دور اجتهاد
محكمة النقض في ترسيخ وإقرار قواعد العدل والإنصاف من خلال النزاعات المرتبطة
بالتحفيظ العقاري،(العقار في طور التحفيظ)
من اعداد: أ.
الحسن أولياس
باحث في العلوم القانونية والإدارية
![]() |
دور اجتهاد محكمة النقض في ترسيخ وإقرار قواعد العدل والإنصاف من خلال النزاعات المرتبطة بالتحفيظ العقاري |
مقدمة
تعتبر الملكية العقارية المجال الخصب لنشوء العديد من المنازعات بين
الأفراد، سواء ارتبط الأمر بالعقار الغير المحفظ، أو الموجود في طور التحفيظ أو
موضوع رسم عقاري نهائي.
ومن ثمة، فان المنازعات
المطروحة بشأن تلكم القضايا أمام القضاء، تستدعي إلمام كل مختص، بالقواعد والإجراءات
الشكلية والموضوعية التي تحكم هذه المنازعات، وذلك عن طريق الدراية التامة بالنص
القانوني أو الفقهي، ووضع النزاع ضمن الإطار القانوني الذي يحكمه إضافة إلى محاولة
إعطاء التفسير السليم للنصوص القانونية المطبقة، توخيا للوصول إلى حكم عادل ينصف
الطرف ذو الحق، في أفق تحقيق ما يسمى بالأمن القانوني والقضائي.
كثيرة هي المنازعات المرتبطة بالعقار الغير المحفظ، وكذا الذي يوجد في طور
التحفيظ، منها منازعات الاستحقاق والتخلي، دعاوى التعرض على مطلب التحفيظ، دعاوى
استرداد الحيازة......الخ، وكل نمط من هذه الدعاوى يجب تأييده بالموجبات القانونية
اللازمة واثبات الحق المطالب به بالبينة الشرعية الدالة عليه دلالة نافية للجهالة،
لان أية مطالبة قضائية تنصب على معلوم وليس ضد مجهول.
والجدير بالتذكير، أن مؤسسة "الإثبات" في العقار الغير المحفظ أو
الذي يوجد في طور التحفيظ، تحتل مكانة مهمة وبارزة ضمن المنظومة القضائية
للمنازعات المرتبطة بالعقار، أو بأي نمط من الدعاوى على العموم، فالإثبات هو مناط
الدعوى وهو الإجراء الذي يبرر صحة أو عدم صحة ما يطالب به خصم في مواجهة الآخر.
ومن حيث الدلالة والتعريف، عرف الأستاذ عبد المنعم البهي " الإثبات"
بأنه إظهار للحق وتوضيح له، ومن ثمة فهو إقامة الدليل أمام القضاء بكافة الطرق
التي أوجبها القانون للدلالة على وجود واقعة قانونية ترتب آثارها، فإشكالية
الإثبات تطرح نفسها بقوة في مجال ملكية العقارات غير المحفظة التي يمكن إثباتها
بطرق عديدة ومتنوعة وخاصة في حالة تصادم
الحجج وتعارضها الأمر ، الذي يلجأ معه القضاء إلى استعمال قواعد الترجيح بين الحجج
المنصوص عليها في المادة3 من مدونة الحقوق العينية، والمؤطرة كذلك بالمتون الفقهية في الموضوع ،
وخاصة الراجح والمشهور وما جرى به العمل في فقه الإمام مالك( تحفة ابن عاصم
الأندلسي، العمل الفاسي، العمل السوسي....الخ) ، وتبقى الحجج والوثائق العدلية ،
أهم وسائل الإثبات المعمول بها في هذا الشأن.
وعموما فالإثبات معناه، إيجاد
الدليل على قيام تصرف قانوني أو واقعة مادية بين المكلف بالإثبات وخصمه، فهو ليس
الحق المدعى به، وإنما المصدر القانوني أو الواقعي الذي ينشئ هذا الحق، ومن ثمة
فان مؤسسة الإثبات لها ارتباط بكافة الدعاوى المعروضة على القضاء سواء المدنية
منها أو التجارية او العقارية او الجنائية، وحتى المعاملات الالكترونية بدورها
تستوجب الإثبات وإقامة الحجة والدليل....الخ
وفي مجال التعرض ضد مطالب التحفيظ، فان المنازعة
المحالة على القضاء تجعل عبء الإثبات فيها على عاتق المتعرض فهو الطرف المدعي، عكس
طالب التحفيظ الذي يظل في مركز المدعى عليه،
وارتباطا دائما بموضوع البحث، فان لاجتهاد محكمة
النقض دور بارز في إقرار مجموعة من القواعد القانونية الهامة في المنازعات
المرتبطة بالتحفيظ العقاري، منها ما يرتبط بإجراءات التحقيق في الدعوى ودورها في
بناء تعليل منطوق حكم عادل بين الأطراف، ومنها
ما خرج عن الأصل أو القاعدة المتمثلة في كون المتعرض هو الملزم بإثبات
تعرضه ضد مطلب التحفيظ.
