التحديات العملية للتحكيم والإجراءات المرتبطة بالعملية التحكيمية
خليفة بن مرهون بن سالم الرحبي
طالب باحث في سلك الدكتوراه - كلية الحقوق الرباط
Practical challenges of Arbitration and procedures associated with the arbitration process
Khalifa BEN MARHOUN BEN SALIM ELRAHBI
مقدمة
يعتبر التحكيم كوسيلة لحل المنازعات قديم المنشأ وسابقا على ظهور القضاء، إلا أنه كان يأخذ أوجها وأشكالا متعددة، حيث كانت القبائل تحسم خلافاتها عن طريق التحكيم.
إن الطرق البديلة لتسوية المنازعات ليست آلية جديدة، وإنما هي قديمة جدا قدم الإنسانية، لكن الجديد هو ضرورتها في وقت يحتاج إليها الجميع على مختلف المستويات والمجالات. هذه الضرورة أفرزتها المعضلة التي يواجهها القضاء منذ أمد بعيد في مختلف الأنظمة القضائية عبر العالم، تتجلى في تراكم أعداد هائلة من القضايا، زيادة على اتسام إجراءات التبليغ بالتعقيد .
وأمام مساوئ القضاء الرسمي والمتمثلة في بطء وثقل الإجراءات المسطرة وانعدام السرية، وانعدام استقرار القانون في بعض الأحيان، فقد يفضل التجار والمقاولات التجارية اللجوء إلى التحكيم عن طواعية واختيار من أجل فض المنازعات القائمة بينهم بطرق ودية وذلك بالنظر لبساطة الإجراءات التي تتخللها .
ويمتاز التحكيم بمجموعة من الخصائص التي تميزه عن القضاء التقليدي كالسرعة والفعالية والسرية في الفصل في المنازعات التجارية. كما يختار أطراف النزاع المحكمين من ذوي الاختصاص في موضوع النزاع بغية حله، وذلك تجنبا لطول الإجراءات القضائية وتعدد درجات التقاضي. أما في المغرب فيعود الاهتمام بالتحكيم إلى عهد المولى إسماعيل وتحديدا إلى سنة 1693 تاريخ إبرام معاهدة سان جرمان مع الدولة الفرنسية، التي تضمنت إمكانية الفصل في بعض النزاعات الخاصة عن طريق التحكيم .
إن من أهم يستقى في التحكيم كآلية لفض النزاعات ذات الطابع التجاري، هو تنمية الاستثمار في البلد والملاحظ أن توسع المشاريع الاستثمارية في المغرب في السنين الأخيرة وما واكبها من استقطاب رؤوس أموال أجنبية، أدى إلى تنوع النزاعات باختلاف جنسيات الفاعلين الاقتصاديين نتيجة لعلاقات تعاقدية وشخصية فيما بينهم ، وتتجلى أهمية الموضوع في الدور المهم الذي يلعبه التحكيم في حل المنازعات التجارية الوطنية والدولية.
ومن خلال ما سبق يمكن طرح إشكالية أساسية وهي إلى أي حد ساهم التحكيم في حل المنازعات التجارية؟ وعليه سنتناول ماهية التحكيم (المحور الأول) والإجراءات المرتبطة بالعملية التحكيمية (المحور الثاني).
المحور الأول: ماهية التحكيم التجاري
لقد أصبح التحكيم ملاذا لحل أغلب المنازعات التجارية، نظرا للمميزات التي تتماشى مع الخصائص التي يمتاز بها الميدان التجاري. لهذا سنحاول من خلال هذا المحور تحديد تعريف التحكيم وتمييزه عن بعض المؤسسات المشابهة) فقرة أولى ثم نحدد شروط انعقاده (فقرة ثانية).
الفقرة الأولى: تعريف التحكيم وتمييزه عن بعض المؤسسات المشابهة
في هذه الفقرة سنتطرق لتعريف التحكيم (أولا) ثم تمييزه عن بعض المؤسسات المشابهة (ثانيا).
أولا: تعريف التحكيم
عرف المشرع المغربي التحكيم في الفصل 306 من القانون08.05 والذي ينص على أنه: " يراد بالتحكيم حل نزاع من لدن هيئة تحكيمية تتلقى من الأطراف مهمة الفصل في النزاع بناءا على اتفاق تحكيم. أما المشرع التونسي فقد عرف التحكيم في الفصل الأول من مجلة التحكيم التونسية الصادرة بالقانون عدد 42 لسنة 1993، بأنه " طريقة لفصل النزاعات من قبل هيئة تحكيم يسند إليها الأطراف مهمة البث فيها بموجب اتفاقية تحكيم." كما تنص المادة 7 من قانون اليونسترال على أنه:
" اتفاق بين الطرفين على أن يحال على التحكيم جميع أو بعض المنازعات المحددة التي نشأت أو قد تنشأ بينهما بشأن علاقة قانونية محددة تعاقدية كانت أو غير تعاقدية ويجوز أن يكون اتفاق التحكيم في صورة شرط التحكيم وارد في عقد أو صورة اتفاق منفصلة".
