الآفاق المستقبلية لمؤسسة التحكيم حول فض المنازعات الوقفية
الادريسي البوزيدي بدر
باحث بسلك الدكتوراه بكلية العلوم القانونيــة والاقتصاديــة والاجتماعية وجدة، تخصص: قانون العقار والتعمير
تحت إشراف الدكتورة: زينب تاغيا
The future prospects of the arbitration institution on the settlement of moratorium disputes
Badr ELBOUZAIDI ELIDRISSI
مقدمة
لعبت الثورات التي شهدها العالم دورا محوريا في خلخلة المفاهيم السائدة وكذا في وضع أسس حقوق الإنسان من خلال إيجاد تعريفات جديدة لها وللحريات ضمن الدولة، كما تم التأكيد على ضرورة العدل والمساواة بين الأفراد أمام القانون. بعد ذلك جاءت الحرب العالمية الثانية لتدفع نتائجها بالدول إلى التأكيد على ضرورة إيجاد قانون دولي لحفظ الحقوق يقوم على احترام الرأي العام العالمي من خلال قانون إنساني لا يتسم بأيديولوجية معينة سوى أنه إنساني.
وكان من بين أهم ما تمت الدعوة إليه تطبيق المحاكمات العادلة باعتبارها أحد الأعمدة الأساسية التي تهدف إلى حماية الإنسان من التعسف والشطط في استعمال السلطة والتمييز، والتي تعتبر من بين أهم مواضيع حقوق الإنسان كمؤشر على مدى احترام الدولة لحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها دوليا وقياسا أصيلا في بناء دولة القانون.
يُعد الوقف بمفهومه الواسع أصدق تعبير عن التنمية المجتمعية، فهو يعد مصدر مهم لحيوية المجتمع وفاعليته وتجسيد قيم التكافل الاجتماعي وترسيخ لمفهوم الصدقة الجارية برفدها الحياة الاجتماعية بمنافع مستمرة ومتجددة تنتقل من جيل الى آخر حاملة مضموناتها العميقة في إطار عملي يجسده وعي الفرد بمسؤوليته الاجتماعية، ويزيد إحساسه بقضايا اخوانه المسلمين ويجعله في حركة تفاعلية مستمرة مع همومهم الجزئية والكلية.
والوقف هو من أهم المؤسسات الى تكونت لرعاية الأعمال الخيرية، والنهوض بالواقع الاقتصادي للمجتمعات وتحقيق الأمن الاقتصادي لهم. حيث أن طبيعــــة الوقف تجعل منه ثروة استثمارية متزايـــــدة، فالوقف في أصله وشكله العام ثروة انتاجيــــــة تُوضع في الاستثمار على سبيل التأبيد، يمنع بيعه واستهلاك قيمته، ويُمنع تعطيله عن الاستغلال، ويحـــــــــرم الانتقاص منه والتعدي عليه. فالوقــــــــــف استثمار تراكمي يتزايد يوماً بعد يوم، بحيث تضاف دوماً أوقاف جديدة الى ما هو موجود وقائم من أوقاف قديمة، دون أن ينتقص من القديمة شيء .
وقد احتلت الأوقاف مكانة مقدسة في حياة المجتمع المغربي، جعلت السلاطين المغاربة يولونها اهتماما بالغا عبر تاريخ الدولة المغربية، فأنشأوا لها مؤسسة خاصة وأسهموا في إغنائها، وأقاموا لفائدتها عقارات وأملاك مرتبطة بها، وسار على نهجهم الأغنياء والأعيان ورجال المخزن فوضعوا لها ضوابط وقوانين لتدبيرها ومراقبة مواردها وفق الشريعة الإسلامية. وهكذا فقد ارتبطت مؤسسة الأحباس بالمخزن المغربي نظرا لمكانتها الدينية المقدسة، ونظرا لمكانة السلطان الدينية داخل المجتمع المغربي،
فقد كان لزاما على هذا الأخير حماية الأحباس من النهب والضياع، والدفاع عنها والمحافظة عليها ، وهو ما تجلى من خلال صدور مدونة الأوقاف سنة 2010، حيث جاء بمجموعة من المقتضيات القانونية التي تهدف إلى تثمين وتنمية الوقف، كما جاءت المدونة بحماية فعالة للأملاك الوقفية،
غير أن هاته الحماية غالبا ما تعطل رسالة الوقف من خلال طول المنازعات التي تعرفها هذه الأخيرة، مما تبرز أهمية مؤسسة التحكيم في حل هذه المنازعات نظرا لما يمتاز به من سرعة وفعالية...
