سلطة دائرة الاتهام كمحكمة تحقيق من درجة ثانية في التشريع التونسي والموريتاني - الشيخ سيداتي أحمدو أحمد مولود

سلطة دائرة الاتهام كمحكمة تحقيق من درجة ثانية في التشريع التونسي والموريتاني

The authority of the Indictment Chamber as an investigative court of the second degree in Tunisian and Mauritanian legislation

 الشيخ سيداتي أحمدو أحمد مولود / مدير مركز البحوث والدراسات بكلية الشرعة بجامعة العلوم الاسلامية بلعيون- موريتانيا وأستاذ القانون الجنائي بنفس الكلية.

Sheikh Sidaty, Ahmadu Ahmad Mauloud



إن مدنية الإنسان وحاجته إلى العيش في إطار المجموعة فرضت عليه تنظيم علاقاته الاجتماعية على نحو يضمن مصالح المجموعة ويصون حقوقه الشخصية. ولتحقيق هذه الغايات، توصل الفكر الإنساني إلى تأطير مشكلاته وحلولها في نصوص قانونية مكتوبة وأوجد المؤسسات الساهرة على تنفيذها.

 وقد نجم عن هذا التطور تجاوز فكرة التنفيذ الحيني للعقوبة وأصبح من القواعد الإنسانية الثابتة أن "كل متهم بجريمة يعتبر بريئا حتى تثبت إدانته في محاكمة علنية تكفل له فيها الضمانات الضرورية للدفاع عن نفسه[1]".

 وتحقيقا لهذه القاعدة بعثت الهياكل المختصة بالقضاء الزجري ووضعت الإجراءات المنظمة للمحاكمات وقسمت الدعوى العمومية إلى ثلاث مراحل هي: مرحلة البحث الابتدائي ومرحلة التحقيق ومرحلة المحاكمة.

وتعتبر مرحلة التحقيق أهم مرحلة للبحث عن الحقيقة، إذ تتبع زمنيا مرحلة البحث الابتدائي الذي يجريه أعوان الضابطة العدلية وتسبق مرحلة التحقيق النهائي الذي تتولاه هيئات القضاء.

وقد وضع نظام التحقيق لتيسير مهام قضاة الحكم وتجنيبهم مشقة البحث عن الأدلة وجمع شتاتها المبعثر حتى لا تطرح على المحاكم تهم غير مرتكزة على أساس متين واقعا وقانونا، وأيضا لتضفي على العمل القضائي نوعا من التروي المرغوب والمطلوب.

وإذا كان من الجلي أن تكليف قاض متخصص، وهو قاضي التحقيق، بوظيفة البحث عن الجرائم وجمع الأدلة هو في حد ذاته ضمانة، تحقق التوازن بين حماية المجتمع عبر ردع الجرائم وبين المحافظة على حقوق الدفاع، فإن أهمية هذا الدور لا تحجب أن صلاحياته الواسعة إضافة إلى اقتصاره على قاض منفرد قد يكون سببا لتجاوزات[2] تهدد سير العدالة وحقوق الأطراف، بما يجعل من المبرر بل ومن الضروري وجود مرحلة ثانية للتحقيق[3]  تختص بها دائرة الاتهام التي تعتبر الجهة القضائية الأعلى درجة من القاضي الذي يباشر التحقيق الأولي[4]، باعتبارها محكمة تحقيق من درجة ثانية في مادة الجنايات[5] التي يكون فيها التحقيق على درجتين وجوبيا[6]، إلى جانب كونها تنظر استئنافيا في قرارات  قاضي التحقيق.

ويرى البعض أن تسمية هذه الدائرة بهذا الاسم تعود لكونها الجهة القضائية التي تملك سلطة توجيه الاتهام في الجنايات بالإحالة على محكمة الجنايات[7] أو الدائرة الجنائية كما سماها المشرع التونسي، وهو الدور الأساسي الذي أعطي لها كل هذه الهيبة[8] حسب البعض، وخلافا للقانون التونسي تعرف هذه الدائرة في القانون المقارن بغرفة الاتهام أو التحقيق كما هو معمول به في فرنسا بعد تنقيح  15 جوان 2000، ولعل هذا الاسم هو الأصح لأن جلساتها تنعقد في غير علانية وقراراتها لا يشترط فيها أن تصدر عن جلسة علنية، ولعل ذلك ما جعل المشرع الموريتاني يختار تسميتها بغرفة الاتهام المادة 192 من م.ا.ج.م[9].

وتتمتع دائرة الاتهام كمحكمة تحقيق بسلطات واسعة تمكنها من المراقبة الكلية لملف القضية[10] فيمكنها إصلاح ما وقع فيه قاضي التحقيق من خطأ في الإجراءات أو في الموضوع[11] كما يمكنها تلافي ما يشوب أعماله من نقص سواء بإجراء أبحاث تكميلية أو بتوسيع التتبع ليشمل أشخاصا آخرين أو أفعالا أخرى.

