المعارضة البرلمانية بالمغرب: من سؤال الاختصاص إلى واقع الممارسة - إبراهيم قديوي





المعارضة البرلمانية بالمغرب: من سؤال الاختصاص إلى واقع الممارسة

إبراهيم قديوي

طالب باحث بسلك الدكتوراه، كلية العلوم القانونية والسياسية، جامعة الحسن الأول سطات


The parliamentary opposition in Morocco: from the question of competence to the reality of practice

ibrahim KADIOUI


مقدمة:

طبقا للقاعدة التي تنص على أنه " لا ديمقراطية حقيقية بدون معارضة " ، وبأن المعارضة جزء أساسي من النظام الديمقراطي  ، الذي يرتبط سلوكا وممارسة في بعده العام بمفهوم المشاركة، على اعتبار أن هذه الأخيرة هي مولد ( Dynamo) الديمقراطية ولا تتحقق إلا بمواطنين على علم بالشأن العام، نشيطين وإيجابيين ( Actifs) ، وعلى علم بالأمور السياسية، بدرجة مهمة، ومرتبطين ارتباطا عميقا بقيم المشاركة وإرادة الالتزام ، وبالتناوب السياسي الديموقراطي ، كمقاربة تحتضنها الممارسة السياسية من خلال السماح للنخب السياسية والفاعلين السياسيين بتسيير السلطة عبر حلقات ودوريات مبنية ومؤسسة على برامج سياسية متناقضة، وعلى تصورات تدبيرية مختلفة بين المعارضة البرلمانية والأغلبية الحكومية ،

 فالمعارضة تعتبر أحد الأركان الأساسية للأنظمة البرلمانية الديمقراطية بالنظر للدور الذي تقوم به في تعزيز الديمقراطية، و ضرورة الرقي بأدوار المعارضة في التجربة المغربية كان توجها راسخا لدى المؤسسة الملكية وهو ما تجلى من خلال خطاب العرش لسنة 1979 والذي جاء في نصه ما يلي:"...  آمنا ولا زلنا نؤمن بضرورة تشكيل معارضة تجاه الحكومة ولو تعثر وجود هذه المعارضة لأنشأناها وأعزنا بإنشائها ذلك أننا على إيمان أنه لا قيام لدمقراطية حقيقية بدون معارضة" .

و ارتباط مفهوم المعارضة بالحقل السياسي وبالديمقراطية هو ارتباطا يكاد يكون جوهريا مصطلحا ومفهوما، يتحدد بحسب الأنظمة السياسية التي يعمل في إطارها، وكل نظام يحدد مفهوم المعارضة بحسب التجربة التاريخية والسياسية، وخلفياته الأيدولوجية، ورؤيته لتدبير الشأن العام، أهي رؤية تشاركية أم واحدة، أفقية أو عمودية، ويحدد تصور المعارضة نفسها للعمل السياسي، فكلاهما يسعى إلى تحقيق رهاناته السياسية التي تنسجم مع منطلقاته الأيدولوجية .

وإذا كانت المشاركة السياسية للمعارضة لها أهميتها خاصة في ضمان الدولة ودمقرطتها واستقرارها ، من خلال  الدور الذي تلعبه في التجسيد الفعلي والنهوض بالديمقراطية وإجلاء الإرادة الشعبية بالنظر إلى التطور الكبير والمسار المديد والمتشعب والمتذبذب الذي عرفته في التجارب السياسية، بحيث صار يشكل أحد أهم الدعامات والعلامات الأساسية والفارقة في بنية وهندسة الدول، فإن الأنظمة السياسية ومن خلال دساتيرها وقوانينها تضمن لها مكانة تخولها مجموعة من الحقوق التي تمكنها من النهوض بمهامها على أكمل وجه في العمل البرلماني وكذا الحياة السياسية.

ولعل قيام المشرع الدستوري المغربي بدسترة حقوق المعارضة البرلمانية بمقتضى مضامين دستور 2011 يعتبــــــــــر خطوة إيجابيــــــــة نحو تكريس معطى مؤسســـــــــــة المعارضة البرلمانيــــة وتمكينها مــــن وسائل العمل البرلماني وتعزيز التـــــــــوازن على مستوى المؤسسات الدستورية عموما وعلى مستــــــوى المؤسسة التشريعيـــــــة خصوصا، كخطـــــــــوة متقدمة لم تعد معه المعارضة مجــــــــرد فاعل سياسي بل أصبحت أيضا موقـــــــعا قانونيا، كما لم تعد مختزلة في مؤسسة الحزب السياســــــــــــي وإنما امتدت إلى الفضاء البرلماني عبر فرق المعارضة البرلمانية .

حيث عرفت المعارضة البرلمانية انبعاثا جديدا، بدسترتها لأول مرة في التاريخ الدستوري المغربي، ومن تم الاعتراف بها كمكون أساسي للمؤسسة التشريعية والحياة السياسية والاجتماعية من خلال الوظائف الممنوحة لها، هذا التكريس الدستوري يدل على وجود إرادة حقيقية في تعزيز وتفعيل وظائفها في النسق الدستوري ومنحها المكانة التي تستحقها انسجاما مع ما هو معمول به في الأنظمة البرلمانية المقارنة.

وسنحاول في هذه المقالة ملامسة جوانب التغيير في مركز المعارضة البرلمانية من خلال ما جاء به دستور 2011، وذلك بالنظر للأهمية التي أصبحت تكتسيها المعارضة البرلمانية داخل النقاش العمومي، وتتحدد الإشكالية الرئيسية لهذه المقالة في مساءلة مدى تمكن المعارضة البرلمانية في تكريس وجودها الفعلي والاستفادة من صلاحياتها الدستورية وبلوغ الأهداف والأدوار التي أناطها بها الدستور وذلك في ظل مختلف الإمكانات والاختصاصات الجديدة المخولة لها.

وهو ما سنحاول معالجته من خلال مطلبين المطلب، الأول سيتم من خلاله محاولة رصد مركز المعارضة البرلمانية في النظام الدستوري المغربي، ليتم في مطلب ثاني محاولة قياس معادلة التطابق بين واقع وأداء المعارضة البرلمانية.

المطلب الأول: مركز المعارضة البرلمانية في النظام الدستوري المغربي

إن الإطار الذي تم فيه دسترة المعارضة البرلمانية وإعطاءها حيزا مهما داخل فصول الدستور نابع من اعتبارها شريك أساسي في عملية الانتقال نحو الديمقراطية، الأمر الذي جعل بالمشرع يرتقي بمركزها على غرار مختلف الدساتير السابقة (الفقرة الأولى)، وهو ما يتضح من خلال مجموعة من الفصول الذي أطرت المركز الجديد لها (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى: قراءة في مركز المعارضة البرلمانية المغربية

من ضمن القضايا التي كانت ولازالت تشكل موضوع نقاش وسجال قانوني وسياسي واجتماعي قبل وبعد صدور دستور 2011، هو مطلب تقوية دور مؤسسة البرلمان بشكل عام، وتعزيز وتقوية مكانة المعارضة البرلمانية بوجه خاص، داخل البنية السياسيـــــــــــة والمؤسساتيــــــــــة، وذلك لدورها و مكانتــــــــها بحيــــــــث كان مطلبا أساسيا ضمن مطالب الإصلاحات السياسية والدستوريــــــــــة التي رفعتــــــها مختلـــــــــف القوى السياسية والنقابية والحقوقيـــــــة للجنة الاستشارية لمراجعة الدستور، وذلك بعد أن ظلت حقوق المعارضة البرلمانية في المغرب مقيدة من طرف المشرع الدستوري على مدار التجربة الدستورية طيلة خمس عقود، ابتداء من دستور 1962 حتى دستور 2011.

