قراءة في قواعد فقهية على ضوء مدونة الأسرة - الطلاق الصريح لا يفتقر إلى قصد المعنى - الطلاق لا يقع إلا على ذوات العصم الثابتات - ابراهيم الدنفي

 



قراءة في قواعد فقهية على ضوء مدونة الأسرة

الطلاق الصريح لا يفتقر إلى قصد المعنى

الطلاق لا يقع إلا على ذوات العصم الثابتات

Reading in fiqhi rules in the light of the Family Code, explicit divorce does not lack the intention of meaning, divorce does not fall only on those with fixed infallibility

ابراهيم الدنفي / طالب باحث بسلك الماستر المتخصص قانون الأسر وقواعد الفقه المالكي.

Ibrahim ALDNFI

 

مقدمة:

تعتبر القواعد الفقهية من أهم العلوم الإسلامية وهي مرحلة متطورة في التأليف في الفقه، ويبقى أصل هذه القواعد الفقهية  هو القرآن والسنة  واعتمد  عليها الأئمة عند الاجتهاد والاستنباط ، والقواعد الفقهية هي قانون يضبط أحكام عدة مسائل لا حصر لها وهي غالبا ما تصاغ في ألفاظ قليلة وأسلوبها موجز ومعانيها واسعة، مثل الأمور بمقاصدها، والمشقة تجلب التيسير ،[1]غير أن هذه القواعد قد تكون عامة وشاملة لمسائل عديدة كما ذكرنا سواء في العبادات أو المعاملات، لكن هذه القواعد قد تنطوي تحتها ما يسمى بالضوابط الفقهية وهي ضوابط متفرعة عن هذه القواعد.

 ومن خلال مراجعة بعض المؤلفات الفقهية نجد أغلبها تعطي لفظ القاعدة حتى على الضوابط الفقهية، والضوابط الفقهية هي عبارة عن أبواب فقهية متخصصة في باب معين سواء كان من العبادات أو المعاملات على سبيل المثال، وهذا يمكن إسقاطه على القاعدتين التي سيقع ذكرهما وهما موضوع الدراسة والتحليل وهما قاعدة "الطلاق الصريح لا يفتقر إلى قصد المعنى"، وقاعدة "الطلاق لا يقع إلا على ذوات العصم الثابتات"، مما يمكن القول معه على أن القاعدتين في الأصل هما ضابطين فقهيين ،وردوا  في باب واحد وهو الطلاق وهاذين الضابطين جاؤوا بأحكام متعلقة بهذا الباب وسنعمل م على استخراج مضامينهم عن طريق الدراسة والتحليل.

أولا: أهمية الموضوع:

تكتسي أهمية الموضوع أهمية بالغة سواء علمية أو عملية من خلال دراسة هذه الضوابط الفقهية واستنباط الأحكام، ومعرفة طرق وسبل تنزيلها على واقع النوازل في زماننا الحالي.

ثانيا: صعوبات البحث:

أما بخصوص صعوبات التي واجهتنا خلال اعداد البحث من أهمها ضيق الوقت الزمني في مقاربة مع موضوع البحث، وخاصة أن البحث متعلق بالضوابط الفقهية وليست قواعد فقهية، كما أن البحث في المجلدات الفقهية هو بالصعوبة بمكان خاصة عندما تكون حديث العهد بالبحث في هذا النوع من المراجع، والبحث عن الضوابط الفقهية ضمن هذه المؤلفات الفقهية يصعب البحث.

 كما أن هناك وفرة في المادة العلمية بخصوص القواعد الفقهية بشكل مما يجعل من صعوبة في قراءه كل هذه المؤلفات وحصرها ومعرفه المفيد في البحث في زمن وجيز، كما أن كانت صعوبة في الحصول على بعض الأحكام الأجنبية المتعلقة بموضوعنا، إلا أننا بلدنا قدر المستطاع من أجل البحث في هذا الموضوع.

ثالثا: إشكالية البحث:

وعلى ضوء ما تقدم يمكننا أن نطرح الإشكالية التالية:

ماهي تجليات تنزيل هذه الضوابط الفقهية على المستوى التشريعي والقضائي؟

رابعا: منهج البحث:

 اعتمدنا في تحليلنا على المناهج التالية: المنهج التحليلي والتفسيري من خلال تحليل وتفسير مضامين الضوابط الفقهية، وأيضا اعتمدنا المنهج المقارن في بعض الحالات للوقوف حول الأراء الفقهية المتعلقة بهاتين الضابطين.

خامسا: خطة البحث

ومن أجل الإجابة على الإشكالية المطروحة ارتأينا تقسيم موضوعنا إلى مبحثين إثنين:

المبحث الأول: "الطلاق الصريح لا يفتقر إلى قصد المعنى "

المبحث الثاني: "الطلاق لا يقع إلا على ذوات العصم الثابتات"

المبحث الأول: "الطلاق الصريح لا يفتقر إلى قصد المعنى"

يعتبر هذا الضابط من أهم الضوابط الفقهية في مجال الأحوال الشخصية ، وخاصة باب انحلال ميثاق الزوجية على اعتبار أن الطلاق وضع له الشرع الإسلامي مجموعة من الشروط والضوابط، التي يجب على المطلق التقيد بها ،لأن الطلاق هو من الأمور التي وردت السنة النبوية والقرآن الكريم وعلى سبيل المثال لا الحصر قول الله تعالى (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ  فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ)[2] ، فكل هذه الأحكام الشرعية تم صياغتها في قواعد وضوابطه فقهية  وبالخصوص في باب الطلاق ، وللوقوف على هذا الضابط الفقهي بدراسة والتحليل يجب في البداية الوقوف على دلالات ومعاني هذا الضابط الفقهي (المطلب الأول)، ثم بعد ذلك التوسع في البعد النظري والعملي لهذا الضابط (المطلب الثاني).

