تأسيس المسؤولية المدنية على فكرة الضمان
فرح كريم فرطوس: مجلس الخدمة العامة الاتحادي / الدائرة القانونية
نوال قاسم هاشم: وزارة النفط / الدائرة القانونية
نور صبحي عزيز: مجلس الخدمة العامة الاتحادي / الدائرة القانونية
Establishing civil liability on the idea of warranty
Farah KARIM FARTOUS
Nawal QASIM HASHIM
Nour SHOUBHI AZIZ
المقدمة
تعد المسؤولية المدنية من الموضوعات القانونية الجديرة بالبحث والدراسة لأنها انعكاس لواقع الحياة العملية المتغيرة خاصة ونحن أمام التطور العلمي والتقني والذي انعكس بشكل واضح من مجالاته الاجتماعية والاقتصادية على مجالاته القانونية منها لان التقنيات الحديثة وجدت نفسها أمام مشكلات قانونية عديدة أثرها يتعلق بالمسؤولية المدنية. وبالتالي أصبحت ذلك المجال الخصب للاجتهاد القضائي الغاية منه الوصول الى حسم النزاع وبالتالي تحقيق العدل بين أفراد المجتمع، فالمسؤولية المدنية من أهم موضوعات القانون المدني خضوعاً لسنة التطور ولعل تطورها يلاحظ من جانب ان أنماط الضرر في ازدياد خاصة الضرر الجسدي الناجم من حوادث يقف التطور الصناعي سببًا في حدوثها ومن جانب آخر فأنه لا يوجد اتفاق تام حول أساس واحد للمسؤولية المدنية إذ نجد أن الفقه لم يقف على نظرية واحدة يرجع إليها في تحديد أساس هذه المسؤولية.
فإذا كان الرجوع إلى الفقه التقليدي في القانون المدني يفيدنا بأن الخطأ هو الأساس الأوحد لقيام المسؤولية المدنية فإن تطور الحياة الصناعية قاد إلى تبني فكرة المسؤولية المادية التي تبني المسؤولية المدنية على أساس الضرر كما أن الفكر القانوني لم يقف عند هاتين النظريتين لتحديد أساس المسؤولية المدنية إذ نجد محاولات اخرى ولعل من أهم هذه المحاولات فكرة إرجاع أساس المسؤولية المدنية إلى فكرة الضمان التي نادى بها جانب من الفقه الفرنسي خلال القرن الماضي.
وحيث أن تحديد أساس المسؤولية المدنية من الموضوعات المهمة التي يترتب عليها قيام المسؤولية وترتيب آثارها لذا فإن دراسة هذا الأساس تعد من الأهمية الكبيرة، عليه ارتأينا أن تكون نظرية الضمان موضوع بحثنا هذا للتعمق فيها وبيان هل انها تعد نظرية مستقلة ام انها أحد صور نظرية المسؤولية المادية. في حين تكمن أهمية فكرة الضمان باعتبارها أساس قانوني قوي يمكن أن تؤسس عليه المسؤولية المدنية دون النظر إلى أركان المسؤولية مجتمعة، وتكون بذلك منطلقاً للتعويض عن الأضرار المادية والأدبية التي قد تحدث لجميع الأشخاص.
اما مشكلة البحث تكمن بأن قواعد المسؤولية المدنية غير صالحة لاستيعاب جميع الإضرار التي تلحق بالأشخاص مما يتطلب تأسيس هذهِ المسؤولية على فكرة قادرة على استيعاب كل هذهِ الاضرار. وعليه ومن خلال استقراء النصوص القانونية الواردة في القوانين المدنية العراقي والمصري والفرنسي سوف نتبع المنهج التحليلي المقارن. وتناول الموضوع من خلال مبحثين الأول لبحث النظريات التقليدية في أساس المسؤولية المدنية اما في المبحث الثاني سنتناول نظرية الضمان في حين تناول تطبيقات نظرية الضمان سيكون من خلال المبحث الثالث.
المبحث الأول: النظريات التقليدية في أساس المسؤولية المدنية
ان المسؤولية المدنية عن العمل الغير مشروع باعتبارها منشئة لواقعة قانونية، مصدر هام من مصادر الالتزام وقد تنازعت ولا تزال على الأساس الذي تقوم المسؤولية المذكورة حول إلزام محدث الضرر بتعويض المتضرر نظريتان هما النظرية الشخصية التي قوامها وجوب أثبات خطأ بجانب محدث الضرر وهي بلا شك انعكاس للمنطلقات الفكرية للمذهب الفردي، والنظرية الموضوعية التي هي صدى لمبادئ مذهب التضامن الاجتماعي وتقوم على عنصر الضرر وتستبعد الخطأ،
وعليه سنبين كل من نظرية الخطأ ونظرية الضرر في المطلبين التاليين:
المطلب الأول: نظرية الخطأ
كان التطور الجوهري في شأن المسؤولية سنة (1804) عندما سجل واضعوا القانون المدني الفرنسي ما انتهى إليه فقهاء القانون الفرنسي القديم فاستقرت التفرقة بين المسؤولية الجنائية والمسؤولية المدنية ووضعت قاعدة عامة للمسؤولية المدنية اشترط ارتكازها على فكرة الخطأ إذ نصت المادة (1240) من القانون المدني الفرنسي على أنه:
"كل فعل للإنسان يسبب ضرر للغير يلزم من وقع بخطئه تعويضه،" كما نظمت المادة (1241) المسؤولية عن الإهمال بنصها على أنه: "كل شخص مسؤول عن الضرر الذي أحدثه ليس فقط بفعله بل بإهماله أو عدم تبصره" .
الاعمال التحضيرية للقانون المدني الفرنسي زاخرة بالأقوال التي تدل على قصد واضعي هذين النصين لتقرير قاعدة عامة توجب مسائلة من لم يرتكب أي خطأ (1)، ولم تخرج القوانين المدنية العربية عن موقف القانون المدني الفرنسي السابق في إقامة المسؤولية المدنية على أساس الخطأ إذ نص القانون المدني المصري في المادة (163) على أنه:
"كل خطأ سبب ضرر للغير يلزم من ارتكبه بالتعويض" ، عليه فإن قيام المسؤولية على أساس الخطأ بالنسبة لأفعال المسؤول نفسه وسواء كان هذا الخطأ عمداً أو مجرد إهمال من هذا الشخص وكذلك قيام المسؤولية عن أفعال الغير أو أضرار الحيوان أو البناء على نسبة خطأ إلى المسؤول في الرقابة أو الحراسة يبرر وصف هذا المسؤولية بأنها ذاتية أو شخصية ، لذا فان فكرة الخطأ كأساس تقوم عليه جميع حالات المسؤولية فرضت نفسها على أذهان رجال الفقه والتشريع والقضاء باعتبار أن المسؤولية مسألة شخصية. كل ذلك بتأثير الفلسفة الفردية حيث ربطت هذه بين الحرية التي يجب أن يتمتع بها الفرد في المجتمع بأكبر قسط ممكن وبين الواجبات الملقاة على عاتقه باعتبارها قيداً يرد على تلك الحرية ضماناً لحقوق الآخرين وإزاء ذلك كان من الواضح تماماً ألا تقوم مسؤولية أي فرد إلا إذا أخل بتلك الواجبات.
