القوة القاهرة في المادة الشغلية


القوة القاهرة في المادة الشغلية

من إعداد: عز الدين سراتة

9anonak
Force majeure du pièce travaillée



القوة القاهرة و آثارها على تنفيذ عقود الشغل
الأستاذ عزالدين سراتة       

باحث في القانون بكلية الحقوق- وجدة
مقدمة :
       يجب على كل من المشغل والأجير تنفيذ التزاماته الواقعة على عاتقهما بحسن نية، وفي حالة التماطل أحدهما عن تنفيذ التزاماته يكون مسؤولا تجاه الطرف الأخر مسؤولية عقدية، ويحق للجهة المتضررة المطالبة بالتعويض عن الأضرار اللاحقة بها، ولكن قد يكون في بعض الأحيان عدم تنفيذ أحد الأطراف للالتزاماته نتيجة وجود أسباب أجنبية خارجة عن إرادة أحدهما  ومن بين هذه الأسباب القوة القاهرة المنصوص عليها في الفصل 269 من قانون الالتزامات والعقود.
      وتعتبر القوة القاهرة وسيلة قانونية تؤذي إلى إعفاء أحد طرفي العلاقة الشغلية من التزاماته عندما يصبح مستحيل تنفيذها بسببها، وذلك حسب منطوق الفصل 268 من ق.ل.ع.
      ونظرا لما لهذا الموضوع من أهمية وما يطرحه من إشكالات بارزة قد لا يجد حلا لها لا في التشريع ولا حتى في الاجتهادات القضائية والفقهية، كما أن القوة القاهرة في المدونة الجديدة للشغل جاءت متشتتة ومتناثرة في عدة مواد، وبالتالي كان لابد من الرجوع إلى قانون الالتزامات والعقود المغربي الذي نظمها من خلال الفصلين 268 و 269.
     وتتلخص الإشكالية الجوهرية التي يطرحها هذا الموضوع، باعتبارها الخيط الرابط بين عناصره وهي على الشكل التالي:
   إلى أي حد توفق المشرع المغربي في معالجة القوة القاهرة على مستوى تنفيذ عقود الشغل؟
    و اللإجابة عن هذه الإشكالية الجوهرية المطروحة في صلب هذا الموضوع، لابد من معالجة أحكام القوة القاهرة في مجال تنفيذ عقود الشغل في (المطلب الأول)، أما في (المطلب الثاني) سنخصصه لآثار القوة القاهرة في مجال تنفيذ عقود الشغل وإثباتها.
          المطلب الأول : أحكام القوة القاهرة في مجال تنفيذ عقود الشغل
       إن الحديث عن القوة القاهرة كسبب من أسباب التحلل من الالتزامات، يقتضي منا الوقوف على مفهومها وشروطها (الفقرة الأولى) التي حددها المشرع بمقتضى الفصل 269 من ق.ل.ع، ثم حالاتها في مجال تنفيذ عقود الشغل(الفقرة الثانية).
       الفقرة الأولى : مفهوم القوة القاهرة في المادة الشغلية وشروطها
    سنتطرق في هذه الفقرة إلى الحديث عن مفهوم القوة القاهرة في المادة الشغلية (أولا)، ثم سنقف عند شروط الواجب توفرها فيها (ثانيا).
أولا : مفهوم القوة القاهرة في المادة الشغلية
     بالرجوع إلى مدونة الشغل يتبين أن المشرع المغربي قد أحجم عن تعريف القوة القاهرة وإنما أشار إليها في نصوص متفرقة ومتشتتة، على خلاف قانون الالتزامات والعقود المغربي الذي عرفها في إطار الفصل 269 على أنها " هي كل أمر لا يستطيع الإنسان أن يتوقعه كالظواهر الطبيعية (الفيضانات والجفاف والعواصف والحرائق والجراد) وغارات العدو وفعل السلطة، ويكون من شأنه أن يعجل تنفيذ الالتزام مستحيلا .
