القانون الواجب التطبيق على الجرائم المرتكبة عبر الفضاء السبيراني - عز الدين بوزلماط




القانون الواجب التطبيق على الجرائم المرتكبة عبر الفضاء السبيراني

عز الدين بوزلماط

دكتور في القانون الخاص

 

The law applicable to crimes committed through cyberspace

Izz al-Din BOUZLMAT

 

مقدمة :

لقد كان لاختراع الحاسب وتطوره واستخدامه حديثا في إجراء الاتصالات عبر الانترنيت أثر عظيم في مجال الإعلام والاتصال فالأنترنيت غير الكثير من المفاهيم الخاصة بالمكان والزمان حيث لم تعد العلاقة بين الفرد ووسيلة الإعلام مجرد علاقة المتلقى الذي لا يوجد له دور سوى أن يطلع على ما تقدمه الوسيلة الإعلامية، فقد صار طرفا فعالا يستطيع أن ينشئ موقعا على الانترنيت يطلع عليه عدد كبير من الأشخاص عبر مختلف انحاء العالم، قد يتجاوز عددهم من يطلع على أوسع الصحف العالمية انتشار ولن يتحمل مستخدم الانترنيت في مقابل ذلك سوى مبالغ زهيدة من المال، هي تكلفة استخدام الانترنيت وأصبح الفرد العادي محررا ورئيسا للتحرير وناشدا وطابعا وموزعا في وقت واحد ، كما يمكنه أن يطلع على الكم الهائل من المعلومات التي توجد على مواقع الانترنيت ويستطيع كذلك أن يرسل وسائل لمن يرغب في العالم عن طريق البريد الإلكتروني ويمكنـه أن يصحبها بالأفلام أو بقطع موسيقية أو بعض الصور والرسوم أو كذلك برنامجا من برامج الكمبيوتر ، كما يمكنه تلقي الرد على رسالته في الحال ومخاطبة مراسلة ومشاهدته في ذات الوقت وإذا كان للأنترنيت هذه المزايا في مجال الإعلام والاتصالات والتراسل فإن له مزايا وفوائد أخرى لا تقل أهمية عما سبق الإشارة إليه، حيث أدى إلى تطوير مفاهيم التعليم والتعلم والبحث العلمي، فشبكة المعلومات والاتصالات الدولية عبارة عن أداة اتصال وربط بين أجهزة الحواسيب الإلكترونية المتواجدة في مختلف أرجاء الدول فهي  شبكة وجدت بأصلها للاتصال بين الأفراد والاشخاص عبر حدود الدول والواقع العملي يثبت بأن التعامل عبرها يطرح مشكلات حول الأفعال غير المشروعة التي ترتكب دوليا وتلحق الضرر بالأشخاص المتعاملين معها، كالاعتداء على الحياة الخاصة، والاستغلال غير المشروع لحقوق الملكية الفكرية.

ومن هنا نتساءل عن القانون الواجب التطبيق على مثل هذه الاعتداءات غير المشروعة والتي تقع عبر الفضاء السيبراني؟ وماهي الحلول المقترحة في حال عدم فعالية القواعد العامة لمنهج التنازعي؟

التصميم المقترح:

المبحث الأول: القانون الواجب التطبيق على الجرائم الإلكتروني وفق المنهج التنازعي

المطلب الأول: مدى ملائمة قاعدة القانون المحلي كقانون واجب التطبيق على الجرائم الإلكترونية

الفقرة الأولى: قاعدة تطبيق القانون المحلي

الفقرة الثانية: المشكلات المعترضة لتطبيق القانون المحلي

المطلب الثاني: مظاهر تطبيقية لقانون الواجب التطبيق على بعض الأفعال الضارة عبر الفضاء السيبراني

الفقرة الأولى: القانون الواجب التطبيق على مشكلات الاعتداء على الحياة الخاصة

الفقرة الثانية: القانون الواجب التطبيق في حال الاعتداء على حقوق الملكية الفكرية

المبحث الثاني: القانون الواجب التطبيق على الجرائم الإلكترونية وفق التوجهات الحديثة

المطلب الأول: القانون الموضوعي الإلكتروني

الفقرة الأولى: ماهية القانون الموضوعي الإلكتروني

الفقرة الثانية: مدى ملائمة القانون الموضوعي الإلكتروني كقانون واجب التطبيق على الجرائم الواقع عبر الفضاء السيبراني

المطلب الثاني: المعايير الحديثة المعتمدة لتحديد القانون الواجب التطبيق على الجرائم الإلكترونية

