الحلول
البديلة لتسوية المنازعات ومكانتها في القانون الدولي - دراسة تحليلية مقارنة
ياسيـن كحلي
مستشار قانوني؛ باحث في العلوم القانونية - خريج سلك الماستر قانون خاص ـ
المغرب
The Alternative Dispute Resolution Mechanisms
and Their Status in International Law A Comparative Analytical Study
Yassine KAHLI
ملخص: بالوسائل
البديلة لفض المنازعات؛ تفتح التشريعات الدولية والإقليمية أفقًا جديدًا لحل
النزاعات، مما يبرز أهمية هذه الوسائل في السياق العالمي المعاصر. تتضمن هذه
الوسائل، مثل التحكيم والتوفيق والوساطة، أدوات مرنة وفعّالة لتحقيق العدالة
والسلامة في تسوية الخلافات. من خلال النظرة القانونية والمقارنة بين التشريعات
المختلفة، يظهر الدور المحوري الذي تلعبه وسائل فض المنازعات في تعزيز التعاون
الدولي والاستقرار الإقليمي. فضلا عن ذلك، تقدم هذه الوسائل بديلا موثوقا ومكملا
للنظام القضائي التقليدي، مما يعزز من مرونة الأنظمة القانونية ويشجع على المشاركة
الفعالة للأطراف المتنازعة في عملية فض النزاع.
وبالتالي، فإن
استخدام وسائل فض المنازعات البديلة يشكل جزءًا أساسيًا من الجهود الرامية لتحقيق
العدالة وتعزيز الاستقرار القانوني في المجتمعات العالمية.
الكلمات
المفتاحية: الاتفاقيات الدولية؛ التحكيم؛
التوفيق؛ الهيئة التحكيمية؛ قرار التحكيم؛ الوساطة.
Summary Alternative Dispute Resolution
(ADR) mechanisms open up new horizons for resolving disputes, highlighting
their significance in the contemporary global context. These mechanisms, such
as arbitration, mediation, and conciliation, provide flexible and effective
tools for achieving justice and ensuring safety in dispute resolution. Through
a legal lens and comparative analysis of different legislations, the pivotal
role of ADR mechanisms in enhancing international cooperation and regional
stability becomes evident. Additionally, these mechanisms offer a reliable and
complementary alternative to the traditional judicial system, enhancing the
flexibility of legal systems and encouraging active participation of disputing
parties in the dispute resolution process. Therefore, the utilization of ADR
mechanisms forms an essential part of efforts to achieve justice and enhance
legal stability in global societies.
Keywords: International Agreements;
Arbitration; Mediation; Arbitral Tribunal; Arbitral Award; Conciliation..
مقدمة :
يعرف العالم اليوم ظاهرة مجتمعية
تتجلى في الطرق البديلة لحل أو تسوية المنازعات، حيث تطورت إلى جانب الآليات
الرسمية والكلاسيكية لحل تلك النزاعات المتمثلة في القضاء. فإذا كان من المُسلم به
لا وجود للحياة بدون نزاعات، كذلك لا يمكن وجود نزاع بدون حل، وعلى هذا الأساس عمل
الإنسان منذ الأزل في البحث عن أجود السبل للفصل في هذه النزاعات مع مراعاة قواعد
العدالة والانصاف. وإذا كانت النزاعات تُحل مبدئيا بواسطة السلطة القضائية، إلا أن
القانون لم يجعل سبيل القضاء إلزاميا على الخصوم للفصل في منازعاتهم، بل أجاز لهم
قبل رفع الدعوى أو بعد رفعها أو أثناء السير فيها اللجوء إلى وسائل أخرى لحل
المنازعات، يطلق عليها الوسائل البديلة.
والحال أن منازعات الأفراد لا تيم
تسويتها دائما بقوة السلطة العامة للدولة ـ مؤسسة القضاء ـ وإنما تحل سلميا بوسائل
أخرى سواء عن طريق الصلح؛ وهو حل رضائي للنزاع يقوم به الأفراد بأنفسهم عن طريق
تنازلات متبادلة عن بعض حقوقهم، أو بأسلوب الوساطة حيث يتدخل طرف ثالث لتقريب
وجهات النظر بين الطرفين. ثم أسلوب ثالث لحل المنازعات لا تقوم على السلطة العامة
مثل القضاء، كما لا يتم ذاتيا برضاء الطرفين كالصلح، وإنما بنزول أطراف النزاع
لرأي طرف ثالث يثقان في رأيه، وهذا هو التحكيم فهو أداة سليمة لا تقوم على حل
للنزاع يفرض من أعلى بقوة السلطة العامة، وإنما إلى امتثال الأفراد لرأي الغير
ولذلك قيل أيضا "احتكم ولا تتقاض". هذا مع الإشارة إلى أن التحكيم قد
تطور خاصة من حيث شكلياته التي صارت أشبه بكثير من المساطر المعمول بها أمام
المحاكم الرسمية، التابعة للدولة.
وعلى المستوى الدولي، اتجهت
المعاهدات والاتفاقيات الدولية نحو تعزيز تفعيل الوسائل البديلة لفض النزاعات. فقد
وضعت الاتفاقية المؤسسة العربية لضمان الاستثمار إطارا لتبني الوساطة والتوفيق
والصلح كوسائل لحسم النزاعات، حيث يتم اللجوء إليها قبل التحكيم. كما اتبعت
اتفاقية البنك الدولي بشأن تسوية منازعات الاستثمار نفس النهج، مع احتوائها على
نظام المصالحة والتحكيم التابع لغرفة التجارة الدولية، الذي ينص على المصالحة
الاختيارية ويحدد لها مجموعة من الإجراءات. بالإضافة إلى ذلك، أصدرت لجنة الأمم
المتحدة لقانون التجارة الدولية (الأونسيترال) قواعد للتوفيق، وكان لهذه القواعد
تأثير إيجابي في تسوية المنازعات الدولية ونشر التوفيق كوسيلة فعالة لحسمها.
يقصد بالطرق البديلة لتسوية
المنازعات،[1]
أو كما يسميها البعض الوسائل المصاحبة،[2]
تلك الوسائل التي تلجأ إليها الأطراف لإدارة وحل النزاع خارج إطار المنازعات
القضائية التقليدية. وتهدف هذه الوسائل إلى التوصل إلى حلول لخلافاتهم دون اللجوء
إلى القضاء. وتشير كلمة "البديلة" إلى الوسائل الأخرى غير التقليدية
المستخدمة في حل النزاع. بينما يتعلق مفهوم "التسوية" بمفهوم اجتماعي
أكثر منه قانوني، إذ يستخدم القضاء مصطلحات مثل الدعوى أو المنازعات، ويفضل
القانونيون هنا استخدام عبارة "الوسائل البديلة" بدلا من المقاضاة. هذه
الوسائل ليست بديلا عن القضاء ولا تنافسه، بل تكمل دوره، وتعزز استقلاليته، وتساعد
الأطراف بنزاهة في إيجاد الحل الأمثل لادعاءاتهم.