 وقد شبه الأستاذ "جون قييونو" دائرة الاتهام في وظيفتها هذه "بالأستاذ الذي يباشر إصلاح ما قام به تلميذه من أعمال"[12] 

حيث تتولى النظر في القضية برمتها حتى لا يحال على الدائرة الجنائية إلا القضايا الجاهزة للحكم فيها.

 ويعبر الفقهاء عن نفوذ دائرة الاتهام في هذه المرحلة من الإجراءات بسلطة المراجعة، وهي سلطة تستمدها دائرة الاتهام التونسية من أحكام الفصل 116 من  م.ا.ج.

 وبمقتضى هذه السلطة يمكن لدائرة الاتهام، متى  تبين لها من خلال دراستها لملف القضية أن التحقيق الابتدائي يشوبه النقصان أو الخطأ فإن لها بوصفها دائرة التحقيق العليا من الصلاحيات ما يمكنها من إصلاح ما وقع فيه المحقق من خطأ، وذلك لما خوله لها القانون من حق مراجعة جميع ما باشره قاضي  التحقيق من إجراءات ومن تصحيح الأوضاع[13]،

وهو ما يدفع إلى طرح الإشكال التالي ولمتمثل في تحديد نطاق سلطة دائرة الاتهام بوصفها محكمة تحقيق من درجة ثانية؟

بالرجوع إلى قانون الإجراءات الجزائية التونسي والتشريع الموريتاني نجد أن دائرة الاتهام أو غرفة الاتهام كما سماها المشرع الموريتاني يمكنها تصحيح ما اختل من الإجراءات التي يقوم بها قاضي التحقيق )المبحث الأول( كما يمكنها الإذن بإجراء تتبع جديد أو القيام ببحث تكميلي في الموضوع ) المبحث الثاني(.

 

المبحث الأول: سلطة دائرة الاتهام في تصحيح الإجراءات

إن النتيجة المنطقية التي تترتب عن تعهد دائرة الاتهام بوصفها محكمة تحقيق من درجة ثانية في الجنايات، هي أن يكون قرارها النهائي حاسما في مصير التتبع الجاري ضد المظنون فيه، لذلك فمثل ما يتمم هذا القرار ما شاب التحقيق الأولي من نقصان يصحح ما شابه من عيوب إجرائية لتكون بذلك القضية جاهزة للفصل فيها[14].

ولئن كان لا يوجد في القانون التونسي نص خاص يخول لدائرة الاتهام إبطال أعمال التحقيق الأولي[15]، فإن الفقه والقضاء يقر لها بسلطة القضاء الكامل في الجنايات ويمكنها من سلطة إبطال أعمال قاضي التحقيق استنادا لأحكام الفصل 199 من م.ا.ج واقتداء بما هو موجود في القوانين المقارنة، فالمشرع الفرنسي مثلا قد أقر صلب الفصل206    من م.ا.ج.ف أن "لدائرة الاتهام سلطة النظر في صحة الإجراءات عند تعهدها بالقضية، فإذا لامست خللا إجرائيا فعليها إبطال العمل المشوب بالعيب وإن اقتضى الأمر كل أو بعض الأعمال اللاحقة له"[16].

وهو ذات الموقف الذي تبناه المشرع الموريتاني حيث نصت الفقرة الأخيرة من المادة 170  من م.ا.ج.م أن "لغرفة الاتهام أثناء دراستها لملف التحقيق لأي سبب آخر أن تثير أسباب البطلان من تلقاء نفسها" ولها أيضا أن تقرر البطلان حسب المادة 171 من نفس المجلة.

ويرى الأستاذ المرحوم محمد الزين أنه تعود لدائرة الاتهام سلطة تطهير الإجراءات من كل العيوب حتى لا يحال على الدائرة الجنائية إلا القضايا الجاهزة للحكم[17].

ودراسة سلطة دائرة الاتهام في مجال إبطال قـــرارات قاضي التحقيق تقتـــضي التطرق لنطاق هذا الإبطال من جهـــة )المطلب الأول  ( والآثار القانونية المترتبة عليــــه من جهة أخرى (المطلب الثاني).

المطلب الأول: نطاق الإبطال:

إن المتصفح للكتاب الأول من مجلة الإجراءات الجزائية بحثا عن النصوص التي اتخذ فيها المشرع موقفا صريحا من مسألة بطلان أعمال التحقيق لا يعثر سوى على حالتين: الأولى جاءت صلب أحكام الفصل 83   من هذه المجلة حيث استبعد المشرع البطلان عند عدم مراعاة الصيغ القانونية في تحرير البطاقات القضائية، والثانية جاء بها الفصل119  حيث رتب المشرع البطلان إذا لم يتضمن قرار الإحالة عرضا مفصلا للوقائع موضوع التتبع مع بيان وصفها القانوني[18].