الفقرة الأولى: قانون الدولة التي تطلب فيها الحماية

الفقرة الثانية: تطبيق القانون الأوثق صلة

 

المبحث الأول: القانون الواجب التطبيق على الجرائم الإلكترونية وفق المنهج التنازعي

المطلب الأول: مدى ملائمة قاعدة القانون المحلي كقانون واجب التطبيق على الجرائم الإلكترونية

الفقرة الأولى: قاعدة تطبيق القانون المحلي

  أخضع فقه الأحوال الإيطالي القديم في القرن الثالث عشر الالتزامات الناشئة عن الجرائم لقانون بلد وقوع الفعل، وكان الفقه الإيطالي يقصد بتلك الجرائم الجنائية، وقد كانت هذه القاعدة هي النواة التي استخلص منها الفقه بعد ذلك مبدأ إخضاع الجريمة المدنية (الفعل الضار) ، لقانون محل وقوعها[1].

أكد الفقيه الفرنسي دار جنتريه ومع فقهاء المدرسة الهولندية في القرن السادس عشر أن فكرة التنازع بين القوانين تتناسب وتنسجم مع إقرار قاعدة خضوع الالتزام غير التعاقدي سواء فعل نافع أو فعل ضار، ذلك لأن الأصل العام لهذه المدرسة هو الأخذ بإقليمية القوانين[2] وقد أخضع "سافيني" الالتزامات الناشئة عن الفعل الضار لقانون محل وقوع الفعل، على أساس، أن تركيز العلاقة بين مرتكب الفعل الضار والمضرور ينشأ في هذا المكان[3]. ويفضل معظم الفقهاء وخاصة في البلاد اللاتينية جعل الفعل الضار من اختصاص قانون محل وقوعه، وهو ما أطلق عليه الفقيه "بارتان" "القانون المحلي"، ذلك لأن العلاقة القانونية المتولدة عن هذا الفعل لا يمكن إسنادها بالنظر إلى موضوعها ولا بالنظر إلى أشخاصها، وإنما يمكن إسنادها بالنظر إلى مصدرها وهو الفعل الضار ذاته ويكون محل وقوع هذا الفعل هو النقطة التي يرتكز عليها الإسناد إلى قانون هذا المحل[4].

أما الفقه المعاصر فله تبريراته بخصوص تطبيق قانون محل وقوع الفعل الضار حيث أن تركيز العلاقة الناشئة عن الفعل الضار يجب أن يتم بالنظر إلى السبب المنشئ للعلاقة، أي تحديد المكان الذ وقع فيه الفعل الذي قامت عليه هذه العلاقة ، لأن عنصر الأشخاص لا يكفي كأساس لتركيز العلاقة[5]، كما أنه من يوجد على إقليم دولة معينة عليه أن يلتزم باحترام قوانينها ، ومن ثم يتوقع تطبيقها عليه دون أي قانون آخر، لا سيما إذا كانت من القوانين الآمرة ، وبذلك يؤدى تطبيق القانون المحلي إلى حفظ التوازن بين مصالح الأطراف[6].

وقد أخذت بقاعدة اختصاص القانون المحلي في حكم الالتزامات غير التعاقدية تشريعات القانون المقارن التي صدرت خلال القرن 14 والتشريعات الحديثة من تلك القوانين القانون المصري في المادة 21 فقرة أولى من القانون المدني على ما يأتي : يسري على الالتزامات غير التعاقدية قانون البلد الذي وقع فيه الفعل المنشئ للالتزام والقانون المدني الليبي في المادة 21/1 يسري على الالتزامات غير التعاقدية قانون البلد الذي وقع فيه الفعل المنشئ للالتزام وهو نص له نظير في القانون الإماراتي (المادة 2 من قانون المعاملات المدنية) والقانون السوري (المادة 22/1) ، والعراقي المادة 21/1 والقانون الكويتي المادة 66/1 كما كرست ذات المبدأ التقنيات الحديثة في القانون الدولي الخاص ونذكر منها القانون الاسباني لعام 1984 (المادة 10/9 القانون المدني) والقانون النمساوي لعام 1979 (المادة 48) والقانون الدولي الخاص التركي 1982 المادة 25 والقانون الدولي الخاص الهجري لسنة 1979 المادة 32/2 والقانون الدولي الخاص السويسري لسنة 1987 الفقرة 2 من المادة 133 والقانون المدني البرتغالي لسنة 1966 (المادة 45/2).

وتنظيم روما الثاني المتعلق بالقانون الواجب التطبيق على الالتزامات غير التعاقدية لسنة 2007 (المادة 4).