وعلى الرغم من تفاوت هذه المطالب، إلا أن تقوية الدور السياسي والقانوني للمعارضة البرلمانية وتكريس أدوارها الدستورية حظي بحيز مهم في مذكرات الأحزاب السياسية على وجه الخصوص في أفق إعطاء المعارضة البرلمانية مكانة خاصة في الوثيقة الدستورية، وتخويلها الآليات الكفيلة بضمان قيامها بمهامها التمثيلية والتشريعية والرقابية، ومساهمتها في البناء الديمقراطي والمؤسساتي، وتكريس مبدأ توازن السلطات، والتوازن المؤسساتي ، 

وذلك اعتبارا لكون المعارضة بالمغرب ظلت في جميع التجارب السياسية والبرلمانية والدستورية دون أن تتمتع بوضع قانوني خاص يكسبها حقوقا محددة تميزها عن الأغلبية البرلمانية، ويعطيها وضعا امتيازيا إزائها، اللهم ما يتعلق ببعض "الحقوق الضمنية" التي كانت متاحة لجميع البرلمانيين بغض النظر عن اختياراتهم السياسية، قبل أن يحدث دستور 2011 بعض التحول على هذا المستوى ، إذ لم تعد معه المعارضة مجرد فاعل سياسي بل أصبحت أيضا موقعا قانونيا، كما لم تعد مختزلة في مؤسسة الحزب السياسي وإنما امتدت إلى الفضاء البرلماني عبر فرق المعارضة البرلمانية، وإن كان هذا التحول لم يمنع من استمرار عملها مكبلا بعدد من القيود، التي تحد كثيرا من هامش تحركها .

و بالنظر لما يثيره تحديد المقصود بالمعارضة البرلمانيـــــــــة من التــــباس، فإن إعـــــــطاء تعريف لهذا المفهوم يبقــــى مسألة ذات أهمية، على اعتبار أنه هــــــــــو الذي سيسمح للهيئات السياسية المعنية بهــــــــذا الوصف بالاستفادة من الحقوق الخاصة المقررة لها، وإن كان الدستور المغـــربي ـ شأنه فـــــي ذلك شأن دساتير معظم الدول التي أقرت بحقوق المعارضة البرلمانية ـ قد تجاهل إعطاء تعريــــــف لها، واكتفى بتحديــــــد حقوقها، قبــــــل أن يتولى كل من النظام الداخلـــــي لمجلس النواب و النظام الداخلي لمجلــــــس المستشارين القيام بهذه المهمة . 

وفي إطار مقاربة النص الدستوري المؤطر لمفهوم المعارضة والأنظمة الداخلية للبرلمان ، يتضح أن القصد الدستوري لمفهوم المعارضة يهدف إلى اعتبارها موقع يمكن أن يحتله كل من الفرق البرلمانية والمجموعات النيابية والأعضاء البرلمانية غير المنتسبين لأي فريق أو مجموعة، والذين أعلنوا وصرحوا بأنهم ينتمون إلى المعارضة، والذين لهم الحق في أن يستفيدوا كلهم من الحقوق المحجوزة للمعارضة البرلمانية والأعضاء غير المنتسبين لأي منهما، 

وهو ما يفيد بمفهوم المخالفة أنه لا يمكن للفرق والمجمــــوعات والأعضاء البرلمانيين غيـــــر المنتسبين أن يحتلوا هذا الموقع وهذه الوظيفة طالما لم يعلنوا ولم يصرحوا بشكل رسمي علني أنهم يختارون الانتماء للمعارضة .

وفي سبيل رفع الغموض الذي يلف مفهــــــــوم المعارضة قام المجلـــــــس الدستوري بتوحيد هـــــــذا المفهوم معتبرا أن " الحقوق المخولة للمعارضـــــــــة، وكذا الواجبات الواقعة على عاتقـــــــــها بموجب الفصل العاشر، لا تقتصر على الفرق البرلمانية، بل تشمل كافة مكونات المعارضة من مجمـــــــوعات نيابية ونواب غير منتسبين" ، مما يعني معه أن مفهوم المعارضة البرلمانية يسري على جميع النواب والمستشارين الذين اختاروا الاصطفاف في صف المعارضة سواء كانوا ينتسبون إلى فرق أو مجموعات نيابية أم غير نيابية أم غير منتسبة، ونتيجة لذلك، يحق لهم الاستفادة من الحقوق المخولة للمعارضة وكذا الواجبات الواقعة على عاتقها بمقتضى الفصل العاشر .

بناء على ما سلف، ومن خلال الوثيقة الدستورية لسنة 2011، وقبل الخوض في تفكيك وتشريح الوظائف والأدوار التي تضطلع بها المعارضة البرلمانية في المغرب، والتنقيب عن مدى انسجام الإمكانيات والاختصاصات الجديدة التي منحها المشرع الدستوري، وأمام الالتزامات الملقاة على عاتقها، ومدى قدرة هذه الإمكانيات على مساعدة المعارضة البرلمانية في بلوغ الأهداف ولعب الأدوار التي أناطها بها الدستور، والطريقة التي تمثل بها دستور 2011 موقع المعارضة البرلمانية في المغرب، لا بد من الوقوف والإدلاء ببعض الملاحظات التي يثيرها مركز المعارضة البرلمانية في الوثيقة الدستورية لسنة 2011:

الملاحظة الأولى: وهي أن دستور 2011 يمزج بين طريقتين في تناول المعارضة البرلمانية داخل هندسته الدستورية، الأولى حافظ فيها على الطريقة غير المباشرة التي كانت تتمظهر بها المعارضة في أحكام الدساتير السابقة ، 

وذلك من خلال بعض المقتضيات التي تسمح لها بالتواجد الفعلي في قلب المؤسسة البرلمانية مثل (النصاب المتعلق بالطعن في القوانين العادية أمام المجلس الدستوري)  . والثانية تتعلق بالشكل الصريح الذي أصبحت تتمظهر به هذه المعارضة اليوم، بحيث لأول مرة نصادف في الحياة الدستورية المغربية وثيقة دستورية تخصص مساحة مهمة من أحكامها "للمعارضة البرلمانية" .

