الحماية القضائية للبيئة بالمغرب: أية فعالية؟ - آسية اشنيفخ

 

الحماية القضائية للبيئة بالمغرب: أية فعالية؟

Protection judiciaire de l'environnement au Maroc : quelle efficacité ?

 آسية اشنيفخ/ طالبة باحثة بسلك الدكتوراه كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية جامعة محمد الأول بوجدة

Asiea ashnefekh

 


مقدمة

إن العدالة والحرية والكرامة والمساواة قيما كونية وموروثا إنسانيا مشتركا، كانت ومازالت محط اهتمام دولي لكل المجتمعات، لاسيما في ظل المطالبة الدائمة والمستمرة بتطوير منظومة حقوق الإنسان، وإنفاذ القواعد النموذجية والمعايير الدولية اللازمة لحمايتها.

وعلى هذا الأساس، نجد أن إكراهات ترسيخ العدالة ورهاناتها تتصدر اهتمام مختلف الأنظمة السياسية والاجتماعية والقانونية، باعتبارها حصنا منيعا لدولة القانون، وتحديا يجب رفعه لحماية الحقوق وتطوير العدالة وتحسين أدائها لمواكبة التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي تشهدها مختلف المجتمعات.

ورهان العدل والإنصاف في المنازعات لن يترسخ إلا عبر ولوج المؤسسات القضائية المختصة في المجال والمنوط بها الفصل في النزاع اعتبارا لما تمتلكه من وسائل الإلزام من أجل امتثال المتقاضيين وانصياعهم لحكم القانون، ذلك بأن النصوص القانونية تظل جامدة إلى حين تدخل السلطة القانونية المختصة وخاصة القضاء الذي يبت فيها الحركية والحياة فيجعلها شاخصة للأبصار حية فاعلة في المجتمع والدولة[1].

وهذه الأهمية تم تكريسها بموجب دستور 2011 الذي أشار لدور السلطة القضائية في الفصل 117 من الدستور من خلال تنصيصه على أنه: "يتولى القاضي حماية حقوق الأشخاص والجماعات وحرياتهم وأمنهم القضائي، وتطبيق القانون.''

ومن بين الحقوق التي أصبحت العدالة مطالبة بحمايتها، نجد الحقوق البيئية التي تعتبر من الجيل الثالث لحقوق الإنسان، فهي مكفولة بمقتضى أحكام الاتفاقيات الدولية ومقتضيات الدستور والقوانين وغيرها من الضمانات التي تمنح للمتضرر حق اللجوء إلى المحاكم للحصول على الإنصاف في هذا الشأن. إذ حرصت مختلف النظم القانونية على تكريس حماية مكوناتها وقد سن المشرع المغربي كغيره من مشرعي دول العالم مجموعة من القوانين الخاصة التي عالجت المشاكل البيئية إضافة إلى قواعد قانونية أخرى مشتتة في نصوص تعالج بعض المجالات المرتبطة بالبيئة ولها ارتباط وثيق بها[2].

كما استقر المشرع المغربي[3] على تعريف البيئة وإزالة الغموض عن  عناصرها المشمولة بالحماية من خلال تنصيصه في المادة الثالثة من القانون المتعلق بحماية واستصلاح البيئة على أنها:"مجموعة العناصر الطبيعية والمنشات البشرية والعوامل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تمكن من تواجد الكائنات الحية والأنشطة الإنسانية وتساعد على تطورها"، وهو نفس التعريف الذي تم اعتماده في القانون المتعلق بدراسات التأثير على البيئة[4] والقانون المتعلق بمكافحة تلوث الهواء[5].

ولتعزيز هذه الضمانات تم التنصيص الدستوري الصريح على حق العيش في بيئة سليمة وحق الحصول إلى الماء وغيرها من الحقوق البيئية ودعوة الدولة والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية لوضع كل الوسائل المتاحة والممكنة لتسهيل التمتع بهذا الحق بشكل متساو وعادل بين جميع أفراد المجتمع[6] .

