القرار العمومي الترابي بالمغرب - سليم القياس





القرار العمومي الترابي بالمغرب

سليم القياس

باحث في القانون العام والعلوم السياسية


The general territorial decision in Morocco

Salim ELKIYASS

 


ملخص:

إن الرهان على التدبير الترابي وتحقيق التنمية المحلية من خلال سياسات عمومية ترابية تتموقع حول صنع القرار التي تعد محور كل سياسة.

فالقرار الترابي يقصد به مجموع أفعال وردود أفعال الفاعلين المحليين المشاركين أو المؤثرين في صناعته لتحويل مشاكل المجتمع إلى سياسة عمومية ترابية بعد اتخاذها العديد من المساطر الإجرائية و القانونية، ومن أهم محتويات أنماط التدبير العمومي الحديثة، نهج آلية للإشراك في مسيرة صناعة القرار العمومي الترابي ووضع القطيعة مع الاحتكارية، حيث أن دور الجماعات الترابية كوحدات منتخبة من قبل ساكنة محلية لا يكفيها الاعتراف لها من قبل المشرع بجملة من الاختصاصات والصلاحيات بقدر ما هي بحاجة إلى تحرر أكثر من التدخل المركزي للنظر في قضايا وشؤون ساكنتها بحرية أكبر لخلق قرار أنجع.

الكلمات المفتاحية: القرار العمومي الترابي، القضايا المحلية، البرامج التنموية.


Abstract :

 The bet on territorial management and achieving local développements through territorial public policies is centered around decision-making, which is the focus of every Policy.

 The territorial decision means the sum of the actions and reactions of local actors participating or influencing its making to transform the problems of society into a territorial public policy after taking many procedural and legal measures. One of the most important contents of modern public management patterns is the adoption of a mechanism for participation in the process of territorial public decision-making and the break with monopoly, as the role of territorial groups as units elected by local residents is not enough for them to be recognized by the legislator with a set of specializations and powers as much as they need to be more free from central intervention to consider the issues and affairs of their residents with greater freedom to create a more effective decision.

Keywords: territorial public decision, local issues, development programs.


مقدمة:

إن التحولات والتطورات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية عامة، التي ميزت أواخر القرن الماضي والفترة الحالية، لعبت دورا كبيرا في خلق مستجدات وتغيرات شبه جذرية داخل جل المجتمعات المكونة للدول المتقدمة وكذا السائرة في طور النمو، مما أدى إلى ظهور تجديد على محتوى دور الهيئات المقررة داخل الدولة وأجهزة مركزية وأخرى لامركزية في صناعة القرار العمومي الترابي. إن تحقيق التنمية المحلية من خلال سياسات عمومية ترابية فعالة تقتضي عملية صنع القرار التي تعد محور كل سياسة، 

وفي هذا الصدد يمكـــــــــــن تعريف القرار بأنه الصيــــــرورة المترابطة من الأفــــــعال وردود الأفعال الراميـــــــة إلى تحديد وتصريف سياســـــــة عامة معينة سواء أكانت قطاعية أو وطنيــــــــة إنه اختــــــيار واعي يتخذه الفاعل فردا أو مجموعة من بين العــــــديد من الاختيارات التي تعــــــرض أمامــــه بشكــــل علني وتهدف إلى حل مشكلة ظهـــرت أثناء المناقشة. 

أما القرار العمومي الترابي هو حديث عن تلك المساحة من الحرية والاستقلالية المتروكة لاتخاذه في بعده اللامركزي، وإن كانت العلاقة بين المركز والمحيط تظل رهينة بطبيعة النسق السياسي العام والسائد،  وتمثلات المركزي المحلي الذي يختزله في علاقة تبعية وخضوع، وإن كانت الدولة تستمد من مجالها الترابي كشرط وجودها وعنصر التأسيس لها من خلال ممارسة سلطاتها السياسية ، لأن مفهوم التراب الذي أضحى يأخذ بعدا سياسيا وإداريا يوحي بفكرة السيطرة والتدبير لجزء من المجال من قبل قوة تستنبط سلطتها ومشروعيتها من مراقبة المجال .

 بالتالي فإقرار النظام اللامركزي في بعده الترابي كان الهدف منه إحداث نموذج اللامركزية الترابية من أجل تحقيق التنمية وتدبير الموارد ومحاولة خلق الموازنة بين المتاح  واللامتاح من الإمكانيات والموارد لتجاوز المفهوم التقليدي للبعد المحلي / الترابي وإتاحة المجال للمنتخب المحلي لبلورة القرار من جهة ومن جهة أخرى إعطاء نفس جديد لتحليل النسق المحلي والتمكن من تبيان أهميته في بلورة السياسات، وإن كان المغرب في جذوره دولة مركزية بالأساس غير أنه تم التوجه للاهتمام بالمحلي وبفعاليته وقراراته، إذ أن الحقل الترابي قد تكرس كمجال طبيعي للحكم والإدارة على أساس أنه امتداد للدولة يمكن أن يشكل نتاجا لتركيب جديد للسلطة وتحميل المسؤولية للفاعلين المحليين . 

والسؤال الذي يفرض نفسه: 

إلى أي حد استطاع المجال الترابي فرض ذاته من خلال المنتخبين المحليين لبلورة القرار العمومي الترابي يتماشى مع السياسات العامة للدولة؟

وللإجابة عن الإشكالية سنحاول تحليل معالمها من خلال، دور الفاعل السياسي في اتخاذ القرار العمومي الترابي (المحور الأول) وتأثير المستويات الإدارية على القرار العمومي الترابي (المحور الثاني).  

المحور الأول: دور الفاعل السياسي في اتخاذ القرار العمومي الترابي

لمعالجة ثنايا المحور سنعمل على تفكيك الموضوع من خلال محددات طبيعة القرار العمومي في (الفرع الأول) وتأثير الفاعل السياسي في اتخاذ القرار العمومي الترابي (الفرع الثاني).

الفرع الأول: محددات طبيعة القرار العمومي

لابد من الوقوف على مفهوم القرار العمومي باعتباره مكون أساسي لمعرفة مجموعة من المضامين وتجليات القرار من خلال (الفقرة الأولى) والسير على النهج والمعرفة مقاربات صناعة القرار العمومي (الفقرة الثانية) والوقوف على ميزة القرار العمومي الترابي (الفقرة الثالثة). 

الفقرة الأولى: مفهوم القرار العمومي

يقول المؤرخ اليوناني "توسيدوس" من الخطأ استعمال الكلمات من دون تحديد مفاهيمها، فغالبا ما يؤدي إهمال تحديد المفاهيم إلى أن نمتدح الطاعة العمياء كأنها تحقيق الديمقراطية .

إن التحديد المفاهيمي لماهية القرار العام تفرض علينا الوقوف على مجموعة من المصطلحات المركزية التي لها علاقة وطيدة بمفهوم القرار العام في إطاره النظري وفي علاقته بالمرجعيات / الفاعلين والرهانات.

يبدو من الصعب، وللوهلة الأولى الإحاطة بتعريف محدد ودقيق لمفهوم القرار العام نظرا لحداثة الاستعمال المصطلحي لهذا المفهوم في مختلف الأدبيات الأكاديمية وخاصة منها المهتمة بعلم السياسة العامة وبالنظر إلى تعقد وتشابك خيوط الدوائر المتحكمة في صياغة القرار من خلال رصد التحديات التي أصبحت تواجه الدولة النشيطة الحديثة .

  تتحد الخصائص التي وضعها Jamous   للقرار في : 

عام: بمعنى أنه يوجد للمصلحة العامة (القرار) ولا يخص فئة دون أخرى،

سياسي: بمعنى أنه لا يتخذ من طرف الخواص بل يتخذ من طرف السلطات العامة وهو ما يعطيه هذه الصيغة.

سلطوي: بمعنى أنه يفرض سلطة الإكراه الشرعي الذي تمتلكه السلطة العامة وبالتالي فهو يفرض باسم المصلحة العامة ومشروعية السلطة التي استقلها بطرقة ديمقراطية. 

وبناء على ذلك فكل ما يخرج عن هذه القاعدة لا يعتبر قرارا عاما، فالقرارات التي تتخذ على مستوى المقاولات والمؤسسات الخاصة أو داحل مؤسسات ذات طبيعة خاصة خارجة عن المؤسسات العمومية: الأحزاب، الجمعيات، النقابات لا يمكن اعتبارها قرارات عامة.

يمكن تحديد مفهوم القرار من خلال تعريف LUCIEN SEFEZ 

« La décision est un enchainement au processus non susceptible de fractionnement qu’il n’a pas d’acte de création puisque la création et continue   ».

وفي هذا الإطار سنحاول تفكيك مفهوم القرار العمومي من خلال محددين:

أولا: المحدد المعياري 

يقوم مصطلح القرار إلى معنى الاختيار الذي يؤدي إلى فعل معين فهو عملية حاسمة في إنتاج هذا الفعل والسيرورة التي يتم من خلالها اعتماد هذا الخيار فيما يصطلح عليه بعملية صناعة القرار أي تبني الفاعل السياسي لسياسة معينة في مجال ما من خلال مجموعة من القرارات التي تشكل عملية اختيار بين بدائل متعددة، يعتقد من خلالها الفاعل السياسي أنها الأفضل لتحقيق نتاج مرغوبة في مجال اجتماعي معين.

انطلاقا من هذا المحدد يقدم (بيرتراند بادي) تعريفا للقرار على أنه " اختيار واع اتخذه الفاعل فردا أو مجموعة ومن بين مجموعة من الاختيارات التي تعرض أمامه وبشكل علني، ويهدف إلى إيجاد حل لمشكلة ظهرت أثناء المناقشة " 

وما يمكن استخلاصه من هذا التعريف أن كل اختيار إن لم يكن اختيارا واعيا فإنه ليس بقرار. وهذا الاختيار الواعي لا يعالج كل المشاكل وإنما يعالج فقط تلك التي يمكن معالجتها، حسب ما تسمح به قدراته وظروف المحيط الداخلية والخارجية، فالنقص في القدرات والإمكانات المتاحة لصاحب القرار وتأثير الظروف تعطي للسياسة صفتها السلبية وذلك عندما ترفض مواجهة مشكلة أو فرصة ما، وعليه فإن القرار لا يبحث في حل المشاكل غير المطروحة فحسب وإنما يهتم بمعالجة المشاكل المطروحة على الساحة السياسية وما يتوقع منها.

ثانيا: المحدد الإجرائي

لكل قرار وعاؤه السياسي والاجتماعي والسلوكي الذي يشكل مراحل ولادته ويتدخل في تكوينه فهو لا ينفصل عن هذه المحددات الإجرائية السابقة فهو يكتسب أهميته ودلالته من خلال الإطار السياسي والاجتماعي وطبيعة سلوك النخب الساهرة على صناعته وتنفيذه.