أما الأساس القضائي لقاعدة القانون المحلي فقامت محكمة النقض الفرنسية بتبني القاعدة المتمثلة في تطبيق القانون المحلي، وذلك في قرار صدر في سنة 1948، حيث جاء في حيثيات القرار القول باختصاص "قانون المكان الذي وقعت فيه الجريمة"، ويتعلق الأمر بحادث وقع في اسبانيا بينما كان الطرفان فرنسيان، وقد تم تأكيد هذا الحل منذ ذلك الحين[7]، ففي هذا الحكم حددت محكمة النقص اختصاص قانون المكان الذي ارتكبت فيه الجريمة[8]، كما أن القضاء الفرنسي كرس تطبيق قاعدة القانون المحلي منذ حكم "لوتر" بتاريخ 25/05/1948 من قبل محكمة النقض الفرنسية ، بعد أن كان قضاة الموضوع سابقا يضيقون من مجال تطبيق قانون محل وقوع الفعل الضار بالاستناد إلى فكرة النظام العام إلى تقضي بتطبيق قانون القاضي وفق قرار آخر صادر عن محكمة النقض الفرنسية بتاريخ 8 فبراير 1983 في القضية المشهورة بقضية Y.PRADO HORM اعتبرت المحكمة بأن القانون الواجب التطبيق في حالة تفرق عناصر الإسناد بين عدة دول هو قانون مكان تحقق الضرر[9].

الفقرة الثانية : المشكلات المعترضة لتطبيق القانون المحلي

تظهر صعوبات تحديد القانون الواجب التطبيق على الالتزامات غير التعاقدية في حالة ما إذا تفرقت عناصر الواقعة القانونية في عدة دول، وكذلك في حالة ما إذا تمت الواقعة القانونية في مكان لا يخضع لأي سيادة دولة معينة ولا ينتمي لأي دولة فنتيجة لهذه العوائق المثارة في شأن تحديد أي القانون المختص لحكم مثل هذه الجرائم، فإنها تؤدي إلى استبعاد تطبيق قاعدة القانون المحلي وكذا الاستغناء عنها.

فقد يحدث أن يقع الخطأ في دولة ويتحقق الضرر في دولة أخرى فمثل هذه الحالة يثار التساؤل عن القانون الواجب التطبيق على المسؤولية المترتبة عن الفعل الضار، هل هو قانون الدولة التي وقع فيها الخطأ أم الدولة التي تحقق فيها الضرر[10]، في الواقع اختلفت الاتجاهات الفقهية والتشريعات المقارنة في الإجابة عن هذا الإشكال يذهب رآى أول إلى وجوب تطبيق قانون وقوع الفعل الضار، لأن الفعل الضار هو أساس المسؤولية كما أنه إلا نتيجة الفعل الضر الذي يجب أن يقدر بقانون البلد الذي ارتكب فيه باعتبار أن القانون المحلي بالنسبة للمسؤولية المدنية عن الأفعال الضارة يتدخل كنص من نصوص القانون المدني لتأمين الناس ومنع ارتكاب الأعمال غير المشروعة ضدهم، وفقا لقانون المكان الذي خولف فيه الأمر الذي يقضي بالامتناع عن ارتكاب الفعل غير المشروع، ولا أهمية لمكان تحقق الضرر[11].

وهو ما أكدت محكمة النقض الفرنسية في قرارها الصادر بتاريخ 13 أبريل 1988 في القضية المشهورة بقضية Farahdiba أو مصرحة بأن القانون الواجب التطبيق عند تفرق عناصر الإسناد بين اراضي عدة دول هو قانون مكان وقوع الفعل الضار يخضع لقانون مكان ارتكابه، ولقد تبنى مشروع الاتفاقية الأوربية بشأن القانون الواجب التطبيق على الالتزامات غير  التعاقدية في الاجتماع الذي انعقد في لكسمبورغ في الفترة من25-27 سبتمبر 1998 هذا الحل فالرابطة الوثيقة للعقد ترتبط بمكان حدوث الضرر أينما يذهب رآى آخر إلى وجوب تطبيق قانون مكان تحقق الضرر باعتبار أن غاية القانون المحلي هو تعويض المتضرر عما لحقه من ضرر والضرر هنا يجب أن يقدر بقانون مكان تحققه باعتباره قانون مكان الذي احتل فيه التوازن بين المصالح التي تهدف القانون إلى حمايتها، مما يجب إعطاء الاختصاص في هذه الحالة لقانون الدولة التي يتحقق فيها الضرر الرئيسي بينما ذهب الرأي الآخر إلى وجوب تطبيق القانون الأصلح للمتضرر بإعطاء الحق له في الاختيار بين قانون مكان وقوع الفعل الضار يحقق الضرر أيهما أصلح وأنفع له وهذا الرأي هو الذي يحقق العدالة وأخذ به القضاء الألماني[12] ، وهو ما أكدته المادة 46 من أصول المحاكمات المدنية الفرنسية الجديد أنه يحق للمدعى الخيار بين محكمة موطن المدعى عليه والمحكمة التي فصل في دائرتها الفعل الضار أو تلك التي وقع في دائرتها الضرر ومن التطبيقات القضائية لذلك ما أعلنته إحدى محاكم ولاية نيويورك بعدم اختصاصاتها في قضية تزوير ماركت تجارية أقدم عليها موقع ويب أحد رواد الجاز ولاية ميسوري ، وعللت المحكمة بأن صلاحيتها لا تنشأ من داخل هذه الولاية ، بل تنشأ فقط إذا ألحق هذا الموقع ضررا فعليا ضمن نطاقها[13].

