دور المحامي في تكريس الأمن القانوني للأفراد والدفاع عن الحقوق والحريات - عبد الحميـد حكيمــي

 



دور المحامي في تكريس الأمن القانوني للأفراد والدفاع عن الحقوق والحريات

عبد الحميـد حكيمــي

باحث بسلك الدكتوراه كلية العلوم القانونية الاقتصادية والاجتماعية أكدال

 

The role of the lawyer in establishing legal security for individuals and defending rights and freedoms

Abdhamid HAKIMI

 

ملخص البحث: إن الرهانات الاقتصادية والمالية والسرعة التي تميزها فرضت على المشرع المواكبة القانونية المستمرة، وهو ما أدى بالمنظومة القانونية المغربية (في مجال الأعمال ومجال العقار…) إلى التعقد والتعدد، الأمر الذي جعل مبدأ الأمن القانوني مناط تأملات وتساؤلات عدة، إذ أن كثرة النصوص القانونية وتجزئتها يكون له تأثير سلبي على مستوى الأمن القانوني واستقرار المعاملات القانونية، لقد حاولنا في هذه المقالة المتواضعة الحديث عن جوانب من مهنة المحاماة، وهي الجوانب المتعلقة بواجبات المحامي ومسؤولياته وأدواره الحقوقية، وقد رأينا أن واجباته نظمها كل من القانون والهيئات التي ينتظم المحامون في ظلها، فضلا عن واجبات أخلاقية تستمد مشروعيتها من أعراف وتقاليد المهنة وأدبيتها، ثم ذهبنا إلى اعتبار أن مسؤولية المحامي تستمد من مسؤولية القضاء، وأنها مسؤولية جسيمة، إذ ترمي إلى الحفاظ على هيبة العدالة، وأخيرا أشرنا إلى الدور التاريخي للمحامين في الدفاع عن الحقوق والحريات، هذا الدور جعل المحامي مسؤولا في المجتمع عن تعزيز وحماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية المعترف بها عالميا، ومن هنا تتجلى أهمية الدفاع التي تتطلب الكثير من الشجاعة في البلدان التي تشهد انتهاكات لحقوق الإنسان وتضيقاً على عمل المحامين.

 

Abstract: The economic and financial stakes and the speed that characterizes them imposed on the legislator continuous legal abreast, which led the Moroccan legal system (in the field of business and real estate...) to complexity and multiplicity, which made the principle of legal security the focus of many contemplations and questions, as the abundance and fragmentation of legal texts is It has a negative impact on the level of legal security and the stability of legal transactions. In this humble article, we have tried to talk about aspects of the legal profession, which are aspects related to the duties, responsibilities and legal roles of the lawyer. We have seen that his duties are regulated by both the law and the bodies under which lawyers are organized, as well as Moral duties derive their legitimacy from the customs, traditions and etiquette of the profession. Then we considered that the responsibility of the lawyer derives from the responsibility of the judiciary, and that it is a grave responsibility, as it aims to preserve the prestige of justice. Finally, we pointed to the historical role of lawyers in defending rights and freedoms. This role made the lawyer Responsible in society for promoting and protecting human rights and fundamental freedoms that are universally recognized. Hence the importance of defense, which requires a lot of courage in countries that witness human rights violations and restrictions on the work of lawyers.

 

مقدمة:

المحاماة رسالة انسانية نبيلة، تنمو وتتطور بتطور المجتمع، غايتها الدفاع عن سيادة القانون وحماية الحقوق والحريات داخل المجتمع، فارتفع بذلك شأنها حتى صارت سيدة المهن، واضحت ممارستها أكبر شرف وأعلى وسام يتمناه الجميع، ولذلك لا عجب أن تجد أشخاص عظماء عبر التاريخ تمنوا في حياتهم لو كانوا محامين، مثل المفكر الفرنسي فولتير، الذي أثر عنه أته قال:'' كنت أتمنى أن أكون محاميا، لأن المحاماة أجلَّ مهنة غي العالم...''، وملك فرنسا لويس الرابع، الذي قال: '' لو لم أكن ملكا لفرنسا لوددت أن أكون محاميا...''، وكذلك الملك الراحل الحسن الثاني الذي سؤل مرة لو لم تكونوا ملكا فماذا تريدوا أن تكونوا؟ فأجاب '' أن أكون محاميا...''.