ينطوي هذا التحديد على اعتبار القرار السياسي هو المحرك للأنظمة السياسية فمن خلاله تحيا وتستمر، وهو المنظم للعملية السياسية والاقتصادية والاجتماعية برمتها داخل الدولة .

ويشكل القرار اعتمادا على المحدد الإجرائي "طورا من الإجراءات التي تحول المشاكل إلى سياسة" ومن أجل معالجة مشكلة ما، فلابد أن تأخذ هذه المشكلة صورتها السياسية وذلك عندما يقرر اختيار حل لها من قبل هيئة سياسية، فعندما نقول إن هناك مشكلة فهذا يعني وجود صراع بين مصالح عدة مجموعات وليس بالضرورة أن يكون الصراع سياسيا وإنما يمكن أن يأخذ له أي بعد من أبعاد النشاط الإنساني داخل المجتمع والاهتمام به من قبل السلطات السياسية وتبنيه يعني الصراع أو المشكلة أخذت لها صورتها السياسية لأسباب، أولها: إن الهيئة التي تبنتها هي جزء من السلطة السياسية تملك إيديولوجية معينة وثانيهما: أن تطبيق هذا القرار يثير ردود أفعال سياسية من قبل مجموعات لها ايديولوجيتها الخاصة ومع ظهور هذه الردود تأخذ المشكلة صورتها السياسية أو تصبح مسيسة  .

وتبعا لهذين المحددين، يمكن التمييز بين ثلاث فئات في تعريف القرار:

الفئة الأولى: ترى أن جوهر القرار السياسي هو الاختيار الواعي بين مجموعة من بدائل التصرف المتاحة. فالقرار هو اختيار البدائل المتاحة في إطار السياسات العامة بما يعظم المنافع، وتعظيم المنافع هو اختيار البديل الذي تعطي نتائجه المحتملة وزنا تفضيليا انطلاقا من دالة واحدة للمنفعة أو هو عملية عقلية وموضوعية لاختيار أحد بدائل التصرف المطروحة أو الحلول البديلة والمتاحة أو نسب وسيلة متاحة فير موقف معين لتحقيق هدف أو أهداف محددة.

فالأساس هذا هو وجود البدائل، لأن وجود البدائل يخلق مشكلة يتطلب حلها اختيار أحد البدائل المطروحة، لكن تجدر الإشارة إلى أن التركيز على مرحلة اختيار البديل التي تمثل جانبا واحدا في عملية صنع القرار السياسي هي عملية معقدة وتمر بعدة مراحل، وتؤثر فيها مجموعة من العوامل والمؤثرات النفسية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية كما تتضمن مجموعة من العناصر والاعتبارات التي يتخذ القرار بناءا عليها.

ومن تم فإن إهمال وتجاهل كل هذه المراحل والمؤثرات والاعتبارات ينطوي على نظرة سطحية ويعطي مفهوما غير دقيق للقرار في السياسات العمومية.

الفئة الثانية: تنطلق من الدور الذي يضطلع به العامل القيادي في عملية صنع القرار وتزاوج بين نموذجي النحبة والسيطرة من جهة، ومدخل الإدراك من جهة أخرى لفهم طبيعة القرار وماهيته، فالقرار إما أنه يعبر عن قيم النخبة الحاكمة وتفضيلاتها، أو يركز على وجود علاقة ترابطية بين نظام المعتقدات وعملية الإدراك وعملية صنع القرار، وفي جميع الأحوال يتجلى دور القيادة السياسية من خلال ثلاثة عناصر هي القائد والفاعلية والجماعة السياسية.

الفئة الثالثة: تؤكد عنصري التنافس والتوفيق بين الآراء والمواقف والمصالح المختلفة، فالقرار هو مجموعة من الإجراءات المعقدة، تنطوي على التداول والمساومة والتفاوض للوصول إلى حلول توافقية توفر الحد الأدنى من التوافق بين اتجاهات ودوافع ومصالح متعارضة، وهو " محصلة التفاعلات الرسمية وغير الرسمية التي تتم بين الفاعلين السياسيين في إطار الإيديولوجيات والثقافة السياسية السائدة ومن خلال البنية والمؤسسات القائمة".

فالقرار السياسي وإن  صدر في نهاية المطاف عن القيادة السياسية، إلا أنه محصلة التفاعل بين مجموعة من المتغيرات في حدود المعطيات المجتمعية والدستورية وهكذا فإن جوليان فروند يشدد على أن القرار هو بالدرجة الأولى " التوفيق بين إرادات غالبا ما تكون متنافرة، لأن مصالح مختلف الكتل  والتجمعات كثيرا ما تكون متناقضة، والخيارات السياسية غالبا ما تظهر بصورة تسويات أو حلول وسطية" والقرار السياسي بالنسبة ل جان وليام لابيير هو" استجابة في مرحلة معينة للمطالب التي توجه إلى النظام السياسي ومحصلة تنافس وترتيب هذه المطالب مع بقية مدخلات هذا النظام ."

الفقرة الثانية: مقاربات صناعة القرار العمومي 

للإحاطة بالإطار النظري المحدد لماهية القرار يمكن رصد أهم المقاربات التي تناولت موضوع صناعة القرار في علاقته باختيارات الفاعلين (مقاربة جيمس اندرسون من خلال نظريتي الاتجاه العقلاني ثم الوسائلي) أو من خلال دراسة الظاهرة القرارية في علاقتها بالمرجعيات (مقاربة بيير موليير).

إن اختيارنا لهاتين المقاربتين فرضته ضرورة منهجية علمية، فإذا كان مفهوم السياسات العمة ومن ثم القرار العام يعود في أصله إلى المدرسة الأنجلوساكسوني حيث الارتباط الوثيق بين مفهومي الحكومة والقرار العام، فإن المقترب الفرنسي سيعرف هو الآخر تطورا إلى درجة يصعب معها التمييز بين السياسة كنشاط عام والسياسة كبرنامج عمل.

أولا: نظريات صناعة القرار مقاربة الأنجلوساكسوني

يقدم جيمس أندرسون هذه النظرية من خلال التطرق إلى ست نقاط أساسية:

1) إن صاحب القرار حينما يواجه المشكلة يصعب فصلها من بين عدة مشاكل وما يميز هذه المشكلة هي أنها تمتلك معنا معينا بالمقارنة بالمشاكل الأخرى.

2) لابد من ترتيب الأهداف والقيم التي تقود صاحب القرار حسب أهميتها.

3) يجب فحص الاختيارات المتعلقة بالمشكلة التي سوف يتم التعامل معها بشكل مسبق.

4) يجب البحث أيضا عن نتائج كل اختيار من زاوية التكلفة والربح والفائدة.

5) يجب مقارنة النتائج المتوقعة لكل اختيار مع غيره من الاختيارات.

6) يختار صاحب القرار من بين هذه الاختيارات ما يمكن أن يحقق لأهدافه الحد الأقصى من القيم والأهداف كمقاربة .

لذلك سنعمل على تحليل النظرية العقلانية والنظرية الوسائلية ل جيمس اندرسون

1_ النظرية العقلانية الشاملة:

فالنظريات التي تقول بأن القرار يخضع لعقلانية مطلقة والتي كانت مرتبطة بالعلوم الاقتصادية اعتبرت القرار مجموعة عمليات متسلسلة تخضع لحسابات رياضية كما أنها تعبر عن اختيارات إرادية للفاعل الذي يتخذ قرارا معينا (وزير، ديوان وزارة، مدير معين ...) فالشرط الأساسي الذي يجب أن يتوفر في هذا الفاعل هو: 

الذكاء. 

مقاييس ومعايير معينة للاختيار.

وتوفر هذه المعايير والتي تساعد الفاعل على تحديد التكلفة والربح، وكأن هذا الفاعل مستقل عن أي تأثير خارجي ويبدو أنه حر عن تدخل أي عامل.

غير أن هذه النظرية لم تسلم من توجيه مجموعة من الانتقادات من طرف كل من "ميشال كرايزي وايهارد فريدورغ" فهما يعتبران أن هذه النظرية غير علمية.

أولا: لأن المشاكل التي تواجه صاحب القرار ليست مستقلة دائما وإنما تكون في كثير من الأحيان متداخلة وهذا التداخل يجعل من الصعب على المرء أن يفصل بعضها عن البعض الآخر بشكل موضوعي وبالخصوص في المجال السياسي حيث تكون كل العوامل متداخلة

ثانيا: بسبب هذا التداخل فإن اختمال اختيار معين بعد الحصول على جميع المعلومات ستكون عملية غير واقعية إلا إذا بحثت كل النتائج المحتملة والمتداخلة وهذا لا يمكن إنجازه في بعض القضايا التي تستوجب النظر إليها بشكل مستعجل ويعود السبب لضيق الوقت وعدم القدرة على الحصول على جميع المعلومات في فترة معينة محددة، خصوصا أن التعامل مع هذه القضايا هو تعامل مع الزمن الحاضر والمستقبل لا يضمن استمرارية هذا الحاضر على شكله الخالي بكل قيمه وأهدافه.

ثالثا: إذا أغفل المرء المستقل في التعامل الحالي فإن ذلك سيقودنا إلى صراع القيم والذي لن يتحدد على مستوى القيم وإنما أيضا على مستوى الاختيار الذي سوف ينبني على قيمة معينة.

2 _النظرية الوسائلية:

يحدد جيمس اندرسون هذه النظرية من خلال رصد مجموعة من عناصر من أهمها:

_ يجب البحث عن اختيار الأهداف والغايات وبشكل متداخل مع التحليل التجريبي للعمل بالشكل الذي يمكن إعداد القرار دون البحث المفصل عن ذلك.

_ تعامل صاحب القرار مع مشكلة معينة يكون من خلال اختيار واحد فقط والاختلاف هنا يكون فقط على مستوى الوسائل.

_ ليس هناك قرار واحد أو حل جيد لمشكلة ما، فالاختيار يكون بين مجموعة مختلفة من الحلول التي تبين القرار المناسب وبدون تحديد مسبق، فالهدف من وراء ذلك هو تلاءم القرار مع الحل.

_ الهدف من صناعة القرار، حسب هذه النظرية هو علاجي بشكل أساسي من خلال تحسين الوضع الحاضر وتحقيق تكامل اجتماعي متبلور بدلا من تحقيق تطور ذي أهداف اجتماعية مستقبلية.

