حرية البنك في مجال منح الائتمان - شوقي كوتار





حرية البنك في مجال منح الائتمان

شوقي كوتار

دكتور في القانون الخاص، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية ابن زهر أكادير

 

The freedom of the banker in terms of credit

Chawki KOUTAR

 

ملخص: تزاول البنوك العديد من الأنشطة البنكية التي يصعب حصرها، ومن بينها عمليات توزيع الائتمان التي تكتسي أهمية قصوى بالنظر إلى دورها الجوهري في الاقتصاد الوطني ولما تدره من ربح مضطرد، وأيضا لجسامة المخاطر المترتبة عنها، وشراهة الزبناء في الإقبال عليها، وتتمتع في هذا الشأن  بهامش كبير من الحرية، بحيث يبقى لها القرار الأخير في انتقاء الزبناء المناسبين لسياساتها التجارية ومنحهم الائتمان المناسب لحاجياتهم، كما لها كامل الحرية في رفض منح الائتمان لزبون معين، لكن قد يؤدي هذا الرفض إلى إلحاق الضرر بالزبون، لا سيما إذا تعلق الأمر بمقاولة تمر بظروف صعبة، وهو ما يطرح التساؤل حول حدود حرية البنوك في ممارسة سلطتها في رفض منح الائتمان، وما إذا كان من شأن ذلك أن يشكل خطأ موجبا للمسؤولية.

 

Summary: Banks carry out many banking activities that are difficult to enumerate, including credit distribution operations, which are of paramount importance given their essential role in the national economy and the regular profits they generate, as well as the seriousness of the risks that arise, and voracious customer demand. In this regard, they enjoy a large margin of freedom, so that they have the final decision to select the customers appropriate to their commercial policies and grant them credit adapted to their needs. also has complete freedom to refuse to grant credit to a specific customer, but this refusal can cause harm to the customer, especially if it is a company going through a difficult situation, which raises the question of limits on the freedom of banks to exercise their power to refuse to grant credit, and whether this would constitute an error engaging their liability.

مقدمة

عرف النشاط البنكي عرف تطورا كبيرا في الوقت الحالي بعد أن صارت تحتكره مقاولات كبرى توظف إمكانات مالية ضخمة وتستعمل تجهيزات وتقنيات ووسائل حديثة أسفرت عنها الثورة التكنولوجية التي جعلتها تستبدل الكثير من خدماتها وعملياتها التقليدية بأخرى متطورة ترتكز على تقنيات الذكاء الاصطناعي، وهكذا واعتبارا لأهميته، فإن ممارسته لم تعد تتصور سوى في شكل احترافي منظم داخل إطار قانوني تبسط عليه الجهات المختصة مراقبتها.

وعموما، فإن معظم التحولات التي طالت النشاط البنكي في العقود الأخيرة، اتجهت أساسا إلى دمقرطة البنك أو تيسير حق الولوج إلى الائتمان، وذلك بجعل البنك رهن إشارة شريحة كبيرة من المستفيدين وتوجيه خدماته لأكبر عدد من الزبناء، وقد شملت تلك التحولات أيضا مفهوم المخاطر وسياسة وتقنيات توزيع الائتمان، وكذا دور البنوك في تشجيع الوحدات الإنتاجية ومساعدة المؤسسات التي تعاني من الصعوبات[1].

لذا فإن الائتمان أصبح يحمل بين طياته دورا إيجابيا في الاقتصاد، فكلما زاد حجمه وتم توظيفه بطريقة سليمة، تحققت التنمية وتقدم الاقتصاد، ولا شك أن ذلك يعود بالنفع على الدولة بكل مكوناتها، وفي المقابل إذا تمت إساءة استعماله، فقد يترتب عن ذلك عواقب وخيمة على المنظومة الاقتصادية، فالائتمان قد يكون مصدرا للازدهار والتقدم كما قد يكون مصدرا للانهيار والانكماش وزيادة التضخم، لذلك تحاول السلطات النقدية في البلاد التحكم فيه عن طريق مجموعة من القواعد الاحترازية حماية للادخار العام ولحقوق الزبناء[2].

وزيادة على الأهمية التي تكتسيها عمليات الائتمان في الاقتصاد الوطني عموما، فإنها تتبوأ مكان الصدارة وتحتل أهمية بالغة في العمل البنكي، وفي هذا الإطار ذهب أحد الباحثين[3] إلى القول إنه بالرغم من قيمة الإيداع في مزاولة البنوك لنشاطها، فإنه لا يعدو أن يكون وسيلة تلجأ لها البنوك لمواجهة عملياتها الائتمانية التي تعد الغاية الرئيسية من نشأتها[4].