إن مهنة المحاماة وإن كانت مهنة حرة ومستقلة كما تنطق بذلك النصوص المسنونة الناظمة لها، إلا أنها تتميز عن باقي المهن فهي من أجلِّ المهن وأشرفها على الاطلاق، لكونها ترمي الى تحقيق العدالة كمطلب مجتمعي أو كضرورة اجتماعية إن صح التعبير، بالمشاركة مع صنوها القضاء، باعتبارهما توأمين لأم واحدة كما يقال.[1]

إن المحاماة رسالة إنسانية اجتماعية وأخلاقية خالدة عبر التاريخ من أهم وأعظم أهدافها وغاياتها ومقاصدها النبيلة الدفاع عن حقوق الانسان وحرياته وتحقيق العدالة، وسيلتها في ذلك الالتزام التام بالأعراف والتقاليد والأخلاقيات المهنية التي منها تستمد سموها ونبلها ورفعتها وقوتها، هده الأعراف والتقاليد التي توارثها المحامون عبر التاريخ جيلا بعد جيل إلى أن وصلت إلينا والتي واكبت جميع مراحل تطور رسالة الدفاع مع صمودها وحفاظها على جوهرها ومقاصدها، فهي قبل أن تصبح واجبا قانونيا مجسدا على أرض الواقع من خلال القانون المنظم للمهنة، كانت واجبا دينيا وأخلاقيا يحترمه ويقدسه جميع المحامين ويلتزمون به وبما جاءت به تلك الأعراف، التي تجد سندها الشرعي في القسم العظيم الذي يؤذيه المحامي قيل مزاولته لمهامه والذي يعتبر ميلادا جديدا وبداية حياة جديدة  تسمو به وترفعه إلى أعلى المراتب المجتمعية.[2]

يتمثل دور المحامي عموما في مساعدة القضاء من أجل تحقيق العدالة فكما يقال:

 ''العدالة هي حوار بين قاض نزيه ومحام حر وأمين''، فهو رجل القانون الذي يقدم الاستشارة والمساعدة القانونية، ويقوم بتمثيل من يوكله للدفاع عنه أمام مختلف الجهات القضائية، مع ضمان الحفاظ على أسرار موكليه.

إن تحقيق المحاكمة العادلة تفرض على المجتمع أن بجعل من حقوقه الأساسية التي لا يجوز تفويتها من لدن أي كان، أمرين اثنين: الأول مرتبط بحق الفرد من المجتمع في العلم بماهية الأنشطة التي يعتبر إتيانها من طرفه جريمة، وحقه كذلك بالجزاء المقابل لإخلاله بتلك الضوابط، أما الأمر الثاني فمرتبط باعتبار كل شخص بريئا إلى أن تثبت إدانته أمام جهة قضائية، توفر فيها للمتهم أو الظنين كافة الضمانات، ابتداء من البحث إلى صدور حكم حائز لقوة الشيء المقضي به،[3] ومن أهم هذه الضمانات نجد الحق في الدفاع وتوكيل محامي للترافع عن المتهم أمام القضاء أو الجهة المختصة في النظر في الخصومة، الشيء الذي يبرز أهمية مهنة المحاماة ومكانتها في المنظومة القانونية وأسرة القضاء.[4]

وعليه يمكن ارجاع مبادئ الأمن القانوني إلى موضوعين أساسيين، أولهما المبادئ المتعلقة بأجهزة الدولة وعلى رأسها الجهاز القضائي وضمان استقلاليته ونزاهته، وثانيهما المبادئ المرتبطة بالمركز القانوني  للمتهم والضحية وتخص حقوق الدفاع والمساواة أمام المحاكم والعدل وفق القانون،

وبالتالي لا يتصور تحقيق أمن قضائي دون تمكين المتهم من حق الدفاع عن نفسه، كضمانة حقوقية تكفل له نذلك الحق قي الاستعانة بمحام للترافع والدفاع عنه أثناء محاكمته، على اعتبار أن المشرع المغربي عرف مهنة المحاماة بأنها '' مهنة حرة، مستقلة، تساعد القضاء، وتساهم في تحقيق العدالة، والمحامون بهذا الاعتبار جزء من أسرة القضاء''.[5]