المطلب الثاني : مظاهر تطبيق القانون الواجب التطبيق على الجرائم الالكترونية

الفقرة الأولى : القانون الواجب التطبيق على مشكلات الاعتداء على الحياة الخاصة

إن المعطيات الشخصية واسرار الحياة الخاصة يمكن ان تكون محل انتهاك عبر وسائل الاتصال الحديثة لتستخدم بشكل يلحق الضرر بسمعة ومصالح أصحاب تلك المعطيات ، في هذه الحالة يمكن تطبيق قانون الدولة التي ينتمي إليها الضحية نظرا للطابع الشخصي لتلك الحقوق[14]، فالإشكال المطروح في حالة إن كان المسؤول عن المعالجة لديه أكثر من منشأة واحدة موجودة في دولة خاصة بتجميع البيانات فقط ، وترسل إلى دولة أخرى بها منشأة للمعالجة فماهو القانون الواجب التطبيق في هذه الحالة؟

فكل هذا يخضع لقانون المعلوماتية والحريات في فرنسا، وهو ما يتفق مع هدف التشريع الفرنسي في ضمان الحياة الخاصة للفرنسيين كما أن التوجيه الأوربي الصادر في 24 أكتوبر 1995 ، يسمح بالإسناد للقانون الوطني لدولة  عضو في حالة تجميع البيانات ذات الطبيعة الشخصية في هذه الدولة بأي وسيلة كانت لمعالجتها في منشاة توجد في دولة أخرى على ضرورة إخطار اللجنة الوطنية للمعلومات والحريات[15]، ولكن في حالة ما جمعت البيانات في فرنسا وارسلت للمعالجة في الخارج ثم أعيد استرادها، عن طريق النهايات الطرفية الموجودة في فرنسا، فهناك صعوبة في تحديد المعالجة الخاضعة للقانون الفرنسي ، هل مجرد تجميع البيانات فقط في فرنسا دون معالجتها لهذا القانون أما أنه يجب أن تم العملية بأكملها في فرنسا كي تخضع لهذا القانون؟

يفهم من نص 25 من قانون المعلوماتية والحريات أن تجميع البيانات تعتبر جزءا من المعالجة، لذا فهي تخضع للقانون الفرنسي بشرط أن تتم المعالجة في الدولة الأخرى بنفس المعالجة في فرنسا ، فهنا يعتبر القانون الفرنسي من قوانين البوليس فيلزم من جهة أخرى منتجي البيانات باحترام إجراءات حماية الحياة الخاصة المعمول بها على إقليم الدولة التي يقيم بها الأفراد الذين تتعرض حياته الخاصة للخطر[16]، بينما المادة السابعة من مشروع التنظيم الأوربي (روما 2) شأن القانون الواجب التطبيــق على الالتزامات غير التعاقدية الصادر في 22 يوليوز 2003 تسند المسؤولية الناشئة عن الاعتداء على الحياة الخاصة وحقوق الشخصية إلى قانون الدولة التي يوجد بها محل الإقامة المعتاد للمضرور وقت ارتكاب الفعل.[17]

الفقرة الثانية : القانون الواجب التطبيق في حال الاعتداء على حقوق الملكية الفكرية

إن  الاعتداء على الحقوق الذهنية عن طريق تكنولوجيا الاتصال أضحى أمر سائدا ، ومما يزيد في خطورة الوضع أن وقف النشر غير المشروع أصبح خارجا عن السيطرة فبناء على اي يمكن تحقيق حماية المصنفات والحصول على التعويضات في حالة انتهاك الحقوق الأدبية والمالية للمبدعين؟ يرى الفقه أن هناك ثلاث إمكانيات.