وتتمتع البنوك في ممارسة وظيفة توزيع الائتمان  بهامش كبير من الحرية، بحيث يبقى لها القرار الأخير في انتقاء الزبناء المناسبين لسياساتها التجارية ومنحهم الائتمان المناسب لحاجياتهم، كما لها كامل الحرية في رفض منح الائتمان لزبون معين، لكن قد يؤدي هذا الرفض إلى إلحاق الضرر بالزبون، لا سيما إذا تعلق الأمر بمقاولة تمر بظروف صعبة، وهو ما يطرح التساؤل حول حدود حرية البنوك في ممارسة سلطتها في رفض منح الائتمان، وما إذا كان من شأن ذلك أن يشكل خطأ موجبا للمسؤولية.

الفقرة الأولى: الإطار المفاهيمي للائتمان البنكي

سنسلط الضوء من خلال هذه النقطة على مسألتين تعتبران مدخلا للموضوع، وتتعلقان على التوالي بمفهوم الائتمان وخصوصياته، ثم وظيفة الائتمان ومخاطره.

أولا: مفهوم الائتمان البنكي وخصوصياته

تجدر الإشارة بداية إلى أن محاولة وضع تعريف محدد للائتمان يعد أمرا لا يخلو من صعوبة، فلا الباحثون تمكنوا من الاتفاق على مفهوم موحد له، ولا القوانين توفقت في وضع تعريف يحظى بالإجماع، ولعل ذلك راجع لاختلاف في زاوية الرؤية التي ينظر من خلالها لخدمة الائتمان.

وعليه، حاول جانب من الفقه الفرنسي[5] تعريفه بأنه انتقال مؤقت لرأس المال من طرف لآخر مع التزام المستفيد بإرجاعه في وقت لاحق، في حين اختزل جانب آخر من الفقه[6] مفهوم الائتمان في اعتباره سدادا آجلا لمبلغ من النقود.

 هذا وعرفه البعض الآخر[7] على أنه الثقة التي يمنحها الدائن للمدين وذلك الاعتقاد الذي يسود لدى الدائن أو الشعور بالاطمئنان الذي يخالجه فيما يخص قدرة المدين على الوفاء بما التزم به في ميعاد الاستحقاق.

وهو كذلك حسب إحدى الدراسات[8] تلك الثقة التي بمقتضاها يرتضي أحد طرفي العقد إعطاء المتعاقد الآخر، سواء حالا أو بعد وقت محدد، أداء معينا، على شكل رؤوس أموال نقدية أو شكل آخر لمساعدته أو السماح له بتحقيق نفع معين خلال مدة معينة، وتزداد هذه الثقة وتتعزز كلما اقترنت بضمان خاص.

ويتسع مفهوم الائتمان على النحو المذكور أعلاه، ليشمل العمليات الائتمانية التي تباشرها البنوك وتلك التي يباشرها بشكل عرضي كل شخص لا يعتبر مؤسسة ائتمان في نظر القانون، وهذه الأخيرة لا تهمنا لارتباط موضوعنا بالائتمان الذي توزعه البنوك على زبنائها، حيث يكمن دور البنك هنا في تمكين المستفيد من الائتمان، من وسائل يستعملها في الوفاء بالتزاماته تجاه الغير، أو الحصول على أجل أو على ثقة هذا الغير عن طريق تدخل البنك كطرف ثالث في العلاقة[9].

أمام بخصوص التعريف التشريعي، فبالرجوع إلى القانون رقم 103.12 المتعلق بمؤسسات الائتمان والهيئات المعتبرة في حكمها، نجد أن المادة الثالثة منه عرفت عمليات الائتمان بأنها كل تصرف بعوض يقوم بمقتضاه شخص من الأشخاص بوضع أموال أو الالتزام بوضعها رهن تصرف شخص آخر يكون ملزما بإرجاعها، أو الالتزام لمصلحة شخص آخر عن طريق التوقيع في شكل ضمان احتياطي أو كفالة أو أي ضمان آخر[10].

كما اعتبرت المادة المذكورة، أنه يدخل في حكم عمليات الائتمان، العمليات المتعلقة بالائتمان الإيجاري والإيجار التي يكون فيها للمستأجر خيار شراء العين المؤجرة والعمليات المعتبرة في حكمها، وعمليات شراء الفاتورات، وعمليات البيع الاستردادي للأوراق والقيم المنقولة، وكذا عمليات الاستحفاظ كما هو منصوص عليها في التشريع الجاري به العمل[11].

ولعل ما يلاحظ من خلال المادة المذكورة، أن المشرع لم يكتف بتعريف عمليات الائتمان التي يمكن للبنوك تقديمها للزبناء، بل صنفها إلى نوعين يهم النوع الأول عمليات الائتمان الأصلية أو لذاتها، ويتعلق النوع الثاني بعمليات تعتبر في حكم الائتمان البنكي.