الملاحظة الثانية : أن الدساتير السابقة على دستور 2011 لم تكن تنص أو تشير بصريح العبارة إلى شيء اسمه المعارضة البرلمانية، هذا الأمر قد يكون له عدة تفسيرات من بينها القوة والحرارة السياسية التي كانت تتميز بها معارضة الستينات؛ السبعينات؛ الثمانينات؛ وبداية التسعينات، فالمعارضة البرلمانية بالمغرب خلال هذه المراحل كانت معارضة فعالة وربما هذه الحرارة هي التي كانت وراء طمس وعدم الاعتراف الصريح بالمعارضة البرلمانية في الدساتير السابقة .

ومنه فالمشرع تجاوز فترته القديمة والتي كانت مبنية على التوجس وعدم الثقــــــــة نتيجة القوة والخطر الذي كانت تشكله المعارضة في حقبة الستينيات والسبعينيات والثمانيات، بحمولتـــــــه السياســـــــية والأيديولوجية وبطبيعة مكوناته، لأن معارضة هذه الحقبة كانت قوية بكل المقاييس مقارنة بمعارضة اليوم، وهذا بإجماع المراقبين والمهتمين والباحثين، فالمعارضة في هذه الحقبة لم تكن معارضة الأغلبية من داخل المؤسسة البرلمانية، بل كانت معارضة تناقش قضايا كبرى ليس بالقضايا التي تشتغل عليها البرلمانات الحالية ، 

ومع ذلك ورغم قوة المعارضة في تلك الحقبة، فالمشرع الدستوري لم يعمل على منح المعارضة نافذة حقوقية؛ دستورية، لممارسة صلاحيات تمكنها من الاعتراف لها بحقوق في قلب الوثيقة الدستورية، ولم يعترف لها بالطابع المؤسساتي.

الملاحظة الثالثة: وهي أن دستور 2011 استعمل تعبير " المعارضة البرلمانية" دون سواها من المعارضات، علما بأن المعارضة أشكال وأنوع؛ المعارضة السياسية، المعارضة البرلمانية، المعارضة المؤسساتية، المعارضة الثورية، المعارضة الدستورية وكل شكل من أشكال المعارضة له معناه المتميز والخاص فالمعارضة السياسية مثلا ليست بالضرورة معارضة برلمانية، علما أن المعارضة البرلمانية قوة سياسية ممثلة في البرلمان .

بيد أن هذا التنوع في المعارضة البرلمانية وفي الأوضاع الخاصة بها في كل نظام سياسي لا يمنع من القول أنها تحظى بمكانة خاصة في الأنظمة الديمقراطية، والتي تجد مصدرها بدرجة أساسية في اعتراف الوثيقة الدستورية بشرعيتها في الوجود، وبأهميتها في الحياة السياسية، وقد حاول الدستور المغربي لسنة 2011 مسايرة هذا التوجه عندما عمل ولأول مرة، على الإقرار بشرعية المعارضة البرلمانية من خلال التأكيد على أن المعارضة البرلمانية مكونا أساسيا في المجلسين، وتشارك في وظيفتي التشريع والمراقبة ، والتسليم بحقها في ممارسة السلطة عن طريق التناوب الديمقراطي، محليا وجهويا ووطنيا .

علاوة على تحديد طبيعة الحقوق التي تستفيد منها ، وإسناد مهمة تحديد كيفية ممارستها إلى قوانين تنظيمية أو قوانين أو الأنظمة الداخلية لكل من مجلسي البرلمان .

كما يمكن للمعارضة البرلمانية أن تظهر أيضا بكيفية غير مباشرة من خلال الإقرار الدستوري بشرعيتها من خلال تنصيص الدستور على أن السيادة للأمة تمارسها مباشرة بالاستفتاء، وبصفة غير مباشرة بواسطة ممثليها ، وأن الانتخابات الحرة والنزيهة والشفافة هي أساس مشروعية التمثيل الديمقراطي ، في وقت ظلت فيه الدساتير السابقة لا تقيم ربطا واضحا بين البرلمان وتمثيل إرادة الأمة، بعدما كانت تجعل من الملك الممثل الأسمى لها .

والرفع من مكانة المعارضة البرلمانية والعمل على احتوائها على مستوى دستور 2011 ربما يجد تفسيره في أن الدولة بدأت تستشعر حجم المخاطر التي يواجها البرلمان المغربي ككل بغض النظر عن أجنحته أغلبية ومعارضة، بعدما أصبحت صورة البرلمان مبهتة وتراجع منسوب ثقة المواطن في البرلمان أغلبية معارضة، وذلك أمام صعود قوة الحركات الاحتجاجية، بعدما تحول الاحتجاج إلى ثقافة مغربية بامتياز، إذ أن الأرقام الرسمية ومنها إحصائيات وزارة الداخلية لم تعد تخفي عمق الغضب الشعبي الذي عبرت عنه عشرات الاحتجاجات في اليوم الواحد على امتداد الجغرافية المغربية، وهو مؤشر على تجاوز العلاقة بين المجتمع ومؤسسات الدولة متجاوزا سقف التفاوض الصريح والضمني بين الدولة والأحزاب السياسية التي ينظر لها بشكل تحقيري .

وهو ما يتجلى ليس على مستوى حالة المغرب فقط وإنما على مستوى مجموعة من الدول بحيث دفعت الأوضاع بعض الحركات الاحتجاجية إلى تشكيل أحزاب جديدة، كما هو حال حزب  "بوديموس" في إسبانيا ، وحزب " سيريزا" باليونان، كما دفعت احتجاجات " جيزي بارك" بأحزاب المعارضة في تركيا إلى تحقيق العديد من المكاسب في انتخابات يونيو 2015 قبل أن تتم الدعوة إلى انتخابات جديدة، هكذا توزعت مساراتها وأفدت إلى تطورين هامين بحيث شجع بعضها في تكوين أحزاب نافست على أصوات الناخبين، وأضحت جزءا فعالا من المعارضة البرلمانية، بل وشاركت أحيانا في الائتلافات الحاكمة، كما في حالات أحزاب الخضر وبعض الدول الإسكندنافية، بينما نزع عدد من الحركات الاحتجاجات إلى الانضمام للأحزاب السياسية القائمة خاصة اليسارية، بعد أن استوعبت الأخيرة قضاياها وانفتحت عليها، وترتب عن هاذين المسارين تعميق الممارسة الديمقراطية وتوسيع مساحات التعددية في مجموعات كانت قد بدأت تشكو من فقر السياسية وترهلها .

ومنه فالمعارضة تكتسي أهمية كبرى في النظم الديمقراطية من حيث ضرورة الرأي والرأي المخالف وما تمتلكه المعارضة المشروعة من وسائل قانونية تمكنها من التعبير عن رأيها، باعتبارها جزءا لا يتجزأ من النظام السياسي كله، ومنه فالأحزاب السياسية المصطفة في المعارضة يتعين عليها أن تتوجه بسهام النقد للسلطة الحكومية المتصدرة لنتائج الاستحقاقات الانتخابية، 

هذا النقد يجب أن يتناسب والظروف والسياقات السياسية بما لا يؤدي للإخلال بقواعد الشرعية الدستورية من جهة، ومن جهة ثانية، يتوجب على المعارضة تقديم البدائل للاختلالات التي أماطت عنها الستار وتوفرها على برامج قابلة للتنفيذ، كما يجب عليها أن تكون قادرة إن هي نجحت في الوصول إلى السلطة، على تحمل مسؤوليتها في استمرارية المؤسسات الدستورية والمحافظة على استمرارية المرافق العامة دون اضطراب أو توقف أو تعطل .