كل هذه الضمانات والامتيازات القانونية في حماية البيئة تجعل من يخل بها خاضعا لرقابة الجهات القضائية المختصة فيترتب عن ذلك منازعات قد تكتسي صفة زجرية صرفة تكون من اختصاص القضاء الزجري، لكنها غالبا ما تكون ذات صبغة مدنية يبت فيها القضاء المدني. هذا إضافة إلى أن وجود قضايا تبت فيها المحاكم الإدارية.

إذن فالقضاء العادي والإداري مطالبان بتوفير الضمانات اللازمة وحماية مختلف مكونات البيئة التي تحتل مكانة مهمة على مستوى الهرم التشريعي. 

فالقضاء الزجري ملزم بتوفير الحماية اللازمة للبيئة، وذلك من خلال الأحكام والقرارات الصادرة في القضايا البيئية، والتي تقتضي مؤاخذة المخالفين البيئيين من أجل المخالفات المنسوبة إليهم، ومعاقبتهم على ذلك طبقا للنظم القانونية، وبأدائهم للتعويضات المدنية للجهة المتضررة [7].

كما أن القضاء الإداري حامي المشروعية الإدارية و السلطة القضائية المختصة في مراقبة النشاطات البيئية سواء بالنظر إلى اختصاصات الإدارة في إصدار القرارات الإدارية المتعلقة بمحاربة و مكافحة النشاطات الملوثة للبيئة، وكذا مسؤوليتها عن الأضرار الناتجة عن هذه الأخيرة. وفي هذا المجال تحتل قرارات الضبط الإداري مكانة واسعة في الحماية الوقائية للبيئة والتي قد تكون بدورها محل منازعات ودعاوى بيئية[8].

   لذلك، فإن تفعيل الحقوق البيئية على أرض الواقع أصبح يفرض نفسه لاسيما وأن الضرر البيئي يمكن أن يترتب عنه انعكاسات خطيرة على الحق في الصحة والحياة.

 لكل ما ذكر، تهدف هذه الدراسة إلى ما يلي:

§       إبراز الواقع العملي للبيئة والإشكالات المطروحة على المستوى الميداني والعملي.

§       التعرف واستقراء بعض الأحكام والقرارات الصادرة في المجال البيئي.

إشكالية الدراسة:

   انصبت دراستنا على البحث في الإشكالية الأساسية المتعلقة بمدى فعالية الضمانات التي توفرها الآلية القضائية في حماية البيئة.

تتفرع عن هذه الإشكالية مجموعة من التساؤلات الفرعية هي:

§       ما هو الإطار القانوني المنظم لتدخل القاضي في المجال البيئي؟

§       إلى أي حد يمكن لنا القول بوجود عمل قضائي فعال في المادة البيئية؟

§       إلى أي  حد تمكن القاضي البيئي من تطبيق التشريعات البيئية الكونية والخاصة في القضايا المطروحة عليه؟

وبناء عليه، سيتم معالجة هذه الدراسة في مبحثين على النحو الآتي:

       المبحث الأول : التوجهات الكبرى للعمل القضائي العادي في حماية البيئة

       المبحث الثاني: دورا لقضاء الإداري في حماية الحق في بيئة سليمة.

المبحث الأول : التوجهات الكبرى للعمل القضائي العادي في حماية البيئة

لم تعد القضايا البيئية مسألة رفاهية فقط للمواطن المغربي، بل أصبحت من انشغالاته اليومية التي تؤرقه. فالتلوث بجميع أصنافه لا يؤثر فقط على البيئة ومكوناتها، بل قد يعد انتهاكا لحق الإنسان في الحياة، لذلك فإن تحديد المسؤول المنتهك للحق البيئي من الأهمية بمكان، خصوصا وأن التطور الصناعي لم تتوقف عجلته وبلغت ذروته في العصر الحالي  حيث تنوعت صور التلوث البيئي وأصبح في العديد من الحالات من الصعب التعرف على مصادرها. فكان من اللازم تدخل القضاء بكل أجهزته للحد من الإضرار التي تتسبب فيها هذه الأنشطة المنتهكة لحق العيش في بيئة سليمة بالرغم من قلة ومحدودية المنازعات المرتبطة بالمجال البيئي بمختلف مكوناته. لذلك سنقوم بدراسة أهم التوجهات القضائية التي أثارت المسؤولية البيئية وخصوصيات الضرر البيئي في إثباتها.