وتحقيق الأمن القانوني مرهون بدفاع حر ومستقل، وعليه فإن ضمان حق الدفاع مرتبط بتحقيق الأمن القضائي الذي يشكل هذا الأخير مظهرا رئيسيا لسيادة القانون وترسيخ دولة الحق والقانون، وأساسا ضروريا لكافة احترام حقوق الانسان حال الاعتداء عليها[6]، لهذا يعتبر الأمن القانوني من المبادئ التي تنبني عليها دولة الحق والقانون في الدول الديموقراطية، والتي تعطيها أهمية داخل منظومتها السياسية خاصة في جانبها الحقوقي والإنساني، والمغرب من الدول الرائدة غي هذا المجال حيث سعى لملائمة منظومته التشريعية وفق ما تنص عليه المواثيق والمعاهدات الدولية، تكريسا لمقومات المحاكمة العادلة ضمانا للأمن القانوني وكذلك تفعيلا لدور المحامي في هذا الشأن سواء في بعده الدولي أو القانوني.

وهذا ما سنحاول معالجته من خلال إشكالية رئيسية تتجلى في '' ما مدى مساهمة مهنة الدفاع في تكريس الأمن القانوني والدفاع عن حقوق وحريات الافراد والمؤسسات؟ 

 ارتباطا بذلك، ولمقاربة الإشكالية المثارة أعلاه ارتأينا اعتماد تقسيم ثنائي، بحيث سنفرد (المطلب الأول) لبيان الإطار المفاهيمي لمبدأ الأمن القانوني ومقوماته، أما (المطلب الثاني) سنعرج على دور المحامي في تكريس الأمن القانوني وفق آخر التوجهات القضائية.

المطلب الأول: الإطار المفاهيمي لمبدأ الأمن القانوني ومقوماته

يعد مبدأ الأمن القانوني من أهم مرتكزات الأنظمة القانونية المعاصرة، إذ أن الغاية التي تنشدها هذه الأخيرة هي السعي إلى تحقيق أكبر قدر من الأمن القانوني. وعلى الرغم من أن الأمن القانوني يشكل ملامح دولة القانون، إلا أن غالبية التشريعات لم تنص على مبدأ الأمن القانوني ولم تعرفه، ومن بينها التشريع المغربي الذي اكتفى بالإشارة إلى بعض مقوماته وتجلياته الأساسية منها: مبدأ عدم رجعية القوانين ومبدأ المساواة أمام القانون المنصوص عليهما في الفصل 6 من الدستور. وسنحاول هنا تسليط الضوء على مفهوم الأمن القانوني فقهيا وقضائيا (الفقرة الأولى) وبعدها توضيح معظم المقومات التي تؤسس لهذا المبدأ (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى: مفهوم مبدأ الأمن القانوني

يعتبر الأمن القانوني من أكثر المفاهيم تداولا في المجالين القانوني والقضائي، لاسيما عندما يتعلق الأمر بتقييم نظام قانوني أو قضائي أو عند نقد مسار وضع القاعدة القانونية سواء من طرف المشرع أو من قبل الاجتهاد القضائي،[7]  وفكرة الأمن القانوني هي قديمة نسبيا وليست حديثة العهد، فقد تقررت فكرة الأمن القانوني أول مرة كمبدأ دستوري في سنة 1961 وكان ذلك من طرف المحكمة الدستورية الفدرالية الألمانية، ليأتي بعدها اعتراف محكمة العدل للمجموعة الأوروبية بهذا المبدأ في سنة 1962، ونفس النهج سلكته المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان بدءا من سنة 1981.

   وقد تعددت التعاريف التي أعطيت لمفهوم الأمن القانوني، فذهب البعض إلى القول بأن فكرة الأمن القانوني يقصد بها وجود نوع من الثبات النسبي للعلاقات القانونية وحد أدنى من الاستقرار للمراكز الناشئة عنها بغرض إشاعة الأمن والطمأنينة بين الأطراف المتعاقدة.[8]

وعرفه البعض الآخر بكونه ذلك ''المبدأ الذي يكفل للمواطنين سهولة معرفة ما يبيحه وما يمنعه القانون المطبق، وهو ما يتطلب أن تكون القواعد المقررة واضحة مفهومة وألا تتغير بشكل متكرر وغير متوقع''.[9]

   وهو نفس التعريف الذي أكده مجلس الدولة الفرنسي حيث جاء في تقرير له سنة 2006 أن: ''مبدأ الأمن القانوني يقتضي أن يكون المواطنون، دون كبير عناء، في مستوى تحديد ما هو مباح وما هو ممنوع من طرف القانون المطبق، وللوصول إلى هذه النتيجة، يتعين أن تكون القواعد المقررة واضحة، ومفهومة، وألا تخضع في الزمان إلى تغييرات متكررة أو غير متوقعة''.[10] كما أكدته المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، حيث اعتبرت أن القانون ليتحقق فيه الأمن يجب أن يكون ممكن الولوج ومتوقعا وواضحا.[11]