ولا يعتبر من قبيل القوة القاهرة الأمر الذي كان من الممكن دفعه، ما لم يقم المدين الدليل على أنه بذل كل العناية لدرئه عن نفسه.
وكذلك لا يعتبر من قبيل القوة القاهرة السبب الذي ينتج عن خطأ سابق للمدين."
        ويتضح من خلال مضمون هذا الفصل أن القوة القاهرة كواقعة مادية في حالة تحقق شروطها تعتبر سبب من الأسباب القانونية الكافية لوحدها من إعفاء المدين من تنفيذ التزاماته العقدية دون تحمل أي مسؤولية مدنية.
       وبالتالي فإن التعريف الذي جاء به المشرع المغربي في الفصل 269 من ق.ل.ع لا يختلف كثيرا عن تعريف الذي وضعه الفقيه الروماني البيان ULPIEN والذي عرف القوة القاهرة على أنها " كل ما لم يكن في وسع الآدمي أن يتوقعه وإذا أمكن توقعه فإنه لا يمكن مقاومته."([1])
         أما إذا عدنا إلى القانون الفرنسي، فإن المشرع الفرنسي لم يوضح المقصود من القوة القاهرة وإنما اكتفى بتحديد آثارها فقط. وبالرجوع إلى مقتضيات الفصل 1148 من القانون المدني الفرنسي نجده ينفي الحق في التعويض إذا ثبت المدين أنه منع من القيام بما التزم به...([2]).
       وكذلك نفس الأمر فيما يخص القانون المدني المصري حيث لم يعرف هو الأخر القوة القاهرة وإنما اكتفى بالإشارة إليها كسبب أجنبي يعفي من المسؤولية، وهذا ما أكده الفصل 165 من القانون المدني المصري والذي جاء فيه ما يلي :" إذا اثبت الشخص أن الضرر قد نشأ بسبب أجنبي لا يد له فيه كما في القوة القاهرة أو خطأ من المضرور أو خطأ الغير، كان غير ملزم بتعويض هذا الضرر، ما لم يوجد نص أو اتفاق على غير ذلك."
ثانيا : شروط القوة القاهرة في مجال تنفيذ عقود الشغل
        بالرجوع إلى مقتضيات الفصل 269 من ق.ل.ع السالف الذكر يشترط في الواقعة المكونة للقوة القاهرة والتي يتمسك بها المدين من أجل الاستفادة من آثارها ثلاثة شروط رئيسية وهي عدم التوقع (أ)، ثم استحالة الدفع (ب)، وأن يكون السبب خارجيا (ج).
الشرط الأول : عدم التوقع
يعتبر عدم التوقع من بين الشروط الأساسية لتحقق القوة القاهرة، لهذا يتعين على المدين(المشغل أو الأجير) أن لا يتوقع هذا الفعل أثناء إبرام العقد، وإلا فإنه إذا كان بإمكانه توقعه فهو يكون مرتكبا لخطأ يتمثل في عدم اتخاذ التدابير اللازمة. وهذا ما أكده المشرع المغربي في الصيغة التالية: "القوة القاهرة هي كل أمر لا يستطيع الإنسان أن يتوقعة" الواردة في الفصل 269 من ق.ل.ع.
والقضاء يرفض الدفع بالقوة القاهرة إذا كان  في استطاعة المدين أن يتوقع حدوثها، وطرح مثل هذا الأمر بالنسبة لأحد أرباب العمل الفرنسيين الذي تجاوز الحد المسموح به له من أجل توظيف أو تشغيل عمال أجانب.
ولما رفضت السلطة الإدارية المختصة تجديد بطاقات عمل البعض منهم لم يفلح في أن يتدرع بالقوة القاهرة كسبب لإنهاء عقد العمل لأنه كان في وسعه توقع عدم موافقة الإدارة على التجاوز في تشغيل  العمال الأجانب.
 كما أن التوجه الذي سلكه القضاء الفرنسي هو تأكيد على أن غرق مصنع بسبب فيضان نهر يحدث بشكل دوري هو أمر متوقع وبالتالي ليست هناك قوة قاهرة، أما اعتقال العامل أو حبسه فهو أمر لا يمكن توقعه في كثير من الحالات.