المطلب الأول: دلالات ومعاني الضابط الفقهي

إن تحديد دلالات ومعاني هذا الضابط أو القاعدة الفرعية يقتضي دراسته من جوانب متعددة بالوقوف عليها يسهل فهم هذا الضابط الفقهي من خلال تحليل البناء اللغوي والاصطلاحي لضابط الفقهي (الفقرة الأولى)، ثم تفصيل في دلالات مضمون هذا الضابط (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى: البناء اللغوي والاصطلاحي لهذا الضابط الفقهي

من خلال قراءة الضابط الفقهي الذي بين أيدينا "الطلاق الصريح لا يفتقر إلى قصد المعنى"، نجد على أنه يضبط بابا فقهيا كما ذكرنا في البداية وهو باب الطلاق، ويتشكل هذا الضابط من عبارتين جوهريتين في بناء صياغته ومضمونه، ولم يأتي على شكل إشكال أو سؤال إذ أن بعض الضوابط أو القواعد تأتي في صياغة سؤال، لكنه كما قلنا يتكون من عبارتين سيكون سند عليها في تحديد مدلول هذا الضابط وهما عبارة "الطلاق الصريح "، ثم عبارة "قصد المعنى"، وسنفكك هذه العبارة للوقوف على المعنى اللغوي والاصطلاحي لكل كلمة على حدى:

الطلاق لغة : جاءت من مطلاق و مطالق وطليقة على مثال همزة كثير التطليق للنساء، وطلق الرجل امرأته وطلقت هي بالفتح تطلق طلاقا وطلقت وضم اكثر طلاقا وأطلقها بعلها وطلقها.[3]

الطلاق إصطلاحا: عرفه المالكية  هو صفة حكيمة ترفع متعة الزوج بزوجته.[4]

وفي تعريف آخر الطلاق هو حل قيد النكاح بلفظ الطلاق ونحوه أو رفع قيد النكاح في الحال بالطلاق البائن أو في المآل أي بعد عدة بالطلاق الرجعي بلفظ مخصوص.[5] كما أن الطلاق عرفته المادة 78 من مدونة الأسرة "الطلاق حل ميثاق الزوجية، يمارسه الزوج والزوجة، كل بحسب شروطه تحت مراقبة القضاء وطبقا لأحكام هذه المدونة."[6]

ثم الكلمة المرادفة للطلاق الواردة في الضابط وهي "الصريح.

الصريح لغة : هو المحض والخالص من كل شيئ ، و هو أيضا الظاهر فقد سمت العرب القصر صريحا لظهور ارتفاعه.[7]

أما اصطلاحا فالصريح عند الأصوليين هو ما ظهر المراد منه ظهورا بينا.[8]

وأخيرا كلمة" القصد" والقصد لغة هو استقامة الطريق، قصد يقصد قصدا فهو قاصد والقصد في اصطلاح الفقهاء هو العزم المتجه نحو انشاء الفعل.[9] هذا فيما يخص البناء اللغوي والاصطلاحي لهذا الضابط الفقهي لننتقل إلى مضمون هذه القاعدة.

الفقرة الثانية: مضمون الضابط الفقهي

جاء هذا الضابط الفقهي كما ذكرنا في البداية في حكم باب مهم في الأحوال الشخصية وهو الطلاق، وبضبط للفظ الطلاق وصيغته إذ جاء بدايته بعبارة "الطلاق الصريح" ومدلولها أن الطلاق يكون بألفاظ التي تحمل إلا الطلاق ولا تحمل غيره كطلقتك أو أنت طالق أو أنت مطلقة أو على الطلاق ونحو ذلك [10]، ويقابله الطلاق بالكناية، والكناية وهي أن يستخدم المطلق عباراة تفيد الطلاق بطريقة غير مباشرة ، كما أن صيغة الضابط الفقهي " الطلاق الصريح لا يفتقر إلى قصد المعنى"، يعنى به أن الطلاق أو صيغة الصريحة له الدالة عليه كما سبق ذكرها لا تستلزم البحث في قصد صاحبها ما دامت ألفاظها واضحة ودالة عليه، وفي هذا الصدد قال إبن عاصم رحمة الله عليه:

ويلزم الطلاق بالصريح ******************* وبالكنايات على الصحيح[11]

وتعتبر صيغة الطلاق من أهم الأركان التي يبنى عليها الطلاق وما ينتجه من أثار وهذا الضابط كما سبق ذكره أنه تطرق لصيغة اللفظ الصريح التي تحمل دلالة الفرقة، فيلزمه الطلاق لهذا كله ولا يفتقر إلى النية وإن إدعى أنه لم يرد الطلاق لم يقبل منه ذلك إلا إن اقترنت بقرينة تدل على صدق دعواه.[12]

 ومن الصيغ الطلاق الصريح التي وردت في القرآن الكريم في قوله تعالى(الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ  فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ)[13]، هذا فيما يخص صيغة لفظة الطلاق ومن بين الصيغ الصريحة نجد الفرقة في قوله تعالى (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ)[14]، وقوله تعالى (وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130))[15]، وهذه هي الألفاظ الصريحة التي وردة في القرآن الكريم (الطلاق، الفرقة، السراح) فذهب الشافعي إلى إعتبار هذه الصيغ هي الدالة على الطلاق الصريح ، أما مالك وأبو حنيفة ومن وافقهما قالو: أن صريح اللفظ فيه هو الطلاق و ما تصرف منه وأن للفظ الفرقة والسراح وردا في القرآن الكريم في مواضع لم يستدل فيها على الطلاق[16]، مثلا في قوله تعالى (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا)[17] ، وقوله تعالى (وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4))[18].

أما بخصوص القصد مع اقترانه بصريح اللفظ الوارد في هذا الضابط وهو مرادف النية يقول القرافي :والنية إنما يحتاج إليها لتمييز المراد من غير المراد في اللفظ المتردد، أما ما هو صريح بوضع لغوي أو عرفي فينصرف بصراحته لما وضع له من غير احتياج إلى نية، وما لم يغلب استعماله من الكنايات فهو مجاز على أصله والمجاز يفتقر إلى النية الناقلة عن الحقيقة إليه، لأنها الأصل ولم ينسخها عرف[19].