   ويتضح مما سبق أن الأمن القانوني شرط من شروط جودة القانون التي تضمن الأمن التعاقدي دون مفاجآت، وحسن تنفيذ الالتزامات والتحقيق الفعلي والدائم لأهداف المعنيين بالقانون، إذ أن الأمن القانوني يقضي أن كل شخص له الحق في استقرار القاعدة القانونية، وأن يكون في مأمن من التعديلات المفاجئة التي يمكنها أن توثر على استقرار العلاقات التعاقدية.[12]

    فمختلف التصرفات التي يجريها الناس في حياتهم اليومية تسفر عن تحديد مراكز قانونية خاصة بهم، وبقدر ما تكون هذه المراكز واضحة وخاضعة لحماية قانونية فعالة، بقدر ما تتم أعمال الناس بيسر وسهولة ويحظى القانون بثقتهم، وهذا بالضبط ما يسعى مبدأ الأمن القانوني إلى تحقيقه، أي إلى إكساب القانون ثقة المواطنين وحماية هذه الثقة، على اعتبار أن الأمن القانوني بالنسبة للمواطن يتجلى قبل كل شيء في حماية الثقة المشروعة.

    وعموما يمكن القول إن مبدأ الأمن القانوني في الوقت الراهن أصبح يشكل العمود الفقري للقاعدة القانونية، ما دام أنه لا حديث عن قيمة القاعدة القانونية إلا بالنظر إلى درجة استقرارها ومدى حمايتها للحقوق والأوضاع القانونية وما يستتبع ذلك من ثقة الناس في النظام القانوني ككل على نحو يمكن القول معه أن جوهر مبدأ الأمن القانوني هو عنصر الثقة المشروعة في القانون.[13]

الفقرة الثانية: المقومات الجوهرية لمبدأ الأمن القانوني

لكي يتحقق الأمن القانوني في المعاملات التي يجريها الناس ويتجسد على أرض الواقع، فإن الأمر يستدعي وجود مجموعة من الركائز والمقومات الأساسية التي تشكل دعامة الأمن القانوني، وهذه المقومات التي يجب توفرها في القاعدة القانونية كثيرة ومتعددة، لكننا سنتطرق هنا لبعضها فقط والتي نراها ذات أهمية بالغة، وهي كما يلي:

- عدم رجعية القوانين: وتقضي بأن النص القانوني لا يسري أثره على الماضي وإنما يسري فقط على المستقبل، ولا يحكم إلا الأفعال والمعاملات التي تمت بعد نشره ودخوله حيز التنفيذ بمعنى أن أي معاملة أجريت قبل دخول القانون الجديد حيز التنفيذ تبقى خاضعة ومؤطره بالقانون القديم – إلا استثناء –  لأن من شأن الأثر الرجعي للقانون أن يشعر الأفراد بعدم الارتياح والطمأنينة تجاه تصرفاتهم التي كانوا قد أنشأوها وفقا لقانون قديم وشملها الاستقرار، الأمر الذي سيؤدي في حالة تطبيق الأثر الرجعي للقانون إلى زعزعة تلك المعاملات وضياع مصالح الأفراد من خلال تغيير القانون الجديد من أحكام تلك المعاملات، هذا فضلا عن فقدان الثقة في القانون وعدم ارتياح الأفراد لأي قانون سواء كان قديما أو محتمل الصدور، ولتلافي كل هذه السلبيات تنص التشريعات الأساسية على عدم رجعية القانون، ومن ذلك ما نص عليه الفصل 6 من الدستور المغربي لسنة 2011 على أن '' القانون أسمى تعبير عن إرادة الأمة… وليس للقانون أثر رجعي''، كما نص على هذه القاعدة الفصل الرابع من مجموعة الق.ج.م عندما قال: '' لا يسوغ مؤاخذة أحد على فعل لم يكن جريمة بمقتضى القانون الذي كان ساريا وقت ارتكابه''.

