تأصيل التحكيــم الـتــجاري في القانون المغربي - عمار ياسر حمود المعمري





تأصيل التحكيــم الـتــجاري في القانون المغربي

عمار ياسر حمود المعمري

طالب باحث في سلك الدكتوراه في القانون الخاص - كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية السويسي - جامعة محمد الخامس الرباط

 

The foundation of commercial arbitration in Moroccan law

Amar YASSER HAMOUD EL MAAMARI

 

يعود الاهتمام بالتحكيم التجاري في المغرب إلى عهد المولى إسماعيل، وتحديدا إلى سنة 1693 تاريخ إبرام معاهدة سان جرمان مع الدولة الفرنسية، التي تضمنت إمكانية الفصل في بعض النزاعات الخاصة عن طريق التحكيم([1]). إلا أن أول تنظيم قانوني للتحكيم من طرف المشرع المغربي، كان بمقتضى ظهير المسطرة المدنية -الملغى- الصادر في 12 غشت 1913 والذي خصص له الفصول من 527 إلى 543([2]) ثم جاء قانون المسطرة المدنية الحالي الصادر في 28 شتنبر 1974 واهتم كذلك بالتحكيم، فخصص له الفصول 306 إلى 327([3]).

ولم يهمل المشرع المغربي مؤسسة التحكيم عند إنشائه للمحاكم التجارية، حيث نص في الفقرة الأخيرة من المادة 5 من قانون إحداث هذه المحاكم، على أنه: "يجوز للأطراف الاتفاق على عرض النزاعات المبينة أعلاه (والتي أسند اختصاص البت فيها للمحاكم التجارية) على مسطرة التحكيم وفق أحكام الفصول 306 إلى 327 من قانون المسطرة المدنية".

فما هو المقصود بالتحكيم؟ وماهي أهميته وشروطه؟ (المطلب الأول)، ثم ماهي آثاره، وكيف يمكن تنفيذ أحكام المحكمين بالمغرب؟ (المطلب الثاني).

المطلب الأول: مفهوم التحكيم وشروط انعقاده:

الفقرة الأولى: مفهوم التحكيم وأهميته:

يعرف الفقهاء التحكيم بأنه "لجوء المتنازعين إلى أحد الخواص يطلبون منه فض النزاع القائم بينهم"([4])، إنه "قضاء خاص يستند على شرط تعاقدي"([5])، أو هو "نظام تعاقدي يلجأ إليه فريقان لأجل حل الخلاف الناشئ بينهما بواسطة شخص أو أكثر من غير القضاة"([6]).

ففي التحكيم، يسند المتنازعين مهمة حسم نزاعهم إلى واحد أو اكثر يرتضونه أو يرتضونهم، وبهذا المعنى تظهر في التحكيم طبيعته الرضائية من ناحية، لكون المحكم أو المحكمين الذين يكلفون بالفصل في النزاع، معينين أصلا من قبل الأطراف وتظهر فيه من ناحية أخرى صفة العدالة الخاصة، "لأن المحتكمين ينشئون لأنفسهم محكمة خاصة بهم تختلف عن المحاكم التي تنظمها الدولة"، ولكن العدالة الخاصة هنا تتخذ صورة مهذبة حضارية فهي ليست كتلك العدالة التي عرفها الإنسان في فجر التاريخ حينما كان يقضي حقه من خصمه بيده وباستعمال القوة ضده(vengeance privée) دون الالتجاء للسلطة العامة([7]). هذا مع العلم بأن هناك بعض المنازعات التي منع المشرع عرضها على التحكيم، وقصر حق النظر فيها على المحاكم وحدها (الفصل 306 من قانون المسطرة المدنية).

وإلى جانب التحكيم الاختياري أو الاتفاقي أو التعاقدي، والذي يستند إلى الاتفاق الحاصل بين الأطراف كما مر معنا يوجد التحكيم الإجباري، الذي يقتصر على بعض المجالات المعينة والمحدودة كالتحكيم في نزاعات الشغل الجماعية طبقا لظهير 19 يناير 1946([8]) والتحكيم في حوادث الشغل فيما يتعلق بالتعاريف الطبية أو الجراحية أو الصيدلية التي تعرض لزوما على لجنة المراقبة والتحكيم (الفصل 207 من ظهير 25 يونيو1927).

ومقابل اهتمام المغرب بالتحكيم الداخلي على غرار التشريعات المقارنة فإن اهتمامه بالتحكيم التجاري الدولي ظل قاصرا ومحدودا، مما أثار صعوبة كبيرة أمام المهتمين بهذا الموضوع، تتمثل في معرفة الوضعية القانونية للتحكيم التجاري الدولي وقواعده وأسسه؛ كمعرفة متى يكون التحكيم دوليا وماهو المعيار الذي يمكن الاعتماد عليه للقول بأن هذا التحكيم هو داخلي وذلك خارجي، مما تترتب معه صعوبات أخرى تتعلق بالإجراءات المسطرية التي تخضع لها أحكام المحكمين.

وأمام هذا الفراغ التشريعي المهول([9]) يعتقد بعض الفقه([10]) بأن المشرع المغربي قد ترك ذلك للاتفاقيات الدولية منها والثنائية التي تناولت موضوع التحكيم الدولي، والتي صادق عليها المغرب.

وقد شهد التحكيم في الميدان التجاري اهتماما وتطبيقا أكبر، لأن المشرع سمح، في الفقرة الثانية من الفصل 309 من قانون المسطرة المدنية، بالتعيين المسبق لمحكم واحد أو لعدة محكميين إذا تعلق الأمر بعمل تجاري، بينما لم يسمح به في المسائل المدنية([11]).

وتظهر أهمية التحكيم، في أنه يسمح للأطراف في اختيار المحكم أو المحكمين الذين يرتضونهم ويثقون فيهم، كما يحافظ لهم على أسرارهم المهنية، ويسمح باستمرار علاقاتهم العملية حتى أثناء قيام النزاعات المعروضة على التحكيم، وحتى إلى ما بعد صدور قرارات تحكيمية بشأنها([12])، كما أن المحكمين غالبا ما يكونون على اطلاع كبير بالميدان المتخصص المدعوون للتحكيم فيه([13])، وبإمكان الأطراف إعفاؤهم من اتباع المساطر القضائية (المعقدة) (الفصل 311 من قانون المسطرة المدنية)، والاستناد لقواعد العدل والإنصاف في فض النزاعات المعروضة عليهم، دون التقيد بالقواعد القانونية المطبقة على هذه النزاعات (الفصل 317 من قانون المسطرة المدنية).