[1] - المادة  11من الإعلان العالمي لحقوق الانسان. والمادة 14 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.

[2] - محمد عبد الشافعي إسماعيل، استئناف قرارات سلطة التحقيق الابتدائي، دراسة مقارنة، دار النهضة العربية، الطبعة الأولى، القاهرة 1998، ص.10.

[3] -Jeandidier , la juridiction d’instruction du second degré , éditons  Cujas 1982, P 17.

[4] -  ق.ت.ج عدد50945 مؤرخ في 18نوفمبر2009، ن.م.ت.ق.ج 2009،  ص.111.

[5] -  ق.ت.ج، عدد 8396  مؤرخ في 12  أفريل 2013، غير منشور، موجد ضمن الملحق الثاني، القرار رقم 3.

[6] هذا طبعا بالنسبة للقانون التونسي خلال للمشرع لم الموريتاني الذي لم يمنح ظرفة الاتهام هذا الدور.

[7]  تجدر الإشارة إلى أن المشرع الموريتاني خلاف نظيره التونسي لم يمنح غرفة الاتهام هذا الدور.

[8]- Jean Michaud, Prestige de La  chambre d’accusation, R.S.C 1972, p. 689.

[9] - المادة 192  من م.ا.ج.م "تنظر غرفة الاتهام وهي مكونة من رئيسها أو من ينوب عنه ومستشارين اثنين بحضور ممثل النيابة العامة وكاتب الضبط ..."

ولم يعرف قانون الإجراءات الجنائية هذه الغرفة إلا بموجب الأمر القانوني رقم المعدل للأمر القانوني رقم 163/83 الصادر بتاريخ 9 يوليو 1983 المتضمن قانون الإجراءات الجنائية الموريتاني، حيث جاء في عرض أسباب التعديل لهذا القانون مايلي:

لقد اقتطع المشرع ماكان من اختصاص لغرفة الاتهام عند المحكمة العليا وأرجها إلى تلك الهيئة القضائية بعد أن استحدثها وأسند إليها على الخصوص الاختصاصات التالية:

- طلبات الافراج المؤقت وتدابير الوضع تحت المراقبة القضائية

- طلبات بطلان إجراءات التحقيق

- الاستئنافات المرفوعة ضد أوامر قاضي التحقيق

- الإخلالات المنسوبة لضباط الشرطة القضائية

[10] - ق. ت. ج عدد 15605 مؤرخ في 10 جانفي 2002 ، ن. م. ت 2002 ص.88 "خول المشرع لدائرة الاتهام بوصفها دائرة تحقيق عليا ما يمكنه من إصلاح ما عسى أن يقع فيه التحقيق الأول من الأخطاء بما في ذلك مراجعة جميع ما باشر قاضي التحقيق من إجراءات ومن تصحيح أو تحوير لنص الإحالة وذلك لتوجيه التهمة المنطبقة حقيقة على الأفعال المجرمة التي اقترفها الجاني والاستناد إلى النص القانوني الصريح..".

[11] - ق  ت. ج عدد 20300 مؤرخ في 19أكتوبر 1986، ن. م. ت  لسنة 1986.

[12] - هناء ارديفي، البحث التكميلي أمام دارة الاتهام، مذكرة لنيل شهادة ختم الماجستير في العلوم الجنائية، كلية الحقوق والعلوم السياسية بتونس، 2007 ـ 2008 ،  ص.5.

64 – ق. ت. ج عدد10146مؤرخ في 10 آفريل 1974، ن. م. ت، 1975 .

[14] - معز بن سالم، الفصل، 199من م.ا.ج، رسالة تخرج من المعهد الأعلى للقضاء، 2001، ص. 35.

[15] - مهى النفاف، الحماية الجزائة للمتهم، مذكرة لنيل شهادة الماجستير في العلوم الجنائية، كلية الحقوق والعلوم السياسية بتونس،2011، 2012، ص.42.

[16] - عاطف الطرابلسي، بطلان الإجراءات في أعمال النيابة والتحقيق، مذكرة لنيل شهادة الماجستير في العلوم الجنائية، كلية الحقوق والعلوم السياسية بتونس، 2007 ـ 2008، ص. 85.

[17] -  مأخوذ عن محرز الدؤوب، مرجع سابق ، ص. 34.

[18] - مصطفى بن جعفر، بطلان الإجراءات من خلال فقه قضاء محكمة التعقيب، ، نصف قرن من فقه القضاء الجزائي، ملتقى يومي25و26نوفمبر2010، بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والتصرف بجندوبة، مجمع الأطرش للكتاب المختص، الطبعة الأولى، تونس،2011  ، ص. 177. 

من أجل تحميل هذا المقال كاملا - إضغط هنا أو أسفله على الصورة

قانونك


من أجل تحميل هذا العدد العاشر -إضغط هنا أو أسفله على الصورة

مجلة قانونك - العدد الثالث