وبناءً على كل ما تقدم فان هذه النظرية تقوم بالأساس على اقامة المسؤولية المدنية على أساس الخطأ فالإنسان لا يكون مسؤول عن افعاله الا إذا اتصفت بوصف الخطأ، ولغرض الاحاطة بفكرة الخطأ من كل جوانبها سنقسم هذا المطلب على ثلاثة فروع كالاتي:
الفرع الأول: تعريف الخطأ
لم يضع المشرع الفرنسي ولا مشروعا القوانين المدنية في البلاد العربية تعريفاً للخطأ وإنما تركوا أمر ذلك للشراح والفقهاء عملاً بالسياسة التشريعية السليمة التي تأبى على المشرع أن يزج بنفسه في تعريفات يختلف أمرها باختلاف النزاعات السياسية والعوامل الاقتصادية والاجتماعية وكلها نزعات وعوامل متغيرة متقلبة، وإذا كان واضعوا التشريع الفرنسي لم يعنوا بتعريف الخطأ إلا أنهم أشاروا إشارة عابرة إلى معيار هذا الخطأ عندما قرروا في المادة (1241)" أن مجرد الإهمال وعدم التبصر يعتبر عملاً خاطئاً "، في الواقع يصعب تحديد مفهوم الخطأ وبيان المراد منه كما انه لم ينعقد إجماع الفقه على تعريف الخطأ والسبب في ذلك يعود إلى أن فكرة الخطأ نسبية تتأثر بظروف الحال والبيئة، كما أنها غير محدودة لاتصالها الوثيق بالأخلاق ولما كانت الافكار الاخلاقية تعوزها التحديد والضبط وجب أن تكون فكرة الخطأ غير محدودة وغير منضبطة ، وعلى الرغم من ذلك فقد حاول الفقه وضع تعريف للخطأ ويمكن القول أن أهم هذه التعاريف:
أ ـ تعريف الفقيه الفرنسي (بلانيول) بأن (الخطأ أخلال بالتزام سابق) ولتحديد ماهية الالتزام التي يعتبر الإخلال بها خطأ موجباً للمسؤولية يحاول (بلانيول) حصرها بأربعة:
1ـ عدم العنف نحو الاشياء والاشخاص .
2ـ عدم الغش
3-عدم القيام بأي عمل لم تتهيأ له درجة معينة من قوة أو مهارة.
4- اليقظة في تأدية واجب الرقابة على الأشياء التي قد ينتج عنها بعض الأخطار وعلى الأشخاص الذين هم تحت الحراسة.
ب- تعريف الاستاذ إيمانويل ليفي: بأنه (الاخلال بالثقة المشروعة – أي ثقة الشخص في نفسه وثقة الغير فيه، فعلى كل شخص أن يوفق فيما يصدر عنه من أعمال بين ثقته في نفسه حتى لا يركن إلى الكسل وبين ثقة الناس فيه بعدم أضرار هذا النشاط بهم)
ج- تعريف الفقيه جوسران الذي يرى أن الخطأ هو( انتهاك لحرمة حق لا يستطيع من أنتهك حرمته أن يعارضه بحق أقوى أو بحق مماثل) من كل ما تقدم نستخلص أنه لا يوجد تحديد كافي لمفهوم الخطأ وبالتالي صعوبة ضبط تعريفه.
الفرع الثاني: عناصر الخطأ
استقر الرأي في الفقه والقضاء على أن الخطأ يتحلل إلى عنصرين هما العنصر المادي (الاخلال او التعدي) والعنصر المعنوي (الإدراك او التمييز) سنبينهما في المحاور الاتية:
أولا : العنصر المادي (الاخلال اوالتعدي)
يراد بالتعدي الانحراف بالسلوك عن الحدود المرسومة له سواء كان هذا الانحراف عن سابق تصور وتصميم أوعن إهمال وتقصير وسواء كان هذا السلوك إيجابي بقيام الشخص بفعل يلحق ضرر بالغير كأعمال الاتلاف والسرقة والغصب والايذاء أو سلبياً بامتناعه عن القيام بعمل كأن يجب عليه القيام به مما الحق ضرر بالغير ، والالتزامات التي أوجب المشرع عدم الاخلال بها إما أن يعينها القانون بصورة مباشرة وبنصوص خاصة تعينها تعيينًا دقيقاً، واما أن يعينها بصورة غير مباشرة حيث أنه يفرض من جهة على صاحب الحق واجب استعماله استعمالا جائزاً وبلا تعسف، ومن جهة أخرى يفرض مقابل كل حق مقرر للشخص التزاماً عاماً على الكافة باحترام هذا الحق وفي هذا النوع الاخير من الالتزامات تجتمع في ذمة الشخص حقوقه التي يلتزم الاخرين بمراعاتها مع واجباته تجاه حقوق الاخرين وأمام هذا التعارض في المصالح يتعين البحث عن معيار ثابت لتعيين نطاق حقوق الاشخاص وواجباتهم أي تحديد المعيار الذي يقاس به الفعل وفيما إذا كان خاطئاً أم لا وقد أستقر الفقه والقضاء باعتماد المعيار الموضوعي في قياس الانحراف في السلوك والذي يراد به أن لا ينظر إلى شخص من وقعا الفعل منه بل ينظر إلى شخص مجرد هو شخص من نفس طائفة من وقع منه الفعل في نفس ظروفه بحيث يصبح قياس التعدي واحداً بالنسبة لجميع الناس .
ثانيا: العنصر المعنوي (الإدراك أو التمييز):
لما كانت القاعدة القانونية خطاباً يوجه إلى الأشخاص ليلزمهم بانتهاج سلوك معين ولما كان من لا يملك الإدراك لا يجدي معه الخطاب إلا إذا فرض القانون واجباً لا يتطلب من المخاطب إد اركاً ولا يقتضي منه عملاً ارادياً كالالتزام بالضرائب كالتزام المتبوع (الشخص المعنوي) بضمان أفعال تابعة الضارة فإن الإدراك والتمييز يعتبر عنصرا أساسيا في الخطأ.
غير أن اشتراط التمييز ترتيب المسؤولية عن العمل غير المشروع لم يجد تقبلا من جانب الفقه والقضاء المعاصرين وفي بعض القوانين المدنية الحديثة لما ينتج عنه من مجافاة للعدل لاسيما إذا كان فاعل الضرر مليئا والمصاب معوز ولذلك اعتبر جانب من الفقه والقضاء التمييز من الظروف الداخلية التي لا تؤخذ بعين الاعتبار في قيـــام الخطأ ونجد ذلك واضحا في موقف القانون المدني العراقي الذي نص في المادة (191) على أنه:
"1- إذا اتلف صبي مميز أو غير مميز أو من في حكمهما مال غيره لزمه الضمان في ماله.