وغير محق من يعتقد أن التقنيات
البديلة لتسوية المنازعات تعتبر وسائل حديثة العهد، فقد مارستها المجتمعات البشرية
منذ زمن بعيد. وكانت هذه الوسائل تستخدم لحل النزاعات بطرق بديلة تعود إلى آلاف
السنين، وربما كانت أقدم في ظهورها وممارستها من نظم العدالة المؤسسية أو
الإجراءات القضائية النظامية المعروفة. تشير الحقائق التاريخية المتعلقة بمختلف
الحضارات التي مرت بها الإنسانية عبر الزمن إلى هذا الأمر.[3]
وبالتالي، فإن هذه الوسائل ليست جديدة على ثقافتنا وأعرافنا؛ فقد تم استخدامها منذ
القدم في تسوية النزاعات. وهذا ما دفع البعض إلى وصفها بأنها جزء من تراثنا الذي
عاد إلينا، إذ خرجت من الباب لتعود من النافذة.[4]
على المستوى الدولي، كانت
أستراليا أول دولة تتبنى تقنيات التحكيم والتوفيق في منظومتها القانونية الحديثة
من خلال تشريع قانون "الكومنولث" للتحكيم والتوفيق عام 1904. تلتها
الولايات المتحدة الأمريكية بتشريع قانون التحكيم الفدرالي عام 1924،[5]
كما كانت الوساطة مستخدمة في فرنسا في العهد القديم بمفهوم المصالحة، وأعيد
استخدامها بعد الثورة الفرنسية عام 1789.
أما في الشريعة الإسلامية، تتمتع
البديلة لتسوية المنازعات بمكانة هامة، وخاصة الصلح كآلية تقطع المنازعة وتحد من
الخصومة وتنشر المودة والوئام بين أفراد المجتمع. وتشمل هذه البدائل جميع
المنازعات في مختلف المجالات، كما يتضح من الآيتين 35 و128 من سورة النساء في
القرآن الكريم. وفي السنة النبوية، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يشدد على إصلاح
ذات البين، حيث قال: "الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا حرم حلالا أو أحل
حراما". وقد حافظ الفقهاء عبر التاريخ الإسلامي على الصلح كآلية لحل الخلافات
والخصومات في مجال القضاء.
يستمد موضوعنا أهميته العلمية من
خلال التوقيع على مجموعة من البروتوكولات والاتفاقيات الدولية والإقليمية، التي
توجه الدول نحو استخدام بعض السبل في حسم النزاعات بشكل اتفاقي، مع التزام هذه
الدول بالاحترام والتطبيق الفعلي لتلك الآليات في تشريعاتها الوطنية. من حيث
السياق العملي، أصبحت الوسائل البديلة لفض المنازعات لا غنى عنها إلى جانب النظام
القضائي الرسمي، نظرا للتطور التكنولوجي والاقتصادي والاستثماري والاجتماعي. الشيء
الذي دفع بالمجتمع الدولي إلى التفكير في تحسين الاتفاقيات الدولية والإقليمية أو
إجراء تغييرات عليها لتتناسب مع التطورات العالمية الراهنة، وذلك في إطار حماية
الحقوق والحريات بشكل ودي ومحايد.
نتج عن ذلك إشكالية أساسية بخصوص
ما مدى تأثير المواثيق والاتفاقيات الدولية والإقليمية في تعزيز منزلة الوسائل
البديلة لحسم المنازعات؟
ولمعالجة مختلف الجوانب المتعلقة
بتحليل الاتفاقيات الدولية والإقليمية البارزة، واستكشاف مكانة ودور وسائل فض
المنازعات البديلة عن القضاء، سنستعين بالمنهج التحليلي الوصفي كإطار منهجي
لمقاربة الموضوع من خلال محورين أساسيين، أما المحور الأول سيتناول بالتحليل
والدراسة الإطار التنظيمي الدولي للوسائل البديلة لحل المنازعات، بينما سنخصص
المحور الثاني للحديث عن الإطار التنظيمي الإقليمي للوسائل البديلة لفض المنازعات.
المحور الأول : الإطار التنظيمي الدولي للوسائل البديلة لحل
المنازعات
يعد موضوع الوسائل البديلة لفض
النزاعات ذا أهمية كبيرة، ويستدعي البحث عن مصادرها في التشريعات الدولية والمكانة
التي تشغلها هذه الوسائل في نصوص الاتفاقيات والمواثيق. لذا، سنستعرض الاتفاقيات
الكونية ذات الصلة بالمجال الاقتصادي (الفقرة الأولى)، وأخرى ذات الصلة بالمجال
الاجتماعي (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: الاتفاقيات الكونية
ذات الصلة بالمجال الاقتصادي
من خلال موقع الاتفاقيات الدولية
والواقع الاقتصادي العالمي، والصراعات المتزايدة بين الأفراد والمؤسسات، سواء كانت
طبيعية أو افتراضية، أصبح من الضروري البحث عن وسائل لتسوية هذه النزاعات. ويلاحظ
أن اتفاقية جنيف واتفاقية نيويورك كانتا من بين أولى المحاولات الدولية لتحديد
إجراءات تسوية النزاعات. وفيما يتعلق بالجوانب الاستثمارية، فإن تطور الصناعة
والتجارة العالمية أدى إلى زيادة النزاعات بين المستثمرين. لذا، أصبح البحث عن وسائل
بديلة لحل هذه النزاعات ضرورة وليست ترف. يُعد اتفاق واشنطن لتسوية المنازعات
وقواعد الأُونسيترال مثالا على ذلك، إذ تم تطويرهما لتوفير إطار قانوني موحد
وفعّال لتسوية النزاعات الدولية.
أولا: اتفاقيتي
نيويورك وجنيف
أ ـ بروتوكول جنيف لسنة 1923 واتفاقية جنيف لسنة 1927
بعد
تأسيس الغرفة الدولية في باريس ومحكمة التحكيم المرتبطة بها، أصبح من الضروري على
المشرعين الدوليين المسؤولين عن هذا المنظومة القانونية المتميزة أن يبتكروا آلية
قانونية تمكن من الاعتراف بدور التحكيم وتعزز من مشروعيته. وعلى هذا الأساس، جاء
إصدار بروتوكول جنيف في 24 سبتمبر 1924،[6] الذي قضى بتقديم الدول
المتعاقدة[7] اعترافا بالتحكيم كوسيلة لحل
النزاعات والتقيد بالالتزامات المترتبة على اتفاق التحكيم أو الشروط المتضمنة له.