الشرط الثاني : استحالة الدفع
أن هذا الشرط يعتبر من بين الشروط تحقق القوة القاهرة وله ارتباط وثيق بالشرط السابق، لأن المرء كلما استطاع توقع الخطر الذي يهدد مصالحه سهل عليه دفع هذا الخطر في غالب الأحيان، أو على الأقل يسهل عليه اتخاذ الاحتياطات الضرورية لتخفيف منه.
وقد اعتبرت المحكمة الابتدائية بالدار البيضاء في أحد أحكام الصادرة عنها " بأن إغلاق المؤسسة من أجل القيام ببعض الإصلاحات في البناية أو غيرها لا يرتب إنهاء عقد العمل الذي يظل معلقا أو متوقفا عن إنتاج آثاره القانونية ليس إلا. وذلك إلى حين استئناف المؤسسة لنشاطها الطبيعي وكل خروج عن هذا المبدأ يقع تحت طائلة التعسف في استعمال الحق ولا يعتبر هذا الإغلاق بمثابة قوة قاهرة ما لم تتوفر شروطها القانونية.
وحيث إن قرار الإغلاق المذكور ليس نهائيا ولكنه مؤقت، وبالتالي فهو ليس بفعل السلطة المبرر لتسريح المدعي عن عمله، كما أنه لا يتحدث عن المحلات التجارية."([3])
ويتضح من خلال هذا الحكم على أنه لا مجال للتمسك بالقوة القاهرة من قبل المدعي عليه اعتمادا على الفصل 269 من ق.ل.ع، وذلك اعتبارا للفقرة الأخيرة التي تؤكد على أنه لا يعتبر من قبيل القوة القاهرة الأمر الذي كان من الممكن دفعه، ما لم يقم المدين(المدعي عليه) الدليل على أنه بذل كل العناية لدرئه عن نفسه.
في الأخير تبين للمحكمة الابتدائية أن شرط عدم الدفع غير متوفر في النازلة وحكمت بالتعويض عن الإنهاء التعسفي لعقد العمل.
لكن نفس المحكمة الأنفة الذكر لم يكن لها نفس الموقف في قضية تتعلق بإفراغ محل تجاري في شكل مخبزة يشتغل فيها مجموعة من الأجراء، وهذا الإفراغ وقع تنفيذا لقرار محكمة الاستئناف طبقا لظهير 24 ماي 1955 مقابل تعويض كراء 3 سنوات، الشيء الذي جعل صاحب العمل أو مالك المخبزة في وضعية يستحيل معها تنفيذ عقد العمل مع الأجير الذي رفع ضده دعوى بالتعويض عن الإنهاء التعسفي، طالما أن التعويض الممنوح لرب العمل عن الإفراغ لم يثبت عنه أنه كافِ لإنشاء مخبزة جديدة.
إذن، إنهاء عقد العمل في هذه النازلة لم يكن تعسفيا بسبب قوة قاهرة و لم يستطع صاحب العمل أن يدفعها أو يتغلب عليها.([4])
الشرط الثالث :  انعدام خطأ المدين
بالرجوع إلى الفقرة الثالثة من الفصل 269 من ق.ل.ع يتضح أن المشرع المغربي أقر لتحقق القوة القاهرة يجب انعدام خطأ المدين بمعنى أن لا يكون صدر عنه خطأ ساهم في تحققها.
فقد ذهبت محكمة النقض الفرنسية بهذا الخصوص إلى أن الواقعة التي من المفروض أن تشكل قوة قاهرة يتعين أن تكون أجنبية عن المدين أو عن الأشخاص الذين يسأل قانونيا عنهم من الوجهة المدنية في إطار مسؤولية المتبوع عن أعمال تابعه وأن محكمة النقض تسهر على حسن تطبيق هذا الشرط.([5])
وتأسيسا على ما سبق، فإن تحقق الشروط الأنفة الذكر من عدم التوقع و استحالة الدفع وانعدام خطأ المدين يؤدي إلى استحالة التنفيذ عقد الشغل بسبب القوة القاهرة التي أحالت بينه وبين تنفيذ التزامه، لهذا إذا لم يستطع المشغل توقعها ولم يتمكن من دفعها ولم يصدر عنه أي خطأ فإنه يتحلل من المسؤولية تجاه الأجير.