ثانيا: المرجعيات المحددة للنشاط العمومي مقاربة فرنكوفونية

لقد حاول "بيير موليير" من خلال دراسته للسياسات العامة تحديد مفهوم القرار في علاقته بالمرجعية المحددة للسيرورة القرارية عبر التمييز بين المرجعية الكلية أو العامة والمرجعية القطاعية للسياسات العامة كمحاولة لاستيعاب الوسط القراري وتحديد كيفية اشتغاله انطلاقا من العلاقة التراتبية لنظام القرار.

1_ المرجعية الكلية للقرار العام 

بالعودة إلى الباحث "فيليب برو" يمكن القول بأن مرجعية سياسة عامة تكمن في المقام الأول في مجموع الإدراكات والمعايير والقيم التي ستبنى على أساسها القضية، التي ينبغي معالجتها وتحدد أطر العمل الذي يمكن النظر له، وليس هناك معارف شاملة حول معطيات مسألة ما غير تلك التي تقرر السلطات العامة التصدي لها .

من جهة أخرى فإن مرجعية القرارات العامة هي العــــــلاقة التي تبنى في التمثلات الفكريـــــــة بين قــــــطاع يمكن التعرف عليه ( مثلا التعليم، التشغــــــــيل، تأهيل الشباب) والمجتمع الشامل المغـــــــــرب كله، منطقة المغرب العربي، إفريقيا، العالم، فالسياسات العامة هي دائما قطاعية لكن عدم تطابق هذا القطاع مع بيئته: أي مع القطاعات الأخرى المستقلة عن المجتمع الشامل فسياسة إدماج الفئات المتضررة داخل المجتمع كالأشخاص المعاقين مثلا تفترض قيام الدوائر المسؤولة بالتعرف في آن واحد على هذه الفئة كمجموعة وعلى تحديد الإدماج كمهمة نوعية خاصة، لكن هذه السياسة لا يمكن التفكير بها إلا في علاقتها مع ما يجري في قطاعات أخرى .

2_ السياسات القطاعية ورهان المرجعية

ما دامت مرجعية السياسات القطاعية هي الفعل الأساسي للسياسات العامة فإن عملية اتخاذ القرار على هذا المستوى تبدو صعبة وجد معقدة حيث تخضع لموازنة بين الربح السياسي والقيمة الاقتصادية، هذه المرجعية المعقدة هي ما يصطلح عليها ب " تعدد الاختيارات، أي الاختيار بين الإكراهات غير المتجانسة".

لقد أبانت التجربة الفرنسية، عن تصور ملموس حيث أن المفاوضات البيوزارية لعبت دورا كبيرا في تكثيف القالب المرجعي بإدماج الإكراهات ذات الطبيعة المختلفة وهو ما يفسر الطبيعة التجديدية لهذه المفاوضات وبالتالي فإن القالب المرجعي يسمح بالترتيب التسلسلي لمختلف الإكراهات و الخروج من متاهة تعدد الاختيارات، أكثر من هذا فإن القالب المرجعي المعياري الذي يتكون انطلاقا من الوسط البيوزاري يسمح في إطار الحدود الممكنة بتقليص تشعب الاختيارات و تضخمها ويضمن في المقابل قبول القرار عن طريق التعرف على ردود الفعل سواء في صفوف المعارضة أو الرأي العام .

الفقرة الثالثة: القرار العمومي الترابي

إن القرارات الترابية بكونها جزء من اللامركزية ونظام يقتضي التنازل عن جزء من اختصاصات الدولة وتسليمها إلى أجهزة محلية منتخبة، يشكلون مجلسا محليا يتولون نيابة عن الناس تدبير شؤونهم ومتطلباتهم وقضاياهم وتحقيق وسائل التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في حدود المتاح من الموارد وفي تناغم مع السياسة العامة للدولة. 

إن العديد من فقهاء القانون الإداري والدستوري يعتمدون على القاعدة الجغرافية لإعطاء صفة اللامركزية عن طريق إحداث جماعات محلية تتحدد اختصاصاتها داخل الإطار الترابي، وأكيد أن وجود هذه الجماعات كيفما كانت التسمية التي تطلق عليها (جهات، إقليم أو مقاطعة...) يكاد يكون على الدوام ضروريا في كل البلدان، من أجل تنفيذ القوانين، وتحقيق المصالح العمومية .

 هذه الأهداف المعلنة إنما هي تعبير عن انزياح إيديولوجي يخفي في عمقه، الوظائف الثابتة للدولة: مراقبة المجال والديناميات المحلية والتحكم في المجتمع، ومن ثم إعادة إنتاج علاقات القوة السائدة وضمان ديمومة السلطان المركزي. إن علاقة الدولة بالمحلي علاقة تلازمية جدلية تجد أساسها غي البنية التحتية للمجتمع من خلال الارتباط الترابي والمجالي والإنتاجي الاقتصادي والبشري والاجتماعي، كما أن الإرادة المحلية أصبحت تقليدا راسخا في الدول التي تتبع النظام اللامركزي في تدبير شؤون أقاليمها حيث أن الركائز التي تقوم عليها هي واحدة مع بعض الاختلافات البسيطة، وتتجلى في وجود قضايا محلية وإدارة هذه القضايا من قبل هيآت محلية وممارسة الوصاية الإدارية من قبل السلطة المركزية:

أولا: وجود قضايا محلية 

يعتبر هذا الركن نقطة الانطلاق في إرساء هياكل اللامركزية المحلية، وإن كان هناك اختلاف في طريقة تحديد اختصاصاتها عن طريق عدة أساليب، فهناك أسلوب يعتمد على سبيل الحصر من طرف المشرع ( الطريقة الأنجلوساكسونية)، أما الثانية فيتعلق بتحديد القضايا المحلية الترابية بصفة عامة ( الأسلوب اللاتيني)، لكن المشكل يثور بالنسبة لوضع معيار يفرق بين المرافق المحلية فمنها ما يعتبر وطنيا من بعض الوجوه ومحليا من أخرى كالشرطة والدفاع والقضاء، فطبيعتها لا تقبل هذه الخضوع على عكس مرافق أخرى ذات صبغة تجارية أو صناعية تقبل هذا النظام.

ثانيا: إدارة القضايا المحلية بواسطة هيئات محلية منتخبة

إن من الأركان الرئيسية التي تقوم عليها اللامركزية هو تسيير الشؤون المحلية بواسطة منتخبين يتم اختيارهم وتشكيل هيئاتهم عن طريق الانتخابات الذي يعتبر أساسيا وضروريا لقيام اللامركزية، فأسلوب الانتخاب له فوائد ومزايا تتجلى في تدعيم استقلال الهيئات المحلية وإحساس السكان بأن تلك الممارسة أسلوب ديمقراطي، وإن كان يؤخذ على هذه الطريقة أنها غير سليمة خاصة في دول العالم الثالث.

ثالثا: ممارسة سلطة المراقبة على الهيئات المحلية

الهيئات المحلية ليست دولا مستقلة داخل الدولة، وإنما تخضع لرقابة السلطة المركزية حماية للمصلحة العامة ومنعا لخروج هذه الهيئات عن الأهداف المرسومة، فاللامركزية تعمل على الاحتفاظ بالوحدة رغم تعدد السلطات الإدارية، لذا فإن الوصاية تهدف إلى تحقيق غرضين أولهما إداري يكفل ضمان حسن سير إدارة المرافق التابعة للأشخاص اللامركزية وسلامة قدرتها الانتخابية، وثانيهما سياسي وهو صيانة وحدة الدولة السياسية وضمان وحدة الاتجاه الإداري، ذلك أن نجاح أي نظام داري رهين بنجاحه في الرفع من مستوى الخدمات والمتطلبات بأقل كلفة ممكنة.

وفي نظرنا تعتبر اللامركزية ضرورة سياسية وإدارية كضرورة ديمقراطية تحقق مساهمة السكان المحليين في تدبير شؤونهم المحلية في تدبير شؤونهم المحلية وتبقى بذلك مقدمة هامة في شؤون الدولة كلها.

كما يمكن النظر إليها في الدول الديمقراطية على أنها مدرسة عامة للناخبين والمنتخبين لأنها تساعد على تربيتهم تربية سياسية صالحة وتمد البرلمانات بهيآت لها دراية وخبرة سياسية.

وفي نظرنا أيضا الواجب على كل بلد ديمقراطي أن يتخذوا من اللامركزية وسيلة للتعود الساكنة على تولي أمورهم بأنفسهم وأن يساهموا في اتخاذ القرارات الهادفة للتنمية المحلية، كما أن اللامركزية هي العلاج لعيوب ظاهرة تجمع قدرا كبيرا من السلطات في يد واحدة.

وانطلاقا من هذا التوجيه يجعل إدارة المرافق العامة مطابقة لحاجيات الأفراد الذين تهمهم لأن الهيئة التي ينتخب أعضاؤها محليا تكون أدرى من غيرها بالحاجيات المحلية بطريقة تحقق رغبات السكان، وفيما يخص توزيع الضرائب فإن اللامركزية تؤدي إلى نوع من العدالة، بحيث تستفيد كل جماعة محلية من مداخيل الضرائب المحصلة في دائرتها وتنفقها فيما يعود عليها بالنفع.

يمكن القول بأن النظام اللامركزية يكتسي قيمة ديمقراطية لأنه يمثل مشاركة السكان في تسيير الخدمات العامة وتحدد القرارات انطلاقا من الحاجيات ومتطلبات الساكنة المحلية لتحقيق نوع من التوازن الاجتماعي والاقتصادي والبيئي المحلي.   

الفرع الثاني: تأثير الفاعل السياسي في اتخاذ القرار العمومي الترابي

سنحاول معالجة هذا الفرع من خلال سيرورة التنخيب الحزبي (الفقرة الأولى) وتعزيز مكانة النخب الجهوية في دورة القرار العمومي الترابي (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى: سيرورة النخبة الحزبية

من العبث أن يتغنى حزب بالديمقراطية، إذا لم يكن يمارسها في حياته الداخلية، فلا يمكن أن ينمو الحزب ويتزايد نفوذه بين الجماهير إلا إذا كان يسمح بتعدد الآراء والاتجاهات في داخله، فمثل هذا الخلاف في الرأي وتعدد المشارب أبعد عن الإضرار بالحزب، وفي نظرنا فهو الأسلوب الأصح لإنضاج الفكر السياسي الحزبي وتطوير برامجه، فإذا بحثنا في مسألة الديمقراطية بالمغرب نجدها ديمقراطية النخبة  وليست ديمقراطية المجتمع باعتبار أن لهذه النخبة أهداف و راء الديمقراطية التي تحاول الوصول إليها بطرقها الخاصة ، والتي ستمكنها من الانخراط في الحياة السياسية والمساهمة في الحياة العامة مع ما يحققه ذلك من مزايا معنوية و رمزية، ومن فوائد مادية وسلطوية  

يمكن القول أيضا أن غياب الديمقراطية الداخلية للأحزاب السياسية تؤدي في نهاية المطاف إلى انشقاقات وزعزعة أسس الأحزاب، والتاريخ السياسي المغربي حافل بمثل هذه السلوكات، التي تسيئ في نهاية الأمر بفقدان المواطن ثقته بمؤسساته الحزبية التي من المفترض أن تكون لها قدوة في السلوك السياسي القوي باعتبارها مؤسسة لتأطير وتمثيل المواطنين .