فالتحكيم يعد أسلوبا دبلوماسيا ووسيلة فعالة وناجحة لحل النزاعات بالنظر للخصائص التي يتميز بها ومنها الطابع غير القضائي ، ولقد لقي التحكيم خلال السنوات الأخيرة إقبالا غير مسبوق في الميدان التجاري على الصعيد الوطني والدولي، وأصبح أداة متميزة لفض النزاعات وذلك بفضل ما يتميز به من مزايا متعددة الجوانب والأشكال. ولا يجب الاستغراب من ذلك، إذ للتحكيم تاريخ حافل بالبلاد العربية، انطلق من واقعة صفين عندما استعمل لفض النزاع القبلي،
ويمكن القول «السياسي» بين فريق الإمام علي وفريق معاوية. واستعمل بعد ذلك لفض كل أنواع النزاعات ومنذ عصور في بلاد المغرب، إلى أن أصبح مقـــننا من خلال قوانين المسطرة المدنية التي تم سنها والتي نظمت في بنودها مسطرة التحكيم، وتمت إضافة الوساطـــــــــــة الاتفاقية لذلك مــــــــن خلال القانون 08.05، إلا أن هذا الأخير تم إخراجه من قانون المسطرة المدنية وإضافة مجموعة من المستجــــــــــدات بموجب القانون رقم 95.17.
ولقـــــد ساهـــــم الاستثـــــمار الأجنبــــي الذي عرف نمــــــوا كبيـــــــــرا فـــــــي المغـــــــرب فـــــي انتشار التحكيم الــــذي أصــــبح منصـــــوصا عليه في كل الاتفاقات والعقود المتعلقـــــة بالاستثمـــــــار. وكان الحافــــز المشجـــع هـــو انخــــــــــراط المغرب بتاريخ 12 فبراير 1959 في اتفاقية نيويورك المبرمة في 10 يونيـــــو 1958 المتعلقة بتنفيـــــذ الأحكام التحكيمية الدولية، وكذا انضمام المغرب مبكـــــرا، أي منـــــذ 10 يونيــــــــــو 1967 لاتفاقيـــة واشنطـــــن المبرمة في 18 مارس 1965 التي أنــــشأت المركــــز الدولي لتســـــوية منازعات الاستثــــــــمار CIRDI والذي عرضت عليه أول قضية كان طرفيها الدولة المغربية وشركة هوليداي إن. وعـــــــــــــرف التحكيـــــــــــــــم الداخلي هـــــو الآخر انتشارا ونموا راجعين لكونه سبيلا ناجعا يعفي من اللجـــــــــــوء إلى المحاكم والمساطر القضائية التي يعلم الجميــــــــــع المصاعب التي تحيط بها.
ولقد أصبح المشرع نفسه يشجع على اللجوء إلى التحكيم في مختلف النصوص ومنها القانون 53.95 المنظم للمحاكم التجارية، وعلما ان أول سلطة في البلاد التي كان يمثلها المرحوم جلالة الملك الحسن الثاني دعت هي الأخرى غير ما مرة للجوء إلى التحكيم عوض المحاكم .