يتكون البروتوكول من ثماني مواد،[8] حيث تناولت المادة الأولى اعتراف الدول باتفاق التحكيم سواء كان قبل حدوث
النزاع أو بعده، كما نصت على ضرورة أن يكون الطرفان في الاتفاقية من دولتين من
الدول الموقعة على البروتوكول. كما ألزمت بأن يمتد اتفاق التحكيم إلى المنازعات
التجارية وغير التجارية، مع إمكانية لأي دولة متعاقدة أن تقيد اعترافها باتفاق
التحكيم في المنازعات التجارية فقط، وفقا لتعريفها لمفهوم التجارة في قانونها
الوطني.
وفقا للبروتوكول، يمكن أن يجرى
التحكيم في بلد غير متعاقد، وتنظم المادة الثانية منه إجراءات التحكيم، مما يظهر
كيف تم احترام إرادة الطرفين في تنظيم عملية التحكيم بالإضافة إلى الالتزام بقانون
البلد الذي يجري عليها التحكيم. بينما تلزم المادة الثالثة الدول الموقعة على
البروتوكول بتنفيذ الأحكام الصادرة على أراضيها وفقا لأحكام التشريعات الوطنية. في
حين المادة الرابعة تتناول التزام المحاكم الوطنية برفض النظر في الدعاوى التي
يتضمنها اتفاق التحكيم، وبإحالة طرفي النزاع إلى التحكيم في حال طلب أحدهما ذلك.
وتتعلق المواد الأخرى بجوانب الانضمام إلى البروتوكول أو الانسحاب منه.
وبعد مرور فترة قصيرة من تنفيذ
بروتوكول جنيف، رأت عصبة الأمم ضرورة التعامل مع الثغرات التي ظهرت في تنفيذ أحكام
التحكيم نتيجة للواقع العملي. وفي هذا السياق، تم اعتماد اتفاقية لتنفيذ الأحكام
التحكيمية الأجنبية في جنيف بتاريخ 26 شتنبر 1927،[9] وهي مجموعة من القواعد التكميلية للبروتوكول السابق، تم تنظيمها في إحدى
عشرة مادة. هذه
الاتفاقية تتعلق بالاعتراف بصحة أحكام التحكيم وتنفيذها من قبل الدول المتعاقدة في
كل مرة تتوافر فيها الشروط المحددة في المادة الأولى منها. ونذكر بإيجاز:
- أن يكون الحكم قد صدر وفقا
لاتفاق تحكيم صحيح (شرط أو مشارطة)
- أن يكون موضوع النزاع قابلا
لحسمه بالتحكيم وفقا لقانون البلد المطلوب منه الاعتراف وتنفيذ الحكم.
- أن يكون الحكم قد صدر من
قبل هيئة تحكيم تم تشكيلها بناء على مشارطة أو شرط تحكيم، أو كان تشكيلها تم
باتفاق الأطراف وطبقا للقانون الواجب التطبيق على إجراءات التحكيم.
- أن يكون الحكم قد أصبح
نهائيا في البلد الذي صدر فيه.
- أن لا يتعارض الاعتراف
بالحكم وتنفيذه مع النظام العام أو مبادئ القانون العام في الدولة التي يُراد
الاعتراف به وتنفيذه.
بالإضافة
إلى ذلك، فإن المادة الثانية قد جاءت بتفصيل حالات رفض تنفيذ الحكم التحكيمي،
وتشمل:
- إذا كان قرار التحكيم قد تم
إبطاله في البلد الذي صدر فيه.
- إذا كان الطرف المحكوم ضده
لم يتسن له تقديم دفاعه أو كان ناقص الأهلية اللازمة...
- إذا تعلق الحكم بنزاع لا يشمله اتفاق التحكيم...
على
الرغم من الانتقادات الموجهة نحو بروتوكول جنيف واتفاقية جنيف بشأن الاعتراف
وتنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية، والعدد القليل من الدول التي لم تقتنع بأحكامها،
خاصة الاتفاقية الأخيرة، يعتبر العمل الذي تم في ظل عصبة الأمم اللبنة الأساسية في
انطلاق التحكيم التجاري الدولي وانبعاثه من جديد. وفي أعقاب عصبة الأمم، سارت
الأمم المتحدة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، حيث كان الاهتمام الأكبر بتنظيم
التحكيم التجاري الدولي وارتفاع معدل التعامل التجاري الدولي بشكل ملحوظ. تحت
إلحاح المتعاملين في ميدان التجارة الدولية، كان لابد من إيجاد حل مرن لمشاكل
تنفيذ أحكام التحكيم. على الرغم من تناول بروتوكول جنيف واتفاقية جنيف لهذا
الموضوع، كانت الصعوبة الرئيسية تكمن في تطبيق أحكامها، نظرا لكثرة الشروط التي
تميزها، خاصة اتفاقية الاعتراف وتنفيذ أحكام التحكيم لسنة 1927.[10]
ب ـ اتفاقية نيويورك للتحكيم
التجاري وتنفيذه (1958)
عدم مصادقة العديد من الدول التي
لها وزنها في التجارة الدولية، مثل الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي
سابقا على اتفاقية جنيف كان أمرا بارزا.[11]
وفي هذا السياق، تعاونت غرفة التجارة الدولية والمجلس
الاقتصادي والاجتماعي التابع للأمم المتحدة لوضع قواعد جديدة للاعتراف وتنفيذ
أحكام التحكيم. وفي أثناء هذه الجهود، انعقد مؤتمر دولي في نيويورك أسفر عن إقرار
اتفاقية نيويورك، والتي أقرها المؤتمر الدولي في نيويورك في العشرين مايو 1958.
هذه الاتفاقية وضعت نصا جديدا في العاشر يونيو 1958 بشأن الاعتراف بأحكام التحكيم
الأجنبية وتنفيذها، وتختلف عن النهج المتبع من قبل غرفة التجارة الدولية فيما
يتعلق بالأحكام الدولية.[12]
تعتبر اتفاقية نيويورك لها خصائص
بارزة يمكن تلخيصها على النحو التالي: تطبيق أحكام المحكمين الأجانب التي لا تعتبر
وطنية في الدولة المطلوب إليها الاعتراف بها. ومن خلال هذه الاتفاقية، أصبح من
الممكن إجراء تحكيم أجنبي على أراضي الدولة نفسها، حيث يمكن أن يصدر حكم تحكيمي
أجنبي ويطلب من السلطات القضائية الوطنية في تلك الدولة إعطاء صيغة التنفيذ لهذا
الحكم.
تضمنت اتفاقية نيويورك أول تصريح
رسمي بالاعتراف بمراكز التحكيم الدولية، حيث نصت على أن مصطلح "أحكام
المحكمين" لا يشمل فقط الأحكام الصادرة عن محكمين فرديين في حالات معينة، بل
يشمل أيضا الأحكام الصادرة عن هيئات دائمة يحتكم إليها الأطراف. كما قامت
الاتفاقية بتفريق بين شرط التحكيم واتفاق التحكيم اللاحق للنزاع، وأعتبرتهما شكلين
مشروعين للعقد التحكيم، مؤكدة أن العقد التحكيمي يقضي بنقل اختصاص محاكم الدولة.