الفقرة الثانية: شروط قيام التحكيم التجاري:

يتخذ الاتفاق على التحكيم أحد شكلين؛ فهو إما عقد للتحكيم compromis Le وهو الوثيقة التي يتفق الأطراف بموجبها على عرض النزاعات التي حدثت بينهم على محكم أو محكمين([14]). كما يمكن أن يتخذ شكل شرط للتحكيم la clause compromission حيث يتفق أطراف العقد الأصلي سواء كان عقدا مدنيا أو تجاريا- على أن ما ينشأ من نزاع حول تفسير هذا العقد أو تنفيذه يحل بواسطة محكمين([15]). فعقد التحكيم يأتي، إذن، لاحقا لحدوث النزاع بين المتعاقدين، ولا يأتي في شكل شرط أو بند في العقد الأصلي، بل يأخذ شكل اتفاق متكامل، موضوعه اختيار نظام التحكيم لحل النزاع([16]).

ويشترط لقيام الاتفاق على التحكيم التجاري الشروط التالية:

أولا: الأهليـة:

نص الفصل 306 من قانون المسطرة المدنية على أنه: "يمكن للأشخاص الذين يتمتعون بالأهلية أن يوافقوا على التحكيم في الحقوق التي يملكون التصرف فيها".

مما يفيد أنه لا يكفي أن يتمتع الأشخاص (الأطراف) بأهلية التعاقد لإبرام اتفاق التحكيم، أو أهلية التقاضي، ولا يستلزم كذلك أن تكون لهم أهلية التبرع، لأن عقد التحكيم ليس من قبيل التبرع بالحق، أي يجب أن يكون الشخص متمتعا بأهلية التصرف في الحق موضوع النزاع.

وعلى هذا الأساس، فالأشخاص الذين لا تتوفر لديهم هذه الأهلية كالقصر والمحجور عليهم ليسوا أهلا لإبرام اتفاقات التحكيم. فإذا ما أبرم أحدهم اتفاقا كان الاتفاق باطلا([17]) كما لا يجوز للوكيل بغير إذن خاص إبرام هذا العقد([18]).

ثانيا: الكتابـة :

يستوجب المشرع صياغة الاتفاق على التحكيم في محرر مكتوب (الفصل 307 من قانون المسطرة المدنية) وهكذا لا يجوز إثبات عقد التحكيم بالقرائن أو بشهادة الشهود، ويبقى التساؤل مطروحا حول إمكانية إثبات عقد التحكيم بالإقرار  وأداء اليمين القانونية من جهة، ويطرح تساؤل آخر من جهة أخرى، حول ما إن كانت الكتابة شرط إثبات، أم هي شرط وجود وصحة؟([19]).

على أن عقد التحكيم يمكن أن يرد في محرر عرفي بمقتضى محضر يقام أمام المحكم أو المحكمين المختارين، أو في محرر رسمي بمقتضى وثيقة أمام موثق أو عدلين، أو بأي سند كالرسائل المتبادلة أو البرقيات، شريطة أن تكون إرادة الطرفين ظاهرة([20]).

أما بالنسبة لشرط التحكيم فإن الفصل 309 من قانون المسطرة المدنية، يستوجب أن يكون شرط التحكيم مكتوبا باليد، وموافقا عليه بصفة خاصة من لدن الأطراف تحت طائلة البطلان، هذا إذا ثم تعيين المحكم أو المحكمين مسبقا وفي نفس العقد، أما إذا لم يتم هذا التعيين المسبق للمحكمين، فإن المشرع لم يورد لشرط التحكيم أي شكليات خاصة به.

ثالثا: موضوع التحكيم :

ينص الفصل 306 من قانون المسطرة المدنية على أن الحق لا يكون محلا للتحكيم إذا كان مما لا يجوز التصرف فيه، وتولى المشرع في الفقرة الثانية بيان الأحوال التي لا يجوز الاتفاق على التحكيم بشأنها، وهي تلك المتعلقة بالحالة الشخصية أو التي تمس النظام العاموعلة إخراج المنازعات التي لا يجوز الصلح فيها، هو رغبة المشرع بمنع الصلح وبسط ولاية القضاء العام على هذه المنازعات، وهو ما يقتضي أيضا منع التحكيم بشأنها([21]). وغني عن البيان، أن الاتفاق على التحكيم جائز سواء قبل نشوب النزاع أو بعده (الفصل 309 من ق.م.م).

ومن البيانات الأساسية التي أوجبها الفصل 308 من ق.م.م في سند التحكيم، تحديد الأجل الذي يتعين على المحكم أو المحكمين، أن يصدروا فيه قرارهم التحكيمي. وإذا لم يحدد السند أجلا يستنفذ المحكمون صلاحياتهم بعد ثلاثة أشهر من تاريخ تبليغ تعيينهم.

فالأصل أنه يجب تحديد أجل للمحكمين لإصدار قرارهم في سند التحكيم، حيث يعمد الأطراف إلى تحديد الأجل الذي يجب على المحكمين إصدار حكمهم فيه. إلا أن العبارة الأخيرة من الفصل المذكور، تفيد أنه يمكن بصفة استثنائية ألا يقع تحديد الأجل في سند التحكيم. ويترتب على ذلك أنه بعد فوات ثلاثة أشهر من تاريخ تبليغ المحكمين، لم تعد لهم المحكمين أية صلاحية للبث في النزاع الذي عرض عليهم على أساس ذلك الاتفاق، ويحق للطرف ذي المصلحة أن يلتجأ إلى القضاء العادي لأن التحكيم يكون في حكم المنتهي، وهذا ما أكده الفصل 312 من ق.م.م، ولا يترتب على عدم تحديد الأجل في سند التحكيم أي بطلان([22]).

المطلب الثاني: آثار الاتفاق على التحكيم وتنفيذ القرارات التحكمية:

يترتب عن الاتفاق على التحكيم عدة أثار (الفقرة الأولى) بينما يخضع تنفيذ القرارات التحكمية لمجموعة من الضوابط (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى: آثار الاتفاق على التحكيم:

لم يقصر المشرع المغربي شرط التحكيم على العقود التي يكون أطرافها تجارا فقط، بل يجوز التحكيم حتى بالنسبة للعقود المختلطة (المادة 5 من قانون إحداث المحاكم التجارية) مادام يمكن النص على بند التحكيم حتى في العقود المدنية، وبالنسبة لما لم يستثنه القانون (الفصل 306 من ق.م.م). هكذا يترتب على شرط التحكيم أيا كانت صورته أثران هامان، أثر إيجابي هو الحق في الالتجاء إلى التحكيم، وأثر سلبي من حيث الاختصاص القضائي، بحيث إذا وجد شرط التحكيم ومع ذلك تم رفع الدعوى مباشرة أمام القضاء، فيحق للطرف الثاني أن يدفع بوجود شرط التحكيم ويتمسك به([23])، والدفع بعدم اختصاص المحكمة القضائية بسبب وجود اتفاق التحكيم أو شرطه، هو دفع نسبي لا مطلق، بحيث يتعين على من له مصلحة فيه أن يثيره قبل كل دفع أو دفاع في الجوهر([24]).

