الإعتراف التمهيدي وأثره في الإثباث في المادة الجنائية - على ضوء الإجتهاد القضائي المغربي - عمر الموريف

9anonak
الإعتراف التمهيدي وأثره في الإثباث في المادة الجنائية - على ضوء الإجتهاد القضائي المغربي




الإعتراف التمهيدي وأثره في الإثباث في المادة الجنائية ـ
على ضوء الإجتهاد القضائي المغربي

من إعداد: عمر الموريف
منتدب قضائي بمحكمة الاستئناف بورزازات
 

مقدمة :
إن تحقيق العدالة الجنائية يقف على الأدلة والحجج المقدمة أمام المحكمة حتى تتمكن الأخيرة من تكوين  قناعتها وبالتالي إصدار حكمها المنصف، الحافظ لحقوق الأطراف والمجتمع معا . ولكون البراءة هي الأصل في الإنسان، فإن الطرف الذي يدعي خلاف ذلك هو من يقع عليه عبء الإثبات، فلا معنى لأن يكلف الشخص المراد مساءلته جنائيا إثبات أنه بريء وهو كذلك بحسب الأصل، ويترتب عما سبق أنه في حالة العجز عن إثبات ما وقع الادعاء به بالدليل القاطع ،فما على القاضي الجنائي إلا إعلان براءة المتهم.[1]
  ويبقى الأصل في الميدان الجنائي هو حرية الإثبات، ـ خلافا لما هو عليه الميدان المدني ـ، فقد نصت المادة 286 من قانون المسطرة الجنائية على أنه " يمكن إثبات الجرائم بأية وسيلة من وسائل الإثبات ما عدا في الأحوال التي يقضي فيها القانون خلاف ذلك،[2] ويحكم القاضي حسب اقتناعه الصميم ويجب أن يتضمن المقرر ما يبرر اقتناع القاضي وفقا من البند 8 من المادة 365 الأتية بعده".
  ومن بين وسائل الإثبات هاته نجد محاضر الضابطة القضائية وما تتضمنه من تصريحات سواء خصت المتهم أو الطرف المشتكي أو المصرحين، و تبقى هذه الوسيلة من بين الوسائل التي أسالت الكثير من المداد، وطرحت نقاشات واسعة من حيث قوتها الإثباتية لاسيما في المادة الجنائية مقارنة منها بالجنحية، وهذا النقاش الحاد أفرزته مواد المسطرة الجنائية المنظمة لقواعد الإثبات وما ضمته من مدلولات نعتبرها من زاوية نظرنا الشخصي فضفاضة وعامة تقبل أكثر من تفسير من ناحية، وكذا مواقف محكمة النقض المتباينة في ذات الصدد من ناحية أخرى، وهو ما جعل محاكم الموضوع من خلال اجتهاداتها والفقه بدورهما يدليان بتصوراتهما وقرائتها في هذا المجال، وهو ما أثر فعلا في موقف المشرع الجنائي وهو بصدد إعداد مشروع جديد للمسطرة الجنائية لايزال يعرف تجاذبات ونقاشات مستفيضة إلى اليوم.
  وسأحاول قدر الإمكان تناول ما يمكننا أن نسميه "اعترافا تمهيديا للمتهم" وقوته الثبوثية في القضايا الجنائية، وذلك بتحليلنا لمواد المسطرة الجنائية، والوقوف على مواقف محكمة النقض بشأنها، وكذا اجتهادات محاكم الموضوع في هذا المجال.
  وعليه سنتطرق إلى هذا الموضوع من خلال اعتمادنا على خطة البحث التالية:
المدخل التمهيدي: الإطار العام للإعتراف ولمحاضر الضابطة القضائية
المبحث الأول: موقع المحاضر التمهيدية في قانون المسطرة الجنائية
المبحث الثاني: حجية الإعتراف التمهيدي أمام القضاء الجنائي
خاتمة وتقييم

المدخل التمهيدي: الإطار العام للإعتراف و للمحاضر التمهيدية
وسنتطرق في هذا المدخل إلى الإطار العام لكل من الاعتراف في الفقرة الأولى، ثم نعرج على المحاضر التمهيدية في فقرة ثانية كما يلي:
الفقرة الأولى: الإطار العام للاعتراف
  لا شك أن للاعتراف أهمية بالغة عند التصريح به أمام الجهات القضائية على مختلف أنواعها، عندما يصدر من المتهم وفق للشروط والأشكال التي يتطلبها القانون، و يعتبر اعتراف المتهم بارتكابه الواقعة الإجرامية المنسوبة إليه من وسائل الإثبات القوية في الميدان الزجري، والأكثر تأثيرا على المحكمة من ناحية اتخاذ قرارها الفاصل.