      المطلب الأول: المسؤولية البيئية كأساس قانوني في حماية البيئة

من بين أهم ما أقرته  المبادرات التشريعية في المجال البيئي إرساء نظام المسؤولية البيئية بمختلف قواعدها والتي تعد المسؤولية المدنية والجنائية من أهم صورها. ويحظى القضاء المدني بالقسط المهم من المنازعات البيئية التي يترتب عنها تحميل المتسببين للضرر البيئي مسؤولياتهم مما يعني بأن الجزاء المدني يعتبر من الجزاءات الأساسية الأولى التي يجب البحث فيها وقاية للأشخاص والمكونات البيئية[9].

فالنظام القانوني العام للمسؤولية المدنية يفرض نفسه في المجال البيئي باعتباره النظام الذي يرجع له الفضل في إقرار قواعد قانونية مهمة في حماية البيئة على مستوى التشريعات المقارنة، كقانون الاتحاد الأوروبي[10] حول المسؤولية المدنية الذي أعطى للمنظمات غير الحكومية الحق في رفع دعاوى قصد التعويض عن الضرر الذي لحق البيئة نتيجة الأنشطة الملوثة للمؤسسات الصناعية.  

وعلى مستوى التشريع المغربي، نجد المسؤولية المدنية المنظمة بمقتضى النصوص العامة[11] باعتبارها التقنين الذي ينص على إصلاح الأضرار ومحو آثارها أو التخفيف منها كما أنه يهتم بالفعل الضار الذي يصيب الفرد ويرتب المسؤولية عن الأضرار سواء كانت الأنشطة إيجابية أم سلبية[12]، بجانب هذه النصوص العامة هناك الأسس القانونية الخاصة بالبيئة، كما هو الشأن بالنسبة لمقتضيات القانون رقم 11.03 المتعلق بحماية واستصلاح البيئة ، والقانون رقم 13.03 المتعلق بمكافحة  تلوث الهواء، والقانون رقم 28.00 المتعلق بتدبير النفايات والتخلص منها والقانون رقم 36.15 المتعلق بالماء. لكن هذه القواعد الخاصة لم تحقق الهدف المنشود من حماية البيئة والحفاظ على صحة الإنسان نظرا لاقتصارها على عينة من الأضرار البيئية التي تدخل في نطاقها، مما كان لازما على القضاء التدخل لإكمال هذا النقص عبر الاستئناس بالقواعد العامة للمسؤولية المدنية.

وفي هذا الإطار، تعتبر نظرية مضار الجوار من بين أقدم الأسس القانونية التي ساهمت في إعطاء الحلول المناسبة لحماية الإنسان من التلوث البيئي  ومن أهم النظريات التي اعتمد عليها القضاء كأساس لحل المنازعات ذات الصبغة البيئية وهذا ما أكدته قرارات محكمة النقض الفرنسية[13] باعتمادها على مضار الجوار كأساس لقيام المسؤولية البيئية دون الحاجة لإثبات الخطأ حيث جاء في أحد قراراتها:"إن قاضي الموضوع لا يلزم بالتحقق من خطأ رب العمل من أجل الحكم عليه بالتعويض عن مضايقات الجوار غير العادية الناتجة عن عمليات البناء".



[1]-محمد بن مولاي هاشم العلوي، المعتمد العملي في مباحث قانون المسطرة المدنية والقضاء الإداري، دراسة تشريعية قضائية مقارنة، الرباط،  دار أبي رقراق للطبعة والنشر، الطبعة الثانية، 2018 ص.7.