انطلاقا من ذلك، فان موضوع هذه الدراسة
المتواضعة، سيتم تقسيمه لمحورين أساسيين، الأول سيتم التطرق فيه لسمات المنازعة في
مجال العقارات في طور التحفيظ وإبراز الطرف المتحمل لعبء الإثبات (المتعرض ضد مطلب
التحفيظ)، على أن يتم تناول وضمن مبحث لمجموعة من الحالات التي افرزها العمل
والاجتهاد القضائي بشأن إقرار قواعد العدل والأنصاف بين الأطراف أثناء البت في
التعرض أو التعرضات المقدمة ضد مطلب، في محاولة لبسط اليد على الموضوع وابرازا
أيضا لتطور الاجتهاد القضــائي في هذا الباب.
المحور
الأول: سمات المنازعة في مجال العقار في طور التحفيظ وتحمل الطرف المتعرض لعبء إثبات التعرض أو الادعاء
الفرع الأول: سمات المنازعة في دعاوى
العقار في طور التحفيظ
يعرف التعرض بكونه إجراء يرمي إلى المطالبة بحق عيني قابل للتقييد بالرسم
العقاري، ويمارس ضد مطلب التحفيظ تحديدا برقمه ومحتوياته من اجل من اجل المطالبة
بالعقار أو جزء منه أو حق عيني عليه.
والجدير بالتذكير، أن
التعرض على عملية تحفيظ العقار أو الحق العيني أمام السلطة المختصة المخول لها
قانونا تلقي التعرضات، هو الإجراء الذي تتولد عنه المنازعة في قضايا العقار في طور
التحفيظ، وهو الإجراء أيضا الذي ينقل عملية التحفيظ هاته من مرحلة إدارية الى أخرى
قضائية، يصبح أمر الحسم فيها من اختصاص قاضي التحفيظ، وهو بذلك يعتبر دعوى استحقاقية
للحق موضوعه.
وقد تطرق المشرع
المغربي، الى تنظيم مؤسسة التعرض ضد عملية التحفيظ، من خلال ما يلي
ا-التعرض العادي في صريح
المادتين 24 و27 من ظهير التحفيظ العقاري
إذ ورد بالمادة 24 ما يلي: "
يمكن لكل شخص يدعي حقا على عقار تم طلب تحفيظه أن يتدخل عن طريق التعرض في مسطرة
التحفيظ خلال أجل شهرين يبتدئ من يوم نشر الإعلان عن انتهاء التحديد في الجريدة
الرسمية إن لم يكن قام بذلك من قبل وذلك:
1-في
حالة المنازعة في وجود حق الملكية لطالب التحفيظ أو في مدى هذا الحق أو بشأن حدود
العقار؛
2-في
حالة الادعاء باستحقاق حق عيني قابل للتقييد بالرسم العقاري الذي سيقع تأسيسه؛ ...".
وأضافت
المادة27 التالي: " لا يقبل أي تعرض
باستثناء ما هو منصوص عليه في الفصل 29 بعد انصرام اجل قدره شهران يبتدئ من تاريخ
نشر الإعلان المذكور في الفصل 23 من هذا الظهير بالجريدة الرسمية"
ب-التعرض
الاستثنائي من خلال المادة29 من ظهير التحفيظ العقاري:
كما
تناول المشرع أيضا تنظيم مؤسسة التعرض الاستثنائي من خلال المادة29 من نفس
القانون، التي جاء فيها: " بعد انصرام الأجل المحدد في الفصل 27 أعلاه، يمكن
أن يقبل التعرض بصفة استثنائية من طرف المحافظ على الأملاك العقارية، ولو لم يرد
على مطلب التحفيظ أي تعرض سابق، شريطة ألا يكون الملف قد وجه الى المحكمة
الابتدائية".