الفقرة الثانية : حالات القوة القاهرة في مجال تنفيذ عقود الشغل
أشار المشرع المغربي إلى حالات القوة القاهرة في المادة الشغلية من خلال نصوص متناثرة، لهذا سنتاول حالة العجز الأجير الدائم ووفاته (أولا)، أما (ثانيا) سنخصصها للحديث عن توقف المقاولة.
أولا : عجز الدائم للأجير ووفاته
يعتبر عجز الدائم للأجير قوة قاهرة تحول بينه وبين تنفيذ التزامه، كما لو أصيب بنقصان حاد في قدرته البدنية نتيجة مرض مهني أو حادثة شغل.([6])
وبالتالي فإن المشغل في هذه الحالة لا يحق له إجبار الأجير على تنفيذ التزامه بسبب القوة القاهرة لم يكن بمقدوره توقعها أو دفعها مما تسببت في عجزه بصفة دائمة، لهذا يتحلل الأجير من التزامه بقوة القانون مما يؤدي إلى وضع حد لعقد الشغل من طرف المشغل.
وما قيل عن العجز الدائم ينطبق على وفاة الأجير كلما توفرت شروط القوة القاهرة المنصوص عليها في الفصل 269 من ق.ل.ع.
ويتبين مما سبق، أن وفاة الأجير تؤدي إلى وضع حد للعلاقة الشغلية لاستحالة الاستمرار في تنفيذ عقد الشغل بصفة نهائية، نظرا لطابع الشخصي الذي يطبع عقد الشغل، وبالتالي لا يحق للمشغل الزام ورثة الأجير المتوفى بتنفيذ التزام مورثهم، كما لا يستطيع هؤلاء الورثة مطالبة المشغل بحلول محل مورثهم في تنفيذ التزامه، مما يؤذي إلى وضع حد لعقد العمل نهائيا.
       ثانيا : توقف المقاولة
    إن توقف المقاولة تعتبر مجرد تطبيق من التطبيقات الخاصة بالقوة القاهرة، وبالتالي فإن الأزمات الاقتصادية التي تنصب على المقاولة هي أزمات متوقعة، ويتعين على رب العمل أو المشغل توقعها حتى لا يتمسك بها على أساس أنها قوة قاهرة لتحلل من التزامه.
     وفي الحقيقة هناك بعض الصعوبات الاقتصادية التي تؤدي إلى توقيف المقاولة، بمثابة عقبة منيعة وصعبة التجاوز، بل وضاغطة إلى حد التي يتم تشبيهها بالقوة القاهرة دون أن تكون كذلك.
    ونفس الأمر بالنسبة للإضراب الذي ينتج عنه توقيف المقاولة، ولكن التساؤل الذي يطرح نفسه هل يرقى الإضراب إلى القوة القاهرة؟
    وكقاعدة عامة فإن الإضراب لا يشكل قوة قاهرة لكونه لا يشكل حادثا خارجيا لرب العمل، خاصة في الفرضية أكثر شيوعا، وهي في الحالة التي يرفض من خلالها المشغل مطالب الأجراء من جهة، ومن جهة أخرى أن الإضراب غالبا ما تسبقه مشاورات ونقاشات وتجمعات قبلية يكون المشغل على علم بها، لهذا يعتبر استجماع شروط القوة القاهرة سواء في حالة الإضراب أو الأزمات صعبا للغاية([7]).
    وغير أنه استثناء يمكن اعتبار الإضراب قوة قاهرة تعفي من المسؤولية، كما في الحالة التي تكون فيها مطالب العمل خارجة عن اختصاصات المشغل، كما لو أضرب الأجراء عن العمل من أجل المطالبة بالزيادة في الأجور، ولكن المشغل لم يستطع الاستجابة لهم بسبب وجود قانون يمنع أرباب العمل في الزيادة في الأجور([8]).