- فكرة قابلية القانون للتوقع: قلنا بأن من بين أهداف مبدأ الأمن القانوني تحقيق الاستقرار النسبي (وليس المطلق) للقوانين، وبالنتيجة استقرار التصرفات القانونية، ولكن ذلك يجب أن يتم بالقدر الذي لا يحول دون مواكبة التطورات التي تعرفها الحياة[14]على جميع الأصعدة، فالقاعدة القانونية في النهاية، هي قاعدة اجتماعي،[15] وبالتالي يجب أن تساير تطور هذا المجتمع، إذ من غير المقبول استمرار قوانين بالية لا تتفق مع العصر واحتياجاته، لأن ذلك مظهر من مظاهر عدم الأمن والاستقرار القانوني. غير أن هذه المسايرة بدورها يجب أن تكون في الحدود الذي يستبعد عنصر التغيير المفاجئ للقوانين وخطر عدم استقرار المعاملات بين الأفراد وما يخلفه ذلك من انعدام للأمن القانوني أيضا، ولذلك غالبا ما يلجأ المشرع إلى إجراء أساسي يتمثل في نشر القانون الجديد وإشهاره في الجريدة الرسمية [16]ويعطي للأفراد مهلة الاطلاع الفعلي أو الافتراضي عليه حتى يكونوا على بينة من مضمونه، وذلك تفاديا لمباغتة الأفراد بقوانين لم تكن لهم دراية بها، وحتى يكون القانون الجديد في توقعات الأشخاص المعنيين به، وبالتالي تحقق شرط تطبيق قاعدة لا يعذر أحد بجهله القانون والرقي بها إلى المستوى المطلوب.

- ضرورة وضوح القاعدة القانونية وعدم تناقضها: وهذا الدور يناط في الغالب بالسلطة التشريعية صاحبة الاختصاص في سن القوانين، حيث يتعين عليها مراعاة جودة إعداد وتحرير النصوص القانونية بالقدر الذي يجعلها واضحة وسهلة الفهم والاستيعاب بالنسبة للأفراد المخاطبين بها، لأن غموض القاعدة القانونية يجعلها عرضة لتأويلات متهافتة ومتضاربة فيما بينها، الأمر الذي يتم استغلاله من قبل بعض الأفراد للسطو على حقوق الآخرين وتهديدها، ناهيك عن غياب التوازن في المراكز القانونية، فكثيرا ما تضيع حقوق الناس نتيجة ثغرة أو هفوة قانونية سقط فيها المشرع، ولذلك فالصياغة التشريعية الغير المرتبكة أو المعيبة للقاعدة القانونية لها دور فعال في تحقيق الأمن القانوني.

- وجوب أن تكون القاعدة القانونية نابعة من المجتمع: ما يلاحظ في الآونة الأخيرة على المشرع المغربي أنه يسن القوانين بنوع من التهافت، ويعتمد في معظم الأحيان في ذلك على تقنية النسخ عن التشريعات الأخرى وبشكل أساسي التشريع الفرنسي، مما طرح معه سؤال حول الأثر الاجتماعي للقانون الذي في الغالب لا يؤخذ بعين الاعتبار وبالتالي استمرار نفس المشاكل التي تؤثر على استقرار التصرفات القانونية، لأن القانون يجب أن يكون ابن بيئته، وتراعى فيه الشروط الموضوعية للمجتمع الذي سيؤطره، حتى يكون قادرا على توفير الأمن القانوني، فليست العبرة في كثرة التشريع وإنما في فاعلية هذا التشريع،[17] وعليه فإن الاعتراف من التشريعات المقارنة دون أي دراسة لمدى ملاءمتها للمجتمع المراد تنظيمه يعد من بين العوامل المؤثرة  على الأمن القانوني، ويجعلنا أمام مفارقة غير مقبولة تتمثل في التوفر على ترسانة قانونية مهمة تساير الدول المتقدمة، وفي المقابل هناك واقع مرير لا ينسجم البتة مع هذه القوانين، فأي أمن قانوني يمكن أن نتحدث عنه في ظل هذه المفارقة؟

   إن القاعدة القانونية يجب أن تنبعث من رحم المجتمع، وأن تحيط بخصوصيات البيئة التي يراد تطبيقها عليها، وهو ما يوجب على المشرع أن يضع القوانين بعد دراسة مستفيضة حول الموضوع الذي تنوي الوزارة التشريع فيه،[18] وطرح الفكرة مجردة على مختلف الفاعلين في القطاع المعني بالتشريع وطلب اقتراحاتهم وتصوراتهم، وهذه الدراسة والتشاور البيداغوجي الحقيقي هو الذي يسمح بوضع القوانين المقبولة والمناسبة، أما سياسة النسخ الجاهز عن القوانين الفرنسية، فهي طريق أثبت الواقع أنه ينتهي إلى الفشل.