المطلب الثاني: البعد النظري والعملي لضابط الفقهي

تكمن أهمية الضوابط والقواعد الفقهية أنها تجمع الأحكام شرعية سواء في عموميتها كالقواعد الكلية أو في باب خاص كضوابط الفقهية ، والضابط الذي نتناوله بدراسة هو يعالج باب خاص كما ذكرنا وهو له دلالة نظرية متعلقة سواء بكيفية تناوله من طرف المراجع الخاصة بالقواعد الفقهية (الفقرة الأولى)، أو تطبيقاته العملية سواء من خلال النصوص القانونية أو العمل القضائي (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى: البعد النظري لضابط الفقهي

وللوقوف على البعد النظري لهذا الضابط الفقهي سنتناوله من خلال أهم الصيغ التي جاء بها هذا الضابط الفقهي وكذلك قيمته وموقعه بين باقي القواعد الفقهية. بالعود للمؤلفات الفقهية المتخصصة في القواعد الفقهية نجد على أن هذا الضابط الذي نناقشه ورد على نفس المعنى مع اختلاف بسيط في الصياغة ومن هذه الصياغات التي جاء بها "الطلاق الصريح لا يحتاج إلى نية"، "فمتى أتى بالصريح الطلاق وقع نواه أو لم ينوه[20]"،" صريح الطلاق لا يفتقر لنية للإيقاعه".

   وهذه الصيغ لها نفس الدلالة والمعنى الذي وضحناه سابقا، أما بخصوص توجه المذاهب الفقهية خاصة المذهب المالكي محور الدراسة بخصوص هذا الضابط،  أولا أجمع المسلمون على أن الطلاق يقع بالنية واللفظ الصريح، والمشهور عن مالك أن الطلاق لا يقع إلا باللفظ والنية [21]،عملا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل إمرء ما نوى)[22]،  وهنا يطرح السؤال هل يقع الطلاق باللفظ الصريح دون النية؟ وقياسا على الحديث أعلاه  فالطلاق لا يقع نية دون تلفظ به وهو المشهور عند المالكية ، أم من حيث وقوع الطلاق الصريح بدون نظر إلى النية فعند المالكية الطلاق لازم، وإذا إدعى الزوج أنه لم يقصد الطلاق لم يقبل منه[23] إلا إذا وجدت قرينة تدل على صدق ما إدعاه [24]، مثلا التصريح بالطلاق خطأ، قال محمد بن حارث الخشني في هذا الموضوع: «إذا خاطبها بالطلاق مفصحا على وجه الغلط وأراد أن يقول غير ذلك فقال أنت طالق فلا يلزمه ذلك شيء»[25]،  أو إذا كان إسم زوجته طالق وقال يا طالق لا تطلق إلا إذا أراد بهذا اللفظ حل العصمة الزوجية[26].

 وبخصوص طلاق المكره والغضبان في المذهب المالكي فطلاق المكره لا يقع في المذهب المالكي، استنادا لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم (لا طلاق في إغلاق)[27] وكذلك طلاق الغضبان فهو يقع بشرط  اذا كان الغضب مطبق لدرجة الجنون يذهب معه الإحساس، و طلاق الهازل فهو يقع بناء على حديث الرسول صلى الله عليه وسلم (ثلاث جدهن جده وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة )[28] وهذا القول الأول، أما القول الثاني يقول أن الطلاق الهازل لا يلزمه استصحابا للحال لأن الزواج ثابت بالجد فلا ينحل بالهزل[29].

كما أن القول بأن اللفظ الصريح الطلاق لا يفتقر إلى النية مطلق لكن يقع عليه استثناءات كما ذكرنا في حالة الإكراه والغضب وغيرها من المؤثرات على نية صاحبها وبالتالي هنا رغم كون اللفظ صريح فالنية منعدمة وهذا ما تناوله القرافي بما يسمى ما يشترط   في الطلاق من نية ما لا يشترط ،في في مؤلفه كتاب الفروق.[30]

وفيما يتعلق بالمذاهب الفقهية الأخرى بخصوص اختلافهم حول هذا الضابط ، كان أبرز وجوه الاختلاف في صيغة لفظ الطلاق الصريح فعن المالكية الصريح فهو لفظ  الطلاق وما عاداه فهو كناية، والشافعي وأبو حنيفة يقول على أن الطلاق الصريح فهو على ثلاثة ألفاظ الطلاق والفراق والسراح، [31]أما بخصوص وقوع الطلاق باللفظ الصريح أجمع  فقهاء المذاهب الأخرى المشهورة من حيث المبدأ على أن الطلاق الصريح يقع دون النظر إلى نية صاحبه .

و طلاق المكره حسب المذاهب الفقهية فعند جمهور هذه المذاهب فهو لا يقع [32]، باستثناء الحنفية الذين قالوا  طلاق المكره يقع، أما طلاق الغضبان فقد صنفه الفقهاء إلى درجات الغضب  وكل درجة رتبوا عليها آثار فهناك غضب شديد الذي لا يذهب الإحساس فهو يقع فيه الطلاق وهذا خالفه ابن القيم ، أما الغضب الذي يذهب الإحساس فطلاقه يقع،  وفي المجمل أن المذاهب الفقهية الأربعة لم تختلف بشكل جلي حول هذا الضابط وكان الاختلاف فقط في الالفاظ والصيغ حسب ما توصلنا إليه في دراستنا المتواضعة.

وارتباطا بربط هذا الضابط بأصوله من القواعد الفقهية المتفرع عنها سواء قواعد كليه أو فرعية ، ومن القواعد الفرعية التي تفرع منها هذا الضابط نجد بالأساس  قاعدة "الصريح لا يحتاج إلى  النية والكناية لا تلزم إلا بالنية[33]"، كما أن هذا الضابط يرجع أصله  تحت قاعده كلية كبرى وهي" الأمور بمقاصدها "، فظاهرها يظهر كأن هذا الضابط هو إستثناء على هذه القاعدة ، لكن الحقيقة  أن هذا الضابط هو جزء لا يتجزأ من هذه القاعدة ، اذ قال الفقهاء على أن هذا  الطلاق الذي يقع باللفظ الصريح فهو لا يحتاج إلى النية لأن النية مفترضة وهذا هو الأصل والأرجح ، وهذا الأمر بين تفصيله القرافي في مؤلفه الأمنية في إدراك النية.