    وبالتالي فإن مسألة تقدير مدة التوقف المقاولة على أنها تدخل في إطار القوة قاهرة أم لا، تبقى من اختصاص المحكمة التي تتأكد من توفر شروط القوة القاهرة التى على ضوئها تخول الحق في التعويض أم لا([9]).
المطلب الثاني: آثار القوة القاهرة في مجال تنفيذ عقود الشغل وإثباته
القوة القاهرة تعتبر سببا من أسباب انتهاء الالتزامات التعاقدية في عقود الشغل نتيجة استحالة تنفيذ الالتزام بسبب ظروف تخرج عن إرادة الطرفين، لهذا فإنها تنتج مجموعة من الآثار تجاه المشغل والأجير(الفقرة الأولى)، كما أنها يتم إثباتها بمختلف وسائل الإثبات المتاحة قانونيا(الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى : آثار القوة القاهرة في مجال تنفيذ عقود الشغل
            بما أن القوة القاهرة واقعة خارجة عن إرادة المتعاقدين ويستحيل دفعها، فهي تؤثر على تنفيذ الأجير لالتزاماته (أولا)، كما تؤثر أيضا حتى على التزامات المشغل (ثانيا).
أولا: القوة القاهرة و تأثيرها على تنفيذ التزام الأجير
يعتبر أداء العمل من أهم الالتزامات التي تقع على عاتق الأجير، وهذا ما نص عليه الفصـل 723 من ق.ل.ع([10])، وأكدته بعد ذلك المادة السادسة من مدونة الشغـل([11]). ويتجلى هذا الالتزام في جعل الأجير كل نشاطه وقدراته ومهاراته رهن إشارة رب العمل، ولا يجوز للأجير التحلل من التزامه إلا إذا كانت هناك قوة قاهرة التي تحول بينه وبين تنفيذه والتي يشترط فيها أن يكون هذا الأخير غير متوقع لها ولم تكن في استطاعته دفعها، بالإضافة آلا يكون هناك خطأ صادر منه بشأنه أن يساهم في وقوع القوة القاهرة بإرادته سواء كان ذلك عن قصد أو عن غير قصد([12])، وهذا ما أكده المشرع في الفقرة الأخيرة من الفصل 269  من ق.ل.ع والذي جاء فيه: "لا يعتبر من قبيل القوة القاهرة السبب الذي ينتج عن خطأ سابق للمدين".
ومن بين الالتزامات الواقعة على عاتق الأجير كذلك الالتزام بالمحافظة على الأشياء والوسائل المسلمة إليه من قبل المشغل، ويجب ردها بعد انتهاء الشغل المكلف به([13])، ولكن هناك ظروف قد يتعذر معها على الأجير رد تلك الأدوات كما لو تم ضياعها أو تلفها بسبب قوة قاهرة، لهذا فان  القاضي له السلطة التقديرية الواسعة من أجل التأكد من صحة ادعاءات الأجير، وإذا تبين للقاضي بالفعل أن ضياع أو تلف الأشياء المسلمة للأجير نتيجة قوة قاهرة، فإنه لا يسأل عن ضياعها ولا يترتب عن ذلك أي مسؤولية تجاهه[14]. وهذا ما كرسته المادة 22 من م.ش([15])، وهو نفس التوجه الذي تبناه المجلس الأعلى - محكمة النقض حالياْ - عندما أكد في أحد قراراته الصادرة عنه " بأن خطأ الغير لا يمكن أن يعفي من المسؤولية إلا إذا كان هذا الخطأ قوة قاهرة أو حدثا فجائيا".[16]
وقياسا على هذا الغير فإن إخلال الأجير بالتزاماته لا يعفيه من المسؤولية إلا في حالة الحادث الفجائي أو القوة القاهرة.