الفقرة الثانية: تجليات التحول في مركز المعارضة البرلمانية 

ارتبط نشوء المعارضة بمعناه العام بنشوء السلطة، أي باللحظة التي انقسم فيها الناس إلى حكام ومحكومين، لذلك عادة ما تعرف المعارضة من خلال موقعها إزاء السلطة، وتحيل على القوى السياسية التي لا توجد في السلطة وتعارض من هو فيها لتجسد "ما ينشأ لدى الإنسان من تساؤلات حول صحة القرارات التي تتخذها السلطة، والإجراءات التي تحاول تنفيذها في السياق الاجتماعي، ومدى تطابق هذه القرارات مع تصوراته الذاتية، أو الأحكام القيمية التي يحملها في داخله عن طبيعة وشكل النظام الاجتماعي الذي يرغب بالخضوع له" ، لذلك، غالبا ما يتجه مفهوم المعارضة إلى التعارض الموجود بين الحكومة وجزء من مكونات البرلمان و بالتحديد الفرق والمجموعات التي لم تصوت على البرنامج الحكومي، ولا تشارك في الحكومة، غير أن هذا التعريف لا يبدو دقيقا في تحديد المقصود بها، على اعتبار أن عدم المشاركة في الحكومة قد لا يمنع من مساندتها والتصويت لفائدة مبادرتها .

وإذا كان المعنى السياسي للمعارضة هو الحق في نقد سياسة الحكومة ومخالفتها والعمل على الحلول محلها بطرق سلمية وقانونية في ممارسة السلطات، إن هي فشلت في ترجمة برنامجها السياسي إلى مشاريع على أرض الواقع، فإن وظيفة المعارضة هي مراقبة ومراجعة الأغلبية التي تمارس السلطة وتعمل على إعداد البدائل و طرح الاقتراحات التي تعكس صورة الدولة الديمقراطية الحديثة وأهم معالم المجتمع الديمقراطي، لما تجسده من قيم السيادة الشعبية، والحرية والمشاركة السياسية، وصلب وجوهر الممارسة الديمقراطية، وأحد الضمانات الأساسية لحماية الحقوق والحريات، وبناء دولة القانون بكل ما تحمله من معاني ودلالات، 

وهو الأمر الذي دفع بالارتقاء بحقوق المعارضة البرلمانية إلى المستوى الدستوري، إيذانا باعتبارها شريك محوري في البناء الديمقراطي ، وفي الوظيفة التشريعية هذه الأخيرة التي تعبر عن صلب الصلاحيات الأساسية التي خلقت من أجلها إلا أنها في غالب الأنظمة الدستورية تعرف خلافات جوهرية، إما بين الغرفة الأولى والغرفة الثانية، وإما داخل مكونات الغرفة الواحدة، ما دفع بالمشرع الدستوري على إقرار مجموعة من الأجهزة والهيئات والمؤسسات والعمل على منحها مهام مختلفة لتكون مساندة ومساهمة في تجويد العمل البرلماني.

وبهدف تعزيز مكانة وتجويد أدوار المعارضة في البناء الدستوري خصت الوثيقة الدستورية لسنة 2011 المعارضة البرلمانية بمكانة خاصة، إذ لأول مرة في التجربة الدستورية المغربية يعترف الدستور بشرعية وجودها الدستوري ، وينص على دسترة حقوقها وتقعيد نظامها، وفعل "الدسترة " هنا ينم على وجود إرادة فعلية في تعزيز وتفعيل بناءاتها ووظائفها في النسق البرلماني، ومنحها المكانة الدستورية التي تليق بها انسجاما مع ما هو معمول به في الأنظمة البرلمانية المقارنة ، كآلية دستورية تندرج في صلب الإصلاحات الدستورية الشاملة الرامية  إلى التخفيف من الطابع الرئاسي للملكية في النظام السياسي المغربي والاتجاه بها تدريجيا نحو طابع برلماني، ولعل أبرز إقرار دستوري لهذا التوجه إضفاء سمة " البرلمانية" باعتبارها بعدا جديدا في توصيف نظام الحكم في المغرب .

وإلى جانب اعتبار المعارضة البرلمانية مكونا أساسيا في مجلسي البرلمان ، و جزء أساسي من النظام الديمقراطي، متى كانت مؤسسة دستورية وقانونية تؤثر إيجابا في تفعيل نظام الحكم في أداء وظائفها وتمثيل سلطة للشعب ، فهو إيذان باعتبارها شريك مفصلي/جوهري في بناء الديمقراطيات البرلمانية، فملحاحيه النقاش التي أفرزتها الممارسة البرلمانية في المغرب، جعلت دستور 2011 يدعو في مرتكزه الخامس إلى تعزيز الآليات الدستورية لتأطير المواطنين، بتقوية دور الأحزاب السياسية في نطاق تعددية حقيقية وتكريس مكانة المعارضة البرلمانية والمجتمع المدني، ولقد شكل موضوع المعارضة في الحوار العمومي لسنة 2011، مبعثا لكثير من الاقتراحات الحزبية التي حاولت أن تقتفي عن وضعية مميزة للمعارضة في دستور 2011 .

حيث أن التجربة الدستورية التي عرفها المغرب طيلة ما يقارب نصف قرن، ابتداء من دستور 1962، ومرورا بدساتير 1970 و1972 ووقوفا عند دستور 1992 و1996، عرفت حقوق المعارضة البرلمانية تقييدا من طرف المشرع الدستوري، رغم مطالبة العديد من الفاعلين السياسيين والأحزاب السياسية بتقوية هذا الدور، كالمذكرة التي تقدمت بها الكتلة الديمقراطية للإصلاحات الدستورية لسنة 1992 والتي طالبت بتقوية دور المعارضة البرلمانية في مجال الرقابة والتشريع لكن المشرع الدستوري لم يستجب إلا لبعض هذه المطالب وبقيت المطالب الأخرى معلقة .

 وذلك خلافا لما جاء به دستور 2011 الذي عمل على الارتقاء بحقــــوق المعارضة البرلمانية و دسترتها وإعطائها مكانة في العمل السياسي مـــــــــــن أجل تسيير المؤسسات السياسيـــــــــة، و بذلك تشكل هذه المقتضيات تقدما دستوريا تستطيع من خلاله المعارضة مراقبــــــــــــة عمل الحكومة وبذلك يضيق مـــــــــجال السرية السياسية بشكل ملحوظ، ويؤدي قبــــــــــــول المعارضة وجعلها مؤسسة فعليــــــــــة إلى خلق توازن سياسي، للحد من الهيمنة على الأقلية ، وهو ما يعكس إرادة حقيقية في تعزيز وتفعيـــــــــل وظائفها في النسق الدستوري وكذا في النظام السياسي، حيث أن دسترة المعارضة البرلمانية وتمكينها من وسائل العمل البرلماني، وتعزيز التوازن على مستوى الحياة البرلمانية بجعلها فعالة للحد من هيمنة الأغلبية، كما أكد على ذلك خطاب الملك محمد السادس، في افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الثانية للولاية التشريعية التاسعة، يوم 12 أكتوبر 2012 على أن تفعيل دور البرلمان لن يتأتى دون وجود معارضة برلمانية فعالة قادرة على فرض ذاتها كشريك في تدبير العمل البرلماني.