وتأسيسا لما سبق ذكره، تأتي أهمية هذا الموضوع على المستويين، النظري والعملي، فعلى المستوى نظري تكمن أهميته في كون هذا الموضوع لم يحظى باهتمام الباحثين، بالرغم أنه يعتبر من أهم المستجدات التي عرفتها الساحة القانونية من خلال صدور مدونة الأوقاف والتعديل الذي لحقها سنة 2019، وإلحاق هذا التعديل بطرق استثمار جديدة قد يكون فيها مستثمرين أجانب، مما تبرز أهمية مؤسسة التحكيم في التشجيع على الاندماج في الاستثمارات الوقفية.
أما على المستوى العملي، تتجلى في كون الواقع العملي أكد أن المنازعات الوقفية يكلف إدارة الأوقاف أموال طائلة، بالإضافة إلى طول مسطرة البــت في هذا النوع من المنازعات، مما يؤدي إلى البطء في عمارة الأوقاف العقارية خاصة، ويرجع ذلك بالأساس إلى الخصوصية التي تتميز بها الأموال الحبسية ببلادنا.
ومن خلال هذا التوطئة البسيطة يمكن صياغة الإشكالية الجوهرية لهذا الموضوع وفق الآتي:
ما مدى فعالية مؤسسة التحكيم على ضوء القانون رقم 97.15 في حل المنازعات الوقفية؟
للإجابة عن هذه الإشكالية، سنحاول مقاربتها وفق مطلبين، حيث سنخصص المطلب الأول، الحديث عن آفاق تفعيل التحكيم في المنازعات المدنية الوقفية، على أن نتولى في المطلب الثاني، التطرق إلى آفاق تفعيل التحكيم في منازعات العقود الإدارية الوقفية.
المطلب الأول: آفاق تفعيل التحكيم في المنازعات المدنية الوقفية
يتميز التحكيم ببساطة إجراءاته وسرعتها، وذلك على خلاف اللجوء للقضاء، والذي يحكم سير الدعوى أمامه مجموعة من القواعد الشكلية والإجرائية التي تستغرق وقتا كبيرًا، خاصةً في ضوء تعنت الخصوم وتعمدهم إطالة أمد الفصل في الدعوى، إلى درجة يمكن أن يستغرق فيها الفصل في الدعوى عدة سنوات. ولا تخفي قيمة الوقت في منازعات الاستثمار، حيث تكون هناك استثمارات ومبالغ نقدية كبيرة ومشروعات معطلة في انتظار حسم النزاع الاستثماري، ومن ثم تكون هناك خسارة كبيرة في حالة طول أمد النزاع بسبب إجراءات التقاضي، وهو ما لا يتسق مع مجريات التجارة الدولية التي تأبي البطء، إذ أن سمتها وطابعها هو السرعة وهنا تبدو أهمية التحكيم الذي يتبهم بالسرعة وبما يحقق العدالة الناجزة ، والمنازعات الوقفية لا تخرج عن هذا السياق،
بالنظر إلى حجم الاستثمارات التي أصبحت تكتسيها في الآونة الأخيرة من خلال بناء المركبات السكنية والتجارية وسياحية وإنجاز تجزئات عقارية عن طريق عقود إدارية إما بواسطة طلبيات إدارة الأوقاف أو بواسطة عقود الشراكة التي تبرمها هذه الخيرة مع القطاع العام أو القطاع الخاص، مما تبرز أهمية تفعيل مؤسسة التحكيم في حالة حصول منازعات في هذه العقود (الفقرة الثانية)،
وعلى صعيد آخر تكون هناك منازعات أخرى إما تتعلق بدعاوى استحقاق الملك الوقفي أو بالدعاوى المتعلقة بالكراء أو المعاوضات، مما يمكن طرح تساؤل هل يمكن اللجوء إلى مؤسسة التحكيم في هذا النوع من المنازعات؟ وهو ما سنحاول الإجابة عنه وفق الآتي (الفقرة الأولى).