2- وإذا تعذر الحصول على التعويض من أموال من وقع منه الضرر إن كان صبياً غير مميز أو مجنون جاز للمحكمة أن تلزم الولي أو القيم أو الوصي بمبلغ التعويض على أن يكون هذا الرجوع بما دفعه على من وقع منه الضرر.
3-عند تقدير التعويض العادل عن الضرر لابد للمحكمة ان تراعي في ذلك مركز الخصوم".
الفرع الثالث: أنواع الخطأ
يقسم الخطأ من حيث القصد إلى خطأ العمد وخطأ الإهمال ومن حيث الفعل المؤدي إليه إلى خطأ إيجابي وخطأ سلبي من حيث مصدر الالتزام الذي ينشأ عنه إلى خطأ عقدي وخطأ تقصيري ومن حيث عبء إثباته إلى خطأ واجب الإثبات خطأ مفترض وهو ما نتناوله في الفقرات التالية:
اولا / خطأ العمد وخطأ الإهمال ، خطأ العمد هو الإخلال بواجب قانوني مقترن بقصد الإضرار بالغير
اما خطأ الإهمال فهو الإخلال بواجب قانوني سابق مقترن بإدارك المخلدون قصد الإضرار بالغير
ثانيا / الخطأ الإيجابي والخطأ السلبي، الخطأ الإيجابي فهو القيام بعمل يجرمه القانون كالإتلاف أو القتل، في حين أن الخطأ السلبي فهو امتناع من عمل يفرضه القانون
ثالثا/ الخطأ العقدي والخطأ التقصيري، الخطأ العقدي هو إخلال المتعاقد بتنفيذ الالتزام الناشئ بموجب العقد أو التأخر فيه ، أما الخطأ التقصيري عيب يشوب مسلك الانسان لا يأتيه شخص عاقل متبصر إحاطته ظروف خارجية مماثلة للظروف التي أحاطت المسؤول،
رابعا / خطأ واجب الإثبات وخطأ مفترض الخطأ الواجب الاثبات هو ذلك الخطأ الذي يجب على الدائن إثباته في جانب المدين، اما الخطأ المفترض فهو الخطأ الذي يفترضه القانون في جانب المسؤول بمعنى أن المسؤولية تقوم بناءاً على خطأ مفترض لا يكلف المدعي بإثباته
المطلب الثاني: نظرية الضرر
إن النظر إلى مصلحة المتضرر وتقدير التعويض له أصبح المحور الأساس للمسؤولية المدنية عن العمل غير المشروع وهدفها الرئيسي ولا يمكن تحقيق ذلك بالاستناد إلى نظرية الخطأ لتناقضها مع مصلحة المتضرر لذا فقد بات من الضروري الاستعانة بنظرية الضرر واقامة المسؤولية عليها.
لما تقدم أخذ فريق من الفقهاء ابتداءاً من سنة 1884 من مهاجمة فكرة الخطأ التي تستند إليها نظرية الخطأ في تأسيس المسؤولية المدنية محاولين بذلك إحداث انقلاب شامل في أساسها فنادوا بوجوب تأسيس هذه المسؤولية على فكرة الضرر لا على فكرة الخطأ ، وهو ما يعد من التطورات المهمة التي جرت على المسؤولية وهو ما يتطلب منا البحث في التعريف بالضرر وأنواعه ومن ثم بيان ظهور نظرية الضرر في الفرعين التاليين
الفرع الأول: التعريف بالضرر وأنواعه
إن الضرر هو المحور الذي تدور عليه المسؤولية بوجه عام وجوداً وعدماً فإذا انتفى الضرر فقد انتفت المسؤولية مهما كانت درجة جسامة الخطأ فهو الذي يعطي الحق في التعويض وهو الذي يبرر الحكم به لا الخطأ
اولا / تعريف الضرر وشروطه
الضرر عبارة عن اذى يلحق الفرد في حق او مصلحة مشروعة وهو أما أن يكون ماديًا أو أدبياً ويشترط في الضرر الشروط الاتية:
أ- أن يكون الضرر محققا أي أن يظهر للمحكمة أن المدعي كان سيكون في مركز أفضل لو لم يقترف المدعى عليه ما اقترفه من فعل ضار
ب- أن لا يكون سبق التعويض عنه إذ ليست الغاية من مسائلة الفاعل عن التعويض عما لحقه من ضرر بالطرف الآخر غير إصلاح آثار هذا الضرر ولا ينبغي أن يتخذ وسيلة للإثراء أو الغنى.
ج-أن يكون الضرر ماساً بالمدعي نفسه أي أن يكون قد نزل بالمدعي بالذات ويستوي بعد هذا أن يكون الضرر قد أنصب على شخص المدعي وعلى ماله او على مصلحة مشروعة له يحميها القانون ولا يسمح بالاعتداء عليها أو الاضرار بها اي أن يكون قد أنصب على حق للمدعي أو مصلحة مشروعة له ، ففكرة الضرر بحد ذاتها واعتبار الضرر ركنًا من أركان المسؤولية المدنية تقتضي أن يكون المدعي في دعوى المسؤولية هذه قد أضير في مركز كان يفيد من ورائه أو في منفعة كأن يحصل عليها قبل وقوع الفعل الضار
ثانيا - أنواع الضرر
الضرر الذي يصيب الإنسان ثلاثة أنواع هي:
أ- الضرر المادي: وهو أذى يلحق خسارة مالية للمضرور نتيجة الفعل الضار في المساس بحقوق الشخص المالية كحق الملكية عن طريق الإتلاف والغصب يعد ضرر مادي.
ب- الضرر الجسماني (الجسدي): وهو الاذى الذي يمس جسد الانسان ويؤدي إلى إصابته او وفاته فلكل إنسان الحق في سلامة جسده من أي أضرار يلحقها الغير به بشكل غير مشروع.
ج- الضرر الأدبي: وهو الاذى الذي يصيب الشخص في مصلحة غير مالية كالضرر الذي يمس شرف الشخص وسمعته واعتباره ومركزه المالي وإذا كان المشرع العراقي لا يأخذ بالتعويض عن الضرر الأدبي في المسؤولية العقدية فإنه أخذ به صراحةً في المسؤولية التقصيرية استناداً إلى المادة (205) منه،
الفرع الثاني: ظهور نظرية الضرر
ظهرت نظرية الضرر فقهياً وانعكست على القضاء والتشريعات كالاتي:
اولا: التطور الفقهي : لم يجادل الفقهاء حتى أواخر القرن التاسع عشر في وجوب توفر الخطأ كركن في المسؤولية التقصيرية غير أنه لما كان في استلزام الخطأ الرجوع على الفاعل بالتعويض ما قد يؤدي الى ضياع حق المضرور إذا عجز عن إثبات هذا الخطأ خاصة بعد استعمال الآلات الميكانيكية وقيام الصناعات الحديثة.