وبهذا، كونت الاتفاقية الدولية أسسا لآثار العقد التحكيمي.
ثانيـا: اتفاقية واشنطن لتسوية
المنازعات الاستثمارية وقواعد الأونسيترال
أـ
اتفاقية واشنطن لتسوية المنازعات الاستثمارية بين الدول ومواطني الدول الأخرى (عام
1965)
1ـ1 نطاق تطبيق اتفاقية واشنطن
تم إعداد اتفاقية واشنطن لتسوية
منازعات الاستثمار بين الدول ورعايا الدول الأخرى من قبل البنك الدولي للإنشاء
والتعمير بهدف تشجيع الاستثمارات في الدول النامية وتوفير الأمان لأصحاب رؤوس
الأموال في الدول المتقدمة. يحتاج المستثمرون إلى ضمانات لحماية استثماراتهم من
الإجراءات التي قد تتخذها الدول النامية في حالة نشوب نزاع بين الدولة المضيفة
للاستثمار والمستثمر الأجنبي.[13] يخشى
المستثمر الأجنبي من عرض النزاع أمام المحاكم الوطنية للدولة المضيفة للاستثمار،
بينما ترفض الدولة المضيفة للاستثمار عرض النزاع أمام محاكم دولة أخرى تعتبرها
أجنبية. لذا، كان الحل هو اللجوء إلى التحكيم لحل هذه النزاعات.[14]
جاءت اتفاقية واشنطن لتنظم عملية التحكيم في هذا السياق، بهدف تعزيز الثقة في مجال
التجارة الدولية في بلدان العالم الثالث من خلال علاقاتها مع البلدان المتقدمة
صناعيا،[15] محققة
توازنا بين مصالح الدول والمستثمرين الأجانب. وقد وفرت الاتفاقية الضمانات الكافية
للمستثمرين الأجانب، مما جعل الطرفين في وضع متساوٍ.[16]
لقيت الاتفاقية قبولا واسعا عند إبرامها، حيث صادقت عليها حوالي تسعين دولة، بما
في ذلك عدد من الدول العربية مثل الأردن، مصر، سوريا، المغرب، موريتانيا، الصومال،
السودان، تونس، السعودية والإمارات العربية المتحدة.
نصت اتفاقية واشنطن على إنشاء
مركز للتحكيم مقره في واشنطن، يُعرف باسم المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار
(ICSID).
يتولى هذا المركز الفصل في المنازعات وفقا لأحكام الاتفاقية، وتقتصر عضويته على
الدول التي صدقت على اتفاقية واشنطن. الانضمام إلى الاتفاقية والمركز مفتوح لجميع
الدول الأعضاء في البنك الدولي، بينما الدول غير الأعضاء في البنك الدولي يمكنها
الانضمام في حالة استثنائية، وهي أن تكون طرفًا في النظام الأساسي لمحكمة العدل
الدولية، بالإضافة إلى موافقة المجلس الإداري للمركز بأغلبية ثلثي أعضائه.[17]
نظام ICSID الذي تم تأسيسه بموجب اتفاقية
واشنطن منح أشخاص القانون الخاص، سواء كانوا طبيعيين أو اعتباريين، الحق في اللجوء
مباشرة إلى المركز للتقاضي دون الحاجة إلى الحماية الدبلوماسية من دولهم. كما أن
دولهم لا تملك الحق في التدخل في هذا الأمر. هذا الوضع يُعتبر تطورا جديدا في
التحكيم التجاري الدولي، حيث أعطت الاتفاقية لأشخاص القانون الخاص مكانة دولية
تُضاهي وتوازي مكانة الدولة المستضيفة للاستثمار والطرف في النزاع المعروض على
المركز.[18] كما
أحدثت الاتفاقية تطورًا مهمًا فيما يتعلق بالاختصاص ونطاقه وإلزاميته.[19]
الانضمام إلى اتفاقية واشنطن
والعضوية في المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار (ICSID) لا يكفيان لتوفير اختصاص المركز للنظر في النزاعات الناشئة بين
الدولة المضيفة للاستثمار وأحد رعايا الدول الأخرى، المعروف بالمستثمر الأجنبي.
لتطبيق نظام ICSID، يجب
توافر عدة شروط يمكن تلخيصها على النحو الآتي:[20]
- يجب أن تكون الدولة المضيفة للاستثمار والدولة التي ينتمي إليها المستثمر الأجنبي
طرفين مصدقين على اتفاقية واشنطن، فتصديق طرف واحد لا يكفي لخضوع النزاع لنظام الــ
(ICSID).
- يجب توفر رضا متبادل من كلا الطرفين لإخضاع نزاعاتهم الناشئة عن الاستثمار إلى
تحكيم المركز الدولي، ويجب أن يكون هذا الرضا صريحًا ومكتوبًا.
- أن يكون المستثمر أجنبيًا سواء كان شخصًا طبيعيًا أو معنويًا.
1ـ2 معاملة اتفاقية واشنطن لقرار التحكيم وتنفيذه
اعتبرت اتفاقية واشنطن أن قرار
التحكيم الصادر عن المركز المشكل وفقًا لأحكامها يعد قرارًا نهائيًا وملزمًا، ولا
يجوز الطعن فيه أو استئنافه إلا في الحالات المنصوص عليها في الاتفاقية.[21]
تعتبر هذه القرارات بمثابة الأحكام الصادرة عن محكمة العدل الدولية، ولها نفاذ
مباشر في الدول الأعضاء، حيث تعامل معاملة الأحكام القضائية الوطنية. ولا تخضع هذه
القرارات لنظام الأمر بالتنفيذ المطبق على قرارات التحكيم الأجنبية، بل تخضع فقط
لرقابة المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار وفقًا لأحكام اتفاقية واشنطن.
وعند استعراض نصوص الاتفاقية،
نجد أنها لم تتناول بالتفصيل إجراءات التنفيذ العملي لقرار التحكيم داخل الدولة
المتعاقدة، لكنها أوجبت الاعتراف بالقرار بعد تصديقه من قبل السكرتير العام
للمركز، والتزام الدولة بتنفيذه بالطريقة نفسها التي تنفذ بها الأحكام القضائية
الوطنية. يقتصر دور المحاكم الوطنية على المساعدة في الاعتراف بهذه الأحكام دون
الاعتراض على تنفيذها، حتى في حالة مخالفة النظام العام.[22]
فعلى الطرف الذي يرغب في تنفيذ قرار التحكيم الصادر عن المركز تقديم نسخة مصدقة من
السكرتير العام للمركز أو صورة طبق الأصل عنها إلى المحكمة الوطنية المختصة أو
السلطة المختصة في الدولة المطلوب التنفيذ فيها.