غير
انه ومن الناحية العملية والقانونية أيضا، فان ممارسة هذا الحق مخول لمن يعنيه
الأمر منذ مرحلة إيداع المطلب لدى المحافظة على الأملاك العقارية والرهون.
انطلاقا
من ذلك، يتضح أن المشرع اطر مؤسسة التعرض ضد مطالب التحفيظ من خلال مقتضيات
قانونية صريحة، سواء في نطاقيه العادي أو الاستثنائي، والغاية منه صون حقوق أي
طرف-من غير طالب التحفيظ-قد يدعي ملكية العقار أو الحق العيني موضوع طلب التحفيظ،
تمهيدا لعرض الملف على أنظار القضاء للبت في صحة او عدم صحة التعرض بموجب حكم
نهائي يحال بعد ذلك على أنظار المحافظ على الأملاك العقارية والرهون، من اجل
التطبيق ومتابعة باقي الإجراءات.
ومن ثمة، فانه إذا كانت الدعوى في
القضايا العادية، ترفع بمقال مكتوب أمام المحكمة المختصة واعتبارا لمجموعة من
الشكليات القانونية المنصوص عليها في الفصول 1و5و32...من قانون المسطرة المدنية،
فانه بالنسبة لدعوى التحفيظ يتم تحديد موضوعها وأطرافها خلال المرحلة الإدارية
للمسطرة وأمام المحافظ العقاري، حيث تتضح أطراف المنازعة ويتبين من يقع عليه عبء
الإثبات فيها.
وفي هذا المضمار، ورد في قرار صادر عن محكمة
النقض: " التعرض دعوى يحدد موضوعها أمام المحافظ، ويوضح المتعرض حدود ومدى
تعرضه، وتبت فيها المحكمة كما أحيلت عليها". (قرار عدد 2804 بتاريخ05
يوليوز2000، الملف المدني عدد 2251/1/1997، منشور بكتاب قضاء المجلس الأعلى في
التحفيظ، من سنة1991 إلى سنة2002، للأستاذ عبد العزيز توفيق، ص74 وما بعدها).
كما ورد في قرار أخر،
ما يلي: " التعرض هو دعوى يحدد موضوعها أمام المحافظ على الأملاك العقارية وان
المحكمة تبت فيما يخص وجود ومدى الحق المدعى به من طرف المتعرض، وان ذلك لا يمنع
قضاة الموضوع من فحص الرسوم المستدل بها من لدن الأطراف ليقارنوا بين قوة إثبات كل
رسم....» (القرار عدد1473، بتاريخ16/04/2008، في الملف عدد 1314/1/1/2006).
وبالتالي، فان
المنازعة بعد إحالتها من قبل المحافظ العقاري على أنظار المحكمة المختصة، فان هذه
الأخيرة تنظر فيها كما أحيلت عليها، وضمن نطاق الوعاء او الأوعية العقارية موضوع
التعرضات، ولا يمكن لأي طرف بعد ذلك ان يتدخل في الدعوى او يدعي حقا على العقار
موضوع المنازعة لان هذه الأخيرة ينحصر موضوعها بين طالب التحفيظ والمتعرض دون
الغير.
وفي هذا الجانب، لا يسعنا إلا أن نبسط مميزات
المنازعات المرتبطة بالتحفيظ العقاري في التالي:
1- إن أطراف الدعوى تحدد أمام المحافظة العقارية حيث يتضح المدعي من المدعى
عليه
2- أن التعرض ضد عملية التحفيظ يستوجب فقط تصريحا يقدم أمام السلطة المختصة في
غنى عن الشكليات المرتبطة عموما بأي مقال للدعوى.
3- إن المحكمة تبسط يدها على النزاع كما أحيل عليها، وتبت في مدى صحة التعرض
ضد مطلب التحفيظ من عدم ذلك، دون النظر في كل ما يرتبط بالمسالة الإدارية للتحفيظ
(مدى تقديم التعرض داخل الأجل من عدم ذلك، البت في شكليات مطلب التحفيظ.... الخ)،
كما يحضر عليها البت في المنازعات المثارة بين المتعرضين بعضهم البعض.
4- لا يقبل التدخل الإرادي في التحفيظ لان المتدخل عديم الصفة، والحالات
الاستثنائية لقبول هذا التدخل إما لمؤازرة أحد أطراف الدعوى، او لاعتبار المتدخل
من ورثة أحد الأطراف ليس إلا.