وإذا كان يجوز رد المحكم بسبب التجريح، أو بسبب آخر يصير به المحكم غير صالح للتحكيم (الفصل 313 من ق.م.م)، فإنه لا يجوز عزل المحكمين إلا بتراضي الأطراف (الخصوم).

ومن المسلم به أن العلاقة بين المحكم والخصم، علاقة تعاقدية تنبثق منها حقوق وواجبات المتعاقدين. وكأصل عام فإن واجب المحكم الأساسي ينحصر في تنفيذ اتفاق التحكيم المبرم بين الخصوم، بما يستتبع من إصدار الحكم خلال مهلة التحكيم، وما يندرج تحته من التقيد بطبيعة المهمة الموكلة إليه، وباتباع إجراءات نظر الدعوى المتفق عليها مع الخصوممع العلم بأن حقوق والتزامات الخصوم والمحكمين تختلف باختلاف العقود المبرمة بينهم([25]).

هذا وإن الاتفاق على التحكيم بمقتضى عقد أو شرط لا يمنع من الالتجاء إلى القضاء التجاري الاستعجالي، من اجل اتخاذ الإجراءات المستعجلة الضرورية كالوضع تحت الحراسة أو إجراء بعض الحجوز التحفظية أو أي إجراء تحفظي آخر([26])، ذلك أن المحكمين ليست لهم الصلاحية لاتخاذ الإجراءات الوقتية والتحفظية([27])، والتي تبقى من اختصاص رئيس المحكمة التجارية المختصة، مادام أن قاضي الأمور المستعجلة لا يبت إلا في الإجراءات الاستعجالية من خلال التدابير التحفظية ودون المساس بجوهر النزاع.

الفقرة الثانية: تنفيذ القرارات التحكمية:

بعد عرض النزاع على التحكيم ودراسته ومناقشته، يصدر المحكم أو المحكمين، الحكم في الموضوع، ويجب أن يكون الحكم مكتوبا ويتضمن أسماء المحكمين وصفاتهم، والأطراف أو ممثليهم ومحاميهم، وتاريخ الحكم ورقمه، والوقائع والتعليل والقواعد المطبقة إذا لم يعارض الأطراف في ذلك، ومنطوق الحكم ومحل إصداره، مع توقيع المحكم أو المحكمين (الفصل 318 من ق.م.م). ويمكن للمحكمين عرض حكمهم على الأطراف للحصول على موافقتهما التي تثبت في محضر يوقعانه يكون بمثابة عقد بينهما([28]).

هكذا إذا رضي الأطراف بالحكم الصادر عن المحكم أو المحكمين، فإنهما ينفذانه تلقائيا وطواعية، أما إذا لم يقبل أحدهما بهذا الحكم، فإنه لا يمكن اللجوء إلى طرق التنفيذ الجبري إلا بعد منح الأحكام التحكمية الصيغة التنفيذية من لدن الجهة القضائية المختصة، وهنا ينبغي التمييز بين القرارات التحكمية الوطنية والقرارات التحكمية الأجنبية.

أولا: بالنسبة للقرارات التحكمية الوطنية.

يصير الحكم التحكيمي الصادر بالمغرب، قابلا للتنفيذ بأمر من رئيس المحكمة التي صدر في دائرة نفوذها أو الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف عند استئنافه من أحد الأطراف (الفصل 320 من ق.م.م)، وذلك عن طريق تديييل الحكم التحكيمي بالصيغة التنفيذية.

ويقوم بمنح الصيغة التنفيذية لحكم المحكمين في المادة التجارية، وفي حدود اختصاص المحاكم التجارية رئيس المحكمة التجارية، طبقا للمادة 20 من قانون إحداث المحاكم التجارية، والتي جاء فيها: "يمارس رئيس المحكمة التجارية الاختصاصات المسندة إلى رئيس المحكمة الابتدائية بموجب قانون المسطرة المدنية وكذا الاختصاصات المخولة له في المادة التجارية"([29]).

ويقدم طلب تذييل الحكم التحكيمي بالصيغة التنفيذية، وفق نفس شروط تقديم المقالات أوالطلبات إلى المحكمة، سواء من حيث البيانات التي يجب أن يتضمنها، وكذلك أداء الرسوم القضائية الواجبة. ويشترط أن يتم تقديم هذا الطلب بواسطة محامي([30])، ويتعين إرفاق هذا الطلب بأصل الحكم التحكيمي الموقع عليه من طرف المحكم أو المحكمين ([31]) ولا يصدر الرئيس أمره بالتنفيذ إلا بعد الإطلاع على وثيقة التحكيم "للتأكد من أن الحكم التحكيمي غير معيب ببطلان يتعلق بالنظام العام، وخاصة بخرق مقتضيات الفصل 306" (الفصل 321 من قانون المسطرة المدنية).

وبالرغم من تطبيق القواعد المتعلقة بالنفاذ المعجل على أحكام المحكمين، فإن آثارها- ولو أمر بتنفيذها أو ذيلت بالصيغة التنفيذية- لاتسري بالنسبة للغير الذي يمكن له أن يقدم تعرض الغير الخارج عن الخصومة وفق المسطرة والشروط المحددة في الفصول 303 إلى 305 من قانون المسطرة المدنية (الفصل 325من نفس القانون)([32]).

وإذا كانت القرارات التحكيمية لا يمكن أن تكون محلا للطعن فيها بالتعرض أو الاستئناف أو النقض (الفصل 319 من ق.م.م) فإنه من الممكن أن تكون موضوع طلب إعادة النظر أمام المحكمة التي قد تكون مختصة في القضية لو لم يتم فيها التحكيم (الفصل 326 من ق.م.م).

وللتوفيق بين ضمان حقوق الدفاع، المتمثلة في تعدد درجات التقاضي، وبين اعتبارات السرعة في فض النزاعات التجارية، جعل المشرع المغربي خضوع الأمر الصادر عن رئيس المحكمة التجارية، بإعطاء الصيغة التنفيذية لحكم المحكمين، للاستئناف متوقفا على إرادة الأطراف الذين أجازت لهم الفقرة الثانية من المادة 322 من ق.م.م إمكانية التخلي مقدما عن هذا الاستئناف عند تعيين المحكمين أو بعد تعيينهم وقبل صدور حكمهم([33]).

ثانيا: بالنسبة للقرارات التحكيمية الأجنبية.