[2] -نشير على سبيل المثال للقانون المتعلق بالتعمير رقم 12.90 والقانون رقم 25.90 المتعلق بالتجزئات العقارية والمجموعات السكنية والتقسيمات العقارية...، فبالرغم من استقلاليته إلى أن بعض الباحثين يرون بان القانون البيئي يتقاطع مع عدة فروع من القانون ويصعب تصنيفه ضمن فروع القانون العام أوالقانون الخاص فقواعده تتقاطع مع قوانين أخرى غير القانون الإداري، مثل القانون الدولي العام والقانون المدني والقانون الجنائي وقانون الصحة والقانون القروي وقانون التعمير وإعداد التراب الوطني...للمزيد من التوضيح الاطلاع على مرجع : الهادي مقداد، قانون البيئة، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 2012.

[3]- ظهير شريف رقم 1.03.59 صادر في 10 ربيع الأول 1424 الموافق ل 12 ماي 2003، بتنفيذ القانون رقم 11.03 المتعلق بحماية واستصلاح البيئة، ج.ر عدد5118 بتاريخ 19-06-2003.

[4] - ظهير شريف رقم 1.03.60 صادر في 10 ربيع الأول 1424 الموافق ل 12 ماي 2003، بتنفيذ القانون 12.03 المتعلق بدراسات التأثير على البيئة، ج.ر عدد5118 بتاريخ 19-06-2003 .

[5] - ظهير شريف رقم 1.03.61 صادر في 10 ربيع الأول 1424 الموافق ل 12 ماي 2003، بتنفيذ القانون 13.03 المتعلق بمكافحة تلوث الهواء، ج.ر عدد5118 بتاريخ 19-06-2003.

- على سبيل المثال افصل 31 من الدستور المغربي.[6]

[7]محسن البقالي الحسني، البيئة بين الحماية القانونية والقضائية على ضوء التشريع والعمل القضائي المغربي، منشورات المعرض الذي نظمته محكمة النقض على هامش فعاليات مؤتمر دول الأطراف في الاتفاقية الإطار للأمم المتحدة بشأن تغير -المناخ كوب 22 -من 7 الى 18 نونبر 2016، الطبعة الثانية،ص.27.

[8]-في هذا الصدد نشير بأن هناك جدال حول  النظام العام الإيكولوجي وأن الضبط الإداري من وسائل تحقيق هذه الغاية، فهناك من  ينفي العمل به  ويعترف فقط بالنظام العام الكلاسيكي بينما آخرون يؤيدون النظام العام الإيكولوجي الجديد وأنه في مواجهة الإذايات التي تهدد المجتمع، تتدخل الدولة عبر وسيلة الضبط الإداري . كما أن مجلس الدولة الفرنسي أدرجه ضمنيا في الأحكام الصادرة في شأن بعض القضايا التي عرضت عليه. مرجع:

   -Michel Prieur, droit de l’environnement, Dalloz, 2éme édition, 1991                                                                                                                                              

[9]-نور الدين الرحالي، المسؤولية المدنية عن الضرر البيئي بالمغرب، أطروحة دكتوراه في العلوم القانونية والسياسية، جامعة محمد الخامس بالرباط، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية السويسي بتاريخ 18 أبريل 2015، ص.91.

[10]-Nadir (B), Formation et sensibilisation au droit de l’environnement pour les professionnels juridiques et  judiciaires, Revue Marocaine des Affaires et des Entreprises, N°14-15(Mai-Sep), 2008, p.57.

[11] - نص الفصل 77 من قانون الالتزامات والعقود المغربي على أن: "كل فعل ارتكبه الإنسان على بينة واختيار، ومن غير أن يسمح به القانون فأحدث ضررا ماديا أو معنويا التزم مرتكبه بتعويض هذا الضرر، إذا ثبت أن هذا الفعل هو السبب المباشر في حصول الضرر، وكل شرط مخالف لذلك يكون عديم الأثر".

- احمد محمود سعد، استقراء لقواعد المسؤولية المدنية في منازعات التلوث البيئي، الطبعة الأولى، دار النهضة العربية، 1994، ص.43.[12]

[13] -Cass.Civ, 27 Nov 1844, p.211.

-   Cass.Civ, 8 Mai 1979, J.C.P, p.684.


من أجل تحميل هذا المقال كاملا - إضغط هنا أو أسفله على الصورة

قانونك


من أجل تحميل هذا العدد التاسع -إضغط هنا أو أسفله على الصورة

مجلة قانونك - العدد الثالث