الفقرة الأولى: على مستوى منازعات تثبيت الوضعية القانونية للعقار الوقفي
لقد كان إلى عهد قريب مجرد نسبة عقار ما إلى الأوقاف كاف لردع أي تعد عليه استنادا على القيمة المعنوية التي كان يحظى بها الحبس، غير أن تغير منظومة القيم وضعف الوزاع الديني أديا إلى جعل الرصيد الحبسي مهددا باستمرار بالترامي والاعتداء، حيث يتم احتلال العقارات الوقفية من طرف الخواص سواء المجاورين لها أو غيرهم ممن يدعون ملكية هذه العقارات .
وهكذا فإن النزاع حول الحبس يكون بين الجهة المستفيدة من الحبس والجهة غير المستفيدة منه، وقد يكون النزاع بين المحبس عليهم وإدارة الأوقاف والغير. فإذا كان النزاع قائما بين ورثة المحبس بحيث يتمسك المحبس عليهم بصحة الحبس، ويدفع غيرهم من الورثة بعدم صحته. فإن إدارة الأوقاف بالنظر إلى مهمة الوصاية المخولة لها على الأملاك المحبسة تكون دائما إلى جانب من يدعي الحبس. أما إذا كان النزاع قائما بين المحبس عليهم وإدارة الأوقاف من جهة وبين الغير من جهة أخرى، فإن المنازعة تكون منصبة أساسا على ملكية المحبس بغض النظر عن صحة حبسه أو عدم صحته .
وعليه يمكن القول إن أمر اللجوء إلى مؤسسة التحكيم في هذا النوع من المنازعات هو شبه مستبعد، وذلك راجع إلى أن الأشخاص الذين يطالبون استحقاق ملك وقفي كلي أو جزء منه، يفتقدون لثقافة التحكيم، والتي تكون عادة لدى المستثمرين الكبار، إذن ما هي المنازعات المدنية الوقفية التي يمكن اللجوء إليها عن طريق مؤسسة التحكيم؟
الفقرة الثانية: على مستوى منازعات التصرفات الوقفية
بالإضافة إلى المنازعة في أحقية الملك الوقفي، هناك منازعات أخرى تعج بها المحاكم ويتعلق الأمر بالكراء الوقفي والمعاوضات الوقفية، فيأهما يصلح أن يتم حله عن طريق مؤسسة التحكيم، فمنازعات الكراء الوقفي، غالبا ما تكون حول قضايا مسطرة الافراغ، وهذا النوع من المنازعات يتمتع من إعفاء إدارة الأوقاف من المصاريف القضائية،
مما يجعل لجوء إدارة الأوقاف إلى مؤسسة التحكيم غير ممكن في ظل ارتفاع تكاليف هيئة التحكيم، بالرغم من أن الواقع العملي أكد أن أتعاب الدفاع تكلف إدارة الأوقاف أموال طائلة، فإن اللجوء إلى مؤسسة التحكيم في هذا النوع من المنازعات، سيكلفها أكثر من مصاريف الدفاع.
بالإضافة إلى ذلك قلة السومة الكرائية للمـحلات الحبسية مقارنة مع مصاريف التحكيم، مــما يمكن القول إن مسألة اللجوء إلى التحكيـــــــم في منازعات الكراء الوقفي سيكون الأمر شبه منعدم في ظل هذه المبررات.
وعلى صعيد آخر، هناك نوع آخر من المنازعات ويتعلق الأمر بالمعاوضات الوقفية عينية ونقدية، وهي من أهم التصرفات بالنظر لخطورتها التي تطال الأوقاف العامة، وتكمن أهميتها في كونها تنفرد عن باقي التصرفات الأخرى غير الناقلة للملكية بأحكام خاصة، أما خطورتها فتتجلى في أنها من حيث هي تصرف ناقل للملكية تتعارض بوجه من الوجوه مع خاصية التأبيد في الوقف ،
مما يتطلب أن يكون أمر البت في منازعات معاوضة الأوقاف العامة أن يكون القاضي ملما بالإضافة إلى المقتضيات القانونية، بالقواعد الفقهية ونخص الذكر الفقه المالكي، مما يجل هذا النوع من المنازعات صعب الفصل فيه من طرف هيئة التحكيم التي غالبا ما تبت في عقود الاستثمارات التي لا تحتاج البت فيها أن يكون المحكم ملما بالقواعد الفقه الإسلامي.