والقوة القاهرة تنفي العلاقة السببية بين الضرر الحاصل للمشغل وعدم التزام الأجير بأي التزام من الالتزامات الملقاة على عاتقه بما فيها احترام أجال الإخطار وتحول دون قيام المسؤولية العقدية متى توافرت شروطها، هذه الشروط كما أشرنا إليها سابقا منصوص عليها في الفصل 269 من ق.ل.ع، وهذا يفيد أن قانون الشغل بخصوص هذا الموضوع لم يستقل بذاته عن القواعد العامة للالتزامات والعقود إذ بقي مرتبطا بها من حيث شروط القوة القاهرة.
ثانيا : القوة القاهرة و تأثيرها على تنفيذ التزام المشغل
تقابل التزامات الأجير مجموعة من الواجبات التي تقع على عاتق المشغل، من أهمها أداء الأجر وتوفير الظروف المناسبة للعمل، لهذا يمنع على المشغل أن ينهي عقد الشغل بذريعة الإصلاحات التي يدخلها على المقاولة ومن شأنها إلحاق ضرر بالأجراء، وهذا ما اقره حكم صادر عن المحكمة الابتدائية بالدار البيضاء والذي جاء في ثناياه ما يلي[17]: "حيث إن رب العمل إذا كان مضطر إلى إغلاق مؤسسته من أجل القيام ببعض الإصلاحات في البناية أو غيرها فإنه لا يحق له إنهاء عقد الشغل الذي يظل معلقا أو متوقفا عن إنتاج أثره القانونية ليس إلا، وذلك إلى حين استئناف المؤسسة لنشاطها الطبيعي، وكل خروج عن هذا المبدأ يقع تحت طائلة التعسف في استعمال الحق ولا يعتبر هذا الإغلاق بمثابة قوة قاهرة ما لم تتوفر شروطها القانونية... وحيث أن قرار الإغلاق المذكور ليس نهائيا، ولكنه مؤقت، وبالتالي فهو ليس بفعل السلطة المبرر لتسريح المدعي عن عمله، كما أنه لا يتحدث عن المحلات التجارية... ونظرا لما ذكر أعلاه فلا مجال للتمسك بالقوة القاهرة...". وبمفهوم المخالفة لهذا الحكم فإذا كان قرار الإغلاق نهائي يترتب عنه إنهاء عقود الشغل وتحلل المشغل من التزاماته لوجود قوة قاهرة متمثلة في فعل السلطة.
كما يعتبر من التزامات المشغل احترام أجل الإخطار الذي يلتزم به هذا الأخير، وذلك طبقا لمقتضيات الفقرة الأولى من المادة 34 من م.ش التي جاء فيها على أنه "يمكن إنهاء عقد الشغل غير محدد المدة بإرادة المشغل شرط مراعاة الأحكام الواردة في هذا الفرع أو في الفرع الثالث بشأن أجال الإخطار".
وقد حدد المشرع المغربي في المادة 43 من م.ش الحد الأدنى لأجال الإخطار في ثمانية أيام وقد جعل هذا الالتزام من النظام العام ولا يجوز للإطراف الاتفاق على مخالفته([18])، كما يعفى المشغل من وجوب التقيد بآجال الإخطار في الحالة التي تحول بينه وبين هذا الالتزام في حالة وجود قوة قاهرة، وهذا ما أكدته المادة 43 من م.ش في فقرتها الأخيرة، وذلك متى توفرت شروطها من عدم التوقع وعدم القدرة على دفعها وألا تكون ناتجة عن خطأ المشغل.
وسواء تعلق الأمر بالأجير أو بالمشغل فإن من يدعي القوة القاهرة عليه إثباتها بكافة وسائل الإثبات التي يقررها القانــون وهذا ما سنتطرق إليه في الفقرة الموالية من هذا المطلب
الفقرة الثانية: إثبات القوة القاهرة في مجال تنفيذ عقود الشغل
    إن القاعدة العامة في مجال الالتزام أن البينة على من ادعى و اليمين على من أنكر، بمعنى أن المشغل أو الأجير الذي يتمسك بالقوة القاهرة يقع على عاتقه إثباتها ويبقى من حق المدعى عليه إثبات العكس هذا الادعاء بالحجة أيضا.