  ويعرف الاعتراف عموما في اللغة بالإقرار، وفي الاصطلاح القانوني بكونه إقرار المتهم على نفسه بصدور الواقعة الإجرامية عنه، ولا يُشترط أن يكون هذا الاعتراف مفصلا إذ يُعتد به صحيحا حتى وإن كان شاملا متى دل على ارتكاب الجريمة،[3] وقد يكون هذا الاعتراف شفاهيا أو مكتوبا.
أما الاعتراف القضائي فهو ذلك الاعتراف الصادر عن متهم أمام جهة قضائية (النيابة العامة، قاضي التحقيق، هيئة الحكم)، وهذا الاعتراف هو المنعوت ب"سيد الأدلة" في المادة الجنائية كونه يحسم في الغالبية العظمى من الحالات موضوع الدعوى العمومية.
ويبقى الاعترافـ حتى يمكن الاعتداد به ـ مقيدا بشروط صحة نجمها في النقاط التالية:
1)        صدوره عن المتهم شخصيا كونه أتى الجريمة بكافة عناصرها المادية والمعنوية،
2)        أن يكون المتهم المعترف متمتعا بالإدراك والتمييز والاختيار،
3)        أن يكون الاعتراف صريحا وواضحا.
  وخلاصة القول أن الاعتراف كباقي الأدلة متروك لتقدير القضاء، ويجب أن يكون هذا الاعتراف مستوفياً شرائطه التي يتطلبها القانون بحيث يكون هذا الاعتراف سليماً وقانونياً وثابت المصداقية موضوعاً بعيداً عن كل المؤثرات التي قد تؤدي بالإخلال بسلامة الاعتراف. إذ أنه ومن المعلوم أن الضمانات المقررة سلامة الاعتراف مبنية على أساس احترام حقوق الإنسان وآدميته وهي ذات طابع دستوري لا يقيد القاضي فحسب بل يقيد المشرع نفسه إذ أن هذه الضمانات مصدرها الدستور وروحها القانون وأن هذه الأحكام لا يتوقف تطبيق القاضي لها ومراعاة عدم الإخلال بها على طلب أحد فكلما وقعت عين القاضي على الاختلال بهذه الضمانات وجب عليه استبعاد الاعتراف .
حيث أصبح من المستقر عليه فقها وقضاءا أن الاعتراف ليس حجة بعد ذاته بغض النظر عن الجهة التي تم أمامها الاعتراف ما لم يكن صادقاً وصحيحاً وصادراً عن أدلة واعية مدركة لمعنى الاعتراف وما له وغير مشبوب بعيب من العيوب المؤثرة فيه سواء كان ذلك بالإدراك أو الإكراه وإذا ما كان مستنداً لإجراءات باطلة مستندين في ذلك على أن القاعدة التشريعية على أن الأحكام الجزائية تبنى على الجزم واليقين ولا تبنى على الشك والتخمين ، وعليه فإن أي شائب يشوب الاعتراف يؤدي إلى بطلانه.
الفقرة الأولى: الإطار العام للمحاضر التمهيدية
من المستجدات التي جاء بها قانون المسطرة الجنائية تعريف المحضر وتدقيقات أخرى مهمة. حيث نجد المادة 24 من ق. م.ج. تعرفه وبشكل مطول حيث تنص على أن: "المحضر في ـ مفهوم المادة السابقة ـ هو الوثيقة المكتوبة التي يحررها ضابط الشرطة القضائية أثناء ممارسة مهامه و يضمنها ما عاينه أو ما تلقاه من تصريحات أو ما قام به من عمليات ترجع لاختصاصه.
دون الإخلال بالبيانات المشار إليها في مواد أخرى من هذا القانون أو في نصوص خاصة أخرى، يتضمن المحضر خاصة اسم محرره وصفته ومكان عمله وتوقيعه، ويشار فيه إلى تاريخ وساعة إنجاز الإجراء وساعة تحرير المحضر إذا كانت تخالف ساعة إنجاز الإجراء.