وللإشارة أن ما ينطبق على مــــــــتنازعات الكراء الوقفي بخصوص المصاريف وأتـــــعاب الدفاع، فنفــــــــس الأمر بخصوص منازعات الأملاك الوقفية. مما نستخلص أن اللجــوء إلى مؤسسة التحكيم في هذين من المنازعات يكون شبه منعدم في ظل القواعد القانونية الحالية. وإن كان الحال بخصوص المنازعات الوقفية على مستوى الشق المدني، فماذا عن الشق المتعلق بالعقود الإدارية؟ وهو ما سنحاول التطرق إليه في الفقرة الموالية.
الفقرة الثاني: آفاق تفعيل التحكيم في منازعات العقود الإدارية الوقفية
تستهدف العقود الإدارية تحقيق المصلحة العامة، وهذا الهدف يجب أن يسود شروط العقد وعلاقة المتعاقدين في تطبيقه وتفسيره وإنهائهن لذلك يكون للإدارة دائما الحق في تنفيذ العقد وتغيير شروطه وفي إنهائه في أي وقت طالما أن المصلحة العامة تقتضي ذلك ، وفي هذا نتساءل هل إدارة الأوقاف تبرم العقود الإدارية؟ بالرجوع إلى مدونة الأوقاف والقرارات التطبيقية التي يصدرها وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية على اعتبار أن المراسيم الحكومية التي تطبق في قطاع الأوقاف،
نلاحظ أن المشرع الوقفي اعتمد على نوعين من العقود الإدارية ويتعلق الأمر بطلبيات إدارة الأوقاف (الفقرة الأولى)، وعقود الشراكة التي تبرمها إدارة الأوقاف مع القطاع العام أو القطاع الخاص (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: طلبيات إدارة الأوقاف
نظرا لأن أغلب الأصول الوقفية بالمغرب هي عقارات، ترجع جذروها إلى ما قبل عهد الحماية، وهي في غالبيتها عقارات مخربة أو لم تعد صالحة إما للزراعة أو البناء...إلخ، ابتكر المشرع الوقفي آلية من أجل عمارة الوقف وتحسين جودة العقارات الوقفية، حتى تتمكن من تكريس دورها الاقتصادي والاجتماعي، تم سن نظام الصفقات بموجب قرار لوزير الأوقاف والشؤون الإسلامية رقم 258.13 الصادر بتاريخ 13 سبتمبر 2013 بتحديد نظام صفقات الأشغال والتوريدات والخدمات التي تبرمها إدارة الأوقاف لفائدة الأوقاف العامة. وفي هذا السياق نطرح السؤال التالي: هل يمكن اللجوء إلى مؤسسة التحكيم لفض منازعات طلبيات إدارة الأوقاف؟
للإجابة عن هذا السؤال، لابد من الرجوع إلى المقرر أعلاه، فعند قراءته لا نجد نص قانوني يمنع من اللجوء إلى مؤسسة التحكيم وإن كان الواقع العملي لا توجد ملامح على لجوء إدارة الأوقاف مع المستثمر من أجل إبرام اتفاق التحكيم، لكن في اعتقادنا إن الخلافات الناشئة عن العقود الإدارية تجد ميدانا خصبا في مجال الصفقات العمومية عموما وطلبيات إدارة الأوقاف خصوصا.
وبما أن الاجتهاد القضائي الإداري ليس غنيا باجتهاداته كما نتصـــــــــــــور فإن أصحاب الصفقات يفضلون دائما إيجاد حلول خارج أسوار المحاكـــــــــم ويتفادون مساطر معقدة طويلة، ومكلفــــــــــــة والناتجة عن الثقل الذي تمثله الدولة، بدءا بكيفيات إسناد الصفقة، وطول المساطر القضائية، والتقاعس في تنفيــــــــــــذ الأحكام الصادرة ضد الإدارة .