غير أنه وعلى الرغم من الحمولة التي تزخــــر بها هذه المادة في تحديد عمليات الائتـــــمان، فإنها لم تشمل جميع العمليات، ويرجع السبب وراء ذلك إلى التطور المستمـــر للعمل البنكي فـــــي مجال الائتمان، حيث تحاول البنوك تطوير وابتكار وتجديد صور الائتمان باستمرار لمواجهة ضغط الطلب عليه والذي يتزايد يوما بعد يوم[12].

وفيما يتعلق بخصوصيات عمليات الائتمان، لابد من الإشارة إلى أنــــــها وإن كانت تتسم بالتعدد والتنوع فهناك قواسم مشتركــــــــة تجمع فيما بينها وتميزها عن غيرها من الأنشطة، منها أنــــــها وليدة أعراف وعادات تم تكريــــــــــس بعضها في نصــــــــوص تشريعية، ناهيك عن أن القـــــــــضاء ساهم بقــــدر كبيــــــر في تكريسها، وتتميز كذلك، بقيامها على عنصري الثقة والاعتبار الشخصي اللذيــــــــن ينعكسان بشكــــــــــل واضح على منح الائتمان للزبناء، بحكم أن الثقــــــــــة المتبادلة هي أساس العلاقة بين البنـــــــــك وهؤلاء، مما يجعل كلا منهما يقبل التعاقد مع الآخر، وهما مناط تحديد الالتزامات المتبادلة بين الطرفيين ومسؤولية كل منهما.

وعلاوة على ما سبق، تمتاز عمليات الائتمان بكونها ذات طابع نمطي، إذ أن معظمها يتم بأسلوب موحد في شكل نموذج أو صيغة تعاقدية يضعها البنك سلفا لكل عملياته ويلتزم بها في تعامله مع زبنائه[13]، وأنها تجارية بنص القانون[14]، وتؤدي ممارستها على سبيل الاعتياد إلى اكتساب صفة مؤسسة ائتمان[15] بما تتضمنه هذه التسمية من أنواع يبقى من أهمها البنوك، وهذا يجعلها تنضم إلى طائفة مهنية معينة تخضع لتنظيم معين يلقي بظلاله على ظروف ممارستها لأنشطتها.

ثانيا: وظيفة ومخاطر الائتمان البنكي

تلعب البنوك دورا حيويا في مجال توزيع الائتمان وتقديم مختلف أنواع الدعم المالي لزبنائها بمختلف أنواعهم، وتمارس نشاطها هذا داخل الإطار القانوني الذي يخول لها إدارة ووضع جميع وسائل الأداء رهن إشارة زبنائها مع التقيد بكل التدابير المصاحبة لهذه الوظيفة. وتعد مزاولة وظيفة الائتمان حكرا على مؤسسات معينة يلزمها القانون باتخاذ شكل قانوني محدد، بالإضافة إلى مجموعة من الشروط الأخرى، بل ولا تكتسب صفة مؤسسة ائتمان إلا بممارسة عمليات الائتمان على وجه الاحتراف والاعتياد[16]، وهذا يبرز تميز الإطار القانوني لأنشطة هذه المؤسسات وانفرادها بخاصية المهنية.

ويتجلى الائتمان الذي تمنحه المؤسسات البنكية إما في تقديم البنك للزبون أو لأي شخص آخر قد يعينه هذا الزبون فورا أو خلال أجل محدد نقودا أو أدوات أخرى للوفاء، وإما في تعهد هذا البنك بتقديم النقود أو أدوات الوفاء الأخرى المذكورة، للزبون أو الغير من دائنيه، والكل مقابل التزام هذا الزبون بدفع عمولة أو فائدة للبنك المانح وبرد المبالغ التي سلمت إليه في هذا الإطار[17].

ويصنف الائتمان إلى مباشر وغير مباشر، بحيث يتعلق الائتمان المباشر بالحالة التي يلتزم فيها البنك بإقراض مبلغ معين من المال للزبون أو بتعهده إما بجعل هذا المبلغ رهن إشارة الزبون لسحبه في أي وقت يشاء، وإما بجعله رهن إشارة دائن الزبون الذي يمكنه سحبه متى أدلى بما يثبت أنه وفى بالتزامه إزاء هذا الزبون، أما الائتمان غير المباشر، فهو الذي لا يتجاوز فيه البنك مجرد التزامه بتوقيع ضمانة أو كفالة للزبون[18].