وقد عرفه بعض الفقه بأنه " اتفاق أطراف علاقة قانونية معينة عقدية أو غير عقدية، على أن يتم الفصل في المنازعة التي ثارت بينهم بالفعل أو التي يحتمل أن تثور عن طريق أشخاص يتم اختيارهم كمحكمين. ويتولى الأطراف أشخاص محكمين أو على الأقل يضمنون اتفاقهم على التحكيم بيانا لكيفية اختيار محكمين أو أن يعهدوا لهيئة أو مركز من مراكز التحكيم الدائمة لتتولى تنظيم عملية التحكيم وفقا للقواعد أو اللوائح الخاصة بهذه الهيئات أو المراكز".
فالتحكيم هو " إجراء قانوني" يهدف إلى حل النزاعات، يوكل بموجبه الفرقاء هذه المهمة إلى أشخاص ثالثين. تكون لهم صفة المحكمين الذين هم عادة من أهل الخبرة والاختصاص، بهدف الحصول على قرار تحكيمي قابل للتنفيذ. وبالتالي فإن فعالية التحكيم تكمن في سرعة إجراءاته بالقياس إلى المحاكم العدلية، وفي حرية اختيار المحكمين بالنظر إلى خبراتهم التقنية، وطابع الائتمان الذي تتمتع به، والذي يعتبر من الأمور الأساسية على الأعمال التجارية، الداخلية والدولية
ثانيا: تمييز التحكيم عن بعض المؤسسات المشابهة
أ التحكيم والصلح:
يعتبر الصلح كالتحكيم وسيلة من وسائل المنازعات، حيث عرفه المشرع المغربي في الفصل 1098 من قانون الالتزامات والعقود بأنه: " عقد يحسم به الطرفان نزاعا قائما أو يتوقعان قيامه وذلك بتنازل كل منهما عن جزء مما يدعيه لنفسه أو بإعطائه مالا معينا أو حقا. " ويشبه التحكيم الصلح في أن أساس كل منهما اتجاه إرادة طرفي المنازعة إلى تسويتها بعيدا عن القضاء سواء كانت تلك المنازعة قد وقعت بالفعل أو ستقع مستقبلا بالرغم من أوجه التشابه السابقة، إلى أن هناك اختلافا بين الصلح والتحكيم في أن الأول ينطوي على تنازل كل من طرفي النزاع عند كل أو بعض ما يتمسك به في مواجهة الطرف الآخر، في حين تتجه إرادة طرفي اتفاق التحكيم إلى الاتفاق على إحالة النزاع للتحكيم مع اختيارهم المحكم الذي سيعهدون إليه بحسم النزاع بحكم يلزمهم دون أن ينطوي ذلك على تنازلات متبادلة بين طرفي النزاع. وبناء على ما تقدم فإن الصلحوالتحكيم يختلفان في أن الصلح نظام اتفاقي صرف من بداية إجراءاته إلى نهايتها، أما التحكيم رضائي فقط في أساسه، أي من حيث اللجوء إليه أو عدم اللجوء إليه
ب- التحكيم والخبرة:
نظم المشرع المغربي الخبرة في قانون المسطرة المدنية بموجب الفصول من 59 إلى 66 وتهدف هذه الأخيرة إلى التحقيق في مسألة فنية من خلال رأي الخبير المتخصص، بخلاف القاضي أو المحكم الذي لن يستطيع بأي حال من الأحوال الإلمام بكل ما يعرض عليه، وبالتالي فإن الخبرة تختلف عن التحكيم في كونها مجرد رأي يستأنس به القاضي أو المحكم، وبالتالي قد يأخذ به أو يتجاوزه .
ويتشابه التحكيم والخبرة خصوصا فيما يقوم به المحكم والخبير، حينما يقع الالتجاء إليهما من أطراف النزاع لإبداء رأيهما في مسألة ما، إلى أنه تأسيسا على ما يطبع قرار المحكم من قوة وإلزام، فإن الخبرة تختلف عنه لأنها لا تفصل في النزاع بقرار ملزم، فهي وجهة نظر استشارية .
ج- التحكيم والقضاء: هناك العديد من الأوجه التي تميز التحكيم عن قضاء الدولة الرسمي تتمثل في أساس ونطاق كل منهما بالإضافة إلى الصلاحيات التي تملكها المحكمة وهيئة التحكيم والآثار المترتبة على كل منهما. ويتضح من تعريف التحكيم أنه يستجمع عناصر العمل القضائي والتي تتمثل في الادعاء والمنازعة والمحكم .
وتجدر الإشارة إلى أن ما قد يميز التحكيم عن القضاء بصورة عامة، هو أنه طريق استثنائي لفض الخصومات قوامه الخروج عن طريق التقاضي العادي وما تكلفه من ضمانات.
ومن ثم فهو مقصور حتما على ما تتجه إرادة المحكمين إلى عرضه على هيئة التحكيم، لذا يجب أن تضم مشارطة التحكيم تعيينا لموضوع النزاع حتى تحدد ولاية المحكمين ويتسنى رقابة مدى التزامهم حدود ولا يتهم كما يمكن أن يتم ذلك التحديد أثناء المرافعة أمام هيئة التحكيم .
الفقرة الثانية: شروط انعقاد التحكيم
لكي ينتج التحكيم آثاره القانونية. لا بد أن يستوفي مجموعة من الشروط الشكلية (أولا) والموضوعية (ثانيا).
أولا: الشروط الشكلية
أ الكتابة: تعتبر الكتابة شرطا من الشروط الشكلية لاتفاق التحكيم، حيث نجد المشرع المغربي نص في الفصل 313 من القانون 08.05 على " يجب أن يبرم اتفاق التحكيم كتابة، إما بعقