[12]، ويقال: (( ضمن المال منه كفل له به، وهو ضمينه وهم ضمناؤه، وهو في ضمنه وضمانه. وضمنته إياه.

ومن المجاز: ضمن الوعاء الشيء وتمضنه، وضمنته إياه، وهو في ضمنه. يقال: ضمن القبر الميت. وضمن كتابه وكلامه معنى حسناً، وهذا في ضمن كتابه وفي مضمونه ومضامينه. ونهي عن بيع المضامين التي في بطون الحوامل ))[13].

ثانيا: تعريف خطاب الضمان في الاصطلاح:

لم يكن لمصطلح خطاب الضمان المصرفي ذكر في التراث الفقهي القديم؛ لأنه مصطلح معاصر وليد العرف المصرفي، وإن كان مدلوله ظل موجودا في الواقع وحاضرا بقوة في التراث الإسلامي. وانطلاقا من ذلك كان التعريف الاصطلاحي لخطاب الضمان موجودا فقط في التشريعات والقوانين التي نظمته، وفي الكتب المعاصرة التي عالجته من الوجهة القانونية والشرعية.

وفيما يلي سردٌ لبعض هذه التعريفات:

عرف د. محمد أحمد سراج خطاب الضمان بقوله: (( وخطاب الضمان عبارة عن تعهد المصرف كتابيا بكفالة أحد عملائه، وهو طالب إصدار خطاب الضمان لطرف ثالث في حدود مقدار معين من المال، ضمانا لوفاء هذا العميل بالتزامه تجاه ذلك الطرف خلال مدة معينة ))[14].

وعرفه محمد باقر الصدر خطاب الضمان بأنه (( تعهد من البنك بقبول دفع مبلغ معين لدى الطلب إلى المستفيد في ذلك الخطاب نيابة عن طالب الضمان عند عدم قيام الطالب بالتزامات معينة قِبَلَ المستفيد))[15]. وعرفه د. الغريب ناصر بقوله:  (( خطاب الضمان هو تعهد يصدر من المصرف بناء على طلب عميله (الآمر) بدفع مبلغ نقدي معين، أو قابل للتعيين، بمجرد طلب المستفيد ذلك من المصرف خلال مدة محددة))[16].

وعرفه المشرع الموريتاني بأنه: (( اتفاق يلتزم الضامن بموجبه، وبناء على طلب، أو بناء على تعليمات من الآمر بتسديد مبلغ محدد للمستفيد بناء على أول طلب من هذا الأخير ))[17]. كما عرفه المشرع المصري خطاب الضمان بقوله: (( هو تعهد مكتوب يصدر من البنك بناء على طلب شخص يسمى ( الآمر) بدفع مبلغ معين أو قابل للتعيين لشخص آخر يسمى (المستفيد) إذا طلب منه ذلك خلال المدة المعينة في الخطاب دون الاعتداد بأية معارضة ))[18].

والناظر إلى التعريفات السابقة بتمعن يجد أنها تتفق حينا وتتباين أحيانا أخرى، فقد اتفقت كلها على أن خطاب الضمان تعهد، باستثناء المشرع الموريتاني الذي عبر عنه بالاتفاق، وهو تعبير غير دقيق؛ لأن خطاب الضمان في شكله النهائي تعهد من المصرف إلى طرف ثالث، أما ذكر الاتفاق في التعريف فليس دقيقا، ما دام الاتفاق الحاصل بين المصرف وزبونه لا شأن للمستفيد الموجه إليه الخطاب بشأنه، وما دام تعهد المصرف مستقلا ومن صميم إرادته المنفردة عن إرادة المستفيد.

 كما يُلاحظ تفاوت هذه التعريفات في الشمولية لماهية خطاب الضمان، فلم يكن تعريف محمد رواس بجامع لحصْرِهِ خطابَ الضمان في شكله النهائي، وذلك بقوله: " تعهد نهائي"، ومعلوم أن خطاب الضمان كما يكون نهائيا قد يكون ابتدائيا،  كما يلاحظ عليه بأنه لم يذكر بأن التعهد لا بد أن يكون مكتوبا كما هو معلوم من خصائص خطاب الضمان، وهو ما وقع فيه الغريب ناصر ومحمد باقر الصدر وإن كان الأخير لم يحصره في شكله النهائي.

 وقد أشار إلى خاصية الكتابة في تعريف خطاب الضمان المشرع المصري الذي ذكر بأن خطاب الضمان " تعهد مكتوب..". وانطلاقا مما سبق يمكن أن نعرف خطاب الضمان المصرفي بأنه: " تعهد مكتوب مستقل ومحدد الأجل من طرف مصرف بناء على اتفاق بينه وبين عميله بدفع مبلغ معين أو قابل للتعيين للمستفيد عند طلبه إياه، ضمانا لوفائه بالتزاماته تُجاه المستفيد".

الفقرة الثانية: خصائص خطاب الضمان المصرفي:

لخطاب الضمان المصرفي خصائص يمكن إجمالها فيما يلي:

أولا: خاصية الاعتبار الشخصي:

يتميز خطاب الضمان عن غيره بهذه الخاصية التي تتمثل في عدم قابليته للتحويل ولا التظهير للغير، فهو يتسم بطابع شخصي بالنسبة لإطرافه.

وبناء على ذلك فإن الحق الناشئ لأحد الأطراف بموجب خطاب الضمان يعتبر حقا غير قابل للتداول والانتقال عن طريق التنازل للغير، أو الحوالة، وهذا ما نص عليه المشرع الموريتاني بالقول: (( حق المستفيد في الضمان ليس قابلا للتحويل ما لم يشترط خلاف ذلك صراحة))[19]، وذلك لأن خطاب الضمان سند ائتماني اسمي، فلا يجوز انتقاله من شخص إلى آخر إلا ((  لمبررات موضوعية يقتنع بها المصرف الذي سيجري النقل في سجلاته، كحصول اندماج المستفيد ( إذا كان شركة أو مؤسسة) في مؤسسة أخرى، أو عند إحالة اختصاصات مؤسسة مستفيدة إلى مؤسسة أخرى، حيث يستبدل اسم المستفيد المذكور بالاسم الجديد )) [20].



[1] مقاييس اللغة، أحمد بن فارس القزويني الرازي، تحيقيق: عبد السلام محمد هارون، دار الفكر ، سنة: 1399، مادة: " خطب" (2/298).

[2] لسان العرب، محمد بن مكرم بن علي بن منظور الأنصاري، دار صادر ــ بيروت ــ ط: الثالثة، مادة، "خطب"، ( 1 / 361 ).

[3] أساس البلاغة، أبو القاسم محمود بن عمرو الزمخشري، تحقيق: محمد باسل عيون السود، دار الكتب العلمية – بيروت – ط: الأولى، 1419, مادة: خطب" (1/ 255).

[4] الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري الفارابي، تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار، دار العلم للملايين – بيروت – ط: الرابعة، مادة: " خطب" ( 1 / 121 ).

[5] المصباح المنير في غريب الشرح الكبير، أبو العباس أحمد بن محمد الفيومي الحموي، المكتبة العلمية – بيروت – ( د – ت)، مادة: " خطب"، ( 1/ 173).

[6] انظر: المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية بالقاهرة، ( إبراهيم مصطفى، وأحمد الزيات، وآخرون)، دار الدعوة، ( د – ت)، مادة: "خطب"، ( 1/ 242).

[7] سورة ص، الآية: 23.

[8] انظر: الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، لأبي القاسم محمود بن عمرو بن أحمد الزمخشري، دار الكتاب العربي – بيروت – ط: الثالثة، 1408هـ ، ( 4 / 82 ).

[9] سورة ص، الآية: 19.

[10] الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، محمود بن عمرو الزمخشري، م.س،  ( 4 / 80 ).    

[11] المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية بالقاهرة م.س، مادة: " خطب"، ( 1/ 242).

[12] الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري ، م.س، مادة: "ضمن"،  (6/ 2155).

[13] أساس البلاغة، محمود بن عمرو الزمخشري، م.س، مادة: " ضمن"  ( 1 / 587 ).

[14] النظام المصرفي الإسلامي، د. محمد أحمد سراج، دار الثقافة للنشر والتوزيع ــ القاهرة ــ، 1410هـ، ص: ( 120 ).

[15] البنك اللا ربوي في الإسلام، محمد باقر الصدر، دار التعارض _ بيروت_ ط: السابعة، 1401ه، ص: (130).

[16] أصول المصرفية الإسلامية وقضايا التشغيل، د. الغريب ناصر، دار أبوللو للطباعة والنشر والتوزيع بالقاهرة، 1417 هـ ص: ( 201 ).

[17] القانون رقم 2000 – 05، الصادر بتاريخ يناير 2000م، المتضمن لمدونة التجارة الموريتانية، الفصل الحادي عشر في رسالة الضمان، المادة رقم: ( 1105 ).

[18]  قانون التجارة  المصري رقم (17)،  الباب الثالث: في عمليات البنوك، (9) خطاب الضمان، المادة رقم ( 355).

[19] مدونة التجارة الموريتانية، م.س، المادة: ( 1107 ).

[20] خطابات الضمان المصرفية وموقف الشريعة الإسلامية منها، أمقران راضية، أطروحة دكتوراه، جامعة الجزائر،  2014، ص: ( 37 ).


من أجل تحميل هذا المقال كاملا - إضغط هنا أو أسفله على الصورة

قانونك


من أجل تحميل هذا العدد التاسع -إضغط هنا أو أسفله على الصورة

مجلة قانونك - العدد الثالث