ولا تفوتنا الإشارة في هذا الصدد، إلى ما تنطوي عليه عمليات الائتمان من مخاطر متعددة ومتنوعة، تتمثل في فرضية عدم قدرة المستفيدين على سداد أقساط الدين، وكذا مخاطر العمليات موضوع التمويل، وتلك الناشئة عن الظروف الاقتصادية والسياسية السائدة، ثم المخاطر التي يمكن أن تنجم عن الخطأ في تقديم الائتمان، وهي مخاطر في مجملها يصعب التنبؤ بها، لذلك تجد البنوك نفسها مضطرة لمواجهة كل المخاطر المحتملة، وبطبيعة الحال، فإن الوسيلة الأمثل للتصدي لها هي الحصول على الضمانات الكافية لتأمين مصالحها[19].

وإذا كان لعمليات الائتمان البنكي مكانة وأهمية كبرى في نشاط المؤسسات البنكية، فإنها في المقابل تعتبر عصب الحياة بالنسبة للفاعلين الاقتصاديين، والحاجة إليها تتسم بالاستمرار كما تظل قائمة مادام المشروع مستمرا في النشاط، ذلك أن المقاولة لا تستطيع مواجهة جميع حاجياتها اللازمة لإنجاز جميع معاملاتها بإمكانياتها الخاصة وتمويلها الذاتي، لا سيما في ظل بيئة تجارية تطغى عليها المقاولات الصغرى والمتوسطة، وبالتالي تجد نفسها مضطرة للجوء إلى الائتمان البنكي الذي يعزز ثقة المتعاملين فيها، ويوفر لها آلية مباشرة لإنجاز أكبر قدر من العمليات التجارية وتنمية نشاطها.

هكذا إذن، تتضح مدى أهمية الدور الذي يلعبه البنك مانح الائتمان في مساعدة المقاولات على تنفيذ عملياتها التجارية، علما أن هذه الوظيفة لا تخلو كما سبقت الإشارة إلى ذلك من المخاطر المتمثلة من جهة أولى، في احتمال خسارة البنك لأمواله وعدم إمكانية استردادها.

 ومن جهة ثانية، في الانعكاسات السلبية للائتمان البنكي على المقاولة المستفيدة منه ودائنيها في حالة عدم تقيد البنك بقواعد الحيطة والحذر الملازمة لعمليات توزيع الائتمان، والتي لا تعتبر واجبات لذاتها وإنما لكونها مرتبطة بوظيفة البنك، ولكون أساسها ومضمونها يتحدد في ضوء فكرة الأخطار الملازمة لعمليات الائتمان البنكي بصفة عامة[20].

ولما كانت حاجة المقاولات للائتمان مستمرة وفي تزايد حتى وهي في أحسن الظروف، فإن هذه الحاجة تشتد كلما تعرضت المقاولة لصعوبات ترتب عنها اختلال توازنها المالي، بحيث تصبح مهددة بالانهيار، لذلك كان المشرع واعيا مبدئيا بأهمية التدخل البنكي في الحفاظ على استمرارية نشاط المقاولة التي تواجه أزمة مالية، لاسيما وأن هذه الأخيرة تلعب دورا أساسيا في إرساء البناء الاقتصادي وترسيخ الدعائم الحقيقية للاستقرار الاجتماعي.

وفي هذا الإطار، المشرع بادر إلى سن نظام خاص بالصعوبات التي تعترض المقاولات من خلال مدونة التجارة الصادرة سنة 1996 والتي تم تعديلها وتتميمها[21] بمقتضى القانون رقم 73.17 الصادر سنة 2018[22] القاضي بنسخ وتعويض الكتاب الخامس المتعلق بإجراءات الوقاية والمعالجة من صعوبات المقاولة[23]، بموجبه تم تمتيع البنوك التي تنخرط في مخططات دعم المقاولات موضوع صعوبات المقاولة بوضعية خاصة تجعلها تحظى بامتيازات متقدمة مقارنة مع باقي الدائنين.

الفقرة الثانية: حرية البنك في مجال منح الائتمان

تتمتع البنوك بهامش كبير من الحرية في توزيع الائتمان بحيث يبقى لها القرار الأخير في انتقاء الزبناء المناسبين لسياساتها التجارية ومنحهم الائتمان المناسب لحاجياتهم، كما لها كامل الحرية في رفض منح الائتمان لزبون معين، لكن قد يؤدي هذا الرفض إلى إلحاق الضرر بالزبون، لا سيما إذا تعلق الأمر بمقاولة تمر بظروف صعبة، وهو ما يطرح التساؤل حول حدود حرية البنوك في ممارسة سلطتها في رفض منح الائتمان.