تثير القرارات التحكيمية الأجنبية نوعا من الصعوبات من الناحية القانونية، بالنظر إلى أن الدولة في العالم لها سيادتها، فلم يعد من الجائز تنفيذ أحكام المحكمة الأجنبية، إلا بعد إعطائها قوة تنفيذية من قبل القضاء الوطني، وهذا ما يسمى التذييل بالصيغة التنفيذية أسوة بالاحكام القضائية عندما يراد تنفيذها داخل المغرب([34]).

والواقع أن إعطاء الصيغة التنفيذية للأحكام التحكيمية، يتم من قبل القاضي المغربي بناء على المعاهدات الدولية التي صادق عليها المغرب، كما هـو الحال مثلا بالنسبة للقرارات التحكيمية الأجنبية الخاضعة لاتفاقية نيويورك المبرمة فـي 10/06/1958 بشأن الاعتراف بالمقررات التحكيمية الأجنبية وتنفيذها والتي صادق عليها المغرب بمقتضى الظهير الشريف 266 1 59 بتاريخ 19 يناير 1960، ثم اتفاقية لاهاي المؤرخة في فاتح مارس 1954 المتعلقة بالمسطرة المدنية والتـي ثم الانخراط فيها بمقتضى ظهير 30/09/1969، بالإضافة إلى اتفاقيـة واشنطـن (B.I.R.D) لتسوية المنازعات الاستثمارية بين الدول ومواطني الدول الأخرى، المؤرخة في 18/03/1965 والتي صادق عليها المغرب، وأصبح دولة متعاقدة فيها بتاريخ 10/06/1967 (المرسوم عدد 564 65).

وهناك الاتفاقيات الثنائية المبرمة مع بعض الدول، كالاتفاقية الموحدة لاستثمار رؤوس الأموال العربية الموقعة بعمان بتاريخ 29/11/1980، والتي انضم إليها المغرب في 07/09/1981، ثم اتفاقية تسيير وتنمية التبادل التجاري بين الدول العربية الموقعة في تونس بتاريخ 27/02/1981، والتي صادق عليها المغرب في 16/12/1983، وكذلك اتفاقية عمان للتحكيم التجاري الموقعة في الأردن بتاريـخ 04/04/1987.

هذا وإن إضفاء الصيغة التنفيذية على القرارات التحكيمية الأجنبية، يتم بناء على الفصل 19 من ظهير 12/08/1913 المتعلق بالوضعية المدنية للفرنسيين والأجانب، الذي يجيز تنفيذ أحكام المحكمين الأجانب والأحكام الأجنبية بناء على شرط المعاملة بالمثل، إلا أن قانون المسطرة المدنية الحالي نجده لم يتعرض لهذا الشرط، فهل يعني هذا السكوت أن القضاء المغربي لا يأذن بتنفيذ القرار التحكيمي الصادر في الخارج إلا إذا كان قانون تلك الدولة يقبل بدوره تنفيذ القرار التحكيمي الصادر في المغرب بنفس الشروط وفي نفس الحدود؟ أم أنه رغم سكوت المشرع فإن القضاء يأخذ بشرط المعاملة بالمثل؟. يبدو أن المشرع المغربي، ومن ورائه القضاء، يستبعدان هذا الشرط([35]).

ويلاحظ من استقراء الاتفاقيات المذكورة أعلاه، أنها تستلزم نفس الشروط التي تشترطها لتنفيذ الأحكام القضائية، بالإضافة إلى شروط خاصة بالتحكيم([36]).

ولعل الفائدة التي حققتها اتفاقية نيويورك، هي مواكبتها لمتطلبات التنفيذ، ورفعها لعبء إثبات شديد عن كاهل طالب التنفيذ، كان كثيرا ما يقف عقبة أمامه، فالمادة الرابعة من الاتفاقية لا تتطلب ممن يرغب في تنفيذ قرار تحكيمي أجنبي مما تنطبق عليه الاتفاقية سوى أن يتقدم بطلبه هذا إلى الجهة المختصة في البلد المطلوب فيه التنفيذ، مشفوعا بوثيقتين:

 1- الأصل الرسمي لقرار التحكيم أو صورة منه مستجمعة للشروط المتطلبة لها كصورة رسمية.

2 أصل اتفاق التحكيم أو صورة منه مستجمعة للشروط المتطلبة له.

وإذا كانت هذه الوثائق محررة بغير لغة البلد المطلوب فيه التنفيذ، فعلى طالب التنفيذ تقديم ترجمة لها، على أن تكون ترجمة رسمية([37]).

وعند عرض القرار التحكيمي على القضاء المغربي، فإنه لا يملك النظر في موضوع النزاع، إذ لاحق له في مراجعة القرار، وإن كان ملزما بالتأكد من أن هذه القرارات غير مشوبة بالبطلان المتعلق بالنظام العام (النظام العام الدولي المغربي)، بحيث يكون صادرا في مسألة يجوز فيها التحكيم (الفصلين 306 و321 من ق.م.م) (الفصل 5 من اتفاقية نيويورك والمادة 6 من الاتفاقية الأوروبية) ومستندا على شرط تحكيم صحيح أو سند تحكيمي صحيح.

      وختاما نشير أنه بتاريخ 13/6/2022 صدر القانون رقم 95.17 المتعلق بالتحكيم والوساطة الاتفاقية، ليدخل حيز النفاذ بتاريخ 14/6/2022، وذلك تطبيقا لمقتضيات المادة 105منه، والتي نصت على أنه يدخل هذا القانون حيز التنفيذ في اليوم الموالي لتاريخ نشره في الجريدة الرسمية.

وإذا كان هذا القانون الجديد قد حمل العديد من المستجدات من حيث موضوعه، فانه يجب التنويه بأن هذا القانون قد عمل أيضا  على إعادة  النظر في تبويب  العديد من المقتضيات، محاولا بذلك تدارك العيوب الشكلية التي اتسم بها القانون  08.05، كما يجب التنويه، بأنه وبموجب هذا القانون تم الانفصال المطلق بين قانون المسطرة المدنية و قضاء التحكيم، والتي احتضنته انطلاقا من سنة 1913، وليستقل قضاء التحكيم بقانونه الخاص بالرغم من الملازمة غير المبررة  للوساطة الاتفاقية له، ذلك أننا كنا نتمنى الإبقاء على الوساطة الاتفاقية ضمن قانون المسطرة المدنية، و تطويرها إلى وساطة قضائية .