يتضمن محضر الاستماع هوية الشخص المستمع إليه ورقم بطاقة تعريفه عند الاقتضاء، وتصريحاته والأجوبة التي يرد بها عن أسئلة ضابط الشرطة القضائية.
إذا تعلق الأمر بمشتبه فيه، يتعين على ضابط الشرطة القضائية إشعاره بالأفعال المنسوبة إليه.
يقرأ المصرح تصريحاته أو تتلى عليه، ويشار إلى ذلك بالمحضر ثم يدون ضابط الشرطة القضائية الإضافات أو التغييرات أو الملاحظات التي يبديها المصرح، أو يشير إلى عدم وجودها.
يوقع المصرح إلى جانب ضابط الشرطة القضائية على المحضر عقب التصريحات وبعد الإضافات ويدون اسمه بخط يده. وإذا كان لا يحسن الكتابة أو التوقيع يضع بصمته ويشار إلى ذلك في المحضر.
يصادق ضابط الشرطة القضائية والمصرح على التشطيبات والإحالات.
يتضمن المحضر كذلك الإشارة إلى رفض التوقيع أو الإبصام أو عدم استطاعته، مع بيان أسباب ذلك"
و يختلف المحضر عن التقرير في عدة نقط نجملها في:
 أن التقرير الذي هو وسيلة إخبار لا غير يرفعها موظف الأمن عادة إلى رئيسه ليشعره بمعلومات حول نازلة معينة، ويمكن أن يحرر من طرف ضابط الشرطة القضائية أو غيره، بعكس المحضر الذي   لا يمكن أن يحرره إلا من له صفة ضابط الشرطة القضائية، ثم قد يكون التقرير شفويا في حين أن المحضر دائما مكتوب. كما أن مجال المحضر محدود بما يفيد إثبات الجريمة ويقتصر على المشاهدة والتسجيل، عكس مجال التقرير الذي هو أوسع بحيث يستقطب كل ما يمكن أن يتقصاه محرره من معلومات حول الجريمة ويكتسي طابعا شخصيا يظهر فيه رأي كاتبه.
 وعلى العموم فإن التقرير وسيلة داخلية للإخبار في حين أن المحضر وسيلة إثبات رسمية. وقد أوجب المشرع في المحضر احترام شروط متعددة لكي يأتي سليما وخصه بالحجية بحسب الحالات وهذا غير وارد بالنسبة للتقرير.
 ويمكن تقسيم المحاضر إلى تصنيفات ثلاثة[4]: من حيث صفة محرريها أو نوع الجرائم التي تتضمنها أو من حيث قوتها الثبوتية.
أ)- من حيث صفة محرريها تنقسم إلى:    
*        محاضر ينجزها ضباط الشرطة القضائية في الحالة العادية المرتبطة بالبحث التمهيدي المنصوص عليها في الفصل 23 م. ج. وفي حالة التلبس وفق الشكليات المنصوص عليها في الفصول 59 إلى 79.
*        محاضر يحررها أعوان الشرطة القضائية أو الموظفون والأعوان المنصوص عليهم في قوانين خاصة. مثال: مخالفات لقانون الصيد والقنص. مخالفات لقانون السير والجولان. مخالفات متعلقة بالغش في البضائع.
*        محاضر ينجزها موظفون وأعوان مكلفون ببعض مهام الش.الق. مثال: مهندسو أو مأمورو المياه والغابات. ف 26 م ج.
   ب). من حيث الجرائم التي تتضمنها نجد:
*            محاضر جنايات.
*         محاضر الجنح الضبطية والتأديبية.
*          ومحاضر المخالفات.
    ج). من حيث قوتها الثبوتية تنقسم إلى:
*         محاضر يوثق بمضمنها إلى أن يثبت ما يخالفها ( ف 290 م ج(
*        محاضر لا يطعن فيها إلا بادعاء الزور(فصل 292 م ج)
*        محاضر لا تعتبر إلا مجرد بيان ( فصل 291 م ج)
المبحث الأول: موقع المحاضر التمهيدية في قانون المسطرة الجنائية
   إن المواد التي نصت على محاضر البحث التمهيدي وقوتها الثبوتية في القضاء الزجري، وكذا تلك التي همت مرحلة المحاكمة وما تحمله هذه المواد من مضامين قد تبدو من زاوية قرائتها الأولية واضحة، لكن الممارسة الميدانية تجعلنا نقف على التأويلات العديدة والقراءات المتباينة وما يفرزه كل ذلك من اجتهادات مختلفة قد تصل في بعض الأحيان إلى درجة التناقض إن على مستوى محاكم الموضوع، أو محكمة النقض.