ذهب فريق من الشراح وعلى رأسهم(سالي)و(جوسران)إلى وجوب قيام المسؤولية التقصيرية على فكرة الضرر لا على فكرة الخطأ ذلك أن الضرر قد يقع بلا خطأ من أحد فمن الذي يجب أن يتحمله المضرور وهو لا يد له في وقوعه أم محدث الضرر أي من أنشأ وضعا خطراً ترتب عليه هذا الضرر، والجواب الطبيعي
أن الذي عليه تحمل التبعة في هذه الحالة هو محدث الضرر لأنه هو الذي استفاد من الوضع الخطر الذي أوجده فيجب عدلا أن يتحمل ما يترتب عليه من ضرر أخذاً بقاعدة (الغنم بالغرم)
ثانيا: التطور القضائي: ساير القضاء الفرنسي التطور الذي صاحب فكرة المسؤولية التقصيرية غير أنه لم يصل مع ذلك إلى التسليم بنظرية الضرر بل على العكس عمل على استبعاد هذه النظرية حتى في الحالات التي مهدت لظهورها وهي حالات الأضرار الناشئة عن الحوادث. ذلك أنه إذا كان المشرع قد تولى تنظيم هذا الأمر بالنسبة لحوادث العمل إلا أنه بقيت غيرها من الحوادث التي يتعين فيها الاخذ بيد المصابين ومساعدتهم على الحصول على حقهم في التعويض بتيسير عبء الإثبات عليه
ثالثا: التطور التشريعي: تأثر المشرع الفرنسي بفكرة المسؤولية القائمة على أساس الضرر غير أنه لم يأخذ بها كقاعدة عامة بل اكتفى بالأخذ بها في بعض التشريعات الخاصة التي تواجه حالات معينة ومن ذلك القانون الفرنسي رقم (30) لسنة 1946 بشأن حوادث العمل والأمراض المهنية .
ويمكن القول أن من أهم التشريعات التي غادرت نظرية الخطأ كأساس للمسؤولية المدنية هو القانون المدني العراقي والذي أقام المسؤولية المدنية على أركان ثلاثة هي: العمل غير المشروع والضرر والعلاقة السببية ، إذ لم يشترط ركن الخطأ في المسؤولية على الأفعال الضارة التي تقع على النفس حيث نصت المادة (202) منه على أن: "كل فعل ضار بالنفس من قتل أو جرح أو ضرب أو أي نوع آخر من أنواع الإيذاء يلزم بالتعويضات من أحدث الضرر" .
المبحث الثاني: نظرية الضمان
لم يجمد الفقه في تحديد أساس المسؤولية المدنية على النظريات التي تم طرحها سابقاً في المبحث الأول من هذا البحث وإنما اتجه في إيجاد أسس جديدة للمسؤولية المدنية بعد أن تم توجيه انتقادات إلى ما مطروح من نظريات في أساس المسؤولية المدنية لعل من أهمها فكرة الضمان في أساس المسؤولية المدنية عليه فإننا سنتناول في هذا المبحث تعريف نظرية الضمان واسباب ظهورها ومبناها وهو ما سنعرضه تباعاً في المطالب الثلاثة الاتية:
المطلب الأول: تعريف نظرية الضمان
لغرض الوصول الى تعريف نظرية الضمان كأساس للمسؤولية المدنية لابد من تعريف معنى الضمان لغةً واصطلاحاً:
الفرع الأول: الضمان لغةً
قد وردت كلمة الضمان في اللغة بمعان عديدة منها:
أ-الضمان بمعنى (الالزام والالتزام): حيث ورد هذا المعنى في اللغة لكلمة الضمان، فيقال:ضمنت المال. ضماناً. فأنا ضامن وضمين بمعنى: التزمته. وضمنته المال: اي ألزمته اياه (1).
ب-وياتي الضمان بمعنى (الكفالة):بمعنى كفل فلان فلانا بمعنى ضمنه اليه ومن قوله تعالى {وكفلها زكريا }،اي ضمها الى نفسه ليعولها ويقوم بتربيتها وهي مصدر كفل بفتح الفاء وضمها وكسرها يقال:كفل كفلاً وكفولا وكفالة ويتعدى بالباء يقال :كفلت بالرجل وقد يتعدى بعن اذا تعلق بالمديون فيقال: كفلت عن المديون ويتعدى باللام اذا تعلق بالدائن فيقال:كفلت الدائن. (2).
الفرع الثاني: الضمان اصطلاحاً
وهنا لابد من بيان معناه في الاصطلاح الفقهي والاصطلاح القانوني وكالاتي:
أولاً / تعريف الضمان في الاصطلاح الفقهي: اختلف الفقهاء فيما بينهم في تعريفهم للضمان فمنهم من عرفه بانه التزام بتعويض مالي عن ضرر للغير ، ويعرف ايضا بانه (التعهد بمال لأخر) ، وكذلك عرف بانه ( الالتزام بتعويض الغير عما لحقه من تلف المال او ضياع المنافع، او عن الضرر الجزئي او الكلي الحادث في النفس الإنسانية)
ثانياً / تعريف الضمان في الاصطلاح القانوني: ورد تعريف الضمان في مجلة الأحكام العدلية لسنه 1876في المادة (416) ونصها (الضمان هو إعطاء مثل الشي إن كان من المثليات وقيمته ان كان من القيميات)
ولغرض توظيف المعاني أعلاه في موضوع بحثنا يمكننا تعريف نظرية الضمان بانها (احدى نظريات تأسيس المسؤولية المدنية على ركن الضرر وبمقتضاها يكون لكل ضرر ضامن يجب عليه التعويض حتى لو لم يكن هو المسؤول عن ارتكاب الفعل الضار )
المطلب الثاني: اسباب ظهور نظرية الضمان
لقد كانت الانتقادات التي تم توجيهها إلى الأفكار المطروحة لأساس المسؤولية المدنية هو السبب الرئيس في اتجاه الفقه إلى إيجاد أسس جديدة للمسؤولية المدنية ومن أهمها نظرية الضمان ومن هذه الانتقادات:
الفرع الأول: نقد نظرية الخطأ
كانت فكرة الخطأ تعتبر مبرراً قانونياً لتحمل المسؤول عبء التعويض عن الضرر، واستطاعت وقتها ان تقدم الحلول لكثير من الإشكاليات التي أثارتها المسؤولية المدنية ولكن سرعان ما أدى التطور التكنولوجي الهائل إلى تزايد وتعاظم الحوادث مما ترتب عليه عجز فكرة الخطأ عن توفير الحماية الكافية للمتضررين ،ولما أصبح التعويض هدفا اجتماعياً في حد ذاته كان من الصعب أن تتكفل بتحقيقه المسؤولية المدنية بمفهومها الذاتي باعتبارها لا تهدف مباشرة إلى التعويض بقدر ماهي تهدف إلى عقاب الجاني، من خلال إلزامه بالتعويض لذلك فهي لا تقوم إلا بإثبات الخطأ من قبل المتضرر وهي مهمة صعبة، تؤول إلى حرمان الكثير من المتضررين من التعويض، وهو ما لا يمكن قبوله، طالما أصبح التعويض حقا يقره المجتمع للمتضررين ، ونتيجة ذلك تم توجيه العديد من الانتقادات إلى نظرية الخطأ كأساس للمسؤولية المدنية وكالاتي:
