جدلية الطبيعة القانونية لنظام التحكيم
Dialectic of the legal nature of the Arbitration system
خديجة خبوز
Khadija khabouze
أستاذة باحثة بجامعة سيدي محمد بن عبد الله، بالكلية متعددة التخصصات بتازة.
مقدمة
إلى جانب قضاء الدولة الذي أناط به الدستور مهمة الفصل في النزاعات التي تثار بين المتقاضين عموما، توجد بالموازاة طرق بديلة لتسوية المنازعات، منها التحكيم، الوساطة الاتفاقية، الصلح، التوفيق.
والتحكيم[1] يعد أهم هذه الآليات القانونية البديلة لحل المنازعات التي تنشب بين الأطراف خاصة في العلاقات التجارية الوطنية والدولية على حد سواء، لكونه وسيلة سرية، سريعة وفعالة - إلى حد ما -، فهو طريق استثنائي لفض المنازعات قوامه الخروج عن طرق التقاضي العادية، إضافة إلى أن طبيعة العلاقة بين طرفي النزاع في مجال المال والأعمال والتجارة تستدعي استمرار علاقاتهم الاقتصادية والتعاقديّة وإنهاء الخلاف بينهم دون أن يتسرب ذلك إلى العلن.
و نظام التحكيم يجد أصله حسب البعض[2] في اتفاق و يؤول إلى حكم تحكيم يعادل الحكم القضائي، لذا انقسم الفقه واختلفت أراءه حول تحديد الطبيعة القانونية للتحكيم، إلى أربع اتجاهات، حيث ذهب البعض إلى تغليب الطبيعة التعاقدية، واعتبره أسلوبا قانونيا اتفاقيا[3] لحل النزاعات بدلا من القضاء، ورجح البعض الآخر الطبيعة القضائية[4] المستمدة من القانون ومصدرها إرادة الأطراف، بينما تبنى توجه ثالث موقفا وسطا بين الرأيين معتبرا أن التحكيم نظام مركب ذو طبيعة مختلطة، لأنه عمل اتفاقي في مصدره، قضائي في وظيفته، لكن هناك توجه آخر وهو التوجه الرابع الذي ينادي بالطبيعة الذاتية أو المستقلة للتحكيم. وللحديث عن الطبيعة القانونية للتحكيم، سنتناولها حسب تسلسلها الزمني: النظريات التقليدية في المبحث الأول، على أن نتطرق للنظريات الحديثة في المبحث الثاني.
المبحث الأول: النظريات التقليدية
تشمل النظريات التقليدية، القائلين بالطبيعة الاتفاقية للتحكيم (المطلب الأول)، وهي تعد من أول ما طرح في تحديد طبيعته، ثم القائلين بالطبيعة القضائية (المطلب الثاني).
[1]- نظم المشرع المغربي التحكيم منذ سنة 1913 في إطار ظهير 12 غشت 1913 المتعلق بقانون المسطرة المدنية والنصوص التي تممته أو غيرته، - وهو مقتبس من المسطرة المدنية الفرنسية لسنة 1806 –
كما أعاد تنظيمه بمقتضى ظهير 28 شتنبر 1974 بالمصادقة على نص قانون المسطرة المدنية والذي اقتصر على تنظيم التحكيم الداخلي مخصصا له الفصول من 306 إلى 327 ، إلى أن أصدر القانون رقم 08.05 المنظم للتحكيم والوساطة الاتفاقية بتاريخ 30 نونبر 2007 القاضي بنسخ وتعويض الباب الثامن بالقسم الخامس من قانون المسطرة المدنية، هذا الباب نظم التحكيم الدولي لأول مرة.
وقد عرف المشرع المغربي التحكيم في الفصل 306 من القانون أعلاه بقوله:
" يراد بالتحكيم حل نزاع من لدن هيئة تحكيمية تتلقى من الأطراف مهمة الفصل في النزاع بناء على اتفاق التحكيم".
والتحكيم ليس وليد الأمس القريب بل تعود نشأته إلى بداية البشرية من قبل أن تعرف القضاء، بل نشأت الدولة نفسها، وعبر عن ذلك الدكتور أبو طالب صوفي بقوله :
" يعتبر التحكيم أعلى مراحل التطور الذي وصلت إليه المجتمعات الفطرية في عهد القوة، وقد استقرت فكرة التحكيم في أذهان الناس حتى أصبحت أصيلة في نفوسهم" ، و يضيف قائلا في موضع آخر : "وقد ترك نظام التحكيم آثارا واضحة في سائر القوانين القديمة، فلا يخلو قانون منها من الأخذ بصورة أو أكثر من صور التحكيم، فأخذ به البابليون و الأشوريون والقبائل الجرمانية، كما قام نظام القضاء عند الرومان بصفة خاصة على أساس التحكيم، و يظهر ذلك جليا في نظام دعاوى القانون".
- أبو طالب صوفي: مبادئ تاريخ القانون، مكتبة النهضة العربية سنة 1965، ص 79-80
والعرب في الجاهلية هي الأخرى كانت تتبنى هده الوسيلة حيث احتكمت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في قضية الحجر الأسود الذي جنب القبائل حربا ضروسا، وقد أقر الإسلام بعد مجيئه نظام التحكيم لحاجة الناس إليه ولرضاهم به.
وقد ساهمت في الوقت الراهن الثورة العلمية والتكنلوجية بشكل فعال في توسع مجالات التحكيم، حيث ظهرت أشكال مختلفة؛ كالتحكيم في المنازعات التجارية، والتحكيم في عقود الاستثمار، والتحكيم في المنازعات البنكية وغيرها.
[2] 1- Guy Keutgen, Georges- Albert-Dall : l’arbitrage en droit belge et international, Tome1 , le droit belge , 2ème ed, Bruylant , Bruxelles, 2006, p45.
- نص في الفصل 307 من القانون 05-08 على أن: " اتفاق التحكيم هو التزام الأطراف باللجوء إلى التحكيم قصد حل نزاع نشأ أو قد ينشأ عن علاقة قانونية معينة تعاقدية أو غير تعاقدية".
[4] - لمزيد من التفصيل راجع: - أحمد عبد الكريم سلامة: التحكيم في المعاملات المالية الداخلية والدولية والإدارية والجمركية والضريبية -دراسة مقارنة-، دار النهضة العربية القاهرة،2006، ص 43
- الحسن الكاسم: الرقابة القضائية قبل انطلاق عملية التحكيم، مداخلة شارك بها في أعمال ندوة "قضايا الاستثمار و التحكيم" منظمة بمناسبة الاحتفال بالذكرى الخمسينية لتأسيس المجلس الأعلى، بمقر محكمة الاستئناف التجارية بالدار البيضاء، يومي 18-19 أبريل 2007 ، الناشر، جمعية التكافل الاجتماعي لقضاة وموظفي مطبعة الأمنية، الرباط، ص 217.