أ ـ قانون مكان تحميل المصنف ، فإذا أمكن تحديد المكان الذي يتمركز فيه المصنف قبل نشره ، فإنه يعتبر نقطة انطلاق للتعرف على الجهة التي اتخذت القرار بتحميل ذلك المصنف على الشبكة، فهو مكان وجود أدوات الاعتداء المتمثلة في الآليات والتجهيزات الإلكترونية ومختلف البرمجيات ، لا سيما وأن الأمر في هذه الحالة يتعلق بمقر ثابت لمقدم الخدمة وملائمة ذمته، مما يساعد على تنفيذ حكم التعويض غير أن هذه الإمكانية توجب نوعا من الاحتياط، فقد يكون قانون الدولة التي وقع فيها التحميل لا يوفر حماية فعالة للحق المعتدى عليه، وينتهزها القراصنة فرصة لممارسة أعمال القرصنة بعيدا عن القوانين الأكثر تشددا، ففي مثل هذه الحالة يتعين عدم عرض النزاع على قانو ن هذه الدول أو البحث عن إمكانية عرضه على قانون دولة توفر حماية قانونية أكثــر.

ب ـ قانون مكان بث المصنف على شبكة الأنترنيت : على خلاف الاتجاه السابق ، هناك إمكانية تطبيق قانون الدولة التي تم فيها عرض المصنف على شاشة الحواسيب في بلدان مستعملي الانترنيت وسند هذه الإمكانية.

أن دولة العرض هي الدولة التي تم فيها الاستفادة من المصنف المقلد، أي مكان استغلاله الحقيقي بصفة غير مشروعة، وهو نفس المكان الذي يشعر فيه الضحية بالخسارة الفعلية التي تعرضت لها حقوقه، وبالتالي هو مكان وقوع الضرر[18].

إن هذا المكان هو الذي يجسد الدور الإيجابي لفعل الاعتداء المتمثل في استحضار المصنف من الموقع الذي كان مخزنا فيه إلى شاشة حاسوب العرض والتحكم فيه. إذا كان تحميل المصنف على الشبكة يغني عن وجود نسخ مادية أي ورقية فإن عرض ذلك المصنف على الشاشات المختلفة بعد التحميل يعد نوعا من أعمال النسخ والتوزيع غير المشروع، وبالتالي تطبيق قانون دولة استقبال وعرضه، غير أن هذه الأسانيد لا تخلو من عيوب:

فبالنظر إلى الطابع العالمي للأنترنيت العابر للحدود، فإن عرض المصنف يتم في كل دولة مرتبطة بهذه الشبكة ، وبالتالي فإن مرتكب الفعل قد يتعرض للعقوبات المقررة في قوانين الدول التي تم فيها ذلك البث وهذا غير عادل وفوق طاقته[19].

وقد يتعذر في الكثير من الحالات تحديد مكان أو الاستقبال ، كما إذا كان مستخدم الأنترنيت يرتبط بالشبكة من سيارته أو من طائرة أثناء الرحلات.[20] قانون دولة البث أو الاستقبال يؤدى في الغالب إلى تعويض جزئي حيث يقتصر القاضي على تقدير الضرر الذي وقع فدائرة دولته دون ذلك الذي وقع في الدول الأخرى.

ج ـ قانون الدولة التي توفر الحماية للمصنف : الكثير من الفقهاء يؤيدون تطبيق هذا القانون وسندهم نذكر [21]:

ـ إن فكرة الضرر الافتراضي Dommage virtuel تلازم الفضاء الاقتراضي Cyber – espace عبر انتشار الشبكة في مختلف بقاع العالم، ومن ثم تعدد القوانين القابلة للتطبيق في حين أن الضرر يرتكز في الجزء الأكبر منه في الدولة التي توفر الحماية ويكون قانونها هو الأول بالتطبيق ,

ـ قانون دولة الحماية ليس فقط قانون مكان تحقق الضرر  ، وإنما هو في الغالب قانون موطن أو إقامة المتضرر، والفقه يرجح تطبيق قانون هذا المحل حماية للطرف الضعيف الذي هو المتضرر المذكور وفي هذا الاتجاه ذهبت عدة تشريعات منها القانون الدول الخاص الألماني في تعديله سنة [22]1999.