1ـ إن تأسيس المسؤولية المدنية على عنصر الخطأ يؤدي إلى الخلط بين المسؤوليتين المدنية والجنائية وذلك أن المسؤولية الجزائية هي التي تتركز على عنصر الخطأ ومسلك الفاعل وقصده. أما المسؤولية المدنية فهي تعني بالضرر ويقدر التعويض بقدر الضرر ولجبر الضرر
2ـ إن العبرة في المسؤولية المدنية بالضرر فالتعويض إنما يكون بقدر الضرر ولا عبرة بدرجة الخطأ
3ـ تناقض نظرية الخطأ مع التطور الاجتماعي والاقتصادي إذ أن الحياة الاجتماعية سواء اكانت في العصور البدائية أو في العصور الحديثة مليئة بالعلاقات الاجتماعية ويربط أفراد كل مجتمع فيما بينهم بعلاقات أو روابط عديدة تنشأ من طبيعة اجتماعهم ومن تفاعل رغباتهم واحتكاك بعضهم بالبعض الاخر،
وكلما ازدادت الحياة تمدناً ورقي ازدادت هذه العلاقات بين الأفراد ونتيجة لهذا التطور تكون البيئة الاجتماعية بحاجة ماسة الى قواعد جديدة لتنظيم تلك العلاقات الجديدة في المجتمع، وقد كان الخطأ هو قوام العدالة الفردية ولكن بتطور المجتمع وتطور الحياة اصبحت الحاجة ملحة لتغير تلك القاعدة لان من المنطقي كما كان ذلك العصر يتطلب ان يكون الخطأ كأساس للمسؤولية فأنه من الطبيعي جداً ان يتغير هذا الاساس وفقاً للتطور الاجتماعي والاقتصادي
4ـ إن تأسيس المسؤولية على الخطأ يلقي عبء الاثبات على المصاب وهو مالا يتفق مع نظام اقتصادي الي، فيجب ان يتدخل المشرع ليعيد أساس المسؤولية لاسيما أنه لوحظ ان القضاء في سبيل العدالة قد حمل النصوص أكثر مما تتحمل بانه وسع في فكرة الخطأ في عقد العمل .
سادسا: تناقض الخطأ مع التطور القانوني إذ ليس من العدل وما من سنن الرقي الوقوف عند حد النصوص التي وضعت في زمن يختلف من جميع النواحي من حالتنا الحاضرة لأنه إذا تتبعنا نظرية الخطأ فينتج عنها في اغلب الاحوال تحمل المصاب بالضرر وافلات محدثهُ من التعويض وهذا مناقض للعدالة .
الفرع الثاني: نقد نظرية الضرر
أهم الانتقادات التي وجهت إلى نظرية الضرر في صورها التقليدية كأساس للمسؤولية المدنية كالاتي :
1-يقول خصوم النظرية أنها كانت في واقع الامر وسيلة لجأ إليها الفقهاء لحل مشاكل العمل والعمال قبل صدور قانون العمل الفرنسي الأول سنة 1898 الذي اشتمل على نصوص عديدة تحمي مصلحة العمال ضد أصابات العمل وحوادثه فلم تعد هناك أي حاجة إلى تبني هذه الفكرة أو الأخذ بها.
2-أن صبغ القانون بالصبغة المادية والاستعانة بذلك على تبرير نظرية
الضرر أمر غير صحيح وغير مقبول فليس صحيح أن القانون ينظم العلاقات التي تقوم بين الذمم المالية وحدها إذ ليس في وسع أي مشرع حكيم ناضج أن يقف عند هذا التنظيم المادي ويفضل أشخاص هذه العلاقة بما لهم من إرادة ووجدان وضمير وروح، فالقانون لا ينظر إلى هؤلاء الأشخاص فيتولى تنظيم العلاقات التي تقوم فيما بينهم وتنظيم علاقاتهم في المجتمع الذين يعيشون فيه وعلاقة هذا المجتمع بهم.
3- إن أصحاب نظرية الضرر يناقضون أنفسهم عندما يقولون أن التعويض يشمل كل من الضرر المادي والضرر الادبي لان هذا القول يخلع على هذه النظرية طابعها المادي الذي ارادوه لها ويجعلها تنفذ الى نطاق الشخص والشخصية بما لهذا الشخص من مشاعر وعواطف وأفكار
4- ليس صحيح القول أن قواعد العدالة تقتضي وجوب الأخذ بنظرية تحمل التبعة بحجة أن رب العمل لن يرضى من القاء تبعة هذا الضرر على عاتقه مادام إمكانه احتساب مبلغ التعويض الذي سوف يدفعه للعامل على كلفة الانتاج بزيادة سعر السلعة بما يضمن له استرداد هذا المبلغ الذي دفعه تعويضاً للعامل لان هذا القول يتجاهل كون رب العمل ليس حرا في زيادة الأسعار التي ينتهجها وأنه إذا ما أثقل كاهله بالتزامات باهظة فإنه سيعمد حتمًا إلى التخلي عن العمل الذي يمارسه وهكذا تشل الحركة الصناعية ومن الصعب أن يستند أنصار نظرية الضرر إلى قواعد العدالة والأخلاق لتبرير نظريتهم والتدليل على صحتها مع أن الفكرة التقليدية للخطأ أقرب إلى هذه القواعد وأوثق أتصالاً بها .
5ـ ان نظرية الضرر في صورها التقليدية قد تؤدي الى عدم حصول المتضرر على التعويض إذا كان مرتكب الفعل الضار غير معروف.
المطلب الثالث: مبنى نظرية الضمان
يعتبر الفقيه الفرنسي (ستارك) أول من نادى بنظرية الضمان كأساس للمسؤولية المدنية إذ قدم الفقيه المذكور هذه النظرية في أطروحته للدكتوراه المعنونة (وظيفة المسؤولية المدنية كضمان وعقوبة خاصة ) .ومن ثم استعادها في مؤلفاته ودراساته وسنوضح هذا النظرية في نقطتين من حيث مضمون النظرية وتقييمها :
الفرع الأول: مضمون نظرية الضمان
تذهب هذه النظرية إلى أن المحاولات الفقهية السابقة لإقامة النظرية العامة للمسؤولية المدنية توجهت نحو محدث الضرر باحثة عن الخطأ الذي ارتكبه أو المخاطر التي تعرض لها الغير من جراء نشاطه لتقيم الصلة السببية بينها وبين الضرر الحاص بينما أهملت هذه المحاولات حقوق الضحية التي تتطلب الحماية من خلال الجزاء الذي ينزل بمسبب الضرر ألا وهو موجب التعويض عليها.
فللضحية حقوق كسائر الناس، الحق في سلامة الجسد والنفس والملك وهذه الحقوق بحاجة للحماية من تعدي الاخرين عليها فإذا مست بأذى وجب التعويض على صاحبها بالاستناد إلى حقه بضمان نفسه وملكه تجاه تصرفات الغير الضارة به، فللإنسان حق في السلامة تجاه الجميع والمساس الضار بهذا الحق يستتبع التعويض عليه عن ضرر الحاصل.