- استقرار الاجتهاد القضائي: لا شك أن الاجتهاد القضائي له تأثير مباشر على مبدأ الأمن القانوني، ذلك أن الاجتهاد القضائي في جوهره تأويل للقاعدة القانونية المكتوبة،[19] ولذلك فإن استقرار الاجتهاد القضائي على تفسير معين للقاعدة القانونية يساهم في خدمة الأمن القانوني، وذلك من خلال الاطمئنان لاجتهاد قضائي تم التواتر عليه وأصبح ثابت ومستقر، ويتصرف الأفراد في ضوئه دون تخوف، ولكن يعيب البعض[20] على الاجتهاد القضائي تراجعه المفاجئ عن تأويله الثابت وتبني تأويل جديد للقاعدة القانونية، وهذا يشكل دائما في نظرهم مفاجأة للمعنيين بالقاعدة القضائية، وهذا الرأي يمكن نقضه بالقول أن الاجتهاد القضائي يشبه العرف من حيث طبيعة تكونه، إذ يحتاج إلى وقت طويل ليصبح الاجتهاد قاعدة مستقرة كما يحتاج إلى وقت طويل أيضا للتخلي عنه واستبداله[21] 

وهذا الثبات النسبي للاجتهاد القضائي يعد من أساسيات الأمن القانوني، ولكن بالمقابل لا ينبغي أن نجعل من الأمن القانوني مبدأ يفضي إلى منع المحاكم من تغيير  وتجديد اجتهاداتها بحجة احترامه، وهذا ما سبق أن قررته محكمة النقض الفرنسية في قرار لها جاء فيه أن: ” الأمن القانوني لا يمكن من الاعتداد بحق مكتسب بواسطة اجتهاد ثابت، لأن تطور الاجتهاد متروك للقاضي في تطبيقه للقانون''.[22]

وهناك من يرى أن المشكلة لا تتعلق باستقرار الاجتهاد القضائي في حد ذاته أو عدم استقراره، وإنما بجودة هذا الاجتهاد، لأنه قد يصدر قرارا قضائيا واحدا ولأول مرة ومع ذلك قد يحدث رجة قوية فيما يخص الأوضاع القانونية، كما أن تغيير الاجتهاد الرديء باجتهاد جيد أفضل من الاستقرار على الاجتهاد الرديء.

    وأعتقد أن خطـــــورة الاجتهاد القضائي على مبدأ الأمــــن القانوني تكمن أساسا فــــي صعوبــــة توقع الاجتهاد القضائي من قبل الأفراد الذين يلجؤون إلى القضاء، إذ مهما طال اعتماد القضاء على قاعدة اجتهادية معينة، فليس هناك ما يمنع القاضي من تبني اجتهاد آخر يراه الأنسب لتطبيقه على وقائع القضية المعروضة عليه، فالقاضي في هذا السياق يتمتع بسلطة تقديرية في تأويل القاعدة القانونية، ويمكن لعنصر جزئي بسيط يتضمنه ملف المنازعة أن يغير من قناعات القاضي ويدفعه إلى اعتناق اجتهاد آخر جديد.

    فكثرة النصوص القانونية لم تؤد إلى تقليص نسبة عدم الأمن القانوني كما راهن على ذلك المشرع، بل ولدت كثرة الآراء الفقهية والاجتهادات القضائية، حتى أصبحت تصرفات الأفراد في بعض الحالات رهينة من حيث موافقتها للقاعدة القانونية التي اعتقد أنه فهمها فهما صحيحا بالتفسيرات القضائية.[23]

-  المساواة أمام القانون: ويصطلح عليها في كتب القانون بعبارة” القاعدة القانونية عامة ومجردة ''[24]، ومعنى ذلك أن خطابها، أي القاعدة القانونية، موجه إلى كل الأشخاص الذين تتوفر فيهم شروط انطباقها، وليس موجها إلى شخص أو واقعة معينة بذاتها، وذلك حرصا منها على تحقيق المساواة والعدالة بين الأفراد المخاطبين بحكم القانون، لأن القاعدة القانونية التي لا تضمن للأفراد هذه المساواة لا يمكنها أن تعضد ثقة المواطنين فيها أو يطمئنوا إليها في ضمان حقوقهم واستقرار معاملاتهم.[25]

المطلب الثاني: دور المحامي في تكريس الأمن القانوني وفق آخر التوجهات القضائية.