5- لا يمكن للمحكمة أثناء نظرها في نزاع للتحفيظ ان تقرر في مشروعية مقرر
إداري أدلى به أحد الأطراف تأييدا لمطالبه، لان تقدير مشروعية المقرر المذكور من
عدمه من اختصاص القضاء الإداري في إطار دعوى الإلغاء.......الخ
الفرع الثاني : المتعرض وملازمة تحمله
لعبء الإثبات في منازعات التحفيظ العقاري
انطلاقا مما سبق سرده أعلاه، فان المتعرض في المنازعات
المرتبطة بالعقار في طور التحفيظ هو المتحمل وزر إثبات ادعاءاته، ويظل طالب
التحفيظ معفى من ذلك، وبالتالي فان المتعرض مكلف بان يدعم تعرضه بالحجة المقبولة
والدالة على الحق موضوع تعرضه، والسليمة من العيوب والشوائب الأخرى، بمعنى انه يجب
عليه الإدلاء بالوثيقة المقبولة شرعا والمنصبة على حق معلوم وليس مجهول، لان ادعاء
التعرض هو في نهاية المطاف ادعاء لاستحقاق عقار او حق عيني، وقد ورد في التحفة:
والمدعي استحقاق شيء
يلزم***********بينة مثبتة لما يزعم
كما ورد أيضا:
والمدعي مطالب بالبينة
******************وحالة العموم فيه بينة.
وأساس كون المتعرض في قضايا التحفيظ العقاري هو الملزم
بالإثبات، ما نصت عليه المادة37 من ظهير12 غشت1913 المغير والمتمم بالقانون 07/14
التي جاء في فقرتها الثانية: " وتبت المحكمة في وجود الحق المدعى به من قبل المتعرضين ونوعه
ومحتواه ومداه، وتحيل الأطراف قصد العمل بقرارها على المحافظ الذي له وحده النظر
في قبول طلب التحفيظ او رفضه................"
هذا، وقد استقر القضاء على اعتبار المتعرض ملزم بالإثبات
ولا تناقش حجج طالب التحفيظ، إلا بعد مقارعتها بحجج أقوى من طرف المتعرض، وحسبنا
الاستشهاد في هذا المقام، بما يلي:



لكن السؤال المطروح، هل قاعدة أن المتعرض هو الملزم
بالإثبات قاعدة مستقرة، أي لا يمكن الخروج والحياد عنها في حالات معينة؟
مهما يكن من أمر، فان الإجابة عن هذا التساؤل رهين بسرد
مجموعة من قرارات محكمة النقض في الموضوع، والتي من خلال تصفح لتعليلاتها سيتضح أن
المحكمة المذكورة إنما اخدت توجها واضحا في تكريس معالم إنصاف وعدالة بين الأطراف
وصونا لحقوقهما في المتنازع حوله في افق تحقيق وبلوغ الغاية المنشودة المتمثلة في
الامن القضائي.
وهو ما سيتم
تناوله من خلال المحور الموالي:
المحور الثاني: دور اجتهاد محكمة النقض في
إقرار قواعد العدل والإنصاف في النزاعات المرتبطة بالتحفيظ العقاري، (العقار في
طور التحفيظ)
الفرع الأول: أهمية الاجتهاد القضائي
لمحكمة النقض ضمن منظومة العدالة
يمكن تعريف الاجتهاد
القضائي بأنه" مجموع القواعد الموضوعية"، التي تستنبط من استقرار أحكام
المحاكم على إتباعها في كافة القضايا التي تتولى أمر البت فيها، فالاجتهاد القضائي
بمنظوره القانوني الصرف مرتبط بالمقولة التي تفيد أن القاضي لا يقتصر دوره على
تطبيق القانون وإنما خلق القانون في الحالات التي لم يتم تأطيرها ببند أو مقتضى
قانوني معين، وكذا تفسير القانون في الحالات التي يكون هذا الأخير غامضا في
مناولتها.
ومحكمة النقض بالمغرب باعتبارها اعلي هرم قضائي في البلاد، تضطلع بدور مهم
في سبيل تطوير القاعدة القانونية والتأثير الإيجابي على محاكم الموضوع في اتجاه
وهدف توحيد اجتهاد جميع المحاكم في كافة أنحاء ربوع المملكة بشكل يساهم في استقرار
المعاملات وثبات المراكز القانونية والوصول إلى الغاية المنشودة المتمثلة في تحقيق
الأمن القضائي، رغم ما تعرضت له هذه المؤسسة القضائية- أي محكمة النقض- في بعض
الأحيان من إبداء البعض لملاحظات وانتقادات في بعض الأحيان أمام تضارب القواعد
القانونية المتخذة واختلافها بالنسبة لنازلة واحدة، ولعل لذلك ما يبرره ويفسره.