    وفي مجال مدونة الشغل، فإن المشغل يحق له إقامة دعوى أمام القضاء يتم على ضوئها بمطالبة الأجير بتنفيذ التزامه انطلاقا من وجود عقد عمل يربطه به، ومن تم يحق للأجير الذي تعذر عليه تنفيذ التزامه بسبب قوة قاهرة أو حادث فجائي إثبات ذلك بمختلف وسائل الإثبات من أجل التحلل من التزامه وأيضا حتى يدفع بعدم تحمله المسؤولية العقدية، وما ينطبق على الأجير ينطبق على المشغل في حالة تمسكه بالقوة القاهرة ووضع حد للعلاقة الشغلية وعدم تحمله مسؤولية أداء التعويضات للأجراء طبقا للفقرة الثانية من المادة 33 من م.ش([19])، وكذلك يتحلل من أجل الإخطار المنصوص عليه في الفقرة الأخيرة من المادة 43 من م.ش([20]).
   وقد أشار الفصل 269 من ق.ل.ع إلى بعض الحالات التي تدخل في إطار القوة القاهرة، وبالتالي فإن مجرد إثبات الطرف المحتج بالقوة القاهرة يفرض على القاضي الإقرار بثبوتها ويترتب عنها آثارها.
    وبالتالي فإن الأجير أو المشغل خول له المشرع المغربي إمكانية إثبات واقعة القوة القاهرة بمختلف وسائل الإثبات التي يقرها القانون(- إقرار الخصم - شهادة الشهود-اليمين...) في الفصل 404 من ق.ل.ع، وفي الأخير فإن مسألة تقديرها تبقى من اختصاص القاضي في إطار سلطته التقديرية.
خاتمة :
    لقد حاولت قدر المستطاع في هذا الموضوع، تسليط الضوء على جميع الاشكالات المتعلقة بالقوة القاهرة في مجال تنفيذ عقود الشغل، وبالتالي فإن المشرع لم يتوفق في معالجة القوة القاهرة في المادة الشغلية كما هو الأمر بالنسبة للقانون الالتزامات والعقود المغربي، وإنما أشار إليها فقط في نصوص متناثرة تقر من خلالها إعفاء أحد الطرفي العلاقة الشغلية من التزاماته الواقعة على عاتقه متى تبث حصول قوة قاهرة حالت بينه وبين تنفيذ التزامه، وبالتالي اعفاءه من المسؤولية العقدية و تحلله من مختلف التزاماته الواقعة على عاتقه، وفي الأخير لا يسعني إلا تقديم بعض الاقتراحات في هذا الموضوع هي:
    - تحديد شروط القوة القاهرة في مدونة الشغل بمقتضى نصوص خاصة. 
    - سد الفراغ التشريعي في مدونة الشغل ليصبح هذا الأخير مستقل بذاته دون الحاجة إلى الرجوع إلى القواعد العامة في قانون الالتزامات والعقود.
    - تحديد بعض حالات القوة القاهرة في المادة الشغلية على سبيل المثال.



[1] - محمد الكشبور، نظام التعاقد ونظريتا القوة القاهرة والظروف الطارئة، دراسة مقارنة بالمغرب وفي حرب الخليج، مطبعة النجاح الجديدة، الطبعة الأولى، 1413-1993، ص: 25.
[2] - يتعين تفسير عبارة " ما التزم به " تفسيرا موسعا وعدم حصرها في الالتزام العقدي، فكما هو معلوم أن مصادر الالتزام متعددة ومتنوعة ومن بينها العمل غير مشروع أو ما يسمى أيضا بالمسؤولية التقصيرية، إذ إنها تقوم بشكل عام على التزام سابق هو الالتزام بعدم الإضرار بالغير.
[3] - حكم صادر عن المحكمة الابتدائية بالدار البيضاء، بتاريخ 25 نونبر 1987(دون ذكر باقي البيانات)، أشارت إليه :
= - دنيا مباركة، حقوق العامل بعد إنهاء عقد الشغل بين التشريع الحالي والقانون رقم 56.99 المتعلق بمدونة الشغل، المطبعة دار النشر الجسور، وجدة، طبعة 2004، ص: 47.