الفقرة الأولى: واجبات المحامي القانونية والأخلاقية ودوره في الدفاع عن الحقوق والحريات

    لا شك أن للمحامي واجبات، ولسنا نجانب الصواب إذا قلنا إن المحاماة هي مهنة الواجب، الذي ينبغي أن نقوم به لأنه واجب، فهو غاية في ذاته حسب تصور الفيلسوف الألماني إيمانويل كانطImmanuel kant (1724ـ 1804)، ومن هنا فإننا يمكن أن نفكر في بعد أخلاقي متعال يحيط بهذه المهنة، لكن هذا البعد نجده أيضا مؤطرا في القانون وفي الأعراف والتقاليد المهنيّة للمحاماة، وهكذا فإننا نجد القانون رقم 28.08 المتعلق بمهنة المحاماة قد خصص الباب الرابع لواجبات المحامين، وقد حــدد هذه الواجبات في أربع مسائل:

الأولى تتعلق بالتشبث بالوقار والسر المهني، والثانية بالعلاقة مع المحاكم، والثالثة بالمساعدة القضائية، والرابعة بالعلاقة مع الموكلين، والخامسة بحسابات المحامي. وعند قراءة الفصول المتعلقة بواجبات المحامين نجــــد أنفســـــنا أمام واجبات تفرضها مهنــــــــة المحاماة بحكــــم طبيعتها وظــــروف اشتغال ممارسيها، ويمكن أن نجتهد ونحدد أهم واجبات المحامين انطلاقا من فصول القانون رقم 28.08 فيما يلي:

1 ـ عدم استمالة الأشخاص بأي طريقة بما فيها الإشهار؛

2 ـ المحافظة على السر المهني؛

3 ـ عدم التوقف عن تقديم المساعدة الواجبة للقضاء؛

4 ـ عدم الامتناع عن تقديم المساعدة القضائية لكل متقاض يتمتع بها؛

5 ـ استقبال الموكلين في المكتب المهني وحثهم على الصلح قبل اللجوء إلى القضاء؛

6 ـ إخبار الموكلين بمراحل سير الدعوى وإجراءاتها وما يصدر فيها من أحكام ومن طعون؛

7 ـ المحافظة على وثائق الموكلين طيلة خمس سنوات؛



[1] - عبد الله درميش، مقومات مهنة المحاماة في تقاليدها وأعرافها وأذابها، مقال منشور بالمجلة المغربية لقانون واقتصاد التنمية، العدد 25، الخاص بالمهن القانونية الحرة، سنة 1991، ص 12.

[2] -حسوني محمد أمين، رسالة المحاماة والتحول الرقمي، تحديات وافاق، منشور بالجريدة الإلكترونية مغرب القانون، 18 يونيو 2022، ص 1.

[3] - إبراهيم زعيم، السياسة الجنائية المغربية في اطار الجريمة المتلبس بها، مقال منشور بمجلة المحامي، العدد 41، تالريه الإصدار يوليوز 2002، الكطبعة الوطنية بمراكش، ص 15.

[4] - الحسين الزياخ، حق الدفاع ودور المحامي في تحقيق المجاكمة العادلة بين المواثيق الدولية والتشريعات الوطنية، مجلة مغرب القانون، بتاريه 8 يونبو 2022، ص 2.

[5] - المادة 1 من القانون المنظم لمهنة المحاماة بالمفرب رقم 08.28، الصادر بتنفيذه الذهير الشريف رقن 1.08.101، وتاريخ 2 شوال 1429 الموافق ل 20 أكتوبر 2008، والمنشور بالجريدة الرسمية تحت رقم 5680، وتاريخ 6 نونبر 2008.

[6] حياة حجي، استقلال المحاماة بين تجليات المبدأ والعراقيل التي تحد من فعالياته، مقال منشور بالمجلة المغربية لقانون الاعمال والمقاولات، عدد مزدوج 17و 18، صادر بتاريخ يناير 2011، كطيعة النجاح الجديدة بالدار البيضاء، ص 98.

[7] - عبد المجيد غميجة: مبدأ الأمن القانوني وضرورة الأمن القضائي، عرض مقدم في إطار الندوة المنظمة من طرف الودادية الحسنية للقضاة بمناسبة المؤتمر الثالث عشر للمجموعة الإفريقية للاتحاد العالمي للقضاة، الدار البيضاء 28 مارس 2008، ص:1.