ومهما يكن من أمر، فان الفكر القانوني أدرك منذ القديم، أن التشريع لا يمكن
بتاتا أن يتصور كاملا، إذ لابد أن يشوبه نقص ما، فالتشريع ما هو إلا عمل من أعمال
الإنسان، ومن ثمة فانه في أية لحظة معينة يمكن ان يعرض على القاضي نزاع لا تعالجه
قاعدة قانونية معينة أو أن هذه الأخيرة تعالج الوضع غير أنها مبهمة في دلالاتها
مما يستدعي معه الأمر تفسيرها وفق الاتجاه الصحيح.
فقاضي الموضوع وكذا قاضي القانون ابني عصرهما، لابد ان يعيشا الواقع العملي
المحسوس الذي يتعين ربطه بمتطلبات العدالة انطلاقا من مهمة الاكتشاف والتوجيه
والتصويب وكما قال الفقيه ( جيني) في كتابه " طريقة تفسير مصادر القانون
الوضعي الخاص" ، انه: على القاضي أن
يتبع بحثا حرا علميا، حرا لأنه يملي عليه من سلطة وضعية، وعلميا لأنه يجد أسسه في
العناصر الموضوعية التي يمكن التوصل إليها عن طريق العلم وحده.
انطلاقا من ذلك، برز دور الاجتهاد القضائي في المنظومة القضائية عموما،
واجتهاد محكمة النقض لا ينحى عن هذا المنظور، اذ كما سلف الذكر فانه من خلال
معالجة والبت في القضايا المعروضة عن تلكم المحكمة، تم ترسيخ جملة من القواعد
القانونية التي من خلالها والتقيد بتطبيقها تم إيجاد حلول قانونية مناسبة لعامة
الإشكالات التي تطرحها تلكم القضايا.
هذا ولا ينكر أحد، دور الاجتهاد القضائي لمحكمة النقض في إرساء جملة من
القواعد القانونية في مختلف النزاعات المعروضة عليها، مدنية أو عقارية، أو جنائية
أو تجارية أو إدارية....الخ، فماهي إذن القواعد القانونية التي أقرتها المحكمة
المذكورة من خلال نظرها في نزاعات التحفيظ العقاري، بشكل ساهم في إرساء معالم الامن
القضائي وساهم في ترسيخ و إقرار جملة من القواعد المرتبطة بمبادئ العدالة
والإنصاف.
الفرع الثاني: اجتهاد محكمة النقض في
منازعات التحفيظ العقاري وإقرار قواعد العدل والإنصاف
إن الحديث عن القواعد القانونية التي أقرتها المحكمة المذكورة من خلال نظرها
في نزاعات التحفيظ العقاري، بشكل ساهم في إرساء معالم الأمن القضائي وكذا قواعد
العدل والإنصاف بين أطراف الدعوى، يمكن ان يستشف من خلال تدابير التحقيق في الدعوى
من جهة، وأيضا من خلال إرساء جملة من القواعد التي تعد خروجا عن قاعدة "
المتعرض ملزم بالإثبات"، وبعبارة اصح اعتبار طالب التحفيظ ملزم بالإثبات في
حالات معينة.
1-
تطبيق
مقتضيات الفصلين34 و43 من القانون 07/14 المغير والمتمم لظهير التحفيظ
العقاري:
في حالة عدم إدلاء
المتعرض بأية حجة تزكي مطالبه، فحتما وباعتباره مدعيا فان مطالبه تكون غير مؤسسة
قانونا. غير انه في حالة الإدلاء بوثائق وحجج شرعية، فانه يتعين مقارنتها بحجج
طالب التحفيظ من جهة إعمالا لقواعد الترجيح بين الحجج، إضافة إلى وجوب تطبيقها على
محل النزاع عن طريق إجراء معاينة.
وارتباطا بهذا الموضوع، فان مقتضيات الفصلين34 و43 من ظهير التحفيظ العقاري
تتعلق بتطبيق رسوم الأطراف المتنازعة
(طالب التحفيظ والمتعرض) على العقار موضوع النزاع، وذلك بمقارنة حدودها على ارض
الواقع والتأكد من كونها مشمولة بالوعاء العقاري المتنازع بشأنه مع القيام بسائر
إجراءات التحقيق الأخرى من قبل القاضي المقرر بمساعدة مهندس طبوغرافي مساح عند
الاقتضاء (خلال المرحلة الابتدائية) او المستشار المقرر (خلال مرحلة الاستئناف)،
من استماع للشهود، والتأكد من واقعة الحيازة وظروفها....والكل ينصب في اتجاه إقرار
الحق لصاحبه.