الانتقال الديمقراطي في ظل الدستور - دساتير الدول المغرب العربي نموذجا

 

الانتقال الديمقراطي في ظل الدستور - دساتير الدول المغرب العربي نموذجا

خديجة أعلام

طالبة باحثة في سلك الدكتوراه - تخصص العلوم السياسية والقانون الدستوري - بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية - جامعة محمد الأول وجدة

 

Democratic Transition under the Constitution - Constitutions of the Maghreb States as a Model

Khadija AALAM

 

مقدمة

انطلقت من تونس شعلة بشرية أثارت طريق التغيير وأيقظت شعوبا عربية بقيت تغط في سبات عميق عقودا طويلة، وكأنها في غيبوبة لن تستفيق منها. شعلة عضب اسقطت صروحا سياسية كانت في أذهان العديد من الناس ورمزا للمناعة والصمود، وعملت هذه الشعلة ولا تزال على ردم الهوة بين الحاكم والمحكوم، وهي من أهم سمات أنظمة الحكم في العالم العربي. [38]

خلعت الثورة الشعبية الحاكم في تونس[39] ثم الحاكم في مصر وليبيا واليمن. كذلك يستمر الحراك الشعبي في دول عربية أخرى تعيش يقظة ورغبة في إصلاحات جذرية ومشاركة فعلية في حكم ذاتها، لكن دونما صعوبات جمة.

وارتفعت المطالب الشعبية الداعية إلى إجراء إصلاحات سياسية شاملة بسبب ما عانته الشعوب من ظلم وقهر واستبداد من طرف حكامها، وكانت العديد من الأسباب وعوامل سواء داخلية أو خارجية لها دور مهم وحاسم في تغيير الأحداث. بعد الربيع العربي، شهدت الدول المغاربية عددا من الإصلاحات الدستورية والسياسية التي تهدف إلى تعزيز الشفافية والمساءلة والمشاركة السياسية

تسلط هذه المقالة الضوء على التحولات والإصلاحات الدستورية والسياسية التي شهدتها دول المغرب العربي بعد الانتفاضات العربية، مع تحليل العوامل الرئيسية التي قادت إلى هذه الإصلاحات وتأثيرها البارز على الوضع السياسي والدستوري الحالي في المنطقة.

المبحث الأول: التحولات الدستورية بعد الربيع العربي

عرفت الدول المغاربية تغييرات وتحولات دستورية، كونها تأثرت بدورها بشكل كبير في الحراك العربي حيث بدأت الحركات من القاعدة ووصلت لأعلى، مما أجبر المسؤولين لإعادة النظر في أنظمتها وبدأ تغييرات شاملة، وكذا إعادة تقييم الوضع من أجل بناء أنظمة ديمقراطية تحقق للشعوب متطلباتها، عبر اجراء اصلاحات شاملة. بما في ذلك الإعلان عن دساتير جديدة تلبي حاجيات وطموحات الشعوب.

والتحولات المهمة التي شهدتها المنطقة العربية في أعقاب ما اصطلح على تسميته بالربيع العربي ولاسيما في تونس وليبيا، لا شك سيكون له تأثيره بالغ الاهمية على المنطقة برمتها، إذ تقف بلدان المغرب العربي اليوم على المحك، لجهة اعادة رسم خرائطها السياسية[40] .

بعد الربيع العربي، الذي شهد تحولات جذرية في العديد من الدول العربية، تبنت الدول المغاربية سلسلة من الإصلاحات الدستورية لتلبية المطالب الشعبية وتعزيز الديمقراطية. تعد هذه الإصلاحات محورية في فهم التحولات السياسية والاجتماعية في المنطقة. يهدف هذا البحث إلى تحليل الإصلاحات الدستورية في الدول المغاربية بعد الربيع العربي، وتقييم تأثيرها على النظام السياسي والاجتماعي في تلك الدول.

المطلب الأول: مفهوم وأهمية الدستورانية قبل الربيع العربي

تتنوع الدول المغاربية في أنظمتها الدستورية، حيث تختلف في الهيكل التنظيمي والمبادئ الأساسية التي تقوم عليها، وتعتبر الهندسة الدستورية أمرا بمهم في هذه الدول، حيث تلعب دورا حيويا في ضمان استقرار المؤسسات السياسية وتعزيز حكم القانون. بالإضافة إلى ذلك، تساهم الهندسة الدستورية في تحقيق التوازن بين السلطات وتعزيز حقوق الإنسان والمواطن. وتسهم أيضا في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية.

إن الهندسة الدستورية تشجع على التغير الاجتماعي لوضع حدا لعدم المساواة والقهر والظلم الذي يعاني منها المجتمع، ومن المعروف أن في كل مجتمع هناك قوتين، قوى محافظة لا ترغب في تغيير الوضع الراهن وتقاوم التغيير، وقوى تدعو إلى الإصلاح وتشجع التغيير والتقدم.[41]

وتعني كذلك تنظيم الشعب في إطار دولة ديمقراطية تعمل على حفظ تلك السيادة والحقوق والحريات العامة، وتفعيلها حتـى يتـأتى للشعب أن يقرر مصيره الاقتصادي والاجتماعي، والثقافي، والـدني، والسياسي، لأن تقريــر المصـير مـن الحقـوق الأساسـية التي يجب أن تكون مشـمولة للشــعوب وعلـى جميع المسـتويات، وتعني هندسة الدستور إدخـال تعـديلات واصلاحات جديدة على مستوى الوثيقة الدستورية مع مراعاة الحقوق والحريات الأساسية للمواطنين[42].

 والدستورانية كمفهوم تعد مظهرا من مظاهر علو أو سيطرة أحكام القانون ، وهي تتداخل مع مفاهيم أخرى مثل سمو القانون أو سمو الدستور[43]، وفي هذا السياق يعرف الدكتور حسن طارق الهندسة الدستورية على أنها" تلك المنظومة من الاليات التي تتيح ميلاد نسق فاعل من القيود اتي تهم ممارسة الحكم، أكان ذلك من خلال توزيع السلطات أم المسؤولية السياسية للحكومة"[44].

وتؤدي الهندسة الدستورية دورا جوهري في مجال التأطير القانوني للنشاط السياسي في المجتمع، وفي تحقيق التعايش السلمي بين السلطة والحرية، وفي تحديده لعلاقة  الفرد بالدولة تأثيرا وتأثرا، وفي تنظيم المؤسسات السياسية لاسيما في أداء اختصاصها الدستورية حتى التي تميل نحو التعسف والاستبداد، كما يمثل ضمانة فعالة في القرار بحقوق الإنسان وحرياته العامة وضوابط استعماله حتى التي تميل إلى الفوضى، كما تمثل الهندسة الدستورية هدنة مؤقتة لصراع المزمن بين السلطة والحرية، وبتحقيق التوازن والتعايش في ظل دولة القانون والمؤسسات الدستورية[45] .

ونلمس أهمية الهندسة الدستورية عند تنظيم الدولة، فمن خلالها تجري تقسيم السلطات والحد منها بإضفاء الشرعية على مصدرها ومجال عملها، إذ لابد من أن تكون ممارسة السلطة السياسية داخل الدولة مضبوطا، حيث تتركز جهود الفكر الدستوري على كيفية وقف السلطة عند حدها، وتغليب كفة الحرية عليها[46].