  وسنقتصر في هذه الدراسة على مواد في قانون المسطرة الجنائية وما تعكسه من آثار على المحاكمة الزجرية في مختلف المحاكم، وهذه المواد هي 287 و290 و 291.
تنص المادة 287 من ق.م.ج على ما يلي : "لا يمكن للمحكمة أن تبني مقررها إلا على حجج عرضت أثناء الجلسة ونوقشت شفاهيا وحضوريا أمامها".
ونصت المادة 290 من نفس القانون على أن " المحاضر والتقارير التي يحررها ضباط الشرطة القضائية في شأن التثبت في الجنح والمخالفات يوثق بمضمنها إلى أن يثبت العكس بأية وسيلة من وسائل الإثبات".
بينما نصت المادة 291 منه على التالي :" لا يعتبر ما عدا ذلك من المحاضر أو التقارير إلا مجرد معلومات "
  فباستقرائنا لهذه المواد نتساءل هل للمحكمة الزجرية أن تأخذ بما هو مدون في محاضر البحث التمهيدي لوحده لبناء مقررها وقناعتها تطبقا للمادة 286 من ق.م.ج التي أعطت لها صلاحية تكوين هذه القناعة من جميع الحجج ـ ما لم يُستثنى بمقتضى نص قانوني ـ، أم هي ملزمة بالأخذ بما راج أمامها شفاهيا وحضوريا وحسب وفق منطوق المادة 287 من ذات القانون؟
  إن ما لا خلاف فيه فقها وقضاء هو اعتماد المحكمة على محاضر الضابطة القضائية وما يعززها من أدلة وقرائن أخرى، لكن الخلاف يطفو إلى السطح متى تم الحديث عن الركون إلى هذه المحاضر لوحدها لتكوين قناعتها، سيما في المادة الجنائية التي اعتبرت المسطرة والحالة هاته هذه المحاضر مجرد معلومات، وحتى في المادة الجنحية التي تعتبر فيها ذات حجية كافية نجد من اجتهادات محكمة النقض من لا تسلم بهذا الاتجاه وتفرض على المحكمة تطبيق المادة 287، وهو ذات الدفع الذي يتمسك به دفاع المتهم دوما في المحاكمات الزجرية، ومن بين هذه الاجتهادات نجد قرار عدد 1375/8 لمحكمة النقض الصادر بتاريخ 27/12/2012 ملف جنحي عدد 10742/6/8/2012 والذي أكدت فيه على أنه لا يمكن للمحكمة أن تعتمد على تصريحات شاهد مدونة في محضر الضابطة القضائية دون استدعائه والاستماع إلى شهادته  ومناقشتها حضوريا وشفاهيا مع الأطراف وفق المادة 287 من ق.م.ج ومن حيثياته : << وحيث أنه بمقتضى المادة 287 المشار إليها أعلاه فإنه لا يمكن للمحكمة أن تبني مقررها إلا على حجج عرضت أثناء الجلسة ونوقشت شفاهيا وحضوريا أمامها.