تلتزم كل دولة بإبلاغ السكرتير
العام للمركز بالمحكمة المختصة وإخطارها بأي تغييرات تحدث في هذا الجانب. إن تنفيذ
قرار التحكيم وفقًا للإجراءات المتبعة في تنفيذ القرارات القضائية الوطنية يعني أن
قرار التحكيم يجب أن يُمنح الصيغة التنفيذية من محاكم الدولة المطلوب التنفيذ
فيها. النفاذ المباشر للقرار يمكن أن يتحقق فقط من خلال إعطائه هذه الصيغة، مع
التأكيد على أن دور المحكمة الوطنية أو الجهة المختصة يقتصر على إصدار الأمر
بالتنفيذ دون فرض أي نوع من الرقابة على القرار المطلوب تنفيذه والمتمتع بالنفاذ
الدولي المباشر.[23]
بناء على ما تقدم، يتضح الفرق
بشكل جلي بين نصوص أحكام اتفاقية نيويورك ونصوص أحكام اتفاقية واشنطن فيما يتعلق
بإجراءات تنفيذ قرارات التحكيم الصادرة في نطاق كل منهما. ففي حين تسند اتفاقية
نيويورك إجراءات التنفيذ لقانون الدولة المطلوب فيها التنفيذ، توجب اتفاقية واشنطن
تنفيذ قرارات التحكيم الصادرة بموجبها بالطريقة نفسها التي تنفذ بها الأحكام
القضائية الوطنية.
ب ـ
اتفاقية الأونسيترال للتحكيم
تظهر أهمية التقنيات البديلة لحل
المنازعات في إطار قواعد الأونسيترال من خلال اعتمادها للتحكيم كآلية لفض
النزاعات. تعد قواعد الأونسيترال مجموعة شاملة من القواعد الإجرائية التي يمكن
للأطراف الاتفاق عليها لتسيير إجراءات التحكيم الناشئة عن علاقاتهما التجارية.
تشمل هذه القواعد جميع جوانب عملية التحكيم، حيث توفر بنودًا أو شروطًا للتحكيم
النموذجي،[24]
وتضع إجراءات لتعيين المحكَّمين وإدارة عملية التحكيم. كما تُرسي قواعد تتعلق بشكل
قرار التحكيم وأثره وتفسيره.
اعتمدت قواعد الأونسيترال
للتحكيم لأول مرة في عام 1976، ومنذ ذلك الحين تم استخدامها في تسوية مجموعة واسعة
من المنازعات. تشمل هذه المنازعات بين الأطراف التجارية في القطاع الخاص في
الحالات التي لا تتدخل فيها مؤسسات التحكيم، والمنازعات بين المستثمرين والدول،
وبين الدول بعضها ببعض، وكذلك المنازعات التجارية التي تديرها مؤسسات التحكيم. وفي
عام 2006، قررت اللجنة تنقيح قواعد الأونسيترال للتحكيم لمواكبة التغيرات التي
طرأت على ممارسة التحكيم على مدار الثلاثين عاماً الماضية. كان الهدف من هذا
التنقيح هو تعزيز كفاءة التحكيم بمقتضى قواعد الأونسيترال دون تغيير البنية
الأصلية للنص وروحه وأسلوب صياغته.
صارت قواعد الأونسيترال للتحكيم،
بصيغتها المنقحة في عام 2010، نافذة اعتباراً من الخامس عشر غشت 2010. تتضمن هذه
القواعد أحكاماً تتعلق بالتحكيم متعدد الأطراف والضم، والمسؤولية، وإجراءات
الاعتراض على الخبراء الذين تعينهم هيئة التحكيم. تشمل القواعد المنقحة العديد من
السمات المبتكرة التي تهدف إلى تعزيز الكفاءة الإجرائية، مثل إجراءات جديدة
لاستبدال أحد المحكمين، واشتراط معقولية التكاليف، وآلية مراجعة تتعلق بتكاليف
التحكيم. بالإضافة إلى ذلك، تحتوي القواعد على أحكام أكثر تفصيلاً بشأن التدابير
المؤقتة.[25]
تم في عام 2013 اعتماد قواعد
الأونسيترال بشأن الشفافية في التحكيم التعاهدي بين المستثمرين والدول، والمعروفة
بـ"قواعد الشفافية".[26]
وفي هذا السياق، أُضيفت فقرة رابعة جديدة إلى المادة الأولى من قواعد التحكيم
بصيغتها المنقحة لعام 2010، لتتيح استخدام قواعد الشفافية في التحكيم الذي يُستهل
بمقتضى معاهدة استثمارية مبرمة في الأول من أبريل 2014 أو بعد ذلك التاريخ. وتوضح
الفقرة الجديدة بشكل صريح تطبيق قواعد الشفافية على التحكيم بين المستثمرين
والدول. أما فيما يتعلق بجميع النواحي الأخرى، فإن قواعد الأونسيترال للتحكيم لعام
2013 تظل هي نفسها الصيغة المنقحة لعام 2010 دون أي تغيير.
الفقرة ثانية: الاتفاقيات الكونية ذات الصلة بالمجال
الاجتماعي
لم تقتصر الاتفاقيات الدولية على
تعزيز الوسائل البديلة لفض النزاعات في المجال الاقتصادي فحسب، بل شملت أيضا
مجموعة متنوعة من المجالات، من أبرزها المجال الاجتماعي الذي يشهد تطورًا ملحوظًا
مع تقدم العصور. وفي إطار مناقشتنا للطابع الاجتماعي لهذه الاتفاقيات، سنتناول
اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو) والاتفاقية الدولية
لحقوق الطفل.
أولا: اتفاقية سيداو لمناهضة التمييز ضد المرأة
تُعرف اتفاقية سيداو (CEDAW) بأنها اتفاقية دولية تهدف إلى
القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة. يستمد اسم هذه الاتفاقية من الأحرف
الأولى لعبارة "the Convention on the
Elimination of All Forms of Discrimination Against Women"، التي تعني بالعربية "اتفاقية القضاء على جميع أشكال
التمييز ضد المرأة". تم اعتماد هذه الاتفاقية من قبل الجمعية العامة للأمم
المتحدة في عام 1979، وهي تعد بمثابة مشروع قانون دولي لحقوق المرأة. تتألف
الاتفاقية من مقدمة وثلاثين مادة تهدف إلى تحديد مفهوم التمييز ضد المرأة والعمل
على منعه.
تبرز التقنيات البديلة لحل
المنازعات في اتفاقية سيداو من خلال النص الوارد في الفقرة الأولى من المادة 29.