أولا: موقف الفقه من حرية البنك في منح الائتمان

تقوم عمليات الائتمان بصفة عامة على عنصري الاعتبار الشخصي والثقة نظرا لأن الاعتبارات المتعلقة بشخص الزبون هي التي تدفع البنك إلى الثقة فيه والتعاقد معه في إطار عقد من عقود الائتمان، فشخصية الزبون هي التي تجعله جديرا بالثقة، ولهذا السبب يقوم البنك عادة بالاستعلام عن الزبون الراغب في التعاقد معه قبل اتخاذ القرار المناسب بشأن منح الائتمان[24]، ومن هنا يحق لنا التساؤل حول حدود حرية البنك في رفض أو قبول التعاقد وأساس هذا الحق.

جوابا على هذا التساؤل، استند جانب من الفقه[25] إلى القواعد العامة لتبرير الحرية المطلقة للبنك في رفض منح الائتمان من الناحية القانونية، حيث اعتبر أن الرفض هو إعمال لمبدأ سلطان الإرادة الذي يعطي للبنك الحرية في التعاقد من عدمه، وبالتالي يحق له رفض منح الائتمان.

أما مــن الناحـــــــــية الاقتصاديـــــــة، فإن حرية البنـــــــــك في التعاقــــــــد تجـــــد مبرراتها في أن هذا الأخير يعـــــــد تاجرا سلعته النقود، ينتظر منــــــــــه الحفاظ على ودائــــــــــع عملائه من تعرضها للمخاطـــــر، وهو ما يفرض عليــــه التمسك بحقه المطلق في رفض التعاقد[26]، فهو يخشى أن يؤدي التساهل في منح الائتمان إلى عجزه عن الاستجابة لطلبات المودعين الرامية إلى استرداد الودائع، كما أن هناك اعتبارات اقتصادية أخرى تتحكم في توزيع البنوك للائتمان مناطها تدخل الدولة عن طريق أجهزتها المشرفة على القطاع البنكي في تحديد سياسة توزيع الائتمان بتحكمها في أسعار الفائدة والعمولات ضمن القواعد الاحترازية المتعلقة بتوزيع الائتمان[27].

وتمسك فريق آخر[28] بتقييد حرية البنك في ممارسة حق رفض الائتمان مستندا إلى فكرة مفادها أن البنوك تمارس وظيفة تدخل في إطار المرفق العام، ذلك أن هذه الأخيرة تحتكر ممارسة النشاط البنكي وتحظى بتنظيم واهتمام من قبل الجهات التي أوكل لها المشرع مهمة مراقبة نشاطها، وهو ما يقتضي من حيث المبدأ، المساواة بين جميع الزبناء سواء كانوا طبيعيين أو معنويين في الاستفادة من الائتمان الذي تقدمه البنوك لفائدة الاقتصاد الوطني، لا سيما وأن البنك لا يستخدم سوى أموال المودعين بالدرجة الأولى [29]،

ويضيف أصحاب هذا الرأي أن ربط الحق في الائتمان بالمرفق العام سيرتب نتائج إيجابية من قبيل محاربة الفقر والهشاشة والإقصاء الاجتماعي وسيادة العدل في المجتمع واستقراره، وهي أهداف لا يقدر على تحقيقها إلا المرفق العام.

ولم تلق فكرة المرفق العام نجاحا لدى بعض الفقه[30] بسبب ارتكازها على مبررات منتقدة من جملتها أن توزيع الائتمان ليس خدمة عامة، كما أن البنوك لا تعتبر مرافق عامة، لأن هذه الأخيرة تتميز بخضوعها للوصاية الإدارية وهو ما لا يمكن تصوره بالنسبة للبنوك، فليس للسلطة الإدارية إلزام البنك بمنح الائتمان لشخص معين أو الامتناع عن ذلك، فالقرار دائما يعود للبنك، ثم إن امتياز السلطة العامة والمخول للمرافق العمومية ليس مخولا للبنوك فهي تباشر نشاطها كما يباشره التجار، ويجوز الحجز على أموالها وتخضع في علاقتها بالغير للقانون الخاص والقواعد المهنية، وإذا كانت السلطات المختصة تراقب البنوك وتنظم نشاطها فذلك راجع لأهمية النشاط البنكي وتأثيره في الاقتصاد الوطني[31].

ثانيا: موقف التشريع والقضاء من حرية البنك في منح الائتمان

لم يرد في القانون البنكي الجديد رقم 103.12 لسنة 2015 أي مقتضى بخصوص الحق في الائتمان على غرار الحق في الحساب الذي أقرته المادة 150 من القانون المذكور، بل ترك الأمر للبنوك التي لها كامل الحرية في دراسة طلبات الائتمان والاستجابة لها أو رفضها من غير أن تخضع في ذلك لأي رقابة من طرف السلطات النقدية أو الحكومية وكذا المهنية، حيث يدخل ذلك في إطار احترام مبدأ الاعتبار الشخصي والثقة المميزين لعلاقة البنوك بزبنائها وكذا اعتبارا للمخاطر التي تحف بالائتمان وحجم المسؤولية التي يمكن أن تترتب عنه[32].