فالنزاعات التي تظهر بين الأعضاء القياديين للأحزاب نادرا ما تكون وراءه اختلافات أيديولوجية أو سياسية، إذ أنها في الغالب مجرد تنافس على الزعامة داخل الحزب، ولعل هذا ما يفسر خلاف القادة داخل حزب معين غالبا ما يؤدي إلى حركات انشقاقية وظهور أحزاب جديدة ويصبح الحزب المنشق بالأمس قريب من غريمه السياسي واضعا يده في يده لتقديم دليل حيوي على أن السياسة لا تعرف أعداء دائمين و لا أصحاب خالدين ، الشيء الذي يجعل من التحالفات وغيرها مجرد ارتباطات هشة وحقائب وزارية أو مقاعد برلمانية أو تحملات لمسؤوليات بعض المكاتب الوطنية والمندوبيات السامية، فالحزب في الحياة السياسية المغربية يهدف أساسا إلى الاستيلاء على الوظائف أو على الأقل المشاركة في ممارستها فهذه الاستفادة من كعكعة السلطة يظل الأساس المركزي لرهانات الفعل الحزبي بالمغرب. 

إن النصوص التنظيمية لأي حزب سياسي بالمغرب لا تخضع كثيرا من العوائق أمام الراغبين في الصعود إلى القمة، فاللجان الإدارية والمكاتب التنفيذية مفتوحة في وجه الجميع هذا على المستوى النظري، أما الفعل والممارسة فالمرور اعتماد على القناة التنظيمية ومن غير تداخل عوامل مساعدة أخرى، لهذا لابد من الانتباه إلى أهمية عوامل أخرى يندمج فيها ما هو تقليدي وما هو حديث فالصعود الحزبي تكمن في العلاقات لأن اكتساب السلطة وانتزاع الاستقلالية يمر عبر القرب من القائد والتقري منه وعبر التفوق  والامتياز اللذان تمنحهما مخالطة دوائره الحميمية وعبر تبادل الهبات والخدمات، 

حيث أن القرب من القائد يكون بالدرج الأول في سلم الصعود ، وهناك عنصر ثان يساعد كثيرا في الارتقاء الحزبي، وهو تحديدا الرأسمال السياسي للشخص فغالبية المنتمين للأحزاب يحوزون رأسمالا سياسيا معينا راكموه أو ورثوه من أبنائهم أو عائلاتهم، ويتجسد هذا الرأسمال في تجربة السجن أو التعذيب الذي يكون قد لحق بهم أو بعائلاتهم جراء الانخراط السياسي في هذا الحزب، فشرعنة الوجود الحزبي تقوم على استثمار هذه التجارب بل إن قادة الأحزاب أنفسهم يعتمدون على ما تعرضوا له من نفي أو سجن في تبرير وترسيخ زعامتهم، عنصر ثالث يتجلى في المال والجاه والانحدار من العائلات العرقية واحتلال المناصب العليا أن يكون الشخص من مالكي الإنتاج أو ما يعرف بالنخبة الاقتصادية لكي يختار المكتب السياسي الذي يريد أن يحط الرحال، وثمة عناصر أخرى تحسم مسألة الصعود الحزبي تتصل بإتقان لغة الرفض والضرب فوق الطاولة وإعلان التذمر المستمر من مسار الذي يتخذه الحزب.

إن هذه العوامل مجتمعة تجعل الحركية الحزبية من الناحية التنظيمية قريبة من السكون والجمود ولا تقود سريعا نحو أعلى المراتب في الجسم الانتخابي الحزبي، وهو ما يعني حقيقة الاعتماد على عناصر أخرى يتداخل فيها الحديث بالتقليدي والمدني بالمخزني، والمادي بالرمزي، وصولا في النهاية إلى تحقيق الحراك السياسي وتحصيل شهادة الانتماء إلى النخبة.

وفي سياق آخر نجد أنه لا تتوفر على ضوابط لمنح التزكية للترشيح في الانتخابات، بل المعيار الوحيد هو مدى الخطوة لدى القيادة الحزبية، لا يهمها لا الماضي النضالي ولا القدرات الشخصية والعلمية ولا المؤهلات السياسية، وهذا ما ذهب إليه واتربوري وماري في وصف المرشح " أن المرشح يلتقي بالجماعة ويذبح كبشا أو ثورا ثم يقدم وجبة للأعيان والفقيه وبعد الانتهاء من الأكل تقرأ الفاتحة حيث يصبح أعضاء الجماعة ملتزمين بالتصويت لصالح المرشح الذي أطعمهم  ..."

ورسخ محمد الطوزي " تمثلات سياسة اللامركزية وإدخال السيرورات الانتخابية، بوصفها آليات تأهيل للنخب معطى مهما، فعلى امتداد أربعين سنة حفزت خيارات السياسية (منوال التصويت، تمركز الأحزاب ...) كنوع من التطابق المتناظر بين النخبة القبلية والنخبة البلدية، غير أن بعث بلديات جديدة (بتقسيم 1992) وظاهرة التحضر، وتوسيع القواعد الديمغرافية للنخب، وإضفاء الصبغة الليبرالية على النظام السياسي، كل ذلك عناصر أدت إلى تعقيد اللعبة السياسية وإلى حد من سبل إعادة إنتاجها ."  

والنخبوية الجديدة تبدأ من مقاربة لعلم الاجتماع المقارن لتحليل دور النخب في عملية إضفاء الطابع المؤسسي على النظام السياسي الديمقراطي. كما تبدأ من فرضية أنه لا يمكن تطبيق أي سياسة أو إجراء بعيدا عن مساهمة النخبة، وبالتالي أصبحت نخبة متعاونة تضمن الاستقرار السياسي والتنمية الاجتماعية، وبعبارة أخرى فإن النخبوية الجديدة تجبرنا على التفكير في الديمقراطية كنظام من القواعد التي تمنح إمكانية مشاركة المواطنين من خلال طرق مختلفة لصياغة قرارات ذات أهمية كبرى وخيارات جماعية ، وذلك انطلاقا من المكانة المتميزة للنخب من خلال تجويد قراراتهم انطلاقا من انتدابهم بشكل مباشر، تسمو فيها العلاقة بين المنتخب الطامح الى التنمية والمواطن المستفيد من التنمية.

الفقرة الثانية: تعزيز مكانة النخب الجهوية في دورة القرار العمومي الترابي

إن المكانة الجديدة التي تتمتع بها الجهة داخل النظام الترابي للدولة، تقتضي توفر نخب سياسية تساهم في إنجاح هاته التجربة، وتحسن توظيف ما حملته الإصلاحات الدستورية والقانونية من فرص مهمة، تجعل من الإطار الجهوي فضاء خصبا لإنتاج النخب السياسية وجذب النخب الأخرى التي تبتعد عن المجال السياسي كالنخب الاقتصادية والثقافية.

ومما يجعل الجهوية المتقدمة كورش محفز لإنتاج وجذب النخب السياسية، هي المتغيرات الجديدة التي من شأنها أن تعمل على عقلنة المشهد السياسي الجهوي، وبالتالي إضفاء نوع من الجدية والمسؤولية سواء على تدبيره أو على الفاعلين فيه . وتعتبر الشفافية وتحديد المسؤولية وربطها بالمحاسبة من الآليات الضرورية في التدبير العمومي، ومبادئ مهمة في المشهد السياسي،

 وقد جعلها دستور 2011 والقانون التنظيمي 111.14 المتعلق بالجهات كأحد المبادئ العامة لحسن تطبيق مبد التدبير الحر، فالمحاسبة تكون في خدمة تجويد النخب السياسية، يجب أولا تثمينها وتفعيلها على نطاقات واسعة وتواكب النخب من بداية مسارهم في المشاركة السياسية. وتنطلق المحاسبة أولا داخل الأحزاب حيث تفرض هذه الأخيرة رقابة داخلية على مرشحيها، بإعطاء التزكية لأصحاب الكفاءات والمؤهلات التي ستساهم بشكل إيجابي في تدبير الشأن العام، وبالتالي جعل التزكية أول مرحلة للمراقبة والمحاسبة للنخب ما برهنوا عليه من جدية في التعامل والتدبير داخل الحزب أولا . وبعد رقابة الحزب تأتي رقابة المواطن / الناخب حيث يعتبر تصويته في الانتخابات وسيلة ذات تأثير مباشر إما لإنتاج نخب جديدة، أو إعادة ترسيخ نفس النخب الكلاسيكية. غير أن هذه الرقابة التي يمارسها الناخب على المنتخبين مرتبطة بدرجة الوعي السياسي ومدى قدرته على التمييز بين البرامج الانتخابية والنخب الأصلح لتدبير الشأن الجهوي.

إن انسجام النخب السياسية في علاقتها مع التوجه الجديد للجهة في إطار الجهوية المتقدمة يعد من أسباب نجاح التنظيم الجهوي، ذلك أن تموقع الجهة في النظام الإداري يعتبر مسألة دقيقة، حيث أن مهام وصلاحيات وأدوار الجهات تقع بين مستويين ترابيين مختلفين، مستوى قاعدي ويضم نوعين،(الجماعات والأقاليم والعمالات) ومستوى وطني (الدولة)، وبالتالي تعد النخب السياسية الفاعل الأساسي في الحفاظ والإبقاء على الجهة في مستواها الطبيعي خاصة وأن مجال تداخلها واختصاصاتها غير محدد بشكل دقيق وحصري، مما يترك الهامش الكبير لهاته النخب في المساهمة في ارتقاء الجهة حسب مستوى قيادتها وكفاءتها.