الفقرة الثانية: البعد الواقعي والعملي لضابط الفقهي

تكمن أهمية الضوابط والقواعد الفقهية في أثارها على الوقائع والنوازل ، لأن غاية  الفقه من هذه القواعد ليس غاية نظرية بحثة ولكن كان القصد من هذه القواعد والضوابط هو حل النوازل التي كانت تعرض ولا زالت تعرض على القضاء ، وبالتالي هذا هو الأساس والغاية  من دراستها وتحليلها وبالتالي الوقوف على أثرها في النص القانوني لمدونة الأسرة المغربية وأيضا الوقوف على تعامل العمل القضائي مع هذه الضوابط.

أولا: التنزيل القانوني للضابط الفقهي

 إذا قمنا بالتنزيل الضابط الذي بين أيدينا على النصــــــــوص القانونية المتعلقة بمدونة الأسرة نجد صورته المقربة في المادة 73 من مدونة الأسرة والتـــــــــــي جاء فيها" يقع التعبير عن الطلاق باللفـــــــظ المفهم له وبالكتابة، ويقع من العاجز عنهما بإشارته الدالة على قصده"، و  نلاحـــــــــظ على أن المشرع المغربي في هذا المقتضى كان سنده الشرعي مستنبطا من المذهب المالكي بشكل عام وهذا الضابط خصوصا ، لأنه ربط التعبير على الطلاق باللفظ المفهم له و أن يكون هذا اللفـــــــظ بالأساس صريحا كما ذكـــرنا .

 من خلال قراءة هذا النص القانوني يتبين على أن المشرع المغربي من خلال هــــذه المادة جمع بين التعبير الصريح والتعبير بالكناية وذلك بعباره "التعبير المفهم له"، غيـــــر أنه لم يشترط القصـــد لأنه من خلال صياغة النص الذي بين أيدينا، القصد المشار اليه في النص يعود على العاجز الذي يعــــبر عن الطلاق ولا ينسحب القصد حسب قراءتنا  إلى صاحب الــــتعبير باللفظ ، وهـــناك من ذهب على القول على أن هذه المادة  تعبر عن الطلاق الصريح بدون طلاق الكناية  وعلة ذلك عندهم في  عبارة "التعــــبير المفهم له" وهو الصيغ التي أوردناها سابقا كالطلاق والسراح والفرقة، وهناك إتجاه آخر يرى بأن هذه المادة تشمل  نوعين من طرق التعبير عن الطلاق وهو الطلاق الصريح والطلاق بالكناية والكناية تفهم من خلال عباره المفهم له أيضا، لكن كما ذكرنا آنفا أن الفقه استلزم النية  في الطلاق بالكناية، والمعلوم أيضا على أن النية هي تصرف معنوي يكون في النفس الانسان فكيف يمكن أن يثبت من تحققه؟.

وللإشارة فقط نص الفصل461 من قانون الالتزامات والعقود"إذا كانت ألفاظ العقد صريحة امتنع البحث عن قصد صاحبها"،[34] باعتبار هذا القانون هو الشريعة العامة ورغم أنه جاء في سياق العقود المكتوبة ، لكن الصريح يبقى صريحا سواء كان لفظا أو مكتوبا.

 ومن النقاط الفقهية التي ناقشناها سابقا التي يمكن استخلاصها من النص،  على وقوع الطلاق بالنية دون للفظ به فهذا الأمر لا يعتد به حتى  بنص المادة أعلاه، وإذا وضعنا توطئة لهذه المادة من خلال مدونة الأسرة فهي جاءت في الكتاب الثاني من القسم الأول المسمى الأحكام العامة للانحلال ميثاق الزوجية ، لكن النص القانوني لا يطرح اشكالا بخصوص هذا الضابط لكن يبقى الإشكال بخصوص تنزيله على مستوى العمل القضائي.

ثانيا: التنزيل القضائي للضابط الفقهي

بخصوص العمل القضائي المغربي لم نجد تطبيقا صريحا ومباشرا لهذا الضابط الفقهي على مستوى واقع العمل القضائي ، سواء على مستوى قضاء الموضوع أو قضاء محكمة النقض ، مرد ذلك إلى أن الطلاق  يكون تحث رقابة القضاء في ممارسة إجراءاته القضائية والمحكمة من حيث الواقع العملي لا تتدخل في صيغة الطلاق.

وفي سؤالنا حول هذا الموضوع لسيد رئيس قسم قضاء الأسرة بآسفي قال: أن هذه النوعية من الضوابط هي النظرية ويصعب ترجمتها على مستوى الواقع القضائي المغربي بسبب عدة معيقات ، لكن في مقابل هناك قواعد فقهية يمكن تطبيقها وتأسيس أحكام قضائية عليها نظرا ملائمتها وانسجامها مع النص القانوني ، ومن الأمور التي ذكرها فضيلة الأستاذ أنه تطرح أمام القضاء عند مباشرة اجراءات الطلاق التي قد تنتهي بصلح، لكن الحال أن الزوج قام برمي اليمين على زوجته ، وبالتالي ما هو الحل؟ هنا قال الأستاذ أنهم يتم توجيههم إلى المجلس العلمي الأعلى لأنه هو المختص في حل مثل هذه النوازل.

ويمكن أن نستخلص على أن المجلس العلمي هو ما قد تطرح عليه هذه النوازل بخصوص اللفظ الطلاق، أما بخصوص تطبيق العملي لهذه القاعدة نجده على مستوى القضاء العربي في دول مثل السعودية والأردن وفلسطين وسوريا، ونظرا لضيق الوقت وعدم توفرنا على الوسائل من أجل الحصول على هذه الأحكام القضائية ، غير أنه بالعودة لواقع العمل القضائي المغربي نجد أن الوثيقة الذي يحررها العدلان في دعوى الطلاق تتحذث على تعبير على طلاق وإشهاد الزوجة على وقوعه أمام العدلان وهدا تبين من خلال إطلاعنا على وثيقة إشهاد على طلاق إتفاقي نموذجا، وهذا ما يخص الواقع العملي القضائي وعلاقته بهذا الضابط الفقهي.