انه التزام ضمان عام مرافق لحقوق الإنسان المحمية قانوناً لأن الحق غير المحمي قانوناً يفقد صفته كحق ، وان موضوع المسؤولية يكمن في التعارض بين الحقوق ، حق مرتكب الفعل الضار في ان يتصرف بحرية وان يأتي ما يشاء من الافعال، وحق للمضرور في الاستقرار ويكون حل هذا التعارض بالمفاضلة بين الحقوق على اساس قيمة كل من الحقين، فاذا كان حق المدعى عليه، فاعل الضرر يعلو على حق المضرور فلا يكون هناك مجالا للتعويض، اما اذا كانت الغلبة لحق المضرور، فان على مرتكب الضرر ان يعوض المضرور
فكل مواضيع المسؤولية كما يراها هذا الفقيه تبدأ كصراع بين حق المضرور في السلامة وحق محدث الضرر في العمل أو الحرية ويقول أنه طالما سلمنا بوجوب مثل هذا الحق فيجب أن يكفل لها الحماية عن طريق تقرير مسؤولية من يعتدي عليها ومن ثم إلزامه بالتعويض .
والقاعدة العامة في نظره أن الضرر الجسدي والمادي يعطي المضرور الحق في المطالبة بالتعويض دون الزامه بإثبات خطأ الفاعل وكان دافع المناداة بهذه النظرية هو الرغبة في إسباغ الحماية على المتضررين من غير العمال وفي غير الحوادث الناشئة في المصانع أي بعيداً عن فكرة وجود نشاط انتفع به محدث الضرر وتحديداً في مجال الحوادث الناشئة بفعل الاشياء والتي يقع ضحيتها أشخاص من غير العمال بعد أن أمن المشرع الفرنسي حماية العمال من خلال أصداره قانون حوادث العمل سنة 1898 وبه أخذ المشرع بنظرية تحمل التبعة فوجد الفقهاء ضرورة البحث عن وسيلة أخرى لحماية المتضررين فكان أن نادوا بنظرية الضمان .
ويخلص ستارك إلى أن أساس المسؤولية المدنية ليس منغلق على فكرتين الخطأ وتحمل التبعية فهما فكرتان شخصيتان تبحثان عن سبب وتبرير الالتزام بتعويض الضرر من وجهة نظر محدث الضرر وتتجاهلان تماماً حقوق المتضرر لأن نظرية الخطأ قد جعلت مناط المسؤولية وعدمها النظر في مسلك الفاعل وحده ووقوع خطأ منه أو عدم وقوعه لترتب على ذلك المسؤولية أو عدمها. وكذلك نظرية تحمل التبعة إذ أنها تجعل مناط المسؤولية أو عدمها نشاط المتسبب في الضرر واحتمال منفعته من هذا النشاط أو عدم مقدرته على تحمل تعويض الضرر الناجم عن فعله أو عدمه .
ويخلص ستارك من كل ما تقدم أن أساس المسؤولية ووظيفتها هي ضمان الحقوق فهي تقوم بمجرد المساس بحق المضمون .
الفرع الثاني: تقييم نظرية الضمان
ولبيان مدى ملائمة فكرة الضمان كأساس للمسؤولية المدنية فانه يجب تقييمها من منظور، المسؤولية عن الفعل الشخصي، والمسؤولية عن فعل الأشياء وذلك في المحاور الاتية :
اولا / الضمان في نطاق المسؤولية الشخصية
يقصد بالفعل الشخصي الفعل الانساني الذي يؤدي مباشرة الى الضرر ولا ينفي عن الفعل صفته تلك، طالما لم يستقل الشيء عن فعل الانسان ولما كان ما يكسبه الفعل من صفه عدم المشروعية يشكل اساسا كأنما للإلزام مباشره بالتعويض، فان الصعوبة تكمن متى وجد الضرر سببه في فعل انساني مباح اي فعل لا يشكل تعديا على ما هو مفروض من حدود لمباشرة الفعل، فبالنسبة لانصار المفهوم الموضوعي للخطأ فانه يكفي لاكتساب الفعل الضار صفة الخطأ ان يشكل انحرافا عن سلوك الشخص العادي فالخطأ فعل ضار يقدر بصورة مجردة دون الاعتداد بالحالة النفسية وهنا التقدير المجرد يسمح للقاضي لان يقيم من اثبات الفعل الضار الشخصي دليلا على اقتراف مباشر الخطأ ومن هنا يتضح في مجال الضرر المادي والجسدي لا يعتبر الخطأ شرطا لقيام الالتزام بالتعويض طالما ان اثبات الفعل الشخصي الضار يشكل في ذات الوقت اثباتا للخطأ وهذا التقدير المجرد الخطأ، يجعل منه صفة مطلقة لكل مظاهر الفعل الضار مما يتأكد معه عدم اشتراط الخطأ للالتزام بتعويض الضرر المادي والجسدي المسبب مباشرة بفعل الانسان
وإذا انتقلنا الى مجال نظرية تحمل التبعة ، فان التسليم بحق الانسان في سلامة شخصه وماله، وبالتالي اعتبار الضرر تعديا على حق موجب بذاته للتعويض، فان هذا لا ينفي ان هناك فرقا اساسيا بين هاتين النظريتين، فنظرية الضمان تعتد بالفعل الضار سواء اكلن مشروعا او غير مشروعا ولا تقيم الالتزام بالتعويض على السببية المادية، فالفعل الضار في أطار فكرة الضمان ليس فعل مادي، بل تعديا على حق الغير في سلامة شخصه وماله
ثانيا / الضمان في نطاق المسؤولية عن فعل الاشياء
بقي الخطأ لقرون عديدة أساسا للمسؤولية بدون منازع حتى مع تبدل الظروف الاقتصادية والاجتماعية وبتقرير حالات من المسؤولية غير الخطئية ،حيث يتعذر في كثير من الأحيان مع ظهور الالة منع الاضرار بالغير، فالثورة الصناعية التي شهدها القرن التاسع عشر نتج عنها مشاكل عديدة منها مشكلة الحوادث مجهولة الأسباب او التي يتعذر نسبتها إلى الخطأ وظهر تبعا لذلك قصور المسؤولية بمفهومها الشخصي عن مواجهة المخاطر التي أصبحت تهدد سلامة الأشخاص وأموالهم، ومع تلك الثورة الصناعية وتطور الظروف الاقتصادية والاجتماعية أصبحت الاشياء التي ينتج عنها مخاطر لا يمكن حصرها، وهنا تدخل المشرع واجتهد القضاء لبسط حماية القانون على ضحايا الضرر ،وبالرجوع الى القضاء الفرنسي وبصدد تفسيره المادة (1242) التي قضت بأن المسؤولية ليست مرتبطة بالفكرة الشخصية للخطأ وإنما هي مرتبطة بالفكرة المادية للضرر، فالشخص الذي يحوز شيئاً ينتفع منه ملزم وفقاً لمنطق الاشياء بتحمل الاضرار والاعباء المتصلة بهذا الانتفاع، وقضت محكمة (ليون) بان المسؤولية التي تقررها الفقرة الأولى من المادة(1242) تقوم على أساس "خطر جديد يصيب المجتمع من جراء إنتاج شيء خطير"،