ومن أهم المستجدات التجربة الجهوية أن مجلس الجهة صار بموجب الفصل 135 من الدستور مؤسسة منتخبة بواسطة الاقتراع المباشر ، وفي هذا تعزيز للمشروعية للممثلين الجهويين وتعزيز لاستقلالهم، لأن اكتساب صفة التمثيلية صار مرتبط مباشرة بالناخب، ولا يتوقف على جهات أخرى وترتيبات معقدة من شأنها أن تضعف المركز القانوني والسياسي للممثل . وقد واكب هذا المستجد، تقدم في جوانب أخرى من المؤسسة، نبسطها على النحو التالي: 

_ تقوية مكانة رئيس المجلس الجهوي: كان عامل العمالة أو الإقليم مركز الجهة هو السلطة التنفيذية للجهة والآمر بالصرف (المادة 55 من قانون 46.97)، وممثل الجهة لدى المحاكم (المادة 50)، وهو الذي يحضر مشروع الميزانية (المادة 67)، في المقابل كان رئيس الجهة لا يتمتع سوى بسلطات شرفية هذه الترتيبات التي كانت تهمش رئيس الجهة المنتخب تم التخلي عنها، حيث أصبح هو السلطة التنفيذية، والآمر بقبض مداخيل الجهة وصرف نفقاتها، وممثلها في جميع أعمال الحياة المدنية والإدارية والقضائية ويسهر على مصالحها (المادة 101)، ويمارس بها السلطة التنظيمية (المادة 10)، ويسير مصالحها الإدارية والرئيس التسلسلي للعاملين بها ويتولى التعيين في جميع المناصب بإدارة الجهة (103)،وإعداد برامج التنمية الجهوية والتصميم الجهوي لإعداد التراب، إعداد الميزانية وقلب الوضعية على هذا النحو فيه تعزيز لمكانة المنتخب على حساب ممثل المركز، وكذلك توسيع لهامش حرية تدبير الفاعلين المنتخبين.

_ تمتيع الجهة بإدارة ووكالة لتنفيذ المشاريع: لقد أصبحت الجهة تتمتع بإدارة يحدد وتنظيمها واختصاصاتها بقرار لرئيس المجلس يتخذ بعد مداولة المجلس، وتتألف وجوبا من مديرية عامة للمصالح ومديرية لشؤون الرئاسة والمجلس (المادة 123)، ويتمتع رئيس المجلس الجهوي كذلك باستقلالية في التعيين في جميع المناصب بإدارة الجهة، باستثناء المناصب العليا التي تخضع لتأشيرة السلطة الحكومية المكلفة بالداخلية (المادة 124).

تعززت الجهة كذلك بوكالة لتنفيذ المشاريع، وهي شخص اعتباري خاضع للقانون العام، يتمتع بالاستقلال المالي والإداري، وخاضع لوصاية مجلس الجهة (المادتين 128-129). وتتولى الوكالة بالإضافة إلى مهمة تنفيذ مشاريع و برامج التنمية التي يقرها مجلس الجهة، مده كذلك بكل أشكال المساعدة القانونية و الهندسة التقنية والمالية عند دراسة وإعداد المشاريع وبرامج التنمية، كما يمكن له أن يعهد لها باستغلال أو تدبير بعض المشاريع لحساب الجهة، كما يمكنها أن تقترح على المجلس إحداث شركة من شركات التنمية الجهوية ( المادة 130)، وتدير هذه الوكالة لجنة للإشراف والمراقبة تتكون من أعضاء منتخبين( المادة 132) ويسيرها مدير يعين استنادا إلى مبدأي الاستحقاق والكفاءة، بقرار لرئيس المجلس بعد فتح باب الترشيح لشغل هذا المنصب. ويخضع هذا القرار لتأشيرة السلطة الحكومية المكلفة بالداخلية (المادة 138). كما تتوفر الوكالة من أجل القيام بالمهام المنوطة بها، على مستخدمين وأعوان إما يتم توظيفهم أو التعاقد معهم من قبل الوكالة أو يلحقون بها من طرف الجهة أو من لدن إدارات عمومية أخرى، أو تضعهم الدولة أو الجماعات الترابية الأخرى رهن إشارتهم (ال مادة143). عقلنة إسناد وتوزيع المهام داخل المجلس: حيث ما يلاحظ من خلال توزيع المهام داخل المجلس هو توجه القانون نحو تعزيز إمكانيات إشراك أكبر عدد ممكن من الأعضاء على مستوى المكتب واللجن، 

هذه الترتيبات القانونية ستسمح بالرفع من القدرات التدبيرية بفعل إتاحتها إشراك أكبر عدد ممكن من الأعضاء للاستفادة من قدراتهم وكفاءاتهم، والتخلص من الوضع الذي كان يمكن قلة من الأعضاء الاستحواذ على كل مراكز القرار داخل الجهة.

وقد أناط المشرع بالجهة اختصاصا عاما وشاملا لفائدة المنتخبين متمثل في النهوض بالتنمية المندمجة والمستدامة وذلك بتنظيمها وتنسيقها وتتبعها لا سيما فيما يتعلق بما يلي:

تحسين جاذبية المجال الترابي للجهة وتقوية تنافسيته الاقتصادية.

تحقيق الاستعمال الأمثل للموارد الطبيعية وتثمينها والحفاظ عليها .

اعتماد التدابير والإجراءات المشجعة للمقاولة ومحيطها والعمل على تيسير توطين الأنشطة المنتجة للثروة والشغل.

الإسهام في تحقيق التنمية المستدامة، العمل على تحسي القدرات التدبيرية للموارد البشرية وتكوينها.

بالرغم من أن الدستور لم يفصل بين مجال تدخل الدولة ومجال تدخل الجهات كما لاحظنا في الدساتير السابقة، إلا أنه هناك تقدم نوعي على هذا المستوى، يتمثل في تدقيق وإن كان نسبيا في بعض الحالات لكنه في كل الأحوال تقدم من شأنه أن يسمح بهامش من حرية التدبير لما فيه من تقليل التنازع بين السلطة الجهوية والسلطة المركزية. 

المحور الثاني: تأثير المستويات الإدارية على القرار العمومي الترابي

تتجلى أهمية ذلك من خلال تأثير المستويات الإدارية على القرار العمومي الترابي (الفرع الأول) وتأثير البيروقراطية الترابية على القرار العمومي الترابي في (الفرع الثاني). 

الفرع الأول: دور الإدارة الترابية في اتخاذ القرار العمومي الترابي

طبيعة العلاقة بين المركز والمحيط كمحدد أساسي لبنية القرار الترابي لازالت قائمة ولها انعكاساتها على بلورة السياسات العامة المحلية، كما نسجل استمرارية نمط المركزة من خلال الدور الجديد لممثل السلطة المركزية على المستوى الجهوي (الفقرة الأولى) والدور الرقابي لمؤسسة الوالي على المستوى الجهوي (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى: الدور الجديد لممثل السلطة المركزية على المستوى الجهوي

إن رهان أي تنمية يتطلب إلى جانب منح الهيئات اللامركزية الصلاحيات اللازمة المقرونة بالموارد والإمكانيات التي يتطلبها إرساء وتنفيذ البرامج والمخططات التنموية واستحضار التعاون الضروري بين الجهاز التنفيذي للجهات وممثل السلطة المركزية ذلك لتعزيز مسلسل التنمية.

ويمثل الولاة والعمال السلطة المركزية على المستوى الجهوي والمحلي باعتبارهم حلقة أساسية في نظامي اللامركزية واللاتمركز من خلال الوظائف التي يقومون بها والوضع المتميز الذي يحظون به على صعيد النفوذ الترابي الخاضع لهم، وأضفى الدستور صبغة جديدة على دورهم بشقيه التمثيلي والوظيفي عبر تحديد طبيعة علاقتهم مع السلطة المركزية باعتبارهم ممثلين لها في الجهات والعمالات والأقاليم الساهرين على تطبيق القانون باسم الحكومة أو بالنسبة لعلاقاتهم مع الجهات والجماعات الترابية الأخرى . 

إن إقرار مبدأ التدبير الحر ضمن الفصل 136 من الدستور  يشكل منعطفا هاما في مسار تعزيز اللامركزية الإدارية باعتباره يمكن الجهات والجماعات الترابية الأخرى من تدبير شؤونها وتحديد وبلورة اختياراتها وبرامجها التنموية بكيفية مستقلة ولا يسمح بتدخل ممثلي السلطة المركزية في أنشطتها ومهامها إلا في الحدود التي يتيحها القانون، يكرس ذلك الفصل 145 من الدستور الذي ينص على أنه :

" يساعد الولاة والعمال رؤساء الجماعات الترابية وخاصة المجالس الجهوية، على تنفيذ المخططات والبرامج التنموية،" وتوضح هذه الأحكام المادة 88 من قانون 111.14 التي تنص على: "يساعد والي الجهة رئيس مجلس الجهة في تنفيذ التصميم الجهوي لإعداد التراب ..." يستفاد من هذه المقتضيات أنه أصبح غير ممكن للولاة و العمال أن ينفذوا مداولات المجالس الجهوية، حيث عمل على حذف الازدواج الوظيفي الذي كانوا يتمتعون به في ظل الدساتير السابقة و اكتفى بمنحهم المهام التي يليق بهم كممثلين للسلطة المركزية على مستوى الجماعات الترابية من خلال المراقبة و المساعدة و التنسيق .

يهدف الدستور من خلال الدور الجديد الذي أنيط بممثلي الدولة على مستوى الجماعات الترابية إلى إحداث مجموعة من الإصلاحات تهم جوانب اللامركزية وكذا تحقيق الفعالية من خلال التقسيم الجيد للمهام والمسؤوليات وإلى ترسيخ الجهوية المتقدمة، نوضح هذه الدوافع كالآتي:

الدافع الأول: هو أن مبدأ وماهية اللامركزية تفترض أن تتوفر كل جماعة ليس فقط على اختصاصات واسعة بل أيضا على أجهزة إدارية مستقلة سواء تعلق الأمر بالتداول أو التنفيذ، لذلك فتجريد الولاة والعمال من صفتهم كسلطة تنفيذية ومنحها إلى رؤساء مجالس الجهات والعمالات والأقاليم يتوخى الدستور من ذلك، التوحيد واحترام المبادئ والتعامل على قدم المساواة بين الأصناف الثلاث من الجماعات الترابية في هذه النقطة أي تنفيذ المداولات . 

الدافع الثاني: يمكن تحقيقه من خلال تقوية الفعالية في العــــمل الإداري المحلي، ذلك أن كثرة المهام وتنوع المسؤوليات وازديادها بفعل الإصلاحات المتتالية لا تسمح للعـــــمال والولاة بأن يمارسوها بالكامل فيضطرون للاعتماد على متعاونين كثر، لذلك نفهم تقليص الدستور من اختصاصاتهم السابقة بإعفائهم من المهام كسلطات تنفيذية للجهات والعمالات والأقاليم مما سيسمح بتحقيق الفعالية في ممارسة مهامهم الطبيعية.