المبحث الثاني: "الطلاق لا يقع إلا على ذوات العصم الثابتات"

وفي نفس السياق الذي تناولنا فيه الضابط المتعلق "بالطلاق الصريح لا يفتقر إلى قصد المعنى"، وستناول في هذا المبحث ضابطا جديدا في نفس الباب وهو باب الطلاق وهذا الضابط جاءت صياغته على هذا الشكل  "الطلاق لا يقع إلا على ذوات العصم الثابتات،" وهذا الضابط جاء في نقطة جوهرية تتناول ركنا من أركان الطلاق المشهورة فقها وهذه الأركان هي المطلق والمطلقة والصيغة والنية ، وهذه أركان وردت في المذهب المالكي، والركن الذي يندرج ضمنه هذا الضابط هو ركن المطلقة وهذا الضابط يتعلق بنفاذ الطلاق على المطلقة، ولمعرفة أحكام هذا الضابط لابد أيضا من الوقوف على معانيه ودلالاته (المطلب الأول) وأيضا الوقوف على البعد النظري والعملي لهذا الضابط (المطلب الثاني).

المطلب الأول: دلالات ومعاني الضابط الفقهي

لتحديد معاني هذا الضابط الفقهي أهمية بالغة لأنها هي الفيصل في الوقوف على مضمونة ودلالاته ومعرفة أصوله، وبها يسهل استخراج أحكامه وفهمها وشرحها وذلك بالوقوف على البناء لغوي والاصطلاحي لهذا الضابط (الفقرة الأولى)، وبعدها استخراج المضمون الذي ينضوي عليه هذا الضابط الفقهي (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى: البناء اللغوي والاصطلاحي لهذا الضابط الفقهي

من خلال قراءتنا للضابط الفقهي  "الطلاق لا يقع إلا على ذوات العصم الثابتات" فهو يتكون من عبارتين مفتاحيتين أساسيين وهما "الطلاق" "وذوات العصم الثابتات"، بخصوص الطلاق لقد تناولناه بالشرح والتحليل في مبحثنا الأول، ولهذا سنعمل على تفكيك العبارة الثانية من هذا الضابط وهي "ذوات العصم الثابتات".

العصمة لغة: هي المنع والوقاية وفي القاموس:( المعصم يعصم) اكتسب ومنع ووقي والعصمة بالكسر هي المنع[35] .

واصطلاحا : عرف الشيخ المفيد العصمة بأنها لطف يفعله الله تعالى بالمكلف بحيث تمنعه من الوقوع في المعصية، وترك الطاعة مع قدرته عليها .[36] والعصمة في النكاح منع الزوجين من الايقاع في الفواحش[37].

 والعصمة الزوجية في الاسلام من حقوق الرجل الزوج ولا يشترط قبول الزوجة الطلاق، ولا يحق لها الاعتراض عليه من منطلق أن الرجل هو من يملك حق حل لعقدة النكاح ، كما جاء في الآية الكريمة قول الله تعالى(الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ  فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ  وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ  فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا  إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34)(.[38]

الفقرة الثانية: مضمون الضابط الفقهي

من خلال التفكيك اللغوي  للمصطلحات الواردة في الضابط الفقهي سيسهل معه تحديد مضمونه الذي يمكن استخلاصه من العبارات الواردة فيه ،" الطلاق لا يقع إلا على ذوات العصم الثابتات"، ومعناه أن الطلاق يقع على الزوجة في علاقة زوجية بالأساس، و أيضا أن تكون زوجية صحيحة ، وفق الأحكام التي وضعها الشرع الإسلامي، أي أن يكون  عقد نكاح موجود، فلا يجوز لشخص أن يطلق أجنبية وأن تزوجها فيما بعد وهذا من حيث المبدأ لوجود خلاف سيقع تبيانه فيما بعد وكذلك الموطوءة بالملك وكذلك لو علق الطلاق بالتزويج لم يصح[39]، مثلا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم« لا نَذْرَ لابن آدم فيما لا يملك، ولا عِتْقَ له فيما لا يملك، ولا طلاق له فيما لا يمْلِك[40]».  بمعنى لا يمكن الحديث من الأساس على حل العصمة بالطلاق ما دامت الزوجية لم تتحقق فمثلا لا يتصور أن يطلق شخص معينا ليست بعصمته لا نظريا ولا واقعيا.

 وتتحقق العصمة الثابتة تكون بالزوجية الثابتة هذه الاخيرة  جعل لها الشـــــرع الإسلامي شروط  أركان لقيامها ، قال أبي زيد القيـــــروان: « لا نكاح إلا بولي وصداق وشاهــــدي عدل فإن لم يشهد في العقد فلا يبنى حتى يشهدا»[41]، وأركان الزواج بشكــــل عام هي الزوج والزوجة والولي والشاهــــدين والمهر والصداق وأخيرا الصيغة، فاذا تحققت هذه الشروط والأركان من الناحية الشرعية فهـــــنا أمام زوجية صحيحة  ومن أثارها العصمة الثابتة، وهذا الضابط الفقهي هو متعلــــق بركن الزوجة من وجهة نظرنا .

وهنا من أرجع قيام العصمة الثابتة إلى أن يكون الطلاق طلاقا سنيا على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والطلاق السني هو ما كان في زمن معين وكان بعدد معين كأن لا تكون حائضا أو نفساء...،[42] وبشكل عام يمكن القول على أن العصمة الثابتة تتحقق  في الزوجية القائمة و الصحيحة  و التي لا تشوبها أي شائبة وهذا هو الأصل.

المطلب الثاني: البعد النظري والعملي لضابط الفقهي

وتماشيا في نفس المنهج الذي اعتمدناه في الضابط الفقهي الأول، سننهجه في هذا الضابط الفقهي لأن من أهم محاور دراسة ضوابط والقواعد الفقهية هي الوقوف حول بعدها النظري (الفقرة الأولى)، وأيضاً بعدها الواقعي العملي (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى: البعد النظري لضابط الفقهي

بداية نحدد أهم الصيغ التي تحمل نفس الدلالة لضابط الذي نحن بصدد دراسته ومن هذه الصيغ، "لاطلاق إلا بعد نكاح[43]،" وهي مستنبطة من الحديث الشريف ( لا طَلاقَ إلَّا من بَعْدِ نِكَاحٍ ولا عَتَاقَ إلَّا من بَعْدِ مُلْكٍ ولا يُتْمَ بعدَ احْتِلامٍ ولا وفَاءَ لِنَذْرٍ في مَعْصِيَةٍ ولا صمتَ يَوْمٍ إلى الليلِ ولا وِصالَ في الصِّيامِ)[44]،ومن الصيغ الأخرى ،" لا طلاق بدون زواج صحيح"،" لا طلاق بدون تبــــوث الزوجية".