وأصدرت محكمة باريس ١٩١٠ حكماً بهذا المعنى ولكنه أكثر صراحة في الأخذ بفكرة تحمل التبعة جاء فيه "وسواء اكان الضرر ناشئا عن فعل شيء ام عن فعل تابع….. فإن العدالة تقضِ بان يتحمل النتائج المادية لهذا الضرر …..من كان الشيء او عمل التابع يعود عليه بالنفع والفائدة"، وقضت محكمة لكتور"بأن كل خلق حالة واقعية نشأت عنها مخاطر او أضرار يعتبر مسؤولا تجاه اولئك الذين كانوا ضحية لها
المبحث الثالث: تطبيقات نظرية الضمان
تقوم نظرية الضمان بالمفاضلة بين حقين هما حق المضرور في سلامته الجسدية والمادية والأدبية وهو ما يجسد الحق العام في السلامة كحق مشروع قانونا من جهة، ومن جهة أخرى حق المتسبب في الضرر بالعمل وحرية ممارسة الانشطة الإنسانية المشروعة حتى لو أّدى ذلك النشاط إلى الإضرار بالغير، ولعل اهم تطبيقات نظرية الضمان كأساس للمسؤولية المدنية هي:
المطلب الأول: التأمين الإلزامي
يعد التأمين من المسؤولية أحد أنواع عقد التامين الذي تولت كل التشريعات تنظيمه ولمختلف الأعمال لدفع المسؤولية عن المسؤول ولتيسير تعويض المضرور من جانب اخر، وبالنظر لأهمية وخطورة بعض الاعمال وشيوعها اتجهت التشريعات الى اخضاعها او القائمين عليها الى التأمين من الأضرار الناجمة عنها وقد اتخذت لدى بعض التشريعات المقارنة الطابع الإلزامي للتأمين ونظمتا أحكامه بنصوص خاصة تختلف عما هو مقرر في القواعد العامة للتأمين بالنظر لأهمية وخطورة ما ينجم من تلك الأعمال ،
اذ لجأ المشرعون إلى هذا النوع من التأمين لكونه بديلاً ممكناً للمسؤولية المدنية على اعتبار أن دفع التعويض فيه لا يشترط تحديد المسؤولية عن الضرر ويبرم هذا النوع من التأمين ليس من الشخص الذي يمكن أن يكون مسؤولاً عن الضرر وإنما من الشخص الذي يمكن أن يحدث له الضرر وهذا التأمين قد يكون تأميناً على الأشخاص بمقتضاه يكون المؤمن له مضموناً ضد خطر حادثة تهدده في جسده وقد يكون تأميناً من الأضرار حيث يؤمن الشخص ضد خطر يتهدد ذمته المالية ،
وهذا النوع من التأمين يلعب دوراً مهماً في حوادث السير في فرنسا وذلك لتعويض الأضرار التي تحدث للسائق المضرور من الحادثة التي تسببت فيها سيارته فقط وهنا تحدد اتحاد صفتي المسؤول والمضرور في شخص واحد التعويض المنصوص عليه في القانون رقم (677)لسنة 1985 المعدل الذي يرمي إلى تحسين وضع المتضررين من حوادث السير وإلى تسريع إجراءات التعويض ، وكذلك انشأ المشرع الفرنسي بمقتضى القانون الصادر4 في الثاني/1978 المعدل نظام التأمين ضد الأضرار التي تصيب المباني ويسير هذا النظام على أن يقع التزام بالتأمين الاجباري على عاتق مالك البناء (او وكيله أو البائع) ضد الأضرار التي تصيب المبنى وفي حالة حدوث الضرر بالمبنى يتم صرف التعويض تلقائياً للمؤمن له من شركة التأمين .
كما نظم المشرع الفرنسي بموجب القانون رقم (303) الصادر في 4/آذار/2002 موضوع التأمين الاجباري من المسؤولية الطبية ضمن الباب الرابع المعنون تعويض آثار المخاطر الصحية .
أما على صعيد التشريعات العربية ففي القانون المصري فقد تم اصدار القانون رقم ( 72 ) لسنة 2007 قانون التأمين الإجباري عن المسئولية المدنية الناشئة عن حوادث مركبات النقل السريع داخل جمهورية مصر العربية لجبر الأضرار وتعويض الخسائر الناجمة عن حوادث المرور ، وكذلك المشرع الجزائري قد أقر نظاماً جديداً للتأمين من خطر الكوارث الطبيعية بموجب الأمر رقم (03-12) الصادر في 26/8/2003 بعد حدوث الكوارث الطبيعية في السنوات الأخيرة لينتقل المشرع بموجب تلك التشريعات الصادرة ابتداءاً من سنة 2003 من مرحلة التأمين الاختياري بالنسبة للتأمين على الممتلكات من اخطار الكوارث الطبيعية إلى مرحلة التأمين الاجباري وقد جاء ذلك مراعاة لمصالح الملاك وضمان حقوقهم تجاه الدولة ولأجل التكفل بضحايا الكوارث الطبيعية وتعويضهم عن الخسائر المالية التي يتكبدونها تحقيقاً لمبدأ حماية الحق في الحياة وتوفير العيش الكريم لمواطني الدولة .
وبالرجوع إلى القانون العراقي فإن الوضع مشابه لما موجود في القانون الجزائري إذ أصدر المشرع العراقي قانون التأمين الالزامي من حوادث السيارات رقم (52) لسنة 1980 ونصت المادة (1) منه على أنه: "تعتبر جميع السيارات في اراضي الجمهورية العراقية مشمولة تلقائياً بالتأمين وفق احكام هذا القانون مع مراعاة حكم المادة (11) منه"، وكذلك نصت المادة (9/أولاً) على أنه: "يلتزم المؤمن بالتعويض عن الوفاة أو الاصابة البدنية الناشئة عن استعمال سيارة مجهولة الهوية..." .ويتضح من ذلك أن المشرع العراقي قد جعل من شركة التأمين مسؤولة عن تعويض الأضرار التي تلحقها سيارات مجهولة الهوية وبعبارة أخرى أن التعويض هنا والواقع على عاتق شركة التأمين بسبب عدم معرفة مرتكب الفعل الضار .
ونستنتج مما ذكر أن حوادث التامين التي حاولت التشريعات شمولها قد تكون في بعض الأحيان غير معروفة الفاعل ومن ثم حاولت هذهِ التشريعات بإيجادها نظام التأمين الالزامي أن توفر تعويض مناسب للمضرور من دون الحاجة إلى البحث عن مرتكب الفعل الضار.