  وحيث إن المحكمة مصدرة القرار المطعون فيه أيدت الحكم الابتدائي متبنية علله وأسبابه وأن هذا الأخير استند فيما انتهى إليه من إدانة الطاعن على تصريح المصرح  بمحضر الضابطة القضائية دون أن تقوم باستدعائه والاستماع إليه ومناقشة شهادته حضوريا وشفاهيا مع الأطراف، وبذلك تكون المحكمة مصدرة القرار المذكور عندما أيدت الحكم الابتدائي على علته قد جعلت قرارها ناقص التعليل ومخالفا للمادة 287 المذكورة ويتعين نقضه وإبطاله<<
  ومن هذا المنطلق قد نجد أن شيئا من عدم التوافق قائم بين مضمون المادتين 287 و 290 من ق,م.ج،إذ نلاحظ أن اجتهادات محكمة النقض تعطي القوة الثبوتية للحجج المناقشة أمام المحكمة شفاهيا وحضوريا أكثر مما تتضمنه محاضر الضابطة القضائية حتى في الشق الجنحي، وهو اتجاه سليم تكرسا أولا لضمانات المحاكمة العادلة، هذه الضمانات الغائبة تماما في مرحلة البحث التمهيدي، و ثانيا لقيام المحكمة بواجب ممارسة سلطتها على هذه النوع من المحاضر، وفي هذا الصدد نشير لاجتهاد لمحكمة النقض الذي اعتبر أن فحوى ما يرد في محاضر الضابطة القضائية يخضع لتقدير قضاة الموضوع لهم أن يعملوا به ـ فيما يتعلق بالجنح والمخالفات ـ إذا إقتنعوا.[5]
  ومما نستشف فيه التغليب الذي أولاه الاجتهاد القضائي للمادة 287 ق.م.ج ما ذهبت إليه محكمة النقض في إحدى قراراتها حينما نصت على أنه :<< تعد تصريحات الطرفين التي نوقشت أمام المحكمة حججا وأن قبول المحكمة لتصريحات الضحية ورفضها لتصريحات المتهم يدخل ضمن سلطتها التقديرية للحجة ولا تخضع في ذلك لرقابة المجلس>> [6]
  وإذا كانت المحاضر التمهيدية لا تثيرا جدلا كبيرا إذا ما تعلق الأمر بالجنح والمخالفات، فإن الأمر عكس ذلك تماما إذا تعلق الأمر بالجنايات، فاتجاه يرفض رفضا تاما الركون إليها لوحدها متمسكا بمقتضيات المادتين 287 و 291، واتجاه ثان لا يرى أي مانع من تبنيها في تكوين المحكمة لقناعتها ولو لوحدها مستندا في ذلك على ما نصت عليه المادة 286 من ق.م.ج، وهما الاتجاهان الذين سنتطرق إليهما مستندين على الاجتهاد القضائي لتحليلهما أخذين على سبيل المثال هنا الاعتراف المضمن بها ومدى حجيته أمام القضاء الزجري الجنائي.
المبحث الثاني: حجية الاعتراف التمهيدي أمام القضاء الجنائي
  إن  الاعتراف التمهيدي المقصود هنا هو ذاك الذي أتى مجردا من أي دليل أو حجة أو قرينة أخرى تعززه، فهو الذي يثير الإشكالية قيد التحليل، أما أخذ المحكمة لهذا الاعتراف متى وجد هناك ما يعضده من قرائن وأدلة أخرى فإن ذلك يعد توجها سليما يحظى باتفاق أغلب الفقه والقضاء.
  فالتساؤل المطروح إذن هو هل للمحكمة أن تأخذ باعتراف المتهم أمام الضابطة القضائية لوحده للقول بإدانته بالرغم من إنكاره أمام الجهات القضائية ؟؟
  للوقوف على جواب هذا التساؤل المهم، نشير إلى الاتجاهين المتباينين في هذا الإطار بين اتجاه مؤيد (الفقرة الأولى)، واتجاه رافض (الفقرة الثانية)، معتمدين في ذلك على ما وقفنا عليه من اجتهاد لقضاء الموضوع والنقض.
الفقرة الأولى: الاتجاه المؤيد للأخذ بالاعتراف التمهيدي
  هذا الاتجاه يرى انه لا مانع أن تعتمد المحكمة على اعتراف المتهم المدون في محضر الضابطة القضائية للقول بإدانته من أجل الجناية التي توبع لأجلها، وفي هذا الصدد نسرد لمجموعة من الاجتهادات القضائية المتعلقة بمحكمة النقض ولبعض من محاكم الموضوع:
1-       اجتهادات محكمة النقض:
أ‌-       القرار 825/8 بتاريخ 11/09/2014 :حيث إن الاعتراف بصفة عامة وإن كان مضمنا بمحضر الضابطة القضائية ومتعلقا بجناية فإنه يخضع للسلطة التقديرية للمحكمة أن تأخذ به متى اطمأنت إلى فحواه، والمحكمة لما أدانت الطاعن من أجل جناية تعدد السرقات الموصوفة ومحاولتها اعتمادا على اعترافه التمهيدي أمام الضابطة القضائية والذي يعتبر وسيلة إثبات قائمة بذاتها، تكون قد أعملت سلطتها التقديرية في تقييمه في نطاق السلطة المخولة لها بمقتضى المادة 293 من قانون المسطرة الجنائية مما يكون معه القرار معللا والوسيلة على غير أساس.