أما على مستوى القضاء، فقد كرست محكمة النقض الفرنسية حق البنك في رفض منح الائتمان من خلال قرارها الذي أكد بأنه لا وجود لمبدأ يخول الحق في الائتمان، بل إن البنك له أن يرفض طلب الائتمان دون أن يكون مجبرا على تعليل قرار الرفض[33].

كما أكدت المحكمة المذكورة في أحد قرارتها المبدئية المؤرخة في 9 أكتوبر 2006[34]، على أن البنك حر في اتخاذ قرار قبول منح الائتمان أو رفضه كيفما كان نوعه، دون أن يعلل قراره الذي يدخل في إطار سلطته التقديرية، باستثناء إذا ثبت أنه التزم مسبقا بمنح الائتمان، وهو نفس الموقف الذي اتخذه أبرز رواد الفقه الفرنسي[35]، إذ اعتبروا أن انتزاع حق رفض الائتمان من البنوك يعتبر بمثابة تراجع عن فكرة الاعتبار الشخصي التي يقوم عليها الائتمان، فليس من العدل إجبار البنك على التعاقد مع زبون لا يثق فيه.



[1] - لا يخفى على أحد مقدار الاهتمام الذي أصبحت توليه معظم الدول للمقاولة سواء من حيث حمايتها والنهوض بها، أو من حيث العمل على تمكينها بمقومات النجاعة كي تتلاءم أوضاعها مع التحولات التي يعرفها المحيط الوطني والجهوي والعالمي اقتصاديا واجتماعيا، وفي هذا الإطار دعا جلالة الملك من خلال الخطاب السامي الذي ألقاه بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الرابعة من الولاية التشريعية العاشرة 2019-2020، البنوك إلى تعزيز دورها التنموي من خلال تبسيط وتسهيل عملية الولوج للقروض، والانفتاح أكثر على أصحاب المقاولات الذاتية، وتمويل الشركات الصغرى والمتوسطة إضافة إلى الدعم الذي توفره للمقاولات الكبرى، وحث لهذه الغاية كلا من الحكومة وبنك المغرب، على التنسيق مع المجموعة المهنية لبنوك المغرب، قصد العمل على وضع برنامج خاص بدعم الخريجين الشباب، وتمويل المشاريع الصغرى للتشغيل الذاتي، وذلك من خلال العمل على تمكين أكبر عدد من الشباب المؤهل، حاملي المشاريع، المنتمين لمختلف الفئات الاجتماعية، من الحصول على قروض بنكية، لإطلاق مشاريعهم، وتقديم الدعم لهم، لضمان أكبر نسبة من النجاح، ودعم المقاولات الصغرى والمتوسطة العاملة في مجال التصدير، وخاصة نحو إفريقيا، والاستفادة من القيمة المضافة للاقتصاد الوطني، وولوج عموم المواطنين للخدمات البنكية، والاستفادة من فرص الاندماج المهني والاقتصادي، خاصة بالنسبة للعاملين في القطاع غير المنظم، كما طلب جلالته من البنوك مواصلة الجهود الرامية إلى استثمار التكنولوجيات الحديثة، والابتكارات المالية، من أجل توسيع قاعدة المغاربة الذين يلجون للخدمات المصرفية والتمويلية بما يخدم مصالح الطرفين بشكل متوازن ومنصف، ويساهم في عملية التنمية.

[2] - محيي الدين إسماعيل علم الدين، موسوعة أعمال البنوك من الناحيتين القانونية والعملية، الجزء الأول، مطبعة النسر الذهبي دار السلام، الطبعة الثالثة 2001، ص742.

[3] - محمد لفروجي، العقود البنكية بين مدونة التجارة والقانون البنكي، دراسة تحليلية نقدية في ضوء القانون المغربي والقانون المقارن والاجتهاد القضائي ونشرات غرفة التجارة الدولية، مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء، الطبعة الثانية يناير سنة 2001، ص 315.

[4] - محمد الفروجي، العقود البنكية بين مدونة التجارة والقانون البنكي، نفس المرجع، ص 15.

[5]- Fernand Derrida, «Le crédit et le droit des procédures collectives », édition Dalloz, Paris, 1981, p :67.

[6] - محيي الدين إسماعيل علم الدين، الجزء الأول، مرجع سابق، ص741.

[7]- René Savatier et jean-Marie Leloup, Droit des affaires, collection administration des entreprises, sirey, paris, 1977, p : 50 et suite.

- ورد لدى محمد الفروجي، العقود البنكية بين مدونة التجارة والقانون البنكي، نفس المرجع، ص 15.