الفقرة الثانية: عقود الشراكة لإدارة الأوقاف مع القطاع العام أو القطاع الخاص
من بين أهم المستجدات التي طرأت على مدونة الأوقاف هو التعديل الذي تم سنة 2019، حيث تم تنظيم آلية جديدة لاستثمار بموجب المادة 62 المكررة منه، ويتعلق الأمر باستخدام جزء من العقار الوقفي في تمويل شراكة استثمار الأوقاف العامة مع القطاع العام أو الخاص، جراء عدم قدرة إدارة الوقف على التمويل الذاتي؛ كما يحدد ذلك النظام القانوني لعقود واتفاقية الشراكة مع بيان الآثار المترتبة عن هذه الشراكة على ديمومة جزء من العقار الوقفي، وعلى فلسفة وخصوصية استثماره المؤسسية على ضوابط شرعية دقيقة، تمكن من المحافظة عليه واستدامته مع تعمیره واستثماره بتطبيق بدائل تمويلية أخرى .
وللإشارة قد صدر مقرر لوزير الأوقاف والشؤون الإسلامية رقم 3455.19 صادر بتاريخ 3 مارس 2022 في شأن تحديد إجراءات إبرام إدارة الأوقاف باسم الأوقاف العامة لعقود واتفاقيات الشراكة مع القطاع العام أو القطاع الخاص،
مما يمكن القول أن مسألة حدوث منازعات في هذا النوع من العقود يمكن توقعها مستقبلا ما دام النص القانوني صدر منذ سنتين، ودليل ذلك أن عقود الشراكة من العقود المعقدة والمتشابكة، بحيث يوجد إلى جانب العقد الرئيسي عدد من العقود، ويتداخل عدد من الأطراف في تنفيذها، بالإضافة إلى امتداد تنفيذها على فترة زمنية طويلة. وكنتيجة لتعدد الأطراف في تنفيذ هذه العقود، فمن المؤكد أن يحدث نزاعات ناشئة عن تضارب المصالح،
يبرر ذلك بشدة كون شركة المشروع هي نتاج اتحاد مالي يضم الممولين، والمقاولين، والموردين، والمشغلين...، وبالتالي فقد تحدث نزاعات عديدة نتيجة تعدد المهام التي يقوم بها الأطراف، زد على لك استعانة شركة المشروع بمقاولين من الباطن لأجل تنفيذ بعض الأعمال، وكذلك في حالة عدم تنفيذ أطراف الاتفاقية الرئيسية بين الجهة المانحة وشركة المشروع، وهذه المنازعات من شأنها أن تؤثر سلبا على سير المشروع وعلى عملية التنمية الاقتصادية للوقف .
لهذا وجب الاعتماد على أساسيات التحكيم كوسيلة لحل منازعات عقود الشراكة التي تبرمها إدارة الأوقاف، خصوصا أن التحكيم أصبح الوسيلة الأكثر قبولا من طرف المستثمرين والشركات العالمية متعددة الجنسيات لحل نزاعاتهم، لما يتوفر عليه من مميزات وخصائص تجعله الوسيلة الأكثر مرونة بالمقارنة بالقضاء الرسمي .
وفي الأخير نتساءل عن مشروعيــــــة اللجوء إلى اتفاق التحكيــــم في العقود الإدارية؟ تباينــــت التشريعات في موقفها تجاه مشروعيـــة اللجوء إلى التحكيم لحل منازعات العقود الإدارية فالمبـــــدأ العام في التشريع الفرنسي، هو حظر لجوء الدولة وأشخاص القانون العام إلى التحكيـــــم لحسم المنازعات الإدارية، إذ يستند هذا المبدأ على نصوص تشريعية لا تجيز لأشخاص القانون العام الاتفاق على التحكيم لحل منازعاتها، ومنها ما نص عليه المشرع الفرنسي في المادتين 83 و1004 من قانون المرافعات الفرنسي الصادر سنة 1803.