يعود تاريخ الدستورية في منطقة المغرب العربي إلى ما قبل فترة الاستعمار، حيث اعتمدت بعض القبائل أنظمة دستورية لتنظيم شؤونها الداخلية. مع وصول الاستعمار وتأسيس المستعمرات الأوروبية، فُرضت نظم دستورية جديدة على البلدان المغربية. شهدت هذه النظم تطورًا لافتًا بعد استقلال الدول، حيث جرت عمليات تعديل وتحديث على الدساتير لتتناسب مع التحولات الاجتماعية والسياسية. وقد تركت تلك التدخلات بصمات واضحة في تشكيل الهوية القانونية والدستورية للمنطقة، حيث أثرت الحقبة الاستعمارية والنضال من أجل التحرر الوطني بشكل عميق على البناء الدستوري في دول المغرب العربي. كانت المنطقة تحت سيطرة قوى استعمارية تاريخية متعددة، مما أدى إلى حركات تمرد ونضال لاستعادة السيادة الوطنية. انعكس ذلك على الدساتير والمؤسسات السياسية في المنطقة، مما شكل تحديات كبيرة في مسيرة بناء الدولة ومؤسساتها الديمقراطية. من الضروري تحليل هذه التأثيرات لفهم الوضع الحالي ومستقبل الهيكلة الدستورية في الدول المغاربية. تشكل التأثيرات الاستعمارية أبرز العوامل التي أثرت على الأنظمة الدستورية في المنطقة، حيث فرضت قوى الاحتلال الأوروبية نماذج دستورية وقانونية تتماشى مع مصالحها الاقتصادية والسياسية. نتج عن هذا تأثيرٍ استعماري تغييرات جذرية في النظم الدستورية القائمة، مما أدى إلى تفضيل مصالح المستعمرين على حساب السكان المحليين. كما قام الاستعمار بتقسيم الأقاليم المغاربية استنادًا إلى مصالحه الاستراتيجية دون اعتبار للتنوع القومي والثقافي في المنطقة، مما أثر سلبًا على بنية الدول الدستورية وتوزيع السلطات والحقوق.

المطلب الثاني : إصلاح الدستوري للدول المغاربية

شهد العالم العربي ثورة دستورية مميزة من حيث الطبيعة التي جاء بها، حيث انطلقت من اسفل قاعدة السلطة واجبرت القائمين عليها بتغير النظام القائم وإعلان إصلاحات شاملة، حيث أسقط في تونس النظام القائم وإعلان دستور جديد للبلاد، وأجبر رئيس الجزائري على تقديم استقالته المتبوعة بمنح الشعب دستور جديد، تم النظام المغربي الذي توج بدستور و 2011 اما باقي الدول فشمل دستورها تغيرات وتعديلات.

إن النظام الديمقراطي يحتاج إلى الدستور الذي يؤسس للإطار العام للحكم الديمقراطي المراد تطبيقه فالدستور يحدد أهداف الحكومة والقيود المفروضة على سلطاتها، وكذلك الوسائل والتوقيت الخاصين بالانتخابات بشكليها التشريعية (البرلمان) والرئاسية (منصب رئاسة الدولة)، وكذا حقوق الأفراد والعالقة بين الحكومة المركزية والمستويات الأخرى من الحكومات، وإذا كان المراد تحقيق الديمقراطية، فلابد من الفصل بين السلطات )السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية والسلطة القضائية(  لأنه إذا قام الدستور بتركيز السلطة في يد الحكومة دون اقتسامها، فيستنتج عن ذلك حكومة دكتاتورية.[47] فإذا توفرت هذه الخصائص جمعيها، فإننا أمام دستور ديمقراطي، ويمكن في حالات معينة أن تجرى عليه بعض التعديلات حتى يتواكب مع مختلف المستجدات، وأحيانا تقتضي الضرورة تأسيس دستور جديد والذي يتطلب الوقت والتمعن الكافيين، وفي كلتا الحالتين المشاركة الشعبية في العمليتين مرغوبة. أما عن صياغة الدستور سواء كان معدلا أو دستورا جديدا فيجب أن تكون مفهومة من قبل أغلبية الشعب، وليست غامضة أو معقدة لا يفهمها إلا ذوو الاختصاص (رجال القانون، المحامون، أو النخب الحاكمة).[48]

كثير من الدول، قامت بإعادة النظر في دساتيرها إما بتعديلها أو إلغائها وصياغة دستور جديدة عن طريق وثيقة جديدة، وهذا ما حدث بعد  الثورات العربية حيث أسفر عنها وجود دستور جديد في كل من المغرب 2011 ، تونس 2014 ، بينما شهدت الجزائر تعديلا دستوريا  2016 وموريتانيا وليبيا. وتعد كتابة الدساتير من مستلزمات سيادة الدولة، وهي أكثر ظواهر تنظيم الدولة المعاصرة شيوعا، وفي هذا الصدد يقول كارل لوينشتاين:"غدت سيادة الشعب والدستور المكتوب مترادفتين أيديولوجيا وعمليا، والدساتير العربية قد صدرت كتعبير عن السيادة الوطنية[49].

إن أي انتقال دستوري، سواء تعلق الأمر بوضع دستور جديد أم بإصلاح دستوري يأخذ شكل التعديل أو المراجعة، هو نتاج لظروف موضوعية تفرض نفسها على الفاعلين السياسيين عامة وعلى بنيات النظام السياسي بصفة خاصة  ولا شك أن دول الربيع العربي اليوم، هي بصدد لحظة تأسيسية جديدة، بمعنى أن هناك حاجة ما إنتاج دستور جديد أو إجراء تعديلات دستورية جوهرية، حيث يبدو أن العوامل الحاكمة للعملية الدستورية في السابق لم تعد هي نفسها، فقد حلت عوامل جديدة سمتها الأساسية تتمثل في عناصر التغيير العميق الذي مس بنيات السلطة السياسية، والذي يتم التطلع من خلاله إلى انتقال من حكم غير ديمقراطي فاسد إلى حكم ديمقراطي ذي خيارات وطنية وشعبية[50].

رفعت في جميع دول الحراك، شعارات ومطالب تدعو إلى وضع دستور جديد وباليات ديمقراطية تقطع مع مظاهر الاستبداد، وهو ما يعكس وعي المواطن بأهمية المدخل الدستوري لتحقيق الديمقراطية المنشودة.[51]

يعتبر الدستور هو القانون الأسمى في البلاد فهو الـذي يحدد شـكل نظـام الحكم فـي الدولة وهـو الذي يحدد الحقوق والحريات العامة للأفراد، لذلك سعت الدول العربية جاهدة مـن أجل صياغته تكريسا للانتقال الديمقراطي.