 وتبقى دسترة حقوق المعارضة في المغرب خطوة نحو تكريس معطى مأسسة المعارضة البرلمانية، وتمكينها من أدوات العمل والسير بها نحو المراتب الأولى في العمل البرلماني، مما سيعزز من لعبة التوازنات على مستوى اللعبة البرلمانية، خصوصا وأن طريقة التنصيص جاءت مفصلية لا تحتاج إلى تأويلات، مما يجعلها محط الحفظ والتحصين والمناعة ضد كل الاعتداءات التي قد يكون مصدرها القوانين أو على مستوى الممارسة، لأنها حائزة لقوة الشيء الدستوري المنصوص عليه .

المطلب الثاني: معادلة التطابق بين المركز الدستوري وبين أداء وواقع المعارضة البرلمانية 

شكلت المعارضة البرلمانية أحد الأركان الأساسية سواء في الحياة السياسية أو داخل المؤسسة التشريعية، والتي بصمت على مجهود مقدر في تاريخ  تطور التجربة الدستورية المغربية التي انطلقت مع دستور 1962، وصولا لأخر تعديل دستوري لسنة 2011  وتظهر دسترة حقوق المعارضة البرلمانية في الدستور المغربي نتيجة للفلسفة التي أطرت هذه الوثيقة التي تجاوزت في مضمونها الإشكالات التقليدية (الفقرة الأولى) و مكنتها من التحرر من القيود المعيقة لعملها والرفع من نجاعة أدائها وتقوية دورها الجوهري في بناء دولة المؤسسات ( الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى:  مركز المعارضة البرلمانية من داخل فصول دستور 2011

إن دستور 2011 وحسب ما نص عليه الفصل العاشر منه ، إلى جانب فصول أخرى متفرقة على مستوى الوثيقة الدستورية جاء بمجموعة من المقتضيات التي عززت مركز المعارضة داخل النسق البرلماني بالمغرب، غير أن المتمعن وخصوصا في مضمون الفصل العاشر من الدستور يعتقد في الوهلة الأولى أنه فصل الحقوق في حين بمجرد التدقيق في مقتضيات هذا الفصل  يتبين إمكانية التمييز بين حقوق المعارضة البرلمانية وبين الواجبات الملقاة على عاتقها، وإن كان دستور 2011 استعمل صيغة تقدم كل مشمولات هذه الفصل على أنها حقوق المعارضة، في حين أنه يضم مجموعة من الواجبات والالتزامات .

واعتبارا للأهمية التي تكتسيها لغة الدستور كأداة للتأصيل والتقعيد القانوني والتقني، ولفهم النية والقصد القانوني لدى المشرع الدستوري، فإن هذا الأخير عند صياغته للفصل العاشر من الدستور اختار في مناسبتين استعمال فعل (يضمن) في الفقرتين الأولى والثانية:

" يضمن الدستور للمعارضة البرلمانية مكانة تخولها حقوقا، من شأنها تمكينها من النهوض بمهامها، على الوجه الأكمل، في العمل البرلماني والحياة السياسية. ويضمن الدستور، بصفة خاصة، للمعارضة الحقوق التالية..."، وباستعمال الدستور لفعل المضارع المعلوم " يضمن" عند مخاطبته للمشرع المحال عليه تنزيل هذه الحقوق، يكون قد ألزم هذا الأخير بعدم مخالفة هذه المقتضيات وعدم التوسع في تأويلها، حيث أن جميع أفعال المضارع في القانون تساوي فعل أمر .

غير أنه رغم استعمال الدستور لغة تفيد بأن كل ما هو مدرج في الفصل العاشر يرتبط بحقوق تهم المعارضة البرلمانية، فإن القراءة التركيبية والتفكيكية المعتمدة على التشريح الدقيق لأحكام ومقتضيات هذا الفصل، تبين أن هناك بعض المؤشرات التي توضح أن هذا الفصل هو في الحقيقة خليط من الحقوق والواجبات وأشياء أخرى.

ولا شك، أن دستور 2011 استعمل طريقتين في التعامل مع تخويل حقوق المعارضة، فهناك بعض الحقوق والصلاحيات التي تستفيد منها هذه الأخيرة بناء على معايير معينة، مثل الاستفادة من حيز زمني في وسائل الإعلام على أساس معيار التمثيلية، في حين لم يعلن الدستور عن معايير محددة في التمتع والاستفادة من باقي " الحقوق". مثل " الحق" المتعلق بالتمثيلية الملائمة في الأنشطة الداخلية لمجلس النواب ، 

وبالتالي استعمل المشرع تقنية المزاوجة بين الوضوح والغموض في الإعلان عن حقوق المعارضة، فهناك من الحقوق  أوردها الدستور بشكل واضح لا يحتمل أي تقدير ( مثل رئاسة اللجنة المكلفة بالتشريع)، وحقوق تم ذكرها بشكل عام وغامض مثل ( توفر المعارضة على وسائل ملائمة للنهوض بمهامها المؤسسية)، فهذه العبارة قد تعني أنه من حق المعارضة البرلمانية التوفر على كل شيء وفي نفس الوقت عدم حصولها على أي شيء .

وفي مقابل الحقوق نجد من بين الالتزامات الملقاة على عاتق المعارضة، المساهمة الفعالة في الدبلوماسية البرلمانية، للدفاع عن القضايا العادلة للوطن ومصالحه الحيوية ، وهذا ما حاولت الأنظمة الداخلية لمجلسي البرلمان ترجمته من خلال المادة 71 من النظام الداخلي لمجلس النواب والتي جاء فيها ما يلي:

 " لفريق أو أكثر من فرق المعارضة تقديم اقتراحات لمكتب المجلس بهدف تعزيز دور الدبلوماسية البرلمانية"، كما نصت أيضا المادة 298 منه في فقرتها الثانية على أنه: "تساهم المعارضة في الشعب الدائمة وفي كافة الأنشطة الدبلوماسية للمجلس بما لا يقل عن نسبة تمثيليتها، طبقا لأحكام الفصل العاشر . وهو ما أكد عليه النظام الداخلي لمجلس المستشارين من خلال المادة 88 منه والتي نصت على أنه: " تساهم المعارضة في جميع الشعب البرلمانية بنسبة لا تقل عن تمثيليتها ويراعي في تشكيل الوفود البرلمانية في المهام الخارجية حضور المعارضة".  