ب‌-    القرار 95 بتاريخ 02/06/1966 : تكون محكمة الجنايات قد طبقت القانون تطبيقا سليما عندما ارتكزت على اعتراف المتهم المسجل بمحضر الشرطة الذي اقتنعت المحكمة بما جاء فيه لأن ما حواه من الاعترافات يخضع تقديره لقضاة الموضوع في حدود سلطتهم المطلقة.
ت‌-    قرار عدد 95 بتاريخ 03/12/1970 : تكون محكمة الجنايات قد طبقت القانون تطبيقا سليما عندما ارتكزت على اعتراف المتهم المسجل بمحضر الشرطة الذي اقتنعت المحكمة بما جاء فيه لأن ما حواه من الاعترافات يخضع تقديره لقضاة الموضوع في حدود سلطتهم المطلقة.
ث‌-    القرار عدد 5980/4 بتاريخ 29/10/1997 : تكون محكمة الموضوع قد بنت قناعتها على أساس صحيح من الواقع والقانون عندما اعتمدت على فحوى محضر الضابطة القضائية المتضمن لاعتراف المتهم وأهملت المحضر الثاني المتضمن لإنكاره في مادة لم يحدد القانون صراحة اعتماد وسائل إثبات معينة فيها.
2-       اجتهادات محاكم الموضوع:
أ‌-       قرار صادر عن محكمة الاستئناف بورزازت بتاريخ 08/10/2012  تحت عدد 222 ملف جنائي استئنافي 163/12 : استنادا إلى تصريحات المتهم التمهيدية فإن المحكمة اقتنعت بثبوت التهمة المؤاخذ من أجلها المتهم ابتدائيا ثبوتا قطعيا بكافة عناصره التكوينية.
ب‌-    قرار صادر عن محكمة الاستئناف بالرباط بتاريخ 30/09/1996 تحت عدد 639 ملف 515/96 : للمحكمة أن تقتنع بما ورد من اعتراف بمحضر الضابطة القضائية في الجنايات للحكم بالإدانة.[7]
الفقرة الثانية: الاتجاه الرافض للأخذ بالاعتراف التمهيدي
  هذا الاتجاه يرفض الأخذ بالاعتراف المدون بمحاضر الضابطة القضائية للقول بإدانة المتهم دون تعضيده بقرائن وأدلة أخرى، وهو الاتجاه الأكثر تكريسا على مستوى اجتهادات محكمة النقض أكثر منه من محاكم الموضوع، غير أن من هذه الأخيرة من تصرح باستبعادها بكل جرأة والتصريح ببراءة المتهم متى انتفت وسائل الإثبات الأخرى.
1-       اجتهادات محكمة النقض:
أ‌-       قرار عدد 2732299/1 بتاريخ 12/11/1996 : لا يجوز الاعتماد على ما تضمنه محضر الضابطة القضائية من اعترافات وأقوال الضحية في الجنايات دون تعزيز ذلك بوسائل إثبات قانونية أو قرائن قوية من شأنها أن تؤدي إلى النتيجة المستخلصة.[8]
ب‌-    قرار عدد 626/5 بتاريخ 10/03/2004 : لا يكفي محضر الضابطة القضائية وحده للإدانة في السرقة الموصوفة ما لم يعزز بقرائن أخرى.[9]
ت‌-    قرار عدد 1613/7 بتاريخ 25/04/2003 : الإدانة في جناية السرقة الموصوفة اعتمادا على اعتراف المتهم لدى الضابطة القضائية يجعل القرار ناقص التعليل.
ث‌-    قرار رقم 155 بتاريخ 05/02/1976 : لا يكفي لصحة الحكم أن تصرح المحكمة باقتناعها بما جاء في محضر الشرطة من اعترافات بل لابد من تعليل وجه ذلك الاقتناع.