الدافع الثالث: يتجلى من خلال اعتماد الجهوية المتقــــــــدمة كأساس للتنظيم الإداري اللامركــــــزي والذي تطلب إسناد صلاحيات وسلطات واسعة للجهة، بحيث أصبح رئيس الجهــــة آمرا بالصرف ويتمتع بسلطة تنفيذية وبسلطة تنظيمية لاتخاذ إجراءات تدبيرية، بهذا المنطق أصبح الولاة يطلعــــــــون بوظائف تليق بوضعيتهم كرجال سلطة، كما منحهم الدستور وظيفة المراقبة ومهمة المساعدة في تنفيذ مخططات وبرامج التنمية الجهوية . 

إن وظيفة المساعدة فهي ليست بمعطى جديد إذ أن العمال والولاة دأبوا على تقديم المساعدات التقنية والفنية للمجالس المنتخبة عند ممارستهم لمهامهم بحكم التكوين والخبرة التي يتوفر عليها رجال السلطة ودرايتهم بالتدبير الإداري، إلا أن المستجد في هذا الصدد هو التكريس الدستوري لهذه الوظيفة والتي تشكل دعما للامركزية القائمة على الجهوية المتقدمة . 

ويستمد الوالي شرعية تقديم المساعدة التي يستلزمها تنفيذ المخططات التنموية للجهة الداخلة في دائرة نفوذه الترابي من كونه ممثلا للسلطة المركزية في الجماعات الترابية، مما يجعل منه الساهر الأول على تأمين التنفيذ اللازم للسياسات التنموية. وتكمن طبيعة هذه المساعدة في حرصه على التزام البرامج والمخططات التنموية بالتوجهات الوطنية ثم تلاؤمها مع ما تتوفر عليه الجهات من موارد وإمكانات.

إن تقديم الولاة المــــــــــساعدة للجهات ومــــــــد منتخبيــــــــــها بالآراء والمــــــــساعدة التقنيـــــــــة والإدارية والمالية، يدفع بعجلة التنمية ذلك أن من بين الإشــــــــــــكاليات التي تواجه التنمية المحليــــــــــة والجهوية، ضعف تكــــــــوين المستشارين المحليين ورؤساء المجالس المنتخبة، فبــــــــــعض الجماعات بما فيها الجهات رغم توفــــــــــرها على موارد اقتصادية ومالية لم تتمكن من بلورة استراتيجية اقتصادية واجتماعية على المدين المتوسط والبعيد بسبب عدم تأهيل الموارد البشرية، النتيجة المنطقية هي أن ضعف التدبير يرتبط بضعف التكوين وبعدم الخبرة.

كما أن تبني الدولة لجهوية متقدمة وتمتيع الجهات صلاحيات واسعة يفرض على الدولة تنظيم تواجدها على المستوى الجهوي بشكل فعال وفق توجه جديد للاتمركز بالانتقال من الوصاية إلى المواكبة التنموية، إن منطق الدولة جهويا ينبغي أن يتأسس وفق الاحتياجات المعبر عنها على المستوى الجهوي بنهج سياسة جديدة لتدبير الموارد البشرية قوامها تزويد المصالح الجهوية للدولة بعناصر ذات خبرة وكفاءة في مجال التدبير العمومي لتقديم الدعم الضروري والكافي للجهات . 

لهذا، ينبغي أن تجد مجالس الهيئات اللامركزية في الولاة والعمال مخاطبيها المباشرين باسم الدولة في علاقات تلك المجالس بمجموع الإدارات العمومية في مجالات الحصول على المعلومات والتخطيط وإنجاز المشاريع والمساعدة التقنية التي تقدمها مصالح الدولة للمجالس المنتخبة . 

إن الجهة كمستوى نوعي للتنمية، يجعلها تطلع بمهام استشرافية التي تتطلب توفرها على رؤية استراتيجية بعيدة المدى في ظل متغيرات دولية ووطنية غير ثابتة، لهذا ينبغي أن تعتمد على أدوات التخطيط الاستراتيجي والبرمجة المتعددة السنوات والتي تتميز بالتعقيد وتتطلب خبرة واسعة ورأسمال بشري مؤهل ، لذا فالدستور عندما بوأ الجهة مكانة الصدارة في عمليات إعداد وتتبع برامج التنمية الجهوية  والتصاميم الجهوية لإعداد التراب، فإنه أوكل للولاة والعمال وظيفة مساعدة رؤساء الجماعات الترابية وخاصة رؤساء المجالس الجهوية على تنفيذ المخططات والبرامج التنموية ، التي يتطلب تنفيذها خبرة واسعة في التدبير لا يتوفر عليها دائما رؤساء المجالس الجهوية، هذا التوجه نحو دعم التنمية الجهوية يبرز بصفة خاصة من خلال إدراج وظيفة المساعدة التي يقدمها الولاة والعمال للجهة من أجل إنجاز المهام الكبرى الموكولة لها لا سيما فبي مجال التنمية والتخطيط المجالي والاقتصادي.

ويمكن تفسير إيجابية وظيفة المساعدة هذه باستحضار الصيغة المزدوجة التي تتسم بها الاختصاصات الممنوحة للجهة فهي اختصاصات جهوية وشبه وطنية إلى حد ما خصوصا فيما يتعلق ببعض الميادين مثل إنعاش الاستثمار والرياضة والثقافة والموارد المائية وحماية البيئة والتضامن .

وبذلك أصبحت علاقة رجال السلطة بالهيئات الترابية المنتخبة متمأسسة من مبدأي التعاون والتكامل بدل التوجس والتنافر، وقد ساهم في ذلك وجود جيل جديد من المنتخبين ومن رجال السلطة واعين بطبيعة المرحلة ولوحدة الغاية من وجودهما معا، والمتمثلة في تحقيق التنمية المحلية خدمة للصالح العام في احترام للقواعد القانونية المنظمة لتدخلات الجانبين، فرجل السلطة وإن كان يمثل الإدارة المركزية، فإنه يبقى فاعلا أساسيا في صيغة القرارات والسياسات المحلية، بالمقابل تظل المجالس الترابية ملزمة باحترام الاختصاصات القانونية المخولة لرجال السلطة في ميدان اللامركزية .

الفقرة الثانية: الدور الرقابي لمؤسسة الوالي على المستوى الجهوي

لقد ارتقى الدستور المغربي بالجهات ليس على مستوى الاختصاصات فحسب، وإنما على مستوى علاقتها بالسلطة المركزية، حيث لم يستعمل المشرع الدستوري بتاتا كلمة الوصاية في تنظيمه لعلاقة الدولة بالجهات .لكن المكتسبات الدستورية المتعلقة بالشأن الجهوي سرعان ما تم التراجع عنها، أو بالأحرى إفراغها من محتواها من خلال بعض مقتضيات القانون التنظيمي 111.14 ،

 فلم يقم المشرع سوى بتبديل مصطلح الوصاية ، بمصطلح أقل وقعا وهو الرقابة، في حين استمرت الوصاية بمختلف أشكالها على المجالس الجهوية وذلك من خلال السلطة الموكولة للوالي ، في إمكانية التعرض على المقررات المجلس الجهوي، وضرورة التأشير المسبق على العديد من المقررات الصادرة عن المجلس وعن رئيسه ، والرقابة للشؤون المالية للجهة.

1 مراقبة التأشيرة وإمكانية التعرض والإحالة على القضاء

لا تكون مقررات المجالس الترابية قابلة للتنفيذ إلا بعد التأشيرة عليها من قبل السلطات المختصة بالمراقبة داخل أجل 20 يوما من تاريخ التوصل وتتعلق هذه المقررات بمايلي :

المقرر المتعلق ببرنامج التنمية الجهوية وبالتصميم الجهوي لإعداد التراب.

المقرر القاضي بتنظيم إدارة الجهة وتحديد اختصاصاتها.

المقررات المتعلقة بالتدبير المفوض للمرافق بالجماعات الترابية وإحداث شركات التنمية.

المقررات ذات الواقع المالي هل النفقات والمداخيل.

المقررات المتعلقة باتفاقيات التعاون اللامركزي والتوأمة التي تبرمها الجماعات الترابية.

ويعتبر عدم اتخاذ أي قرار في شأن مقرر من هذه المقررات بعد انصراف أجل عشرين يوما بمثابة تأشيرة. علاوة على الأعمال التي تستـــــــلزم التأشير المسبق، فقد تضمن القانون التنظيمي للجــــــــهات العديد من المواد التي تحيل على تدخل والي الجهة في عمل المجالس الجهوية واللائحة طويلة جدا، ويمكن أن نذكر من بين محتوياتها:

إشراف الوالي على انتخاب الرئيس: حيث يتلقى الترشيحات لرئاسة المجلس، كما يحدد تاريخ ومكان الجلسة التي تنعقد بحضوره أو بحضور ممثله .

إدراج نقاط ضمن جدول أعمال المجلس الجهوي، حيث تدرج بحكم القانون النقط التي يقترحها الوالي ولاسيما تلك التي تكتسي طابعا استعجاليا، على أن يتم إشعار الرئيس بها داخل أجل ثمانية أيام ابتداء من تاريخ التوصل بجدول الأعمال .

عقد دورة استثنائية للمجلس: حيث يعقد المجلس دورة استثنائية بقوة القانون في حالة تلقيه طلبا في هذا الشأن من قبل الوالي داخل أجل عشرة أيام.  

عقد جلسة غير مفتوحة للعموم متى اعتبر الوالي أن علانية جلسة المجلس من شأنها الإحلال بالنظام العام .

الصلاحيات الهامة المخولة للوالي عند تعذر انتخاب أعضاء المجلس أو استقالة نصفهم، حيث يمارس الوالي الاختصاصات المخولة لرئيس المجلس الجهوي .

ضرورة تبليغ الوالي بنسخ من محاضر دورات ومقررات المجلس الجهوي، وكذا قرارات الرئيس المتخذة في إطار السلطة التنظيمية داخل أجل 10 أيام من تاريخ الدورة أو تاريخ اتخاذ القرارات.

ويمكن للوالي أن يتعرض على أي عمل اتخذه المجلس الجهوي من خلال الحالات الثلاث التي نص عليها القانون التنظيمي 111.14 وهي: حالة النظام الداخلي، وحالة المقررات المتخذة خرقا للاختصاص والقانون، وحالة النقط المدرجة بجدول الأعمال.

وعند الاقتضاء يحال التعرض على المحكمة الإدارية للبث فيه داخل أجل 48 ساعة من تاريخ التوصل .

2 رقابة الشؤون المالية للجهة

إن مراقبة الشؤون المالية هدفها المبدئي هو الحفاظ على المال العام المحلي، وصرفه على الوجه الأمثل، وهي تنصب بصفة أساسية على الإعداد المالي إلى غاية تنفيذ الميزانية الترابية.