فالفصل 34 من ظهير التحفيظ العقاري الذي يقابله الفصل 43 من نفس القانون،
ينص على ما يلي: " يعين رئيس المحكمة الابتدائية فور توصله بمطلب التحفيظ
قاضيا مقررا....و يمكن للقاضي المقرر على الخصوص إما تلقائيا او بطلب من احد
الأطراف أن ينتقل إلى عين العقار موضوع النزاع ليجري بشأنه بحثا أو يطبق عليه
الرسوم....ويمكنه ان اقتضى الحال طلب مساعدة مهندس مساح طبوغرافي محلف من جهاز
المسح العقاري...".
كما ينص الفصل 43 من
نفس القانون، على التالي: "يمكن للمستشار المقرر تلقائيا أو بطلب من الأطراف،
أن يتخذ جميع التدابير التكميلية للتحقيق وبالخصوص أن يقف على عين العقار المدعى
فيه مستعينا –عند الاقتضاء-بمهندس مساح طبوغرافي محلف من جهاز المسح العقاري ...طبق
الشروط المحددة في الفصل 34 ليقوم بتطبيق الرسوم أو الاستماع إلى الشهود...".
هذا وأمام عدم احترام محاكم الموضوع لتطبيق
مقتضيات الفصلين أعلاه، أصدرت محكمة النقض العديد من القرارات المتواترة في
الموضوع، منها:





انطلاقا من مضمون هذه
القرارات، يتضح ان اتجاه محكمة النقض هو الزام محاكم الموضوع بالأخذ بعين الاعتبار
لقواعد العدل والإنصاف، بتطبيق حجج الأطراف على العقار موضوع النزاع عن طريق إجراء
معاينة ميدانية بالاستعانة بذوي الاختصاص، والاستماع إلى الشهود ...الخ، أخذا بعين
الاعتبار أنها محاكم موضوع تستلزم تبرير منطوق أحكامها وقراراتها بعلل مؤسسة ومن
ضمنها تقييم حجج الأطراف والتأكد من انطباقها على المتنازع حوله بناء على مختلف
إجراءات التحقيق اللازمة.
2- الاستثناءات الواردة
على قاعدة " المتعرض ملزم بالإثبات"، أي حالات انتقال عبء الإثبات من
المتعرض إلى طالب التحفيظ:
ا - كون الحيازة بيد المتعرض ضد مطلب التحفيظ
تعرف الحيازة بأنها
سلطة فعلية وواقعية يباشرها الحائز على الشيء، أو على حق عيني على منقول أو عقار،
وهي إما حيازة استحقاقية أو عرضية، فالأولى يستحق بها واضع اليد الشيء المحوز
ويتملكه بها عند توفر شروطها وموجباتها وتدخل ضمن أسباب كسب الملكية، أما الثانية
فهي مجرد حيازة تصرفية وانتفاعية بالشيء. وللحيازة دور مهم في منازعات الاستحقاق
المتعلقة بالعقار الغير المحفظ، وكذا في نزاعات العقار في طور التحفيظ، الى حد
ذهبت معه محكمة النقض إلى التأكيد على أن الحيازة من شانها أن تنتج أثارا قانونية
حتى ولو لم تكن مرتكزة على أي رسم.
وفي منازعات التحفيظ العقاري من الممكن أن تكون
حيازة العقار المتنازع حوله بيد طالب التحفيظ او بيد المتعرض ومن الممكن أيضا ان
لا تكون بيد أي منهما، إلا انه في هذه الحالة التي تكون الحيازة بيد طالب التحفيظ
بالذات، فهنا ينتقل عبء إثبات الادعاء من المتعرض المدعي إلى طالب التحفيظ المدعى
عليه وعلى المحكمة البحث في ظروف هذه الحيازة وأسبابها، وقد صدرت في هذا الإطار
جملة من قرارات محكمة النقض منها:

" إذا ثبت وضع اليد على المدعى فيه لأحد
الأطراف بحكم آو بغيره فان ذلك يرتب أثره القانوني في الدعوى، حتى ولو كانت حيازته
غير هادئة او مكسبة للملك، وعليه إذا ثبت للمحكمة أن المتعرض على مطلب التحفيظ هو
واضع اليد على العقار المطلوب تحفيظه وجب عليها مناقشة حجة طالب التحفيظ وترتب اثر
ذلك على الدعوى إيجابا أو سلبا"

" تمسك المتعرضة على مطلب التحفيظ بالحيازة
والتصرف والسكن في العقار منذ الشراء يوجب على المحكمة التأكد من هذه الواقعة ما
دام ان ثبوتها يغير من مراكز الأطراف القانونية، من حيث الإثبات ويجعل طالب
التحفيظ هو الملزم به " .