ج‌-     القرار 3751/1 بتاريخ 19/12/1995 : تعتبر محاضر الضابطة القضائية أو التقارير مجر بيانات يستأنس بها
2-       إجتهادات محاكم الموضوع:
أ‌-       اجتهاد محكمة الاستئناف بورزازات تحت عدد 112 بتاريخ 11/11/2010 ملف 95/11 : حيث أنه أمام إنكار المتهم أمام هذه المحكمة وعند استنطاقه من طرف السيد الوكيل العام للملك وعدم وجود أي دليل فإنه لا يمكن الاعتماد على تصريحاته المدونة بمحضر الضابطة القضائية وحده للقول بثبوت الجناية المتابع بها في حقه ذلك أن محاضر الضابطة القضائية تعد في الجنايات معلومات، وحيث أنه اعتبار لذلك تبين لهذه الغرفة عدم ثبوت الجناية في حق المتهم وأنه يتعن لذلك عدم مؤاخذته من أجلها ـ والتصريح ببراءته منها ـ.
ب‌-    إجهاد محكمة الاستئناف بالرباط عدد 126 بتاريخ 07/03/1990 : اعتراف المتهم بمحضر الضابطة القضائية بالقتل عمدا مع سبق الإصرار والترصد يعتبر مجرد بيان تستأنس به المحكمة فقط، خاصة وأن المحضر غير معزز بقرائن قوية ومشوب بالتناقض فضلا عن إنكار المتهم أمام السيد قاضي التحقيق وهيئة الحكم، الشيء يستوجب الحكم ببرائته لفائدة الشك.
ت‌-    قرار صادر عن استئنافية الرباط بتاريخ 27/02/2003 عدد 168 ملف رقم 09/03 : محاضر الضابطة القضائية مجرد بيان أمام غرفة الجنايات، ولا يؤدي تصريح المشبوه فيه المدان بتلك المحاضر، ولو تضمن  اقترافه جناية السرقة الموصوفة، إلى مؤاخذته من أجلها ما لم يدعم تصريحه بأدلة قاطعة تستخلص منها المحكمة قناعتها .[10]
خاتمة وتقييم:
    في اعتقادي المتواضع، أرى أن الاتجاه الذي يستحق التأييد هو ذاك القائل بأن محاضر الضابطة القضائية يجب أن تبقى مجرد بيان ومعلومات تستأنس بها المحكمة وهي تبث في القضايا الجنائية، وذلك للخطورة التي يكتسيها هذا النوع من القضايا والتي بها قد يحكم على المرئ بفقدان حياته، أو حريته للأبد أو لسنوات طوال جدا، وقد تصادر أمواله وممتلكاته ! وهو الأمر الذي يفرض على المحكمة أن تأخذ بالمعنى الواضح لمقتضيات المادتين 291 و 287 من قانون المسطرة الجنائية في هذا الصدد، و أن يكون مبدأ المحاكم القائم نصا وممارسة هو بناء الأحكام والمقررات على اليقين وفق المناقشات القائمة شفاهيا وحضوريا أمامها.
  إن القول بالأخذ المطلق بما يدون في محاضر البحث التمهيدي، وأخذ القرار بإدانة المتهمين بناء على اعترافاتهم المسجلة في هذه المرحلة دون تعزيز ذلك بأية وسيلة إثبات أو قرائن أخرى قوية كافية لتعضيدها، ليطرح السؤال الهام عن دور المحكمة الزجرية وما مصير السلطة المطلقة لها على هذا النوع من المحاضر.
   ومن الأمور التي تجذبني في مرافعات السادة المحامين وهم يستحضرون مثل هذه القرارات التي تعتمد على اعتراف المتهم تمهيديا والركون إليه في التعليل للقول بالإدانة هو تساؤلهم إن كان هنا جدوى من المحاكمة أصلا في مثل هذه الحالات ؟ واعتبار الحكم في القضية مسطر منذ البداية في هذه المحاضر، وبالتالي ما الطائلة من وجود القضاء وكل مرفعات الدفاع المارطونية؟ !!
  إن هذا النقاش الحاد الذي تعرفه ساحة الفقه والقانون ومضمار  العدالة على وجه الخصوص هو ما دفع بالمشرع الجنائي إلى تبني مشروع قانون للمسطرة الجنائية بصيغة مخالفة تماما لما عهدناه في القوانين الحالية والسالفة، فالمسودة شملت تعديلات جذرية هامة جعلت من مبادئ المحاكمة العادلة، وحماية حقوق الإنسان يافطتها الأساسية، وأكيد أن الجميع ممن لهم صلة بهذا المجال سيدلي بدلوه حتى تكتسي الحلة التي تستحق، وتجعل الدولة المغربية تضع قدمها الأخرى في تربة الدول التي تحترم الإنسان قبل أن تحاكمه وبعد أن تصدر عقوبته عليه بناء على محاكمة عادلة منصفة، وحتى تطوى  كل الخلافات والجدالات الصعبة حول ظروف البحث القاسية مع متهم، وإدانته بناء على تحقيقات مخالفة للقانون من أساسها.