_ الرقابة الإدارية على إعداد الميزانية الترابية:

إن الجهات والجماعات الترابية الأخرى، قد أصبحت اليوم قاطرة للتنمية الشاملة ومرجعا لتطوير آليات التدبير الناجع من خلال التخطيط المحكم المبني على معطيات واقعية. وهو ما يتطلب من إعداد مخططات التنمية الاقتصادية والاجتماعية من قبل الجماعات الترابية أن تكون متوافقة مع المخطط الوطني ،

 بحيث تشكل الرقابة الإدارية لمشاريع ميزانيات الجماعات الترابية، رقابة مسبقة وذلك لتجنب الأخطاء قبل وقوعها وتهدف إلى ضبط الميزانية وتلافي الوقوع في الأخطاء والانحرافات التي تضر بالسير العادي للعمليات المالية، على أساس أن الاستراتيجيات المالية لأية جماعة ترابية تستدعي منها ضبط ماليتها وبالتالي التصرف في شؤونها المالية على قواعد وأسس صحيحة .

 وهذا ما أكدته القوانين التنظيمية بالجماعات الترابية خاصة المادة 202 من القانون التنظيمي رقم 111.14 المتعلق بالجهات فإنه تعرض الميزانية على سلطة الرقابة المتخصصة في تاريخ أقصاه 20 نونبر، وتصبح الميزانية قابلة للتنفيذ بعد التأشير عليها بعد المراقبة.

إن ما يميز القوانين التنظيمــــــية المتعلقة بالجماعات الترابيــــة هو تعزيزها لمبدأ التدبير الحر وحصـــــــر المراقبة الإدارية المنصوص عليها دستوريا في مجال المشروعية، مع تعزيز دور القضاء في كل النزاعات المحتملة .

3_ الرقابة الإدارية لتنفيذ الميزانية الترابية

تخضع مالية الجماعات الترابية لآليات رقابية متعددة الأوجه والمجالات، فإذا كانت الرقابة القبلية تهدف إلى ضبط عملية البرمجة والتحكم في اتحاذ القرار المالي، فإن الرقابة المواكبة بالنظر لطبيعتها ولخصوصيتها تواكب عملية تنفيذ القرار والتأكيد من احترام عملية التنفيذ هاته للقواعد والمعايير والضوابط التي تنظمها ، وتقوم هاته الرقابة على التحقق من سلامة التصرفات المالية المرتبطة بتنفيذ الميزانية المحلية أو التصرفات المرتبطة بها. وأهم ما يميز الرقابة الإدارية المواكبة تراجع دور وحدة تدخل الداخلية أمام المصالح المالية مجسدة في المحاسب الجماعي الذي يمارس رقابة الالتزام بالنفقات إضافة إلى رقابة صحة وسلامة تحصيل الموارد وأداء النفقات.

الفرع الثاني: تأثير البيروقراطية الترابية على القرار العمومي الترابي

سيرورة العلاقة بين المركز والمحلي يستمد نمطه في علاقة التبعية لهذا الأخير رغم دوره في التنمية من خلال آلية الديمقراطية المحلية المتمثلة في ممثلي الساكنة بهدف تلبية حاجياتهم، غير أن هذا الوضع يصطدم بضعف استقلالية المنتخب في بلورة القرار العمومي الترابي (الفقرة الأولى) وهيمنة البيروقراطية الإدارية على القرار الترابي (الفقرة الثانية). 

الفقرة الأولى: ضعف استقلالية المنتخب في بلورة القرار الترابي

أضحت استقلالية المنتخب الجهوي في بلورة القرار تطرح إشكالا محوريا يتجسد في طبيعة العلاقة بين البيروقراطية والديمقراطية، إذ تعود للإدارة المحلية وظيفة الاختيار العام بكل ما يتعلق بتحضير واتخاذ القرارات، بكيفية منتظمة من خلال تدفق دائم للمعلومات حول مختلف الميادين الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ،

 وهو الأمر الذي يجعل من المنتخب الجهوي ليس الفاعل الوحيد في القرار الترابي، بل إن سلكته في اتخاذ القرار قد تكون محدودة مقارنة مع الهامش المتروك لسلطة البيروقراط المحليين، نظرا لتمكنهم من ضبط المعلومات والسيطرة على المعطيات التقنية، وكذا خلق قنوات التواصل وشبكات للتحالف على المستوى الترابي، خدمة لمؤشرات العملية القرارية نظرا لامتلاكهم آليات وموارد السلطة وعناصر التأثير المتمثلة في الكفاءة والخبرة والاستمرارية في السلطة .

غير أنه وبالرجوع للنص الدستوري نجده قد أورد في فصله 135 على أن " الجماعات الترابية أشخاص اعتبارية خاضعة للقانون العام تسير شؤونها بكيفية ديمقراطية ..." 

وعليه فالترسيخ الدستوري للديمقراطية المحلية كان مستوى التسيير وليس على مستوى بلورة القرار، إذ ورد به لفظ «التسيير" كما ورد لفظ "التدبير" في جل الدساتير السابقة منذ 1962 إلى1996، والتي كانت تفوض للجماعات اختصاصات التسيير والتدبير الإداري مع وظيفة تنفيذ السياسات العامة للدولة.

كما أن ورود لفظ " المساهمة" في تفعيل السياسة العامة للدولة حسب الفصل 137 ، لا يؤهل الجماعات الترابية لذلك الاختصاص الوظيفي لبلورة القرار الترابي، كما أن إشارة نفس الفصل لمساهمتها في إعداد السياسات الترابية من خلال ممثليها في مجلس المستشارين.

وهنا ندرج ملاحظتين أساسيتين، الأولى تتجلى في كون لفظ " المساهمة"، يعني أن هناك شركاء آخرين يساهمون في إعداد القرار المحلي إلى جانب الجماعات الترابية، أما الثانية تتجلى في ورود لفظ "إعداد السياسات" الذي خول لممثلي مجلس المستشارين وليس المنتخب داخل المجالس الجماعية . 

وعليه فالجديد هنا على المستوى الترابي ليس فيما يخص المنتخب، بل المواطن الذي أصبح مساهما فعليا في تنمية مجاله عبر ما أقره النص الدستوري من آليات تسعى لتحقيق الديمقراطية التشاركية، خاصة الفصل 139 بشأن برامج التنمية وتتبعها، وإن كان دستور 2011 أوكل للجماعات الترابية صلاحيات لممارسة اختصاصاتها بناء على منحها السلطة التنظيمية (الفصل 140) على مبدأ التفريع.

وينجم عن ضعف المستوى العملي والثقافي وعدم اشتراط توفر أية معايير مفترضة في النخب المرشحة للولوج للانتداب المحلي، صعود منتخبين لا يمتلكون القدرات التدبيرية الكافية لا من حيث عدم التوفر على الشهادات التعليمية المناسبة، ولا من حيث مراكمة تجربة التسيير في مجالات جمعوية أو اقتصادية، مما يسهم في إضعاف عملية اتخاذ القرار المحلي ، وهو ما يعني تحميل المنتخب المحلي لمسؤولية كبيرة، واعتباره بمثابة حجر عثرة في طريق التنمية الترابية للمغرب، بل هو من العقبات الكؤود التي تحول دون نجاعة و فعالية النظام الإداري المحلي .

وانطلاقا من هذا الوضع تنبثق عدة تساؤلات مقلقة، فهل يملك المنتخبون القدرة على معالجة القضايا المحلية بنفس كفاءة ممثلي السلطة؟ وهل يملكون القدرة على الحد من تدخل السلطان في شؤون جماعتهم المحلية ، حيث إن ضعف مستوى كفاءة المنتخب لا يجعله فقط غير قادر على ممارسة مهامه، بل وفي وضعية تبعية لممثلي السلطة المركزية في إطار وصاية تقنية مكثفة.

ويقود تدني كفاءة المنتخبين المحليين إلى تقوية النخب الإدارية، حيث إن ضعف تكوينهم وضآلة مؤهلاتهم، وقلة تجربتهم العملية تجعلهم يقبلون أي تأويل تقدمه السلطة المركزية وممثلوها المحليون دون اكثرا، أو حتى تساؤل فيما إذا كان التفسير المعطى لهم بشأن اختصاص معين سليم ومنطقي ويتماشى مع روح القوانين الجاري بها العمل .

 إضافة إلى أن غياب أجندة سياسية لدى المنتخبين المحليين يفسح المجال لتطبيق أجندة وخيارات السلطة وفق توجيه تكنوقراطي لا يشجع أبدا على بروز قيادة ديمقراطية ، على الصعيد المحلي حيث يتم اللجوء إلى طرق جديدة للالتفاف على الاختصاصات الأصيلة للمجالس المنتخبة بفرض الخبرة كنمط جديد لشرعية التدبير العمومي.

فالسلطة المركزية على المستوى المحلي بقيت مستمـــــــرة وذلك تحت غطاء تأهيل ودعم المجالس، وهذه العبارات في حد ذاتها تؤكد على استمرارية دونيـــــــــة الجماعات وتفوق السلطة المركزية، فضعف الإمكانيات المادية ومحدودية الموارد البشــــــرية للجماعات يؤدي إلى بروز وصاية تقنيــــــــــة تمس مجالات تنموية حيوية كالتعمير وسياسة التجهيز والإعداد الحضري ، مـــــــما يبقيها دوما في حاجة إلى الدعم والمساعدة من طرف الإدارة الترابية.

ونشير بهذا الصدد إلى أن آلية مساعدة الجماعات الترابية على تنفيذ برامجها التنموية رغم ما يمكن أن تقدمه من إيجابيات، فإنها قد تشكل مدخلا جديدا من مداخل الوصاية التقنية لرجال السلطة على الجماعات الترابية، فهي قد تهدد قدرتها على التدخل بفعل الدور الحاسم للولاة، مما يجعل السلطة المركزية تستعيد عبر صدارة الجهة أهم الاختصاصات المخولة للجماعات الترابية المتعلقة بالتنمية الترابية  ،

 فكل شيء يعتمد إذن على التفسير الذي سيمنح لعبارة يساعد ، فقد يتم توظيفها من قبل ممثلي السلطة المركزية كمرجعية قانونية لتكريس نوع من التدبير الموازي للشؤون العامة المحلية.

وفي المجمل فإن النخب السياسية والإدارية قد أصبحت تشكل عائقا حقيقيا في وجه كل المحاولات التحديث والتغيير والتقدم ، حيث إن الممارسات الواقعية للإدارة الترابية والأمية وقلة التجربة والتمرس على الحكم من طرف ممثلي السكان يجعل مساهمة الجماعات المحلية في التنمية رهانا مستقبليا بعيد المنال. 