أما بخصوص النقاش الفقهي حول الأحكام المنضوية تحث هذا الضابط فإننا ننطلق من إتفاق الفقهاء على أن من قال للامرأة غيره طالق فهو لغو بإتفاقهم، لأن الطلاق يقع على الزوجات الذين في عصمة أزواجهن أو قبل أن تنقضي عدتهن من طلاق رجعي[45]، كمثل من طلق امرأة في السوق ظنها زوجته، إذ قال لزوجته أنت طالق إن خرجت فهنا طلاقه لا يقع[46]، لكنهم اختلفوا اذا ما كان الطلاق معلقا بفعل أو وقت مثل أن يقول الرجل لإمرأة لم يتزوج بها : إن تزوجتك أنت طالق، وهنا في المسألة قولان:

القول الأول: هنا الطلاق ملزم لأنه تعلق بسبب فيلم لوقوعه وهو مذهب أبو حنيفة ومالك.[47]

القول الثاني: أن الطلاق قبل النكاح لغو مطلق وهو قول أكثر أهل العلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مذهب الشافعي وأحمد.[48]

وقال الإمام الشافعي: الطلاق والظهار والإيلاء لا تقع إلا على الزوجة ثابتة النكاح.[49]  وسبب  الخلاف هل من شرط وقوع الطلاق وجود الملك متقدما بالزمان على الطلاق ذلك من شرطه؟.

ولتبوث العصمة يجب أن يكون الزواج صحيحا كما ذكرنا فإذا كان الزواج باطلا فمآله البطلان من حيث الأصل ، لأن الزواج الباطل منعدم شرع  وطبقا القاعدة الفقهية المعدوم شرعا كالمعدوم حسا، أما الزواج الفاسد فهو مختلف في فساده وهذا قد يصحح أو يفسخ أيضا ، ولكن في المجمل أن الطلاق الباطل والفاسد يؤثر على العصمة الزوجية ،  ويترتب عنه الاستبراء.

أما بخصوص إرتباط هذا الضابط الفقهي ببعض القواعد الفرعية والقواعد الكلية نجد ارتباطه أولا بقاعدة فرعية وهي "العبرة للغالب الشائع لا الناشر"، وإستدل بها المازوني في نازلة  وردت في الدرر المكنونة - ذكرا لهذه القاعدة، عندما سئل بعض الفقهاء عن رجل هرب بامرأة رجل آخر وخلا بها فحملت منه ثم طلقت قبل الوضع، فأراد الهارب تزوجها بعد الوضع، فهل يبرئها حمل الزنا من العدة كما ذكر الله في كتابه أم يستأنى بها الحيض، فكان جوابه: "اعلموا أنار الله قلوبكم بأنوار اليقين أنّ الذي عليه أهل العلم المقتدى بهم والمعتمد على فتواهم أن المخاطب بقوله تعالى: (وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ الطلاق (4، ذوات الأزواج؛ لأن في الآية (إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ) (الطلاق) (1) ولا يطلقن إلا ذوات العصم الثابتة ولا يقع الشرع إلا على الغالب دون الشاذ النادر، ولا يبرئ الرّحم الفاسد إلا بثلاثة قروء "21. فنلمح من خلال هذه الفتوى أن الفقيه استأنس بهذه القاعدة في معنى الآية في حمل معناها على ذوات الأزواج.[50]

كما يمكن ربط هذا الضابط الفقهي بقاعدة كلية وهي قاعدة "اليقين لا يزول بالشك"، لأن اليقين والأصل في كل نكاح ثبات العصمة وهو الأصل .

الفقرة الثانية: البعد الواقعي والعملي لضابط الفقهي

يكمن البعد الواقعي والعملي كما سلف الذكر هو تنزيل الضابط الفقهي على الواقع القانوني المتمثل في مدونة الأسرة وكذلك القضاء المترجم له على أرض الواقع.

أولا: التنزيل القانوني للضابط الفقهي

فيما  يخص ارتباط هذا الضابط الفقهي بمضامين مدونة الأسرة نجد منطلقة في المادة 16[51]  من مدونة الأسرة التي اعتبرت عقد الزواج والوسيلة الوحيدة لإثبات العلاقة الزوجية، وفي حالة وجود أسباب قاهرة حالت دون توثيق عقد الزواج يمكن اللجوء إلى دعوى سماع الزوجية، وبالتالي التأكد من ثبوت العصمة الزوجية يكون بعقد الزواج واستثناءا بدعوى سماع الزوجية، إذ أصبحت الكتابة في عقد الزواج وسيلة إثبات، أي إثبات الزوجية وعلى اساسها تبنى الأثار الأخرى المتعلقة بانحلاله .

ومن الصور الغير مباشرة أيضا لهذا الضابط الفقهي في مدونة الأسرة نجدها من خلال ما ذكرناه سابقا في شرح هذا الضابط أن من أركان تحقق  العصمة الثابتة على الزوجة في أن يكون الزواج صحيحا، وهذا ما تعرضت له المادة 50  من مدونة الأسرة " إذا توفرت في عقد الزواج أركانه وشروط صحته، وانتفت الموانع، فيعتبر صحيحا وينتج جميع آثاره من الحقوق والواجبات التي رتبتها الشريعة بين الزوجين والأبناء والأقارب، المنصوص عليها في هذه المدونة."

و بنصها على عبارة "جميع أثاره من الحقوق والواجبات التي رتبتها الشريعة بين الزوجين،" ويدخل ضمنيا فيها  انحلال ميثاق الزوجية الذي قد يكون أثرا لهذا الزواج الصحيح.

 وكما ذكرنا أن العصمة الثابتة قد تزول في حالة بطلان الزواج وهذا ما أكدته المواد 57 و 52  من مدونة الأسرة ، والمحكمة   أن تصرح بطلانه تلقائيا أو بطلب مما يعنيه الأمر، وهنا الطلاق لا يقع كما انأن الزواج الفاسد من خلال المادة 59 قد يؤثر على العصمة الثابتة خاصة في حالة فساد عقده، والإشارة هنا نتحدث فقط على الآثار المترتبة على حل عصمة الزوجية وليس على الآثار الأخرى.