  وبعد اطلاعنا على مسودة المسطرة الجنائية المطروحة اليوم للنقاش، نجد أن المشرع يحاول وضع الحد لكل ما أثرناه بخصوص محاضر الضابطة القضائية وقوتها الإثباتية ليس في الميدان الجنائي وحسب، بل في القضاء الزجري برمته . فبعد حفاظ المادة الأولى من المسودة على قرينة البراءة باعتبارها الأصل وتأكيد أن الشك يفسر دوما لصالح المتهم، إضافة أن الجميع متساوون أمام القانون ويخضعون لنفس الإجراءات ويحاكمون وفقا لنفس القواعد القانونية.
  أما المادة 1-66 فقد أعطت الإمكانية بالإيصال بمحامي الموقوف ابتداء من الساعة الأولى من الإيقاف، وما يعنيه ذلك من توفير ضمانات أكثر للمشتبه فيه للتصريح بأقوله بكل أريحية ودون أدنى ضغط أو تهديد أو إكراه، بل سيمكنه ذلك من اختيار التزام الصمت باعتباره إحدى الحقوق المكفولة للموقوفين والتي قد يجهلها الكثيرون، أوقد لا توصَل إليهم بالشكل المطلوب، أو على الأقل يحول الضغط النفسي في مخافر الضابطة القضائية دون استوعاب ذلك بالشكل المتوقع.
  وتأتي المادة 7-66 من ذات المسودة لتضيف إمكانية تسجيل الاستنطاق بالصوة والصورة، وما يعنيه ذلك من رغبة المشرع في طي صفحة الادعاءات بكون الاعترافات صادرت تحت التعذيب أو الإكراه.
  وأكيد أن توفر هذه الضمانات كلها، ستجعل من الموضوعين تحت الحراسة النظرية، أو المستمع إليهم تمهيديا لن يترددوا أبدا بالمطالبة بها وتوفيرها لهم في الساعة الأولى من الاستنطاق، وهو ما سيعطي إذ ذاك قوة ثبوثية أكبر لهذا النوع من المحاضر ، لكن ذلك لا يعني اعتبارها الحقيقة المطلقة، الدليل الأوحد، وإنما يجب إخضاعها هي الأخرى لسلطة ومراقبة الجهاز القضائي باعتبار الجهة الضامنة للحقوق والحريات بشكل أكبر مقارنة بغيرها من المؤسسات الأخرى.



[1]  - ذ. عبد الواحد العلمي، شروح في القانون الجديد المتعلق بالمسطرة الجنائية، ج 2، ط 3، ص: 378.
[2]  - للوقوف على هذه الاستثناءات راجع المواد 288،213، 294،333،من قانون المسطرة الجنائية.
[3] - مراد أحمد العبادي، اعتراف المتهم وأثره في الإثباث،ط1 س 2008،ص 37.
[4]  - الأستاذة أمل صدوق المزكلدي، المحامية بهية فاس، بحثلها بعنوان "محضر الضابطة القضائية في ظل قانون المسطرة الجنائية " منشور بالموقع الإلكتروني http://droitcivil.over-blog.com
 [5]  - قرار 3481 بتاريخ 07/06/1983 منشور بمجموعة قرارات المجلس الأعلى المادة الجنائية ج 1 ص 567 وما يليها.
[6]  - قرار 890 بتاريخ 29/11/1983 منشور بمجموعة قرارات المجلس الأعلى المادة الجنائية ج 1 ص 223 وما يليها.
[7]  - منشور بمجلة الإشعاع عدد 26 ص 212 ومايليها.
[8]  - منشور بمجلة المحاكم المغربية عدد 77 و 78 ص 74 وما يليها.
[9]  - منشور بمجلة الملف عدد 7 ص 275 ومائليها.
[10]  - منشور بنشرة محكمة الاستئناف بالرباط العدد الأول ص 217 وما يليها.

من أجل تحميل هذا المقال على شكل PDF - إضغط هنا أسفله


9anonak