الفقرة الثانية: هيمنة البيروقراطية الإدارية الترابية على القرار الترابي

لا يمكن لأي سلطة أن تمارس اختصاصاتها إلا في ظل ما يمنحه لها القانون، لذلك نجد أن الصلاحيات القانونية والدعم التشريعي الممنوح لرجال السلطة أو البيروقراطي على المستوى المحلي  والمتجسد في ( عامل العمالة أو الإقليم كنموذج) أكثر من تلك الممنوحة للمنتخب والتي تتجاوز النص الدستوري والقانون التنظيمي ذي الصلة في المقابل نجد العامل يمتلك كل الوسائل القانونية التي تمكنه من أدائه لوظائفه، وعليه فإن هذا الدور للسلطة الرقابية يوضح أن المحلي / الترابي ليس سوى منفذا للسياسة العامة للدولة، والتي تسهر على تنفيذها ممثل السلطة المركزية، إذ بمقتضى النص الدستوري " يمثل عمال العمالات والأقاليم السلطة المركزية في الجماعات الترابية ويعملون باسم الحكومة على تأمين تطبيق القانون وتنفيذ النصوص التنظيمية للحكومة ومقرراتها كما يمارسون المراقبة الإدارية ... كما يساعد العمال رؤساء الجماعات الترابية على تنفيذ المخططات والبرامج التنموية" .

وهذا ما يزكي طرح هيمنة البيروقراطية المحلية على سلطة القرار الترابي، وهو  ما كرسه المرسوم رقم 2.17.618 بمثابة ميثاق وطني للاتركيز الإداري خاصة من خلال السلطة الممنوحة للعامل كبيروقراطي و خاصة المادة الثالثة منه والتي تعتبر" اللاتمركز الإداري لمصالح الدولة تنظيميا وإداريا مواكبا للتنظيم الترابي اللامركزي ... وأداة رئيسية لتفعيل السياسة العامة للدولة على المستوى الترابي قوامه نقل السلطة والوسائل وتخويل الاعتمادات لفائدة المصالح اللاممركزة على المستوى الترابي من أجل تمكينها من القيام بالمهام المنوطة بها واتخاذ المبادرة تحقيقا للفعالية والنجاعة ."

وعليه نلاحظ أن الإمكانيات والموارد الممنوحة للمصالح اللاممركزة هي من أجل تفعيل السياسة العامة للدولة على المستوى الترابي، لذلك تظل اللامركزية هي مجال للتنفيذ وليس الإعداد، كما أن تسخير الوسائل ونقل السلط وتخويل الاعتمادات هي من أجل جعل ممثل السلطة المركزية مبادرا في اتخاذ القرار عكس المنتخب الذي يعتبر منفذا ولم يتح له القانون هامش المبادرة كما أتاحه للعامل كممثل للسلطة الحكومية على المستوى الترابي، وهو ما تؤكده المادة 15 من مرسوم اللاتمركز الإداري: أن المصالح اللاممركزة للدولة:

تسهر على التفعيل الأمثل لتوجهات وقرارات السلطات الحكومية الهادفة إلى تنفيذ السياسة الحكومية المتعلقة بالقطاعات الوزارية التابعة لها.

السهر على تنفيذ الاستراتيجيات الوطنية والقطاعية المعتمدة من قبل الدولة في مختلف مجالات التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية.

السهر على إعداد وتنفيذ السياسات والبرامج والمشاريع العمومية المبرمجة على مستوى الجهة وتتبعها.

وعليه تؤكد هذه المادة بأن الشأن الترابي وإن فســـــح المجال على مستوى دائرة الاختصاص في التدبير الديمقراطي، لكنه لم يمنح نفس المساحة في إعداد السياسات والبرامج والمشــــاريع التنمــــــــوية كتلك التي منحــــت للمصالح اللاممركزة في هذا الإطار، وهو ما تزكيــــه جل مواد ميثاق اللاتمركز الإداري، وخاصة من خلال الأهداف الأساسية التي جاء هذا الميثاق من أجل تحقيقها وخاصة ما ورد في المادة 7  من الميثاق اللاتمركز الإداري.

وعليه لا نجد أي نص تشريعي يتحدث عن إعداد السياسة العمومية الترابية من طرف المنتخب الترابي، وهو أمر طبيعي نظرا لطبيعة وبنية الدولة، وكذلك للسياقات التي أسست فيها الدولة الوطنية والتي تركت انعكاساتها على طبيعة العلاقة بين المركز والمحيط. بالإضافة إلى مشكل الوحدة الترابية الذي لا محاله يلقي بظلاله على طبيعة هذه العلاقة، وإن كان المغرب متقدما في هذا الشأن باقتراح الحكم الذاتي كنمط أمثل لتدبير الشأن العام المحلي.

بالإضافة إلى طرح سؤال، هل لدينا من النخب المحلية على المستوى السياسي المؤهلة لحمل مسؤولية الاستقلال في اتخاذ القرار أو المبادرة باتخاذه، ليشكل الأمر مبررا لهيمنة البيروقراطية المحلية على سلطة القرار الترابي وبلورة السياسات العامة المحلية، وهو ما يفسره أو يجد تبريره كذلك في هيمنة وزارة الداخلية من خلال أطرها على المستوى الترابي، إذ سياق التحولات الوظيفية التي تعرفها الإدارة الترابية والآليات الدستورية والتشريعية التي منحت للجماعات الترابية، لم يكن منها إلا مواكبة التطورات مع إصدار مرسوم 2.19.1086 ، الذي يحدد اختصاصات وتنظيم وزارة الداخلية والتي يتجسد من خلالها الامتداد الكلي للدولة سواء على المستوى المركزي أو الترابي،

 لذلك تشكل هذه الوزارة المفصل الأساسي والعمود الفقري للدولة، بل النسق السياسي والإداري المغربي، خاصة على مستوى الترابي عبر أطرها ( العامل، الباشا، القائد...) وفق تسلسل إداري للنمط الترابي للسلطة ووفق مهام و صلاحيات محددة، وهو ما لا يترك هامشا للمؤسسات التمثيلية على المستوى الترابي التي لا يمكن أن تكون بأي حال من الأحوال مركزا للقرار، بل فقط مركزا لتنفيذ سياسات الإدارة المركزية  .

وهنا نخلص إلى الدور المنوط بوزارة الداخلية المحول لها تنفيذ السياسات العامة للدولة، وإن كانت في الأصل هي مصدر المعلومة التي تنبني عليها هذه السياسة. لذلك تم نعتها بأم الوزارات أو أنها حكومة داخل الحكومة، لدورها الاستراتيجي وكذا لقدراتها ومواردها البشرية لأنها حسب ميشيل روسي " الوزارة الوحيدة التي تتوفر على شبكة من المصالح الخارجية وأعوان مختلفين موزعين على مجموع التراب الوطني ومتواجدين بشكل دائم ومستمر في احتكاك مباشر مع السكان القرويين. "

إلا أنه وطبقا للمادة الأولى من المرسوم 2.19.1086 الذي حدد اختصاصاتها على المستوى الترابي وخاصة مهام الإدارة الترابية للمملكة مناط بها مهام مواكبة الجماعات الترابية في تدبير شؤونها بكيفية ديمقراطية، بالإضافة إلى تزويد الحكومة بالمعلومات العامة. ومنه نخلص إلى أن الوزارة عبر مصالحها اللاممركزة ليس لها المهام الإدارية والأمنية بالحفاظ على النظام العام، بل كذلك لها مهام سياسية والتي عكسها المرسوم السالف الذكر بكل وضوح من خلال مواده وبنوده.

أما من حيث ما يهمنا في هذا الصدد بخصوص الجماعات الترابية، نجد المادة 18  من ذات المرسوم الوارد أعلاه، تشير إلى مديرية الجماعات الترابية " كوحدة وبنية هيكلية داخل الوزارة من أحد مهامها الأساسية المواكبة القانونية والتقنية والمالية للجماعات الترابية والهيآت التابعة لها.

بالإضافة إلى مجموعة من المديريات داخل الوزارة التي تعني بدعم ومراقبة الجماعات الترابية في شتى المجالات كمديرية التخطيط والتنمية الترابية (المادة 19) ومديرية المؤسسات المحلية (المادة 23) ومديرية مالية الجماعات الترابية (المادة 24) ... 

وعليه فهذه الهيكلة الجديدة في البنية التنظيمية لوزارة الداخلية حسب مرسوم 2.19.1086 تؤكد بجلاء أن وزارة الداخلية ومن خلال أطرها ومواردها المرصودة سواء التقنية أو التنظيمية أو المالية ... تعتبر صمام الأمان للنظام السياسي المغربي في بعده المركزي والترابي، إذ كلما تعزز المجال الترابي بإطار تشريعي إلا وتوسعت دائرة الاختصاص الوظيفي للمصالح اللاممركزة حتى تواكب هذا التطور لجعل المجال الترابي مجالا للضبط والمراقبة كما حصل بتعزيز صلاحيات العمال في ظهير بمثابة قانون رقم 1.75.168 بتاريخ 15 فبراير 1977 المتعلق باختصاصات العمال كما تم تعديله بموجب الظهير المعتبر بمثابة قانون رقم 1.93.293 الصادر بتاريخ ( 6 أكتوبر 1993).

خلاصات:

إن المجال الترابي يظل ميدانا للدولة ومجالها المحفوظ قبل كل شيء، تستثمر فيه سلطتها وتستمد منه مشروعيتها لتكرس هيمنتها وأدواتها للضبط والمراقبة عبر مصالحها الخارجية التي تظل مكلفة بضبط توازن النظام العام، الأمر الذي يحصر نهان المنتخب في التدبير والتسيير الإداري ودوره في بلورة القرار الترابي يوضع على محك الإكراهات القانونية التي تحد من استقلاليته، بالإضافة إلى طبيعة تمثلات المركز الترابي التي لا تكرسه كشرعية منافسة، بل كتابع ومنفذ لسياسة المركز، الشيء الذي يجعل من القرارات المحلية قرارات مركزية الصناعة و محلية التنفيذ، ولكن الدولة بدورها لا تستطيع أن تجازف في مجالها الترابي مع تنامي العزوف والمشاركة السياسية بوجود نخب محلية أفقدت السياسة من مراميها، مما نتج عنه إشكال حقيقي للديمقراطية التمثيلية ليس على المستوى الترابي فحسب، بل على مستوى المركزي كذلك وهو إشكال الثقة في المؤسسات السياسية. 



من أجل تحميل هذا المقال كاملا - إضغط هنا أو أسفله

قانونك


 من أجل تحميل العدد 23  - إضغط هنا أو أسفله

مجلة قانونك - العدد الثالث