" حيازة المتعرض للعقار موضوع التحفيظ، يجعل
عبء إثبات استحقاقه على طالب التحفيظ، والمحكمة لما لم تثبت لها ملكية جد طالب
التحفيظ للملك، وبقائه على الشياع لورثته من بعده، قضت وعن صواب بصحة تعرض
المتعرض" .

" لئن كان صاحب المطلب اللاحق في التاريخ
يعتبر متعرضا على مطلب التحفيظ السابق ويعتبر بالتالي مدعيا يقع عليه عبء
الإثبات...، فان تطبيق هذه القاعدة رهين بعدم ثبوت حيازة صاحب المطلب اللاحق، وان
ثبوت حيازة العقار محل النزاع في يد أصحاب المطلب اللاحق في التاريخ عن طريق
البناء والهدم منذ خمسين سنة، ينقلب معه عبء الإثبات على طالب التحفيظ صاحب المطلب
السابق في التاريخ" غير ان قاعدة كون
الحيازة سواء بيد أحد الأطراف لا يعمل بها ولا يمكن ان تنتج أثارا قانونا في جملة
من الحالات:
§
حالة الفصل 261 من
مدونة الحقوق العينية، التي نصت على ما يلي: " لا تكتسب
بالحيازة: -أملاك الدولة العامة والخاصة-الأملاك المحبسة -أملاك الجماعات
السلالية-أملاك الجماعات المحلية-العقارات المحفظة-الأملاك الأخرى المنصوص عليها
صراحة في القانون."
§
حالة الحيازة مبنية
على أصل مدخل غير ناقل للملكية: من
المعلوم فقها وقضاء أنه من عرف وجه مدخله بغير ناقل شرعي للملكية فان حيازته لا
تنفعه مهما طالت، وفق قرارات محكمتكم الموقرة، منها:


ومن ذلكم، استناد الحيازة على موجب غير ناقل للملك كالحراسة أو الإسكان، وفق
ما أكدته محكمة النقض من خلال قراريها عدد1540 بتاريخ 22/04/2002 في الملف
عدد3662/1/1/2001 وعدد1415 بتاريخ 24/03/1999.
وهذا الأمر ما فطنت
إليه مدونة الحقوق العينية في المادة 246 منها، التي جاء فيها:" لا تقوم
الحيازة ولا يكون لها أثر إذا ثبت أن أصل مدخل الحائز غير ناقل
للملكية...........".
§ حالة اقتران الحيازة بإكراه: وهي التي أشار إليها الفصل 245 من
مدونة الحقوق العينية، فإذا اقترنت الحيازة بإكراه أو حصلت خفية او كان فيها لبس
فلا يكون لها اثر إلا من الوقت الذي تزول فيه هذه العيوب.
§ حالة الفصلان 255 و256 من مدونة الحقوق العينية: الحيازة بين الأقارب
وكذا حالة كون المحوز عليه فاقد الأهلية اوناقصها.
§ حالة كون الحيازة الاستحقاقية بيد غير مغربي: فالمادة239 من مدونة الحقوق
العينية تنص على ان الحيازة الاستحقاقية لغير المغاربة لا تقوم مهما طال أمدها
ب
- عدم الجزم بوجود تعرض متبادل بين مطلبين للتحفيظ ،الا بعد تحديدهما معا
قد يعمد أحد الأطراف إلى تقديم مطلب للتحفيظ وبعد
تحديده يتضح انه يشمل كلا أو جزءا لمطلب سابق مقدم من قبل الغير وقع تحديده، في
هذه الحالة ينتج عن ذلك تعرض متبادل بين المطلبين المذكورين، ويحال للفصل فيه أمام
القضاء، حيث يصبح صاحب المطلب الأسبق تاريخا في الإيداع هو طالب التحفيظ، أما صاحب
المطلب اللاحق فيصبح هو المتعرض، وانطلاقا من ذلك تتحدد المراكز القانونية للأطراف
واعتبارا لها يتم البت في الملف قضائيا.