ليس في تطبيق ذلك القانون ما يخل بتوقيعات مرتكب الفعل فهو بمبادرته إلى بث المصنف والتلاعب به في دولة أخرى يتوقع حتما أن يخضع لقوانين هذه الدولة ، وهذا الحل أخذت به اتفاقية برن المؤرخة في 9 شتنبر 1886 فقي شأن حماية الملكية الأدبية والفنية في وقت لم تكن تخطر فيه الانترنيت على البال، فقد نصت المادة 2/5 على أن مدى الحماية ووسائل الطعن المقررة للمؤلف لحماية حقوقه ، يحكمها تشريعا الدولة المطلوب منها الحماية دون غيره، ونفس الحكم جاء في اتفاقية جنيف لسنة 1952 المعدلة في باريس سنة 1971 في المادة ¼ بقولها: تخضع مدة حماية حق المؤلف لقانون الدولة المتعاقدة المطلوب توفير الحماية فيها.

المبحث الثاني: القانون الواجب التطبيق على الجرائم الإلكترونية وفق التوجهات الحديثة

إذا كان الأساس التقليدي في تحديد القانون الواجب التطبيق على الإلتزامات غير التعاقدية، والمتمثلة في المسؤولية التقصيرية يتمثل في قانون مكان الواقعة المنشئة للالتزام إلا أن هذا الأساس قد تعرض للنقد من قبل الفقه، وطرحت أسس أخرى لتحديد القانون الواجب التطبيق ، والمشرع الأوربي قد تبين أحدث النتائج والآراء والاتجاهات في الأسس التي توصل إليها الفقه وذلك في التوجيه الأوربي رقم 864 لسنة 2008 والمعروف باتفاقية روما الثانية.

المطلب الأول: الأخذ بالقانون الموضوعي الإلكتروني

الفقرة الأولى: ماهية القانون الموضوعي الإلكتروني

يعرف القانون الموضوعي الإلكتروني بأنه القانون الذي يضع مباشرة تنظيما موضوعيا خاص للتطبيق على المعاملات القانونية ذات الصفة الدولية وهو عبارة عن مجموعة القواعد التي تشكل قانونا ذاتيا مستقلا وغير مرتبط بالقواعد الوطنية، وهو يتشكل من مجموعة من العادات والممارسات المقبولة التي نشأت واستقرت في المجتمع الافتراضي للانترنيت وطورتها المحاكم ومستخدموا الشبكة وحكومات الدول في مجال تكنولوجيا الاتصال والمعلومات ، فهو قانون تلقائي النشأة وجد ليتلاءم مع حاجات مجتمع قوامه السرعة في التعامل عن طريق بيانات رقمية تتم بها المعاملات والصفقات عبر الشاشات يسمى القانون الإلكتروني للأنترنيت وتعدد مسمياته تبعا لتعدد تعريفاته مسمى بالقانون الإلكتروني أو قانون المعاملات الإلكترونية و قانون المعلوماتية أو القانون الافتراضي أو القانون الرقمي وسماه البعض قانون التجارة الرقمي[23]. ومن خلال هذا التعريف يتضح أن القانون الموضوعي الإلكتروني له عدة خصائص تتمثل فيما يلي:

أـ هذا القانون يخاطب مجموعة معينة من الأشخاص وهم مستخدمو شبكة الأنترنيت ومقدموا خدمة الأنترنيت وينظم نوعا معينا من المعاملات وهي المعاملات الإلكترونية.

ب ـ هذا القانون هو قانون تلقائي النشأة ، فهو لم يأت عن طريق شكلي أو رسمي بل نشأ من العادات والأعراف التجارية وبالتالي هو ينشأ ويتطور حسب المعاملات الإلكترونية عبر الشبكة .

ج ـ هذا القانون قانون دولي موضوعي فهو عابر الحدود ذلك لان طبيعة المعاملات الإلكترونية عابرة الحدود، وهو قانون دولي موضوعي يحكم المعاملات التي تتم عبر شبكة الانترنيت ، وهو نفس الوقت ليس من وضع هيئة دولية أو منظمة عالمية،ـ وإن كان ذلك من الممكن حيث يمكن لمنظمة الأونسترال التابعة للأمم المتحدة إصدار قانون إلكتروني خاص بالمعاملات والعقود الإلكترونية[24].