[8] - راتب الوزني: الأمن القانوني في الاجتهاد القضائي الأردني، المؤتمر الثاني لرؤساء المحاكم العليا في الدول العربية، دفاتر محكمة النقض، العدد 19، سبتمبر 2011، ص: 36.

[9] - ابتسام عبروق: الأمن القانوني والقضائي على ضوء تجربة محكمة النقض، بحث نهاية التمرين الفوج 39 من الملحقين القضائيين، السنة القضائية 2013/2015، ص: 23.

[10] - عبد المجيد غميجة: المرجع السابق، ص:7.

[11] - ابتسام عبروق: المرجع السابق، ص:24.

[12] - عبد المجيد لخذاري، فطيمة بن جدو: الأمن القانوني والأمن القضائي، علاقة تكامل، مجلة الشهاب عدد 2 جوان 2018م، ص: 388.

[13] -  عبد الرحمان اللمتوني: الاجتهاد القضائي والأمن القانوني، مجلة الملحق القضائي، ص: 10.  راجع كذلك، إدريس بن المحجوب: دور المجلس الأعلى في التوحيد وتحقيق الأمن القانوني، مجلة الحقوق المغربية، العدد8، سنة 2009، ص: 73.

 

[14] - راتب الوزني: الأمن القانوني في الاجتهاد القضائي الأردني، المؤتمر الثاني لرؤساء المحاكم العليا في الدول العربية، دفاتر محكمة النقض، العدد 19، سبتمبر 2011، ص: 36.

[15]  – فدوا بنبنعيسىالأمن القانوني كضمان لحماية الحقوق والحريات الإنسانية، المجلة المغربية للحكامة القانونية والقضائية، العدد السادس 2019، ص:28.

[16]  – تعتبر الجريدة الرسمية للمملكة المغربية هي الوسيلة الشائعة لنشر القانون، وكان في السابق يطرح إشكال أساسي يتمثل في عدم إطلاع الأفراد على الجريدة الرسمية الأمر الذي يفضي إلى عدم العلم بالقانون المنشور في الجريدة الرسمية، غير أنه مع الثورة المعلوماتية التي يشهدها العالم وزخم المعرفة الذي ساهمت فيه، فقد أصبح هذا الإشكال شبه موجود اليوم.

[17] - فبخصوص توثيق التصرفات العقارية مثلا كان بالإمكان الاقتصار على الإشارة إلى مقتضيات المادة 4 من مدونة الحقوق العينية بدلا عن المادة 12 من قانون 00/18 المتعلق ببيع الشقق في إطار الملكية المشتركة، ثم هناك المادة 618 من القانون 00/44 المتعلق ببيع العقار في طور الانجاز المعدل والمتمم بالقانون رقم 12/107، ثم المادة 5 من قانون 00/51 المتعلق بالإيجار المفضي إلى تملك العقار، إضافة إلى المادة 274 من مدونة الحقوق العينية. محمد محروك: إشكالية صياغة التشريع في القانون المغربي، ص: 290.

[18] - فدوا بنبنعيسى: المرجع السابق، ص:27.

[19] - عبد المجيد عميجة: المرجع السابق، ص:19.

[20] – J.L. Aubert: Introduction au droit et themes fondamentaux du droit civil,5èmeèdi, Armand colin, 1992, p: 170-171.

[21] - عبد الرحمان اللمتوني، المرجع السابق، ص: 14.

[22] -  قرار الغرفة الأولى بمحكمة النقض الفرنسية، الغرفة المدنية، صادر بتاريخ 21 مارس 2000، أورده عبد المجيد غميجة، المرجع السابق، ص: 20.

[23] سفيان ادريوش: الأمن القانوني في المجال العقاري، مقال منشور ضمن أشغال الندوة الوطنية المنظمة يومي 25 و26 نونبر 2016 بعنوان: العقار والتعمير والاستثمار.

[24]  – راجع في ذلك مؤلفات المدخل لدراسة القانون.

[25]- R. SAVATIER: L inflation legislative et indigestion du crops, social, chorn, 1977, p: 43.

 

من أجل تحميل هذا المقال كاملا - إضغط هنا أو أسفله على الصورة

قانونك



من أجل تحميل هذا العدد التاسع عشر - إضغط هنا أو أسفاه على الصورة

مجلة قانونك - العدد الثالث