[8] - Georges Petit-Dutaillis, le risque du crédit bancaire, tome I, Edition Riber, Paris 1967.

نقلا عن محمد جنكل، الائتمان التجاري عمليات الائتمان البنكي نموذجا، أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون الخاص، جامعة الحسن الثاني عين الشق، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية الدار البيضاء، السنة الجامعية 2000-2001، ص 21.

[9] - محمد الفروجي، العقود البنكية بين مدونة التجارة والقانون البنكي، مرجع سابق، ص 15.

[10] - تجدر الإشارة إلى أن هذا التعريف مقتبس من التعريف الذي أورده المشرع الفرنسي للائتمان من خلال المادة L. 313-1  من المدونة النقدية والمالية بفرنسا.

L’article L. 313-1 du Code monétaire et financier dispose que: « tout acte par lequel une personne agissant à titre onéreux met ou promet de mettre des fonds à la disposition d’une autre personne … ».

[11] - اُنظر المادة 3 من القانون رقم  103.12 المتعلق بمؤسسات الائتمان والهيئات المعتبرة في حكمها.

[12] - محيي الدين إسماعيل علم الدين، مرجع سابق، ص 742.

[13]- كوتار شوقي، رقابة بنك المغرب على مزاولة المهنة البنكية، رسالة لنيل دبلوم الماستر المتخصص في المقاولة والقانون، جامعة ابن زهر، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية أكادير، السنة الجامعية 2012-2013، ص 4 وما يليها.

[14] - طبقا للبند 7 من المادة 6 من القانون رقم 15.95 المتعلق بمدونة التجارة الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 1.96.83 الصادر بتاريخ فاتح أغسطس 1996، المنشور بالجريدة الرسمية عدد 4418 بتاريخ 3 أكتوبر 1996، ص2187 الذي ينص على أنه: "مع مراعاة أحكام الباب الثاني من القسم الرابع بعده المتعلق بالشهر في السجل التجاري، تكتسب صفة التاجر بالممارسة الاعتيادية أو الاحترافية للأنشطة التالية: 7-البنك والقرض والمعاملات المالية."

[15] - تنص المادة الأولى من القانون البنكي رقم 12-103 على أنه "تعتبر مؤسسات للائتمان الأشخاص الاعتبارية التي تزاول نشاطها في المغرب، أيا كان موقع مقرها الاجتماعي أو جنسية المشاركين في رأسمالها أو مخصصاتها أو جنسية مسيريها، والتي تزاول بصفة اعتيادية نشاطا واحدا أو أكثر من الأنشطة التالية (تلقي الأموال من الجمهور؛ عمليات الائتمان؛ وضع جميع وسائل الأداء رهن تصرف العملاء أو القيام بتدبيرها)".

[16] - أنظر المادة الأولى من القانون البنكي رقم 12-103. وتجدر الإشارة إلى أنه سبق لمحكمة النقض الفرنسية أن سلطت الضوء على شروط ممارسة المهنة البنكية حيث قضت في أحد أحكامها، بأن شرط الاعتياد في ممارسة عمليات الائتمان والذي يترتب عنه اكتساب صفة مؤسسة ائتمان غير متوفر في شخص غير مرخص لممارسة المهنة البنكية وقام بمنح تسعة قروض متتالية لزبون واحد، وهو ما يتضح معه تشدد القضاء في شروط اكتساب صفة مؤسسة ائتمان.

« la condition d'habitude n'était pas remplie s'agissant d'une personne non agréée ayant consenti neuf prêts successifs à titre onéreux à un même client » Cassation commercial du 3 décembre 2002, Bulletin des arrêts de la Cour de cassation, chambres civiles, 2002, IV, n° 182

[17] - علي جمال الدين عوض، الاعتمادات المصرفية وضماناتها، دار النهضة العربية القاهرة، طبعة 1994، ص 8.

[18] - محمد الفروجي، العقود البنكية بين مدونة التجارة والقانون البنكي، مرجع سابق، ص 321.

[19] - محمد صبري، الأخطاء البنكية، أساس مسؤولية البنكي عن عدم ملاءمة الائتمان مع مصلحة الزبون، مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء، الطبعة الأولى 2007، ص 237-238.

[20] - محمد الفروجي، العقود البنكية مدونة التجارة والقانون البنكي، مرجع سابق، ص 413.

[21] - أتى هذا التعديل في سياق استمرار المغرب في مسلسل تحيين وتجديد الترسانة القانونية المتعلقة بالأعمال بهدف تحسين ترتيب المغرب على المستوى الدولي كقبلة واعدة للاستثمار الخارجي، وكل ذلك في إطار المجهودات التي تبذلها اللجنة الوطنية لمناخ الأعمال المنشأة سنة 2009 والتي يرأسها رئيس الحكومة.