ومنه فرغم استعمال الدستور لغة تفيد بأن الأمر يتعلق بحق من حقوق المعارضة، فإن التمعن في الشكل والمضمون اللغوي والتركيبي الذي ورد به، أو غاية العمل الذي ينتظر المعارضة البرلمانية في هذه الأحكام، تفيد بأن الأمر يتعلق بواجب أو التزام " ثقيل" ملقى على عاتق المعارضة البرلمانية، بمعنى أن الأمر يرتبط بمسؤولية المعارضة في النهوض بدورها الدستوري في الجانب المتعلق بالترويج للقضايا العادلة للوطن والدفاع عنها وعن مصالحها الاستراتيجية في المحافل الدولية وخارج الوطن، وهو ما يمكن اعتباره بالالتزام الأول . 

فيما يكمن الالتزام الثاني في تأطير وتمثيل المواطنات والمواطنين، من خلال الأحزاب السياسية المكونة لها، طبقا لأحكام الفصل 7 من دستور 2011  ، هكذا أضحت الأحزاب السياسية، بموجب فصل خاص يميزها عن المنظمات النقابية والغرف المهنية، ولأجل أن لا يظن بأن هذا الدور خاص بالأحزاب السياسية المشاركة في الحكومة، خص المشرع الدستوري الأحزاب السياسية المعارضة الممثلة في البرلمان وغير الممثلة فيه، بفصل خاص يضمن للمعارضة جملة من الحقوق منها حق المساهمة في تأطير وتمثيل المواطنات والمواطنين، من خلال الأحزاب المكونة لها، وحق ممارسة السلطة عن طريق التناوب الديمقراطي، محليا وجهويا ووطنيا، في نطاق أحكام الدستور. 

أما الالتزام الثالث، والذي يتمثل فيما تم التنصيص عليه أيضا بموجب الفصل العاشر على أنه " يجب على فرق المعارضة المساهمة في العمل البرلماني بكيفية فعالة وبناءة"، إذ يصعب اعتبار هذه الصيغة تعبر عن حق من حقوق المعارضة وإن قدمها الدستور على أنها حق . 

والى جانب الفصل 10 من دستور 2011 الذي يشكل النواة الصلبة لحقوق المعارضة، الذي يندرج ضمن الأحكام العامة، نجد الفصلين 60 و80 ويعدان جزئين من الباب الرابع المخصص للسلطة التشريعية، وإن بعنوانين مختلفين هما بالتتابع تنظيم البرلمان وممارسة السلطة التشريعية، كما أن الدستور أناط في الفصل 69 للنظام الداخلي موضوع تحديد الحقوق الخاصة للمعارضة البرلمانية وكذا تخصيص رئاسة لجنة أو لجنتين من اللجان الدائمة للمعارضة .

والقراءة التركيبية لمضامين الفصول المشار إليها، تقودنا إلى القول بأن دستور 2011، يؤسس لنوعين من الحقوق، الأولى عامة والثانية خاصة، أو بين المهام المرتبطة بممارسة مهام الوظيفة البرلمانية، وتلك المرتبطة بتعزيز القدرات المؤسسية للمعارضة وضمان فعاليتها ، 

حيث أن التنصيص على تحديد الحقوق الخاصة للمعارضة البرلمانية تقتضي تمييزا إيجابيا لفائدة المعارضة عبر منحها حقوقا لا يمكن أن تحصل عليها وفق معيار العدد أو على أساس قاعدة التمثيل النسبي، والقطع مع " وهم" المساواة  في الحقوق المقررة لكل البرلمانيين، "فالنظام" يعني تخويل صلاحيات أكبر من تلك المخصصة للمعارضة بالنظر لأهميتها العددية .

كما أن مواجهة أحكام الفصل العاشر من دستور 2011 مع أحكام الفقرة الثانية من الفصل 60 من نفس الدستور والتي تنص على أن " المعارضة مكون أساسي في المجلسين، وتشارك في وظيفتي التشريع والمراقبة طبقا لما هو منصوص عليه خاصة في هذا الباب"، يتبين أنه بخلاف أحكام الفصل العاشر التي تغطي تقريبا كل وظائف البرلمان، والتي اعترف بها أيضا حتى للمعارضة البرلمانية، وهذه الوظائف هي: التشريع؛ مراقبة العمل الحكومي؛ تقييم السياسات العمومية و الدبلوماسية البرلمانية.

 والظاهر؛ من مقتضيات الفصل 60 أن المشرع الدستوري اقتصر على ذكر وظيفتان تشارك فيهما المعارضة البرلمانية، وهما: التشريع والمراقبة، وفي نفس الاتجاه، ومن أجل تحسين ظروف اشتغال المؤسسة البرلمانية في الإنتاج التشريعي وفي إعداد السياسات العمومية وتقييمها ومراقبة العمل الحكومي، تبنت البرلمانات العالمية اللجان البرلمانية الدائمة والمؤقتة ، وذلك بهدف تنظيم العمل التشريعي والرقابي وضمان جودة ونجاعة السياسات العمومية، وقد برزت اللجان البرلمانية مع موجة العقلنة البرلمانية التي كانت تهدف إلى الحد من سيطرة البرلمان على الحياة السياسية واستبعاد مبدأ المشرع الواحد . 

وحيث أن المعارضة البرلمانية مكون أساسي في مجلسي البرلمان، تشارك في وظيفتي التشريع والمراقبة، فإن النظامين الداخليين لمجلس البرلمان بالمغرب فسحا المجال أمام فرق المعارضة للمشاركة في المهام الاستطلاعية التي تتكلفها اللجان الدائمة بالمجلسين، ونصا على أن يختار أعضاء المهمة الاستطلاعية رئيسا ومقررا للمهمة أحدهما من المعارضة .

في هذا السياق، يبدو أن واضعي دستور 2011 تعاملوا من الناحية الدستورية مع المعارضة البرلمانية وفق تصورين، تصور يعترف للمعارضة البرلمانية بالمشاركة في جميع الوظائف والأدوار المنوطة بالبرلمان، وقد تم التعبير عنه صراحة في الفصل العاشر من الدستور، وتصور ثاني تم الإفصاح عنه في الفصل 60 من نفس الدستور والذي يندرج ضمن الباب الرابع المتعلق بالسلطة التشريعية، والذي جاء بأقل مما ورد في الفصل العاشر في الجانب المتعلق بمهام وحقوق المعارضة البرلمانية، وهذا الاختلاف يمكن له علاقة بالطريقة التي قد تكون اشتغلت بها الأطراف التي هندست دستور 2011، وفرضية الاشتغال بمنهجية توزيع المهام والأدوار بين الأعضاء المشكلين للجنة مراجعة الدستور، وذلك بتشكيل عدة مجموعات على أساس أن يشتغل كل فريق أو مجموعة على محور أو ملف، الشيء الذي قاد في النهاية إلى وجود تفاوت بين بعض القضايا والمؤسسات واختلاف حدتها من باب دستوري إلى آخر تبعا لاختلاف نظرة هذه الأطراف، الأمر الذي جعل في النهاية المساحة الدستورية المخصصة للمعارضة تتسع وتضيق بحسب نظرة كل فريق .