تنص هذه الفقرة على أن أي خلاف ينشأ بين دولتين أو أكثر من الدول الأطراف حول
تفسير أو تطبيق هذه الاتفاقية ولم يتم تسويته عبر المفاوضات، يُعرض للتحكيم بناءً
على طلب إحدى هذه الدول.[27]
بناء على الفقرة الأولى من
المادة 29 في اتفاقية سيداو، إذا لم يتمكن الأطراف، خلال فترة تصل إلى ستة أشهر من
تاريخ طلب التحكيم، من التوصل إلى اتفاق بشأن إجراءات التحكيم، يحق لأي من تلك
الأطراف أن يحيل النزاع إلى محكمة العدل الدولية بطلب يقدم وفقًا للنظام الأساسي
للمحكمة. ونظرا لذلك، يبرز
استخدام التفاوض والتحكيم كوسيلتين إلزاميتين لحل النزاعات ذات الطابع الدولي بشكل
ودي، وهما الوسائل المتاحة والمنصوص عليها بوضوح في اتفاقية سيداو.
ثانيـا: الاتفاقية الدولية
لحقوق الطفل
التحكيم
يحتل مكانة بارزة ضمن إطار الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل (CRC)،
حيث يُؤكد على أهمية حل النزاعات التي تؤثر على الأطفال من خلال الوسائل السلمية. وتبرز
المادة 12 من الاتفاقية حق الطفل في التعبير عن آرائه بحرية في جميع المسائل التي
تؤثر عليه، مع منح الاعتبار المناسب لسنه ونضجه (الأمم المتحدة، 1989). تعترف هذه
البنود بالطفل كمشارك فعّال في القرارات التي تؤثر على حياته، بما في ذلك تلك التي
تتعلق بالنزاعات أو الصراعات.
علاوة
على ذلك، تعترف الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل بضرورة حماية الأطفال من استغلالهم
والأذى، بما في ذلك مشاركتهم في النزاعات المسلحة أو الأنشطة غير القانونية.
تناولت المواد 32 و40 من الاتفاقية هذه المخاوف بشكل خاص، حيث دعت إلى اتخاذ
تدابير لمنع تجنيد الأطفال في القوات المسلحة وضمان تعافيهم الجسدي والنفسي وإعادة
إدماجهم اجتماعياً بعد النزاع (الأمم المتحدة، 1989).[28]
يمكن لآليات التحكيم أن تلعب دوراً حيوياً في معالجة النزاعات المتعلقة بهذه
القضايا، عبر تقديم مسارات لحل النزاع تُعطي الأولوية لمصلحة الطفل.
تدعم الأبحاث العلمية دمج التحكيم ضمن إطار الاتفاقية
الدولية لحقوق الطفل، مشيرة إلى إمكانية حماية حقوق الأطفال بفعالية. تسلط دراسات
باحثين مثل هارت وساتيروفا (2016) الضوء على الحاجة إلى النهج الموجه نحو الطفل في
عمليات حل النزاعات، حيث يُعطى أولوية في تلك العمليات لأصوات ومصالح الأطفال. من
خلال دمج آليات التحكيم في تنفيذ الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل، يمكن للفاعلين
العاملين في هذا المجال العمل نحو تعزيز بيئة أكثر أمانا وشمولية للأطفال، مضمنين
بذلك حماية حقوقهم ورفاهيتهم بشكل متواصل على الصعيد الدولي.[29] وبتالي، يؤدي التحكيم دورا مهما في حماية حقوق الطفل
وتعزيز مشاركته في القرارات المؤثرة على حياته، وذلك وفقا للأطر الواردة في
الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل. وذلك من خلال تضمين آليات التحكيم في تطبيق هذه
الاتفاقية، يمكن تحقيق بيئة أكثر أمانا وشمولية للأطفال، مع تأكيد الأبحاث العلمية
على أهمية توجيه العمليات القانونية والقضائية نحو تحقيق المصلحة العليا للطفل،
وتقديم الأفضل له على الصعيد الدولي.
المحور الثاني : الإطار
التنظيمي الإقليمي للوسائل البديلة لفض المنازعات
بجانب
الاتفاقيات الدولية المكرسة لمكانة التقنيات البديلة في حل المنازعات، سنؤكد
التركيز على الخصوصية المتميزة لهذه الوسائل ضمن التشريعات الإقليمية. إذ يتجلى
هذا التركيز في توافق هذه الوسائل مع الظروف التجارية والاستثمارية الفريدة للدول
العربية أنموذجا، من خلال الاتفاقيات ذات الطابع التجاري (أولا)، والاتفاقيات ذات
الطابع الاستثماري (ثانيا)
الفقرة
أولى: الاتفاقيات ذات الطابع التجاري
في سياق
النظرة الخصوصية للاتفاقيات الإقليمية ودور التقنيات البديلة في حل المنازعات،
توجهنا نحو استكشاف هذا الدور في المجال التجاري، وذلك من خلال اتفاقيات عدة، منها
اتفاقية الرياض واتفاقية جامعة الدول العربية، بالإضافة إلى اتفاقية عمان العربية
للتحكيم التجاري.
أولا: اتفاقية جامعة الدول
العربية واتفاقية الرياض
وافق مجلس جامعة الدول العربية
على اتفاقية تتعلق بتنفيذ الأحكام القضائية والتحكيمية خلال دورته السادسة عشرة في
14 سبتمبر 1952، ودخلت هذه الاتفاقية حيز التنفيذ في 28 يونيو 1954. تتميز هذه
الاتفاقية بطابعها الإقليمي، حيث لا يسمح لأي دولة غير عربية بالانضمام إليها. وقد
نصت المادة 10 من الاتفاقية على أن الانضمام مفتوح فقط للدول العربية الأعضاء في
جامعة الدول العربية.
بالرجوع إلى اتفاقية الرياض التي
تم اعتمادها من طرف مجلس وزراء العدل العرب في دورته الأولى بتاريخ 06 أبريل 1983
بالرياض، ودخلت حيز التنفيذ بتاريخ 30 أكتوبر 1985، حيث وقعت الدول الأعضاء في
الجامعة العربية في الرياض على اتفاقية إقليمية للتعاون القضائي[30]
ألغت اتفاقية الجامعة العربية لعام 1952 حول تنفيذ الأحكام القضائية والتحكيمية.
وتأسيسا على ذلك؛ أصبحت هذه
الاتفاقية إطارا قانونيا إقليميا يهدف إلى تعزيز التعاون القضائي بين الدول
العربية الموقعة عليها، من خلال تبسيط إجراءات تنفيذ الأحكام القضائية، والأحكام
التحكيمية، والوثائق الرسمية بين هذه الدول. كما تبرز الاتفاقية أهمية التحكيم
كوسيلة بديلة لحل النزاعات، مؤكدة على أن الأحكام التحكيمية الصادرة في إحدى الدول
الأعضاء تتمتع بقوة تنفيذية مماثلة لتلك الصادرة من محاكم الدول الأخرى، شريطة
التزامها بالقوانين والإجراءات المعمول بها في الدولة المصدرة. وتسهم كذلك هذه
الاتفاقية في تقليل العقبات البيروقراطية وتعزيز الثقة في الأنظمة القضائية للدول
الأعضاء، مما يعزز من التعاون القانوني والقضائي الإقليمي.