غير أن ثمة حالات يتقدم فيها شخص بمطلب للتحفيظ،
يكون موضوع تعرض من قبل شخص أخر، وأثناء إحالة الملف على المحكمة يبدي المتعرض
موقفا بكون تعرضه إنما نشا أيضا على كون مطلب تحفيظ خصمه( أي طالب التحفيظ) ، يقع
كلا أو جزءا داخل مطلب سابق تقدم به المتعرض إلا أن عمليات تحديده لم تتم، ويدلي
المتعرض في هذه الحالة برقم مطلبه الغير المحدد أو شهادة عقارية له.
ففي هذه الحالات،
وانطلاقا من قرارات محكمة النقض الصادرة في هذا الشأن، يتعين على محاكم الموضوع
إرجاع الملف برمته إلى المحافظ إلى حين استكمال إجراءات مطلب التحفيظ الغير المحدد
حفاظا على المراكز القانونية للأطراف، ومن قرارات محكمة النقض الصادرة في هذا
الإطار، ما يلي:


وللاستئناس فقط،
وكتطبيق لفحوى قرار محكمة النقض 1527 أعلاه، أوردت محكمة الاستئناف بأكادير في
قرار لها ما يلي:
" بناء على قرار
محكمة النقض عدد1527 المؤرخ في 27/03/2012 القاضي بالنقض والإحالة... حيث أن البت
في التعرض الموجه ضد المطلب الحالي عدد 11480/39، متوقف على التحقق من مطلب تحفيظ
المستأنفة عدد 9523/39 والذي لم تتم إحالته على المحكمة، مما يتعين معه التصريح
بإلغاء الحكم المستأنف فيما قضى به والحكم بإرجاع الملف إلى المحكمة مصدرته للبت
فيه طبقا للقانون".
ج- كون الوثائق الدلى بها من
قبل طالب التحفيظ تؤكد أحقية المتعرض على موضوع النزاع
قد يدلي طالب التحفيظ
أمام المحكمة بوثائق يستشف منها أن للمتعرض بشكل أو بأخر حقوقا على المتنازع حوله،
بمعنى ان وثائق طالب التحفيظ تشهد بحق للمتعرض، ومن أمثلة ذلك إدلاء المتعرض برسم
شراء من بائع له، بعدما أدلى طالب التحفيظ بوثائق تفيد كون البائع للمتعرض هو مورثه
الذي انتقل إليه الحق منه ، فهنا وإعمالا لقاعدة " الاستصحاب" ينتقل عبء الإثبات من المتعرض إلى طالب
التحفيظ،
ومن قرارات محكمة النقض في هذا الموضوع، نذكر على
سبيل المثال لا الحصر:



خاتمة
انطلاقا مما سبق سرده، يتضح ان مؤسسة "
الإثبات" باعتبارها الركيزة الأساسية للادعاء في جميع المنازعات كيفما كان
نوعها ومنها منازعات الاستحقاق والتحفيظ العقاري، تلعب دورا مميزا في هذه القضايا
وانطلاقا من معطيات الملف وملابساته يتضح أن تلكم المؤسسة إما أن تقع على عاتق
المدعي وهذه هي الحالة الأصل، وقد تنتقل في بعض الحالات إلى عاتق المدعى عليه كما
هو الأمر في الأمثلة السالف مناقشتها.
ولمحكمة النقض، باعتبارها محكمة قانون، دور مهم وبارز من
خلال إقرار جملة من القواعد القانونية لها ارتباط وثيق بمبادئ العدل والإنصاف
أثناء النظر في نزاعات التحفيظ العقاري، ولا شك أن هذا الدور منبثق من ضرورة حماية
الملكية العقارية والحقوق المرتبطة بها من جهة وأيضا صونا لحقوق الأفراد على تلكم
الملكية من جهة أخرى، ولعل القرارات القضائية المستشهد بها صلب هذا الموضوع، وان
تم إيرادها على سبيل المثال فقط لا الحصر-لكفيلة بتوضيح معالم هذه الرؤى التي تنصب
في اتجاه إقرار وترسيخ المبادئ المتحدث عنها، بشكل يفسر مدى مساهمة محكمة النقض في
ترسيخ معالم الأمن القضائي.
من أجل تحميل هذا المقال على شكل PDF - إضغط هنا أسفله