إضافة إلى ما أشار إليه الفصل العاشر، يشير الفصل 82 من دستور 2011 على أنه:" يخصص يوم واحد على الأقل في الشهر لدراسة مقترحات القوانين، ومن بينها تلك المقدمة من قبل المعارضة" ، وبالتالي فالأحكام المتعلقة بالفصل 82 تبدو وكأنها جاءت لتعزيز ما ورد مجملا في الفصل العاشر في الجانب الذي يهم الحق المتعلق بالمشاركة الفعلية في مسطرة التشريع، لا سيما عن طريق تسجيل مقترحات قوانين بجدول أعمال مجلسي البرلمان، فالدستور جاء بمقتضيات الفصل 82 ليكمل وينقل عن طريق ما ورد في الفصل العاشر من حقل التنصيص إلى حقل الأجرءة، حتى لا تبقى مشاركة المعارضة في مسطرة التشريع حبيسة تسجيل مقترحات القوانين بجدول الأعمال، ولتفادي محاصرة الأغلبية لمقترحات المعارضة.

الفقرة الثانية: محددات تقييم أداء المعارضة البرلمانية.

إن محاولة وضع المعارضة البرلمانية تحت مجهر التحليل والتقييم يقتضي وضعها في بيئتها العامة واستحضار مختلف مجالات اشتغالها، بمعنى أن قراءة حصيلتها لا بد أن ينطلق منهجيا وموضوعيا من سؤال النجاعة والفعالية والتي يجب أن نبحث عنها داخل النص الدستوري، أم الأمر يتجاوز ذلك بكثير ليمتد إلى ما هو حزبي سياسي معرفي علمي بنيوي نفسي إيديولوجي...بمعنى البحث عن علاقة النص الدستوري والقانوني بجودة ونجاعة وفعالية أداء المعارضة البرلمانية على أرض الواقع.

لذلك تصطدم محاولة تقييم سلوك المعارضة البرلمانية بتعدد المعايير والمحددات المعتمدة لتقييم أداءها وتحديد مختلف أصنافها، كطبيعة النظام الانتخابي والنظام الحزبي، والبنية الداخلية للمعارضة البرلمانية، ومحددات سلوكها وبطبيعة علاقتها بالحكومة، خاصة على مستوى سلوك التصويت ، وبضمان مساهمتها الفعالة والفعلية في القرار البرلماني، وأيضا بحمايتها من إمكانية توغل الأغلبية البرلمانية .

هكذا، نلمس من الناحية النظرية أن الوضعية الدستورية للمعارضة البرلمانية من خلال دستور 29 يوليوز 2011، اتجهت إلى إعطاءها موقعا دستوريا من داخل المؤسسة التشريعية، وذلك من خلال منحها صلاحيات تشريعية ورقابية وتقييمية ودبلوماسية، وبالتالي الاتجاه نحو خلق معارضة برلمانية فعالة وقوية قادرة على فرض ذاتها كشريك أساسي في تدبير العمل البرلماني، وكسلطة مضادة في نفس الوقت .

غير أنه لما نطالع الممارسة البرلمانية خلال الولاية التشريعية التاسعة و العاشرة ونصف الولاية الحالية، يتبين أن الفرق البرلمانية أو مجموعاتها في السابق كانت تدعي غياب الحقوق أو ما يؤطرها، لكن الآن يتبين أن هذه الذرائع و المسائل هي أوهام أو نصف أوهام إذ لم تستطع لحد الآن تحريك ولو ملتمس رقابة ولم تجرؤ على اللجوء إلى القضاء الدستوري إلا في حالات قليلة، وحصيلة مقترح القوانين التي تقدمت بها المعارضة لا تتجاوز 1% مجوع مقترحات القوانين، كما أن المعارضة لم تطالب بتخصيص ولو يوم واحد لمناقشة المقترحات التي تتقدم بها، ولم تجرؤ على تقديم مترشح لرئاسة لجنة مهمة هي لجنة مراقبة المالية العامة، رغم أن المادة 70 من النظام الداخلي لمجلس النواب تلزم وجوبا رئاسة لجنة التشريع مباشرة للمعارضة، وتعطي الأسبقية للمعارضة لرئاسة لجنة مراقبة المالية العامة إن هي قدمت ترشيحها . 

بمعنى أن المعارضة تخلت عن مجموعة من الحقوق والصلاحيات التي منحها لها الدستور والنظام الداخلي، ولم تستطيع أن تبحث لنفسها عن موقع داخل البرلمان وبقيت رهينة سلطــــــة الأغلبية الحزبية ، أو الحزب الأغلبي، ولقد نبه الفقيه الدستوري محمد المعتصم أن " السعي لإيجاد حـــــزب أغلبي مع معارضة مقلصة يشكل إحدى القواعد الجوهرية للتقليدانية الدستورية" ، وذلك أمام الأغلبية الحكومية وأمام التحالف الثلاثي لثلاث أحزاب سياسية، 269 مقعد نيابي، بالنسبة لنتائج انتخابات 2 شتنبر 2021، مقابل 126 مقعد نيابي لصالح المعارضة، فأصبحنا أمام عمل حكومي فقط في غياب العمل البرلماني، فبلغة الأرقام نحن أمام معارضة محتشمة.  

كما أن واقع المعارضة البرلمانية في مراقبة عمل الحكومة يطغى عليه المعارضة المنبرية التي تسقط في ملامسة قضايا عادية وروتينية تهيمن عليها الصراعات الهامشية، وتصفية الحسابات الحزبية بالإضافة إلى بعض الأسئلة التي تهم بعض المواضيع الشخصية التي تبتعد عن القضايا المجتمعية الحقيقية ، وهو ما ينعكس سلبا في بلورة أسئلة المواطنين واحتياجاتهم وتقديم حول بديلة للسياسات التي لم تتمكن الحكومة أو الأغلبية في بلورتها بطرق سلمية وقانونية إن هي فشلت في ترجمة برامجها السياسية إلى مشاريع على أرض الواقع ، وقد دعا جلالة الملك في أكثر من مناسبة للانكباب على إعداد البرنامج بدل هذر الوقت في الصراعات الهامشية، التي تعرفها المؤسسة التشريعية، حيث جاء في خطابه بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الخامسة من الولاية التشريعية التاسعة:

" أن ما ينتظركم من عمل، خلال هذه السنة، لاستكمال إقامة المؤسسات، لا يستحمل إضاعة الوقت في الصراعات الهامشية..." .

بالإضافة إلى أن ضعف التنسيق بين مكونات المعارضة البرلمانية ينعكس سلبا على أداء جميع مكونتها، فبالرغم من كون الدستور يمنحها بعض الحقوق، يلاحظ ضعف التنسيق بين مكوناتها، فضلا عن الخليط الهجين للأحزاب التي تتشكل منها هذه المعارضة، فقوة المعارضة تنبع من قدرتها على التنسيق بغض النظر عن الاختلافات الإديولوجية والسياسية التي تستفيد من الامتياز الحكومي لتهميش المعارضة وإضعاف شوكتها وجعلها غير قادرة على مجاراة العمل الحكومي ..