ثانيـا: اتفاقية عمان العربية
للتحكيم التجاري (عام 1987)
بعد سلسلة من الاجتماعات بين عدد
من الدول العربية، تم التوقيع على الاتفاقية العربية للتحكيم الدولي بصيغتها
النهائية في عمان. ومن أبرز ما تضمنته هذه الاتفاقية هو إنشاء المركز العربي
للتحكيم التجاري، الذي يتخذ من الرباط في المملكة المغربية مقرا له. يتمتع هذا
المركز بالشخصية الاعتبارية المستقلة ويرتبط إداريا بالأمانة العامة لمجلس وزراء
العدل العرب.[31]
كما تشمل الاتفاقية بندين رئيسيين للتحكيم: إما الشرط التحكيمي السابق لنشوء النزاع،
أو الاتفاق التحكيمي اللاحق لوقوع النزاع.[32]
تطبق الاتفاقية على النزاعات
التجارية التي تنشأ بين الأشخاص الطبيعيين أو المعنويين، بغض النظر عن جنسياتهم، شريطة
أن تكون لهم علاقات تجارية مع إحدى الدول الأعضاء أو مع أحد مواطنيها، أو أن تكون
مقارهم الرئيسية واقعة في إحدى تلك الدول. إلى جانب ذلك؛ تمنح هذه الاتفاقية
الأطراف المعنية الحق في اللجوء إلى التحكيم، وتحديد القانون الواجب تطبيقه على
النزاع،[33]
بالإضافة إلى تعيين عدد المحكمين،[34] وتحديد
مكان إجراء التحكيم.[35]
فيما يتعلق بالمحكمين، نصت
المادتان 15 و16 من الاتفاقية على أن مجلس إدارة المركز يقوم بإعداد قائمة سنوية
تضم أسماء المحكمين، والتي تشمل كبار رجال القانون والقضاء، بالإضافة إلى الخبراء
العالميين المتميزين في مجالات التجارة والصناعة. وتتألف هيئة التحكيم عادةً من
ثلاثة أعضاء، مع إمكانية اتفاق الأطراف على تعيين محكم واحد فقط.[36]
[1] الطرق البديلة لفض المنازعات أو الطرق المناسبة لفض المنازعات
وبالنسبة للغات الأجنبية يطلق عليها:
Les
différentes désignations des procédures alternatives à la poursuite (PAP)
incluent les modes alternatifs de règlement des différends (MRRD), les modes
alternatifs de règlement des litiges (MARL/MARC), les modes alternatifs de
gestion des conflits (MAGC), et la résolution des conflits (RAC).
D'autres
terminologies englobent les modes alternatifs (MATL), les modes alternatifs de
traitement des conflits (MATC), et l'Alternative Dispute Resolution (ADR).
Selon P.Y. Monette, ces mécanismes de règlement des conflits (MERC) sont tous
des méthodes alternatives de résolution des conflits.
[2] رشيد تاشفين، الصلح كوسيلة بديلة لتسوية المنازعات، عرض قدم في
الندوة الجهوية التي نظمها المجلس الأعلى بمناسبة الذكرى الخمسينية لتأسيسه تحت
عنوان: الصلح والتحكيم والوسائل البديلة لحل المنازعات من خلال اجتهادات المجلس
الأعلى، مقدمة الندوة الدولية: الطرق الودية في فض المنازعات مقاربات وتجارب، 30
أبريل 2010
3 امحمد
برادة غزيول، تقنيات الوساطة لتسوية النزاعات دون اللجوء إلى القضاء، مطبعة فضالة
ـ المحمدية، الطبعة الأولى 2015، ص 19
[4] كلمة السيد الرئيس الأول للمجلس الأعلى ـ محكمة النقض حاليا ـ الدكتور
إدريس الضحاك في الندوة الجهوية التي نظمها المجلس الأعلى بمناسبة الذكرى
الخمسينية لتأسيسه تحت عنوان : الصلح و التحكيم و الوسائل البديلة لحل النزاعات من
خلال اجتهادات المجلس الأعلى.
[5] علي محمود الرشدان، الوساطة لتسوية النزاعات بين النظرية
والتطبيق، الطبعة الأولى، دار اليازوري العلمية للنشر والتوزيع، الأردن، 2016، ص
28 وما بعدها
[6] يعكس هذا البروتوكول تطلع
العالم إلى تطوير نظام قانوني دولي يوفر الحماية والتوجيه في التعامل مع النزاعات
بين الدول. يعزز هذا النهج فكرة التحكيم كأداة فعالة لحل النزاعات الدولية، حيث
يُعتبر التحكيم طريقة لتجنب التعقيدات والتكاليف التي قد تنشأ عن اللجوء إلى
القضاء الوطني للدول. بالتالي، يُمكن للبروتوكول جنيف أن يُلقي بالضوء على أهمية
وفعالية التحكيم كأداة لتحقيق العدالة وتسوية الخلافات الدولية بطريقة موضوعية
ومتوازنة. بالتحكيم كوسيلة لحل النزاعات والتزاماً بالالتزامات المترتبة على
اتفاقات التحكيم أو الشروط المتضمنة له.
وبمقتضى هذا البروتوكول، تعترف
الدول المتعاقدة بصحة ونفاذ اتفاقية التحكيم المبرمة بين الأطراف وتلتزم بتنفيذها
والالتزام بنتائج التحكيم الناتجة عنها. ويعتبر هذا التحول في المفهوم القانوني
بروزا لمفهوم التحكيم كوسيلة شرعية ومعترف بها دوليا لحل النزاعات، مما يسهم في
تعزيز الاستقرار وتعزيز التعاون الدولي وتقليل الاحتكاكات الدبلوماسية.