المطلب الثاني: صناديق الضمان
يعد موضوع صناديق الضمان، خطوة في سبيل تطور الحق في الحصول على التعويض، الذي يمثل أحد المبادئ القانونية العاّمة، إذ يلزم للحصول عليه وفقا لقواعد المسؤولية المدنية، ضرورة إثبات ثلاثة عناصر رئيسية، هي الخطأ والضرر والرابطة السببية بين الخطأ والضرر، أّما التعويض وفقا لصناديق الضمان، فلا يلزم للحصول عليه سوى إثبات الضرر فقط بل يكون أحيانا مفترضا خاصة عندما يجد مصدره في فعل شخص ما ليس بالضرورة مذنبا ، اذ يكرس نظام صناديق الضمان مرحلة جديدة في الاعتراف بحق الضحية في التعويض ومن هذا المنطلق لابد من تعريف صناديق الضمان وبيان موارد تمويل هذهِ الصناديق من خلال المحاور الآتية:
الفرع الأول: تعريف صناديق الضمان
تتعدد وتتنوع التعاريف التي أطلقت على صناديق الضمان نظرا لتعدد وتنوع هذهِ الأخيرة، حيث عرفت بأنها (كل نظام في هيئة او نقابة او جمعية من أفراد تربطهم مهنة او عمل واحد او اية صلة اجتماعية أخرى يتكون من غير رأس المال، ويمول باشتراكات او خلافه بغرض ان يؤدي او يرتب لأعضائه او المستفيدين منه حقوق تأمينية في شكل تعويضات او معاشات دورية او مزايا مالية محددة)
وعرفت أيضا بأنه " عبارة عن نظام يتولى عمليات التأمين ضد الأخطار التي لا تقبلها عادة شركات التامين او تلك التي ترى الحكومة مزاولتها بنفسها) .
ويكون لهذهِ الصناديق مزايا منها:
1) إعفاء الأطراف المتضررة من عبء الاثبات للحصول على التعويض.
2) أنها ذات صلة بمبادئ تثمين حياة الإنسان.
وقد ظهرت هذه الصناديق في تعويض حوادث المرور، والحوادث الطبية، اذ شهدت هذه المجالات اندماج نوع من صناديق التعويض التي سميت(بالأنظمة الاستباقية لتعويض الأضرار)، كما في الصندوق الخاص المستحدث في فرنسا لتعويض الأضرار الطبية (ONlAM)، وصندوق تعويض التلوث بسبب المحروقات(FINAL)
وفي مجالات اخرى انشأ المشرع الفرنسي العديد من صناديق الضمان أو التعويضات وهذه الصناديق تمنح المضرور تعويضا في المجالات التي تدخل في نطاق التزامها دون الحاجة إلى حكم قضائي يحدد مسئولية فاعل الضرر،ونذكر من ذلك صندوق ضمان ضحايا الإصابة بفيروس الإيدز وصندوق ضمان ضحايا الأميانت وصندوق ضمان ضحايا الأعمال الإرهابية وصندوق ضمان ضحايا الجرائم الجنائية والصندوق الدولي لتعويض الأضرار الناتجة عن التلوث بالزيت FIPOL
لذا تعتبر تلك الصناديق أداة لضمان إمكانية التعويض عن الأضرار في الحالات التي لا يوجد لها غطاء تأميني وكذلك اذ كنا بصدد أخطار يتعذر معها معرفة الشخص المسؤول ولان طبقاً لقواعد المسؤولية المدنية التقليدية لابد من وجود مسؤول بالتعويض، فظهر ما يسمي بالمسؤولية الاجتماعية في مواجهة المسؤولية الفردية التي تقوم عليها قواعد المسؤولية المدنية التقليدية
الفرع الثاني: موارد صناديق الضمان
في البداية كان تمويل صناديق الضمان عاما أي عن طريق الدولة أي من ميزانية الدولة، وموارد الميزانية تختلف، فقد يخصص لتمويل هذه الصناديق جزء من تخصيص رسم من الرسوم، أو ضريبة من الضرائب، ثم تطور الأمر فأصبح التأمين يساهم في تمويل هذه الصناديق، إلى جانب التمويل العام من حيث الرقابة، حيث تمارس الدولة رقابتها علـى ىصناديق التعويض عن طريق مجموعة من الآليات
ومن وجهة نظرنا تعد الصورتين أعلاه من الآليات المستحدثة في تعويض المتضررين التي اعتمدت على تأسيس المسؤولية على نظرية الضمان.
أصحاب العمل على مجرد الضرر الذي يصيب العامل نتيجة الاصابة والتجاوز على حق العامل المضمون في سلامة جسده. وكذلك قانون تعويض المتضررين جراء العمليات الحربية والاخطاء العسكرية
والعمليات الإرهابية رقم (20) لسنة 2009 إذ تقضي المادة الأولى من هذا القانون تعويض كل شخص طبيعي إصابة ضرر جراء العمليات الحربية والاخطاء العسكرية والعمليات الإرهابية فالدولة تكون مسؤولة قانونا عن تعويض الضرر الذي يلحق بالمتضررين ولو لم يصدر عنها أي عمل إيجابي أو موقف سلبي والغرض من ذلك هو توفير الحماية للمتضررين وضمان إيصال التعويض لهم.
الخاتمة
وبعد ان انتهينا من موضوع بحثنا توصلنا الى جملة من النتائج والمقترحات لعل أبرزها :
اولا / النتائج
1ـ ان نظرية الضمان هي إحدى صور المسؤولية المدنية المادية (الموضوعية) .
2ـ طورت نظرية الضمان قواعد المسؤولية المدنية بحيث فصلت بين المسؤول عن التعويض ومرتكب الفعل الضار اذ لم يعد من المستلزم ان يكون مرتكب الفعل الضار هو المسؤول عن التعويض.
3ـ ان سبب ظهور هذهِ الفكرة كان لعجز المسؤولية المدنية المادية في صورها التقليدية عن تحقيق الاهداف في حالات منها عدم معرفة مرتكب الفعل الضار
4- الرغم من تطور قواعد المسؤولية المدنية إلا أنها مازالت تعاني من قصور في تحقيق الحماية الفعالة للمتضررين وبصفة خاصة في مجال الأضرار مما أدى إلى ظهور نظم للتعويض منها نظام التعويض التلقائي عن طريق" صناديق الضمان" كنظام تعويض لا يحتاج فيه المتضرر اللجوء إلى القضاء لغرض حصوله عليه وإنما يمكن الحصول على التعويض بمجرد لحاق الضرر به.
ثانيا / المقترحات
1ـ ندعو المشرع العراقي الى التوسع في تبني الآليات التي تؤسس المسؤولية المدنية على فكرة الضمان لما فيها من تحقيق العدالة وتماشياً مع متطلبات قواعد المسؤولية المدنية في الوقت الحاضر التي تهدف الى ايصال التعويض الى المضرور بأيسر الطرق وان لا يبقى ضرر من دون تعويض.
2ـ انشاء صندوق ضمان لتعويض الأضرار يكون تمويله من الموازنة العامة السنوية وتكون مهمته تعويض المتضررين نتيجة الأضرار التي يتعرضون لها عند عدم معرفة مرتكب الفعل الضار والكوارث الطبيعية.