ثانيا: التنزيل القضائي للضابط الفقهي

وتطبيقا للمواد سالفة الذكر بداية بالمادة 16 أعلاه فعندما ترفع دعوى الإشهاد على الطلاق تكون من الوثائق اللازمة لرفع الدعوى هي عقد الزواج ، فلا يمكن تصور طلاق بدون عقد زواج خاصة مع نص المادة 16 من مدونة الأسرة ، وفي حالة الاستثناء يمكن تأسيس الإشهاد على حكم صادر عن طريق دعوى ثبوت الزوجية ، وهي من الوسائل المثبتة للعلاقة الزوجية وفي هدا صدد صدر قرار للمحكمة النقض "لئن كانت وثيقة عقد الزواج تعتبر بنص المادة 16 من مدونة الأسرة، الوسيلة المقبولة لإثبات الزواج، فإن المحكمة إذا حالت أسباب قاهرة دون توثيق العقد في وقته، تعتمد في سماع دعوى الزوجية سائر وسائل الإثبات وكذا الخبرة، وتأخذ بعين الاعتبار وجود أطفال أو حمل ناتج عن العلاقة وما إذا رفعت في حياة الزوجين والمحكمة لما تبين لها من البحث المجرى ابتدائيا أن زيجة الطرفين استجمعت أركانها وشروط صحتها وأنها لازالت مستمرة، وثبت بناء الزوج بزوجته وتعاشرهما معاشرة الأزواج بإقرارهما وبشهادة الشاهدين، وأثمرت علاقتهما إنجاب البنت، فإن البحث في السبب الذي منع من توثيق العقد في وقته يغدو متجاوزا لإقرار الزوجين بعلاقتهما الزوجية، تكون قد بنت قضاءها بثبوت الزوجية على مقتضى المادة 16 من المدونة وجاء قرارها مرتكزا على أساس."[52]

وهذا يؤكد كل ما قلناه أما بخصوص بطلان عقد الزواج في حكم صادر عن المحكمة الابتدائية بآسفي جاء فيه " أسفي وحيث إنه لما كان المقرر بموجب المادتين 57 و 58 من مدونة الأسرة أن الزواج يكون باطلا إذا وجد بين الزوجين أحد الموانع المؤبدة أو المؤقتة، وأن المحكمة تصرح ببطلان الزواج بمجرد اطلاعها عليه، وكان الثابت من وثائق الملف أن الزوجين أبرما زواجهما بالرغم من أن الزوجة حامل في شهرها الثامن استنادا إلى إقرارها أعلاه، وكذا رسم ولادة البنت وجدان المولودة بتاريخ 2019/12/15، الأمر الذي يتضح معه أن الزواج أبرم بين الطرفين رغم وجود مانع من موانعه المؤقتة المنصوص عليها بالمادة 39 من مدونة الأسرة، وهو وجود المرأة في عدة حمل لا تنتهي إلا بوضعها إياه، تطبيقا لقوله تعالى وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن"، الشيء الذي يجعل العقد والحالة هاته باطلا عملا بمقتضيات المادتين 57 و 58 من مدونة الأسرة. وحيث إنه تطبيقا للمادة 58 من مدونة الأسرة، فإن الزواج الباطل يترتب عنه بعد البناء الصداق والاستبراء ولحوق النسب عند حسن النية.[53]



[1] أحمد بن يحيى الونشريسي ، إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام أبي عبدالله مالك، الطبعة الأولى ، سنة 2006، دار ابن حزم بيروت،الصفحة 29-30.

[2] الآية 229 من سورة البقرة.

[3] ابن منظور ، لسان العرب، المجلد الثاني، الطبعة الثالثة، سنة 1414ه، دارالصادر ، بيروت، الصفحة 2403-2404

[4]   محمد الكشبور الوسيط في شرح مدونة الأسرة -إنحلال ميثاق الزوجية ، الطبعة الثالثة ، سنة 2015، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء ، الصفحة 28.

[5] كمال ابن السيد سالم، كتاب صحيح فقه السنة وأدلته وتوضيح مذاهب الأئمة، الجزء الثالث، سنة 2003 ، المكتبة التوفيقية، مصر، الصفحة 232.

[6] المادة 78 من الظهير الشريف رقم 1.04.22 صادر في 12 من ذي الحجة 1424(3 فبراير 2004) بتنفيد القانون رقم 70.03 ، منشور بالجريدة الرسمية رقم  5184 بمثابة مدونة الأسرة.

[7] ابن منظور، مرجع سابق، الصفحة  424.

[8] سامح عبد السلام محمد، الصريح والكناية عند الأصوليين، موقع الألوكة، بتاريخ 03/09/2014، إطلع عليه بتاريخ 07/06/2023 الساعة 13:45.

[9] محمود عبد الرحمان عبد المنعم، معجم المصطلحات والالفاظ الفقهية، الجزء الثاني ، الطبعة الأولى ، سنة 1999، دار الفضيلة، القاهرة ، الصفحة 96.

[10] مجموعة من الباحثين بإشراف علوي عبد القادر السقاف،الموسوعة الفقهية ، الجزء الثالث، سنة 1433 ه، الصفحة 112.

[11] ابن عاصم الغرناطي ، كتاب تحفة الأحكام في نكت العقود والأحكام، حققه محمد عبد السلام محمد، الجزء الأول، الطبعة الأولى ، سنة 2013،دار الحزم ، لبنان، الصفحة 50.

[12] محمد بن أحمد بن جزي الغرناطي ، القوانين الفقهية ، الطبعة الأولى ، سنة 2013، دار ابن حزم ، لبنان، الصفحة 390-391.

[13] سورة البقرة الآية 229.

[14] سورة البقرة الآية 231.

[15] سورة النساء الآية 130

[16] أحمد بن أحمد المختار الشنقيطي ، كتاب مواهب الجليل من أدلة الخليل، الجزء الثالث ، الطبعة الأولى سنة 1430ه،إدارة إحياء التراث الإسلامي ، قطر ، الصفحة 153.

[17] سورة آل عمران الآية 103.