إذ نصت المادة 1004 على عدم جواز إبرام اتفاق تحكيم في المنازعات التي يوجب القانون تبليغ النيابة العامة بشأنها وحضورها في الدعوى، وحددت المادة 83 المنازعات التي يجب أخطار النيابة العامة بها، وهي التي تخص الدولة والاملاك العامة والمدن والمؤسسات العامة....
وتأكد هذا الحظر في المادة 2060 من القانون المدني الفرنسي رقم 626 الصادر سنة 1972 بعد ما تم الغاء المادتين السابقتين، وامتد ليشمل كل المسائل المتصلة بالنظام العام بصفة عامة، إلا أنه تدارك ذلك بموجب القانون رقم 596 في 9 / 5 / 1975، الذي قضى باستثناء بعض فئات المؤسسات العامة الصناعية والتجارية التي يمكن لها اللجوء للتحكيم على أن يكون ذلك بموجب مشارطة تحكيم وليس عقد تحكيم. فالقاعدة العامة التي وضعتها هذه النصوص هي منع الأشخاص المعنوية العامة من الاتفاق على التحكيم، ولا يمكن أن يكون هناك استثناء على هذه القاعدة إلا بناء على قانون. إلا أن المشرع قد خرج على هذا الأصل العام وأورد استثناءات تهدف إلى تخفيف تكدس القضايا لدى القضاء الإداري وتقريب التنظيم الإداري من التنظيم التجاري، وإن كانت هذه الأهداف لم تتحقق عملاً إلا قليلاً .
ويستفاد مما سبق، أن المشرع الفرنسي أوجب ضرورة أن يكون نص صريح ينص على جواز الاتفاق على التحكيم في فض منازعات العقود الإدارية، وهو ما يعني استبعاد المنازعات الوقفية من مجال التحكيم على اعتبار أنه لا يوجد نص قانوني صريح يجيز اللجوء إلى التحكيم،
غير أنه على مستوى القانون رقم 95.17 المتعلق بالتحكيم والوساطة الاتفاقية، لا يتعارض مع إمكانية اللجوء إلى اتفاق التحكيم بصريح المادة 14 منه التي جاء فيها ما يلي: "يجوز لجميع الأشخاص من ذوي الأهلية الكاملة، سواء كانوا ذاتيين أو اعتباريين، أن يبرموا اتفاق تحكيم لتسوية النزاعات الناشئة عن الحقوق التي يملكون حق التصرف فيها، ضمن الحدود ووفق الإجراءات والمساطر المنصوص عليها في هذا القانون، مع التقيد بمقتضيات الظهير الشريف الصادر في 9 رمضان 1331 (12 أغسطس 1913) بمثابة قانون الالتزامات والعقود، كما تم تغييره وتتميمه، ولا سيما الفصل 62 منه".
الخاتمة:
وفي الختام، يمكن القول أن تفعيل مؤسسة التحكيم في فض المنازعات الوقفية، سيساهم في تسهيل عملية استثمار الأموال الوقفية من خلال عمارها، على اعتبار أن أغلب الأصول الوقفية هي عقارات وغالبيتها هي مخربة، وهو الأمر الذي دفع بالمشرع الوقفي الاعتماد على صيغ حديثة للاستثمار مع الاحتفاظ على الصيغ التقليدية، وأخص الذكر هنا عقود الشراكة بين إدارة الأوقاف والقطاع العام أو القطاع الخاص الي سوف تساهم بشكل كبير في إعمار الوقف وتثمينه، غير أنه لا بد من التنصيص بشكل صريح على إمكانية ابرام اتفاق التحكيم بين إدارة الأوقاف والشريك، حيث سيمكن هذا التنصيص من استقطاب مستثمرين أجانب يتوفرون على موارد مالية ومؤهلات وخبرات، لأن المستثمر يفضل اللجوء إلى مؤسسة التحكيم نظرا لفاعليتها في السرعة وقلة التكلفة.
من أجل تحميل هذا المقال كاملا - إضغط هنا أو أسفله