الفقرة الثانية: مصادر القانون الموضوعي الإلكتروني

بالرغم من الوجود الفعلي المقارن للقانون الموضوعي الإلكتروني إلا أن الفقهاء اختلفوا حول مصادرة إذ نذكر اهم هذه المصادر التي تعد سببا من أسباب ظهور هذا القانون:

أ) الاتفاقيات الدولية والتوصيات الدولية الأساسية، تعتبر الاتفاقيات والتوصيات الدولية مصدره هاما من مصادر القانون الموضوعي الإلكتروني حيث يمكن من خلالها تحقيق التوحيد والانسجام بين القواعد التي تحكم الروابط القانونية عبر الشبكة الدولية وحل كثير من المشكلات التي ظهرت من النواحي العملية أهمها اتفاقية فيينا لبيوع البضائع الدولية وغيرها من الاتفاقيات كما نجد توصيات منظمة التعاون والتنمية الأوربية حول حماية الحياة الخاصة وتدفق المعلومات ذات الطابع الشخصي عبر الحدود لسنة 1980 .

التوجيه الأوربي رقم 95/46 حول حماية الفرد في مجال معالجة البيانات ذات الطابع الشخصي والتدفق الحر للبيانات، وهي وسيلة لتوحيد الحلول بشأن الفوارق والاختلافات بين التشريعات الداخلية للدول وتؤمن الانسجام بين أنظمتها القانونية، كما اصدرت اللجنة الأوربية توصية هامة في خصوص بعض الجوانب القانونية للتجارة في نطاق المعطيات المعلوماتية حيث دعت رجال الاقتصاد والمنظمات التي تعمل في هذا المجال أن تستخدم نموذجا للعقد الذي سبق أن أصدرته اللجنة الأوربية توصية هامة في نصوص بعض الجوانب القانونية للتجارة في نطاق المعطيات المعلوماتية حيث دعت رجال الاقتصاد والمنظمات التي تعمل في هذا المجال أن تستخدم نموذجا للعقد الذي سبق أن أصدرته والاستعانة بالتعليقات الواردة في شأنه.

ب) الممارسات التعاقدية : مثل (عقود الإيجار المعلوماتي ، وعقود إنشاء موقع إلكتروني أو متجر افتراضي) ، وهي كلها عقود أرست العديد من الممارسات التعاقدية شكلت قواعد متبعة في غالبية الدول التي انتشرت فيها الأنترنيت[25].



[1]  ـ هشام عاي صادق ، حفيظة السيد الحداد : دروس في القانون الدولي الخاص ، تنازل القوانين : دار الفكر الجامعي الإسكندرية ، 1999، ص : 405.

[2]   ـ عامر محمد الكسواني : موسوعة في القانون الدولي الخاص ، تنازل القوانين ، دار الثقافة ، عمان 2010 ، ص : 220.

[3] - هشام علي صادق حفيظة السيد الحداد: المرجع السابق  ص : 406.

[4]  ـ عز الدين عبد الله : القانون الدولي الخاص، الجزء الثاني، الطبقة التاسعة، الهيئة المصرية الامة للكتاب، القاهرة 1986 ، ص : 509-510.

[5]  ـ فؤاد عبد المنعم رياض : الوجيز في القانون الدولي الخاص الدار الجامعية بيروت 1997 ، ص : 324.

[6] - أحمد عبد الكرمي سلامة: الأصول في التنازع الدولي للقوانين ، دار النهضة العربية ، القاهرة 2008 ، ص : 1173-1174.

[7] - Cass ;Français civil 25 Mai 1948 Loulour : voir site : www .inter jurisnet.eu

[8] - ISSAD Mohand : Droit international privé, les régles de conflit 2ème édition office des publications universitaires, Alger 1983 , p : 280.

[9] - عبد المنعيم أكنيدي: القانون الواجب التطبيق على الضرر المعلوماتي ، مقال منشور في مجلة المنارة على الموقع الإلكتروني www.Revuealmamava.com

[10]  ـ حفيظة السيد الحداد: الموجز في القانون الدولي الخاص ، منشورات الجلبي الحقوقية ، بيروت 2002 ، ص : 413.

[11] - غالب على الداودي: القانون الدولي الخاص، الطبعة الثانية، دار الثقافة للنشر والتوزيع، عمان ، الأردن ، 2013 ، ص : 232.

[12] - Cass.CIV.B Avril 1988. Farah DIBA Revue critique de droit international privé 1989 , p : 546.

[13] غازي عبد الرحمان هيان الرشيد : الحماية القانونية من جرائم المعلوماتية (الحاسب والأنترنيت) ، أطروحة أعدت لنيل درجة الدكتوراه في القانون الجامعة الإسلامية في لبنان ، كلية الحقوق ، 2004 ، ص : 523.