تمكنت تونس من المصادقة على دستور توافقي بعد نقاشات وحوارات قادتها الفعاليات، وهو أمر دعم المرحلة الانتقالية، وبخاصة وانه حمل في طياته الكثير من المستجدات التي أدت إلى الحسم مع مظاهر الاستبداد والانفراد بالسلطة، ودعم الحقوق والحريات.. .، [52] .

أما في المغرب ساهمت حركة 20 فبراير، وما رفقها من رفع  مطالب وشعارات دعت إلى ترسيخ الممارسة الديمقراطية، في التسريع من وثيرة الاصلاحات الدستورية، وقد عين الملك محمد السادس لجنة انفتحت في تشكيلها على مختلف الكفاءات السياسية والاكاديمية والحقوقية.. ومع مختلف الفعاليات داخل المجتمع، وتم طرحه على الاستفتاء. وكذلك على مستوى المضمون حيث دعم فصل السلطات، وتقوية صلاحيات رئيس الحكومة الذي يختاره الملك من الحزب المتصدر الانتخابات، علاوة على دعم الحقوق والحريات، ودسترة اللغة الامازيغية واعتبارها لغة رسمية إلى جانب اللغة العربية، إضافة تأكيد ربط المسؤولية بالمحاسبة، وتقوية استقلالية القضاء[53].

من بين الاهم  في عملية الانتقال الديمقراطي في مرحلة ما بعد الثورة هو تحديد هوية الدولة من خلال وضعها في  اطار ها الدستوري  .

 إن عدم الاستقرار في ليبيا هو اكبر تحدي واجه مصممي الدستور الجديد بهدف الوصول الى بناء مؤسسات دستورية تحظى بثقة وولاء الاغلبية واقناع كل الجماعات بالقبول الطوعي للدولة والدستور. حيث واجهت عملية انتخاب الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور العديد من العقبات أهمها الدعوة إلى الانتخابات نفسها، وانخفاض أعداد المقترعين وعزوف مكونات المجتمع الليبي وتحديات أخرى[54]



[1] )  رحال البوعناني "التحكيم الاختياري في القانون المغربي الداخلي" رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا في القانون الخاص، السنة الجامعية 1996 1997. جامعة محمد الخامس، كلية الحقوق، الرباط. الصفحة. 39 وما بعدها.

[2] )  خلاف ما يذهب إليه بعض الفقه من أن التحكيم لم ينظم بالمغرب إلا بمقتضى قانون المسطرة المدنية الصادر في سنة 1974. راجع في هذا الإطار شعيبي المذكوري "الاتفاق على التحكيم في قانون المسطرة المدنية" مقال منشور بمجلة المحاكم المغربية، العدد 74. ص. 42.

[3] )  مع العلم أن هناك فصول أخرى متناثرة في قوانين أخرى تتناول التحكيم، كما هو الشأن في الفصل 894 من قانون الالتزامات والعقود. يراجع في هذا الموضوع، عبد الله درميش "اهتمام المغرب بالتحكيم، إلى أي حد؟" مقال منشور بمجلة المحاكم المغربية. العدد 73، ص. 10.

[4])  PH. Grandjean, « l’évolution du référé commerciale »: Rev. jurisp. Com.1993. p.177.

[5] )  Yves Guyon, « droit des affaires. Tome 1 droit commercial général et société ». 10ème édition. Ecomica paris1998. P. 826.  

[6] )  أمينة النمر "أصول المحاكمات المدنية" الدار الجامعية، طبعة 1988، ص. 325.

[7] )  محي الدين إسماعيـل علم الدين: "أفكار حول التحكيـم التجاري الدولـي" مقال منشور بمجلة الميادين، العدد الأول، 1986، ص. 134.

[8] )  هذا الظهير وقع تعديله بمقتضى ظهير 23/10/1948 و 21/12/1958.

[9] )  احمد شكري السباعي في حوار له حول المحاكم التجارية  منشور بجريدة العلم ليوم 25/10/2000 العدد18424 ص9 . وقد أكد على ضرورة العمل على سد هذا الفراغ المهول، من خلال حث "المملكة المغربيةعلى إدخال القانون النموذجي للاونسترال (لجنة الأمم المتحدة للقانون التجاري الدولي)، بعد إدخال التغييرات الضرورية عليه، في تشريعاتنا الوطنية".

[10] )  عبد الله درميش "اهتمام المغرب بالتحكيم إلى أي حد؟"، مرجع سابق، ص. 11.

[11] )  محمد لفروجي: "التاجر وقانون التجارة بالمغرب" مطبعة النجاح الجديدة الطبعة اثانية أكوبر1999، ص. 382.

[12] )  عبد الله درميش: "محاضرات في التحكيم التجاري"، ألقيت على الملحقين القضائيين بالمعهد الوطني للدراسات القضائية 2001 غير منشورة.

[13] )  أحمد أبو الوقا: "التحكيم الاختياري والإجباري"، الطبعة الخامسة 1988، ص. 254.

[14] )  شعيبي المذكوري: "الاتفاق على التحكيم في قانون المسطرة المدنية"، مرجع سابق، ص. 43.

[15] ) أمينة النمر، مرجع سابق، ص. 356.

[16] )  محمد المجدوبي الإدريسي: "المحاكم التجارية بالمغرب –دراسة تحيلية نقدية مقارنة" مطبعة بابل الطبعة الأولى ، ص. 144-145.

[17] )  عبد الله درميش: "اهتمام المغرب بالتحكيم إلى أي حد؟"، مرجع سابق. ص. 15.

[18] )  فتحي والي: "الوسيط في قانون القضاء المدني"، الطبعة الثانية، 1981. ص. 41.

[19] )  شعيبي المذكوري: "الاتفاق على التحكيم في قانون المسطرة المدنية"، مرجع سابق. ص. 52.

[20] )  "وإن المستأنف عليه بسلوكه مسطرة التحكيم، يكون قد استجاب لإرادة البنك عبر قبوله الصريح بما جاء في المطبوعمع أن المطبوع المعتمد من القرار (المطعون فيه) ذو طابع عام وغير موقع عليه من الطرفين، ولا يصمد في الإثبات أمام العقد الخاص، المؤرخ في 22/01/1980 المبرم بين الطالب والمطلوب وغير المنازع فيه، المعتبر شريعة المتعاقدين والذي أسند الاختصاص فيما ينشب بين طرفيه لمحاكم الدار البيضاء، ولم تتحدث مقتضياته على التحكيم، وهي بمنحاها تكون قدبنت قرارها على أساس غير سليم وعرضته للنقض". قرار المجلس الأعلى (الغرفة التجارية، القسم الأول) رقم 7968 بتاريخ 30/12/1998 في الملف التجاري، عدد 2064/1/4/96، منشور مع تعليق للأستاذ محمود حسن، بجريدة الأحداث المغربية، ليوم 30 مارس 2001. ص. 8.