ففعالية المعارضة البرلمانية تبقى مرتبطة بمدى قيامها وأدائها للأدوار والوظائف المنوطة بها، وبمدى امتلاكها لأدوات الفعل المؤسساتي للعمل المعارضاتي الجيد ، القائم على تجاوز سلبيات المعارضة البرلمانية السابقة، والمساهمة بشكل جاد في تعزيز وتجويد العمل البرلماني، واعتماد ما يسمى ب " المعارضة البرلمانية النافذة" بحسب تعبير الخطاب الملكي ل 14 أكتوبر 2011، والداعي إلى تفعيل دور المعارضة البرلمانية، وذلك على مختلف المستويات، خصوصا على مستوى العمل التشريعي والرقابي والتقني، و على المستوى الخطاب السياسي ، وتبني التشاركية في صناعة القرار، حيث جاء في الخطاب السامي ما يلي: "...وإيمانا منا بأن النظام الديمقراطي، يقوم على حكم الأغلبية وسيادة القانون، بقدر ما يتأسس على المشاركة الإيجابية للمعارضة البرلمانية فإن من شأن تفعيل النظام الخاص بها تمكينها من أن تشكل سلطة رقابية مسؤولة، وقوة اقتراحية بناءة" .

و الممارسة السياسية لما بعد سنة 2011، بينت على أن النظام الدستوري المغربي مازال مقيدا بآليات العقلنة البرلمانية التي تكبل المؤسسة التشريعية بشكل عام والمعارضة بشكل خاص، وإذا كانت المؤسسة التشريعية كبنية تعاني من هيمنة الحكومة، فإن المعارضة في الحالة المغربية تعاني من ذاتها وتفتقد لتصور منسجم فيما بينها، كما أنها تعاني من هيمنة الأغلبية البرلمانية ومن تعالي الحكومة في نفس الوقت ، كما أن النظام الداخلي لمجلس النواب الذي تم تعديله ووضعه بمنطق الأغلبية، لم يساير روح الدستور وإرادة المشرع الدستوري الذي خصص للمعارضة البرلمانية مكانة مهمة في هندسة الوثيقة الدستورية، حيث ظل تعامله مع هذه الأخيرة لا يتجاوز المنطق الرقمي والعددي الضيق، معتبرا إياها مجرد فاعل سياسي وليس موقعا ومركزا قانونيا، ومكون أساسي في مجلسي البرلمان يشارك في وظيفتي التشريع والمراقبة حسب ما ورد في الفقرة الثانية من الفصل 60 من الدستور.

وقد كان للانحراف في التنزيل السليم والديمقراطي للمقتضيات الواردة في الوثيقة الدستورية، ولمعاكسة النظام الداخلي للدستور، أثر سلبي على ممارسة المعارضة البرلمانية لوظائفها الدستورية من خلال تقييد حق المعارضة في التعبير عن مواقفها من القوانين المعروضة للمصادقة عن طريق تطبيق قاعدة التمثيل النسبي، وعدم تمكين مختلف مكونات المجلس من مناقشة مشاريع القوانين بشكل منصف وعادل بما يضمن التعبير الحر عن أرائها ومواقفها، وتقديم بدائل واقتراحات، علما أن مرحلة المناقشة والتعبير عن المواقف لا يمكن فصلها بأي شكل من الأشكال عن عملية صناعة القوانين.

كما أن تواضع حصيلة المبادرة التشريعية البرلمانية للمعارضة البرلمانية بمجلس النواب، يدل على أن نخبها البرلمانية لم تتكيف وطبيعة المرحلة الانتقالية الجديدة بعد دستور 2011، من خلال الانتقال من وضعية سابقة كان البرلمان يعتبر فيها غرفة للتسجيل، إلى وضع جديد تم الارتقاء معه بالمؤسسة البرلمانية إلى سلطة تشريعية، مما يدل على أن الرهان على الدسترة لوحدها غير كاف في إحداث تحول بنيوي في إحلال توازن خارجي بين ( المؤسسة التشريعية والسلطة التنفيذية) وتوازن داخلي بين ( الأغلبية الحكومية والمعارضة البرلمانية)، وكذا المساهمة في تجاوز نمطية أداء هذه الأخيرة خلال مختلف التجارب البرلمانية السابقة والتي كانت تشهد شح في الإمكانات الدستورية الكفيلة بالنهوض بالعمل البرلماني عموما .

وفي هذا السياق ذهب الأستاذ الجامعي محمد زين الدين إلى اعتبار أن المشكل المطروح الذي  لازال يعاني منه البرلمان المغربي عموما هو المحدودية، الأمر الذي ينعكس سلبا على دوره وصلاحياته المخولة له دستوريا، والذي يندرج ضمن منطق استمرارية ديمومة المحافظة على مبدأ العقلنة البرلمانية المؤطرة لمخرجات العمل البرلماني، رغم الإقرار بأن دستور 2011 عمل على التخفيف منها دون أن يصل إلى مرحلة القطيعة معها، إلا أن ذلك لا يعني إعفاء مسؤولية الفرق البرلمانية عامة والمعارضة البرلمانية على وجه الخصوص بمجلس النواب عن تواضع حصيلتها التشريعية، بسبب عدم تكيفها وطبيعة المرحلة الانتقالية.

خاتمة:

لا شك أن المشرع الدستوري المغربي في ظل دستور 2011 اعتمد آليات لضبط التوازنات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، من خلال التنصيص على المعارضة كمكون جوهري داخل المؤسسة البرلمانية، وفتح الفضاء أمامها في المشاركة السياسية وفي صناعة القرار و إشراكها في بعض القضايا الكبرى المطروحة على البلاد، من خلال اقتراح السياسات والتدابير البديلة والناجعة، ومن أجل ذلك منحت للمعارضة صلاحيات دستورية واسعة، ومهام مختلفة لتكون مساندة ومساهمة في العمل التشريعي والتأطيري والسياسي، والحضور العملي والفعلي في تنزيل السياسات العمومية للبلاد، غير أنه ورغم التنصيص الدستوري على حقوق المعارضة البرلمانية، كخطوة جد متقدمة مقارنة مع الدساتير السابقة، التي تصب في اتجاه تعزيز موقعها في النسق السياسي، ومنحها مساحات للتحرك والمشاركة، وأداء مهامها على أحسن وجه، تبقى الممارسة السياسية للمعارضة  مازالت مقيدة وتعاني وتتراجع في أداءها خصوصا أمام التباعد بين الأحزاب المغربية باعتبارها المفرزة للنخب البرلمانية والمواطن من جهة، وضعف العمل والانخراط السياسي لفئات عريضة من المجتمع، إلى تراجع ثقة المواطن في المجال العمومي عامة والعمل البرلماني خاصة، كما أن المعارضة في الحالة المغربية تعاني من ذاتها وتفتقد لتصور منسجم فيما بينها، كما أنها تعاني من هيمنة الأغلبية البرلمانية والحزب الأغلبي الذي يهيمن على الساحة السياسية و في رسم البرامج والسياسات العمومية والتنموية.




من أجل تحميل هذا المقال كاملا - إضغط هنا أو أسفله

قانونك


 من أجل تحميل العدد 23  - إضغط هنا أو أسفله

مجلة قانونك - العدد الثالث