[7] صادقت على البروتوكول 53 دولة، بحيث تم التوقيع عليه في جنيف بسويسرا في 17 يونيو 1925 ودخل حيز التنفيذ في 8 فبراير 1928. سجلت في عصبة
الأمم سلسلة المعاهدات يوم 7 سبتمبر 1929. بروتوكول جنيف هو بروتوكول
لاتفاقية الإشراف الدولي على تجارة الأسلحة والذخيرة وتطبيقات الحرب وقعت في نفس
التاريخ وجاءت ضمن اتفاقيتا لاهاي 1899 و1907
[8] فوزي محمد سامي، التحكيم التجاري الدولي (دراسة مقارنة(،
دار الثقافة للنشر والتوزيع، الطبعة الرابعة 2010، ص 32 وما بعدها
[9] صادقت على هذه الاتفاقية
24 دولة فقط حسب ما أورده، سامي محمد فوزي في كتابه التحكيم التجاري الدولي،
المرجع السابق، ص 35
[10] سامي محمد فوزي، التحكيم
التجاري الدولي، المرجع السابق، ص 36
[11]
أحمد صالح مخلوف، اتفاق التحكيم كأسلوب لتسوية منازعات
التجارة الدولية، أطروحة دكتوراه، جامعة القاهرة، السنة الجامعية 1999-2000، ص 6
[12]
عبد الحميد الأحدب، موسوعة التحكيم "التحكيم الدولي"، الكتاب الثاني،
منشورات الحلبي الحقوقية، الطبعة الثالثة 2009، ص 184
[13] فوزي محمد سامي، التحكيم التجاري الدولي، الطبعة الأولى، دار
الثقافة، عمان، 2008، ص 56
[14] فوزي
محمد، مرجع سابق، ص 56 وما بعدها
[15] عبد الله عبد
الكريم عبد الله، ضمانات الاستثمار في الدول العربية، دراسة مقارنة، الطبعة
الأولى، دار الثقافة للنشر والتوزيع، عمان، 2008 ص 111
[16] عبد الله عبد
الكريم عبد الله، مرجع، ص 114
[17] أنظر الموقع
الالكتروني: www.icsid.org تمت زيارة الموقع بتاريخ 25 مارس 2024 على الساعة 16h26
يتكون المجلس الإداري للمركز من ممثل واحد عن كل
دولة عضو في الاتفاقية ويترأس هذا المجلس رئيس البنك الدولي دون أَن يملك حق
التصويت وفقا لمنطوق المواد 4 و5 من اتفاقية واشنطن، ويتمتع هذا المجلس كذلك
بوظائف إِدارية كانتماء أنظمة المركز المالية والإدارية، واعتماد إجراءات التوفيق
والتحكيم وتحديد شروط عمل السكرتير العام ونائبه واعتماد ميزانية المركز وتعيين
اللجان حسب ما نصت عليه المادة 6 من اتفاقية واشنطن.
[18] فوزي محمد سامي،
مرجع سابق، ص 57
[19] الباب الأول من
الاتفاقية إنشاء المركز الدولي وهيكله ومجلس إدارة المركز والسكرتارية وقائمة
الموظفين وغيرها من الأمور الإدارية المتعلقة بالمركز، ويتناول الباب الثاني من
الاتفاقية اختصاصات المركز.
[20] عبد الله عبد
الكريم عبد الله، مرجع سابق، ص 116
[21] نصت الفقرة
الأولى من المادة 54 من اتفاقية واشنطن على أن "القرار يعتبر نهائيًا وواجب
التنفيذ وليس لمحاكم الدولة المراد فيها تنفيذه فحص موضوع النزاع، وإنما تطبق تلك
الدولة قانونها الخاص بتنفيذ القرار كما أن الدولة الطرف لا تستطيع أن تتمسك
بالحصانة القضائية أو بالحصانة التنفيذية بالنسبة للأحكام التي تنطوي على التزامات
مالية".
[22] مصطفى خالد
النظامي، الحماية الإجرائية للاستثمارات الأجنبية الخاصة، دراسة مقارنة، دار
الثقافة للنشر والتوزيع، عمان،2002، ص 203
[23] عزت محمد
البحيري، تنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية، دراسة مقارنة، دار النهضة العربية،
القاهرة، 1996، ص 153
[24] مقال منشور
بموقعwww.meemaps.com تاريخ الزيارة: 12 ماي
2024 على الساعة 19h48
[25] www.un.org تاريخ الزيارة: 19 ماي 2024 على
الساعة21h07
[26] أنظر قواعد الأونسيترال بشأن الشفافية في التحكيم التعاهدي بين
المستثمرين والدول (تاريخ النفاذ في فاتح أبريل 2014)
[27] المادة 29 من
اتفاقية سيداو :
1.
أي نزاع ينشأ بين دولتين أو أكثر من
الدول الأطراف بشأن تفسير أو تطبيق هذه الاتفاقية، ولم تتم تسويته عن طريق
التفاوض، يقدم بناء على طلب واحدة منها إلى التحكيم، إذا تعذر على الأطراف خلال
ستة أشهر من تاريخ طلب التحكيم، الاتفاق على تنظيم التحكيم، فيجوز لأي من هذه
الأطراف إحالة النزاع إلى محكمة العدل الدولية بطلب وفقا للنظام الأساسي للمحكمة.
2.
يجوز لكل دولة طرف وقت توقيع هذه
الاتفاقية أو التصديق عليها أو الانضمام إليها، أن تعلن أنها لا تعتبر نفسها ملزمة
بالفقرة الأولى من هذه المادة، ولا تكون الدول الأطراف الأخرى ملزمة بتلك الفقرة
فيما يتعلق بأي دولة طرف أبدت تحفظا كهذا.
3.
يجوز لأي دولة طرف أبدت تحفظا وفقا
للفقرة 2 من هذه المادة أن تسحب هذا التحفظ في أي وقت، بإشعار يوجه إلى الأمين
العام للأمم المتحدة.
[28] Nations Unies. (1989).
Convention relative aux droits de l'enfant. Récupéré sur :
www.ohchr.org/en/professionalinterest/pages/crc.aspx, date de visite 29 mai
2024 à 18h39
[29] Hart, R., &
Satirova, D. (2016). La participation de l'enfant à l'arbitrage en droit de la
famille : vers une approche centrée sur l'enfant. Revue Internationale des
Droits de l'Enfant, 24(2), P 303-327
[30] عبد الحميد الأحدب، التحكيم الدولي، الجزء الثاني، منشورات دار
المعارف 2007، ص 63
[31]
اتفاقية عمان العربية للتحكيم التجاري، وتم التوقيع على هذه الاتفاقية في الدورة الخامسة لمجلس وزراء العدل العرب الذي انعقد في عمان ما بين 11 و 14 أبري 1987
[32] الفصل الأول المتعلق بالأحكام العامة لنظام التحكيم، المادة الثالثة الفقرة الأولى منه "يتم الخضوع للتحكيم بإحدى طريقتين :
الأولى بإدراج شرط التحكيم في العقود المبرمة بين ذوي العلاقة
والثانية باتفاق لاحق على نشوء النزاع."
[33] أنظر المادة 21
من اتفاقية عمان العربية للتحكيم التجاري
[34] أنظر المادة 15 من اتفاقية عمان العربية
للتحكيم التجاري
[35] أنظر المادة 22 من اتفاقية عمان العربية للتحكيم التجاري
[36] قرطبي سهيلة، منظومة التحكيم ومساهمتها في حل منازعات الاستثمار،
أطروحة لنيل شهادة دكتوراه، القانون الخاص، جامعة أبي بكر بلقايد ـ تلمسان ـ
الجزائر، كلية الحقوق والعلوم السياسية ـ قسم الحقوق، السنة الجامعية : 2017/2018،
ص 68 وما بعدها