[14] - J.Mestre : Les conflis des lois relatifs à la protection de la vie priviée : in Mélanges .P.Kayser.T

I/Aix – Marseille, 1989 ; p : 239.

[15] ـ عادل أبو هشيمة محمود حوته : عقود خدمات المعلومات الإلكترونية في القانون الدولي الخاص ، الطبعة الثانية ، القاهرة ، دار النهضة العربية 2005، ص : 253-254.

ـ أهم ما جاء في التوجيهات الأوربية رقم 95/46 المؤرخة في 24 أكتوبر 1991 الخاصة بحماية الأشخاص الطبيعية من أي معالجة آلية للمعطيات الشخصية.

"تطبق كل دولة عضو القواعد الوطنية التي تضعها بمقتضى هذا التوجيه بشأن معالجة البيانات ذات الطابع الشخصي عندما.

ـ تتم المعالجة في إطار نشاط مؤسسة المسؤول المعالج، داخل إقليم الدولة العضو.

ـ يكون المسؤول عن المعالجة غير مقيم على إقليم الاتحاد ، ويلجأ من أجل معالجة البيانات ذات الطابع الشخصي إلى وسائل آلية أو غير آلية موجودة على إقليم تلك الدولة العضو، ما لم تكن الوسائل قد استعملت لأغراض العبور إلى إقليم الاتحاد الأوربي.

مشار إليه : العربي جنان : الأنظمة المعلوماتية والأنترنيت بين التنظيم القانوني وأحكام المسؤولية ـ النظرية والتأصيل ، أطروحة لنيل الدكتوراه في الحقوق ، جامعة القاضي عياض ، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية ، مراكش ، السنة الجامعية، 2009/2010، ص : 453.

[16]  ـ وهذا ما نصت عليه الخطوط الإرشادية لمراقبة النقل عبر الحدود لخدمات النقل السمعي لصناعة المعلومات VidoTex في أوروبا التي صدرت في ديسمبر 1993 من الجمعية الأوربية لصناعة المعلومات في مادتها ½ على أن يتخذ مزود الخدمة كل الإجراءات الملائمة للخضوع لتشريع الدولة التي تقدم فيها الخدمة: راجع في ذلك :

N.Mallet – Poujol ART . 2/1: Le prestataire pour se conformer à la législation nationale de pays dans lequel le service est offert.

[17]  ـ محمد الروبي : تنازع القوانين في مجال الالتزامات غير التعاقدية ، دار النهضة العربية، القاهرة ، 2005 ، ص : 158.

[18] - François dessemontet: la propriété intellectuelle , p : 47.

[19] - Gendeau : le droit de reproduction et l’internet in Revue internationale de droit d’auteur 1998 , port et suivant.

[20] - E.Deliyanni : La loi applicable en matière de radiodiffusion par satellite d’œuvres protèges par le droit d’auteur : Revue internationale de droit comparée 1989 , p : 431 et suivant.

[21] - F. Dessmontet : internet et le droit de la propriété intellectuelle .op.cit, p : 60-63. Voir aussi : Y. Gendeau , le droit de reproduction et l’internet, op.cit, p : 65.

[22] - فبعد أن قررت المادة 40 منه اختصاص قانون الدولة التي وقع فيها االفعل المنشئ للالتزام بالتعويض أو قانون الدولة التي ترتب فيها الضرر إذا طلب المضرور ذلك أو قانون دولة الإقامة العادية المشتركة لكل من الفاعل والمضرور، أضافة المادة 42 نصها الذي قرر أنه : "يمكن للأطراف بعد وقوع الحدث المنشئ لرابطة الالتزام غير التعاقدي  اختيار القانون واجب التطبيق عليه وتلك دون التأثير على حقوق الغير"، أشار إليه أحمد عبد الكريم سلامة:  القانون  الدول الخاص النوعي ، المرجع السابق ، ص : 118.

 

[23] - ربحي فاطمة الزهراء : القانون الواجب التطبيق على عقود التجارة الإلكترونية ، مجلة الميزان (02) 2016 ، ص : 363.

[24]  ـ خالد ممدوح ابراهيم: إبرام العقد الإلكتروني مصر، دار الفكر الجامعي 2006 .

[25]  ـ ربحي فاطمة الزهراء : القانون الواجب التطبيق على عقود التجارة الإلكترونية ، مرجع سابق ، ص : 364-363 . 

من أجل تحميل هذا المقال كاملا - إضغط هنا أو أسفله على الصورة

قانونك



من أجل تحميل هذا العدد 20 - إضغط هنا أو أسفاه على الصورةمجلة قانونك - العدد الثالث