[18] سورة البينة الآية 4.

[19] دبيان الديبان، كتاب المعاملات المالية أصالة ومعاصرة، الجزء الأول، ط الثانية، سنة 1432ه،بدون دار النشر، الصفحة 295.

[20] بن قدامة ، الشرح الكبير، الجزء 22، الطبعة الأولى، بدون دكر سنة النشر ، هجر للطباعة والنشر والتوزيع والاعلان، القاهرة ، الصفحة 216.

[21] ابن رشد الحفيد ، بداية المجتهد ونهاية المقتصد ، الجزء الثالث ، سنة 2004، دار الحديث، القاهرة ،الصفحة 96.

[22] أخرجه البخاري في صحيحه ،كتاب النكاح، باب من هاجر أو عمل خيرا لتزويج امرأة فله ما نوى، رقم الحديث: 5070.

[23] عبد الله (ابن طاهر) السوسي التناني ، شرح مدونة الأسرة في إطار المذهب المالكي وأدلته ، الجزء الأول، الطبعة الثالثة ، سنة2021، مطبعة النجاح الجديدة ، الدار البيضاء ، الصفحة 340.

[24] المرجع نفسه،الصفحة 430.

[25] محمد بن حارث الخشني، أصول الفتيا في الفقه على مذهب الإمام مالك ،سنة 1985، الدرر العربية للكتاب، الصفحة 192.

[26] ابو فيصل البدراني ، أحكام الألفاظ وأحكام الطلاق والأيمان والنذور، الجزء الأول ، مؤلف إلكتروني منشور على موقع مكتبة نور تم الإطلاع عليه بتاريخ 14-07-2023, الساعة 22:23، الصفحة 8.

[27] أخرج ابن ماجه (2046) ، وأحمد في مسنده (26360) ، وأبو يعلى في مسنده (4444) عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : (لَا طَلَاقَ وَلَا عَتَاقَ فِي إِغْلَاقٍ) وحسنه الألباني في " صحيح وضعيف سنن ابن ماجة "(2046) .

[28] خرجه أبو داود (2194)، والترمذي (1184)، وابن ماجه (2039).

[29]  عبد الله (ابن طاهر) السوسي التناني ، مرجع سابق ، الصفحة 348.

[30] القرافي ، كتاب الفروق ، المجلد الثالث ، سنة 2001، دار السلام، مصر.

[31] إبن رشد الحفيد ، مرجع سابق ، الصفحة 60.

[32]  ،الموسوعة الفقهية ، مرجع سابق، الصفحة 112.

[33] محمد صدقي آل بورنو، موسوعة القواعد الفقهية ، الجزء السادس ، الطبعة الأولى ، سنة 2003،  مؤسسة الرسالة ، بيروت ، الصفحة 229.

[34] الفصل 461 من الظهير الشريف الصادر في 9 رمضان 1331,(12غشت 1913)بمثابة قانون الالتزامات والعقود.

[35] ابن منظور ، مرجع سابق 12/403

[36] موقع مركز الإشعاع الإسلامي ، تعريف العصمة ، نشر في 03/03/2023، أطلع عليه بتاريخ 13/06/2023، الساعة 12:23.

[37] محمود عبد الرحمان عبد المنعم، مرجع سابق ، الصفحة 508.

[38] سورة النساء ، الآية 34.

[39] مراد بن سعيد ، الميسر في أحكام الزواج والطلاق عند المالكية ، سنة 2015، دار الهدى ، الجزائر ، الصفحة 89.

[40] أخرجه أبو داود (2190) واللفظ له، والترمذي (1181) مختصراً، والنسائي (4612، 3792) بنحوه مفرقاً.

[41] الإمام أبي محمد عبدالله بن أبي زيد القيرواني ، الرسالة في فقه مالك ، بدون ذكر السنة ، دار الكتب العلمية ، لبنان ، الصفحة 65.

[42] عبد الرحمن الجزيري، كتاب الفقه على المذاهب الاربعة ، الجزء الرابع ،  الطبعة الثانية ، سنة 2003 ،  دار الكتب العلمية ، لبنان، الصفحة 265.

[43] موسوعة الدرر السنية ، مرجع سابق ، الصفحة 154.

[44] رواه : علي بن أبي طالب | المحدث : ابن حجر العسقلاني | المصدر : هداية الرواة، الصفحة أو الرقم: 3/309 | خلاصة حكم المحدث،حسن كما قال في المقدمة.

[45] ابن رشد الحفيد ، مرجع سابق ، الصفحة 103.

[46] ابن جبرين، شرح أخصر المختصرات، مؤلف إلكتروني ، الجزء السبعين، منشور على موقع إسلام ويب، تم الإطلاع عليه بتاريخ 12/06/2023، الساعة 22:34، الصفحة 38.

[47] عبد الله (ابن طاهر) السوسي التناني، مرجع سابق ، الصفحة 323.

[48] مرجع نفسه ، الصفحة 323.

[49] ابن رشد الحفيد ، مرجع سابق ، الصفحة 103.

 [50] الطريف محمد رضا ، الدرر المكنونة في نوازل مازونة، لأبو زكرياء يحيى المازوني، مسائل النكاح، أطروحة لنيل شهادة الدكتورا، جامعة وهران، الجزائر، سنة 0215-2016،الصفحة 299.

[51] المادة 16 من مدونة الأسرة (وثيقة عقد الزواج تعتبر الوسيلة المقبولة لإثبات الزواج. إذا حالت أسباب قاهرة دون توثيق العقد في وقته، تعتمد المحكمة في سماع دعوى الزوجية سائر وسائل الإثبات وكذا الخبرة)

[52] قرار صادر عن محكمة النقض عدد 355، بتاريخ 21/ماي/2019،. عدد 603/2/1/2018 ، منشور على موقع البوابة القضائية للمملكة المغربية.

[53] حكم صادر عن المحكمة الابتدائية بآسفي ملف رقم 158/1626/2020، بتاريخ 31/12/2020، غير منشور.




من أجل تحميل هذا المقال كاملا - إضغط هنا أو أسفله على الصورة


قانونك



من أجل تحميل هذا العدد الثامن عشر - إضغط هنا أو أسفاه على الصورة

مجلة قانونك - العدد الثالث