[21] )  شعيبي المذكوري: نفس المرجع السابق. ص. 53.

[22] )  عبد الله درميش: "اهتمام المغرب بالتحكيم إلى أي حد؟"، مرجع سابق. ص. 17.

[23] )  "دليل المحاكم التجارية: الاختصاص والمسطرة"، منشورات وزارة العدل، مطبعة فضالة المحمدية الطبعة الاولى 1421/2000 ص. 19.

[24] )  محمد المجدوبي الإدريسي: "المحاكم التجارية بالمغرب"، مرجع سابق. ص. 149.

[25] )  شعيبي المذكوري: "الاتفاق على التحكيم في قانون المسطرة المدنية"، مرجع سابق. ص. 55.

[26] )  عبد الله درميش: "اهتمام المغرب بالتحكيم إلى أين؟"، مرجع سابق. ص. 15.

[27] ) من التطورات الحديثة في موضوع التحكيم التجاري الدولي، أن غرفة التجارة الدولية، تدرس الآن إنشاء  "نظام قضائي للأمور المستعجلة في التحكيم (arbitral référée)" راجع في هذا الموضوع وحول معارضي هذا التوجه : محي الدين إسماعيل علم الدين "أفكار حول التحكيم التجاري الدولي"، مرجع سابق. ص. 145 وما بعدها.

[28] )  عبد العالي العظراوي "التحكيم التجاري الداخلي"، مقال منشور بمجلة الملحق القضائي، العدد 33، يناير 1998. ص. 49.

[29] )  عبد الله درميش: "محاضرات في التحكيم التجاري" مرجع سابق.

[30] )  مادام أن الدعوى ترفع أمام المحكمة التجارية بمقال مكتوب موقع من طرف محام (المادة 13 من قانون إحداث المحاكم التجارية).

[31] )  هذا إذا لم يكن المحكم قد أودع أصل الحكم التحكيمي بكتابة ضبط المحكمة خلال الثلاثة أيام من صدوره، مادام أنه لا يترتب عن عدم الإيـداع داخل هذا الأجل أي بطلان، ويبقى للمتضرر من الأطراف فقط، الحق في الرجوع على المحكم أو المحكمين طبقا لقواعد المسؤولية.أما إذا كان قد ثم إيداع أصل الحكم بكتابة الضبط داخل الأجل المذكور، فإن طلب تدييل بالصيغة التنفيذية يقدم إلى رئيس المحكمة دون حاجة إلى إرفاقـه بأصل الحكـم التحكيمـي. عبد الله درميش: "اهتمام المغرب بالتحكيم إلى أين؟" مرجع سبق ذكره. ص. 23.

[32] )  عبد الله درميش: "اهتمام المغرب بالتحكيم إلى أي حد؟" مرجع سابق. ص. 15.

[33] )  محمد لفروجي: "التاجر وقانون التجارة بالمغرب" مرجع سابق. ص. 384.

[34] )  محمد الإدريسي العمراوي "دور القاضي في تنفيذ القرارات التحكيمية الأجنبية" مقال منشور بمجلة الملحق القضائي، العدد33، يناير 1998. ص. 39.

[35] )  عبد الله درميش "اهتمام المغرب بالتحكيم إلى إي حد؟" مرجع سابق. ص. 19.

    محمد الإدريسي العمراوي: "دور القاضي في تنفيذ القرارات الأجنبية" مرجع سابق. ص. 39.

[36] )  عبد الله درميش: نفس المرجع السابق. ص. 18.

[37] )  محمد الإدريسي العمراوي: مرجع سابق. ص. 38.

 [38] داود خير الله معوقات الإصلاح في العالم العربي: جريدة موقع الأخبار ليوم الجمعة عاشر يناير 2011

[39] عبد الرؤوف العيادي الثورة وعنفوان الفكرة، مطبعة فنون الطباعة والنشر، تونس، 2018

[40]  وفاء مرزوق، هل نحن أمام فرصة تاريخية لإحياء صرح الاتحاد المغاربي؟ مستقبل العلاقات المغاربية في ظل الربيع العربي.، الاصلاحات السياسية والمؤسساتية بالدول المغاربية وافاق الاندماج،  مركز الدراسات والبحوث الانسانية  والاجتماعية بوجدة، مطبعة حراء، وجدة،2015، ص 60

[41] - يمر بي فلوس، هندسة الدستور وحمايته، ترجمة: سامر مؤيد عبد اللطيف، مجلة الفرات، مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية، كربلاء المقدسة، العدد7 ،2010.، صفحة 7.

[42] - على سعدي عبد الزهرة جبير، مجلة التمكين الاجتماعي، المجلد 2  العدد 4، ديسمبر 2020، ص 51

[43] -بون ولد باهي، الاصلاح الدستوري في موريتانيا من تجربة الدسترة إلى الدستورانية، الدستورانية المغربية والمغاربية، سلسة الدراسات السياسية والدستورية، العدد 3 الطبعة الاولى، 2021، مطبعة دار القلم، الرباط، ص89

[44] - حسن طارق، دستورانية  ما بعد انفجارات 2011، ص 11

[45] - عليان بو زيان، الهندسة الدستورية الحديثة –دراسة تطبيقية على الدستور الجزائري، مرجع سابق، ص26

[46] -يوسف كشاكش، الحريات العامة في الانظمة السياسية المعاصرة، منشأة المعارف، الاسكندرية، 1987، ص 37

[47] - ناثان براون، دساتير من ورق، الدساتير العربية والسلطة السياسية، )محمد نور فرحات( ،القاهرة: مكتب سطور، 2010 ،ص 5

[48] - Jeen Sharp ,From Dictatorship  toDemocracy ,Great  Britain: Serpents Tall, 2012 ,p119-120

[49] - ناثان براون، دساتير من ورق، الدساتير العربية والسلطة السياسية، )محمد نور فرحات( ، مرجع سابق، ص 54

[50] - لؤي عبد الفتاح ، إدارة الانتقال إلى الديمقراطية في زمن الربيع العربي: مأزق المأمول والممكن، اشكال البناء الديمقراطي البلدان العرية في زمن التحولات

https://www.researchgate.net/publication/307503586

[51] - ادريس لكريني، تدبير أزمات التحول الديمقراطي ، مرجع سابق، ص 184

[52] - نفس المرجع ، ص 185

[53] - المرجع نفسه، ص 185-186

[54] -المفوضية الوطنية العليا للانتخابات

Hppt:// www . cdalibya.org

  



من أجل تحميل هذا المقال كاملا - إضغط هنا أو أسفله

قانونك


 من أجل تحميل العدد 21  - إضغط هنا أو أسفله