[4] - إدريس فجر، القوة القاهرة وانتهاء عقد الشغل، مجلة المرافعة، ندوة قانون الشغل والتنمية الاقتصادية والاجتماعية، العدد 2، 3 ماي 1993، ص: 241.
[5] - عبد الحق صافي، القانون المدني الجزء الأول، المصدر الإرادي لالتزامات العقد الكتاب الثاني، آثار العقد، الطبعة الثانية 1428-2001، ص: 212.
[6]- محمد الكشبور، إنهاء عقد الشغل مع تحليل مفصل لأحكام الفصل التعسفي للأجير، دون ذكر المطبعة، طبعة 2008، ص: 19

[7] - محمد احداف، توقف غقد الشغل لأسباب اقتصادية في التشريع المغربي، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا في القانون الخاص، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، جامعة محمد الخامس بالرباط، السنة الجامعية 1993-1994، ص: 06-07
[8] - محمد كشبور، م.س، ص: 38
[9] - محمد سعيد بناني، قانون الشغل بالمغرب في ضوء مدونة الشغل الفردية، الجزء الثاني، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، السنة 2007، ص: 708-709
[10] -  ينص الفصل 723 من قانون الالتزامات والعقود على أن : "إجارة الخدمة أو العمل، عقد يلتزم بمقتضاه احد طرفيه بأن يقدم للأخر خدماته الشخصية لأجل محدد أو من أجل أداء عمل معين، في نظير اجر يلتزم هذا الأخر بدفعه له...".
[11] -  المادة 6 من مدونة الشغل التي جاء فيها: "يعد أجيرا كل شخص التزم ببذل نشاطه المهني تحت تبعية مشغل واحد أو عدة مشغلين، لقاء أجر أي كان نوعه، وطريقة أدائه...".
[12] -  إدريس فجر، مرجع سابق، ص : 241-242.
[13] -  تنص الفقرة الثالثة من المادة 22 من م.ش على أنه: " لا يسأل الأجير، إذا كان التلف أو الضياع ناتجين عن حادث فجائي أو قوة قاهرة."
[14] -  طبيعة المسؤولية المقصود منها أعلاه هي المسؤولية العقدية التي تترتب على عدم تنفيذ الالتزام الناشئ عن العقد على الوجه المتفق عليه طبقا للفصل 263 من ق.ل.ع.
[15] -  تنص الفقرة الثالثة من المادة 22 من م.ش على انه" لا يسأل الأجير إذا كان التلف أو الضياع ناتجين عن حادث فجائي و قوة قاهرة".
[16] قرار صادر عن المجلس الأعلى، عدد 147، بتاريخ 26/03/1969، (عدم ذكر باقي البيانات)، أشار إليه: محمد بفقير، قانون الالتزامات والعقود والعمل القضائي المغربي)، دون ذكر دار النشر، الطبعة الثانية 2010، ص: 168
[17] - حكم صادر عن المحكمة الابتدائية بالدار البيضاء، بتاريخ 17.02.88،في ملف رقم 2381\86، أشار إليه : ادريس فجر، م.س، ص: 243
[18] -  يمكن الاتفاق على مخالفة اجل الإخطار بالزيادة فيه فقط، حسب مفهوم المخالفة للفقرة الرابعة من المادة 43 من م.ش
[19]- تنص الفقرة الثانية من المادة 33 من م.ش على أنه :"يستوجب قيام أحد الطرفين بإنهاء عقد الشغل المحدد المدة، فبل حلول اجله، تعويضا للطرف الآخر، ما لم يكن الإنهاء مبررا، بصدور خطإ جسيم عن الطرف الآخر، أو ناشئا عن قوة قاهرة."
[20] - تنص الفقرة الأخيرة من المادة 43 من م.ش على أنه : " يعفى المشغل والأجير من وجوب التقيد بأجل الإخطار، في حالة القوة القاهرة."