[22] - الظهير الشريف رقم 118.26 الصادر بتاريخ 19 أبريل 2018 بتنفيذ القانون 73.17 بنسخ وتعويض الكتاب الخامس من القانون 95.15 المتعلق بمدونة التجارة، المنشور بالجريدة الرسمية عدد 6667 بتاريخ 23 أبريل 2018، ص 2345.

[23] - تجدر الإشارة إلى أن الكتاب الخامس من مدونة التجارة سبق وأن كان محل تعديل طفيف بموجب القانون رقم 81.14 الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 1.14.146 المؤرخ في 25 شوال 1435 الموافق ل 22 غشت 2014، المنشور بالجريدة الرسمية عدد 6291 بتاريخ 19 ذوالقعدة  1435 الموافق ل 15 شتنبر 2014، ص 6882، حيث قضى بتغيير تسمية الكتاب الخامس من "معالجة صعوبات المقاولة" إلى "إجراءات الوقاية والمعالجة من صعوبات المقاولة "كما تم تعديل مقتضيات المادة 546 والتي ألزمت رئيس المقاولة بتصحيح الاختلالات التي يرصدها والتي من شأنها الإخلال باستمرارية الاستغلال، ثم بعد ذلك يأتي دور كل من مراقب الحسابات والشريك في تبليغ رئيس المقاولة بأي صعوبات تظهر لهما.

[24] - علي جمال الدين عوض، الاعتمادات المصرفية وضماناتها، مرجع سابق، 24.

- خليفة بن محمد الحضرمي، مسؤولية البنك في عمليات الائتمان الداخلي، دار الفكر والقانون المنصورة، الطبعة الأولى سنة 2015، ص 148.

[25] - Thierry Bonneau, Droit bancaire, librairie générale de droit et jurisprudence, collection Précis Domat, 10e édition 2013, p 343.

[26] - جمال محمود عبد العزيز، مسؤولية البنك في حالة إفلاس العميل على ضوء القانونين المصري والفرنسي، دار النهضة العربية القاهرة، الطبعة الأولى، سنة 2005، ص 101-102.

- محمد جنكل، الائتمان البنكي، مرجع سابق، ص 776.

[27] - محمود مختار أحمد بريري، المسؤولية التقصيرية للمصرف عند طلب فتح الاعتمادات، دار الفكر العربي القاهرة، طبعة 1986، ص 167.

[28]-Roger Huoin, En faveur d’un service public du crédit, revue trimestrielle de droit commercial, 1964, p : 163.

- Jacques Chevallier, Le service public, Collection Que sais-je?, PUF, edition 2012, p :68.

- محمود مختار أحمد بريري، مرجع سابق، ص 168 وما يليها.

[29] - محمد الفروجي، العقود البنكية، مرجع سابق، ص 445.

[30] - Christien Gavalda, L’après nationalisation bancaire, Droits et libertés à la fin du XXe siècle : influence des données économiques et technologiques. Etudes offertes à Claude Albert Colliard, édition Pedone, 1984, p. 484.

 

[31] - علي جمال الدين عوض، عمليات البنوك من الوجهة القانونية، دار النهضة العربية، القاهرة الطبعة الثالثة 2000، ص 21.

 

[32] - محمد الفروجي، العقود البنكية، مرجع سابق، ص 444.

[33] - « le banquier est toujours libre, sans avoir à justifier sa décision qui est discrétionnaire, de proposer ou de consentir un crédit quelle qu’en soit la forme, de s’abstenir ou de refuser de le faire »

- Assemblée Plénière de la Cour de cassation française, Arrêt de principe du 9 octobre 2006, cité par :

- Marie Nicolle, essai sur le droit au crédit, Thèse pour le doctorat en droit privé,  université paris descartes – faculté de droit, 2014, p : 10.

[34] - « hors le cas où il est tenu par un engagement antérieur, le banquier est toujours libre, sans avoir à justifier sa décision qui est discrétionnaire, de proposer ou de consentir un crédit qu’elle qu’on soit la forme, de s’abstenir ou de refuser de le faire »

- Assemblée Plénière de la Cour de cassation française, Arrêt de principe du 9 octobre 2006, Jurisclasseur périodique, la semaine juridique, édition générale 2006. Note Thierry Bonneau, Revue de droit bancaire et financier, novembre/décembre 2006.

[35] - Thierry Bonneau, Le droit au crédit, Revue de droit bancaire et financier, janvier/février 2002, p : 3. 




من أجل تحميل هذا المقال كاملا - إضغط هنا أو أسفله على الصورة

قانونك



من أجل تحميل هذا العدد التاسع عشر - إضغط هنا أو أسفاه على الصورة

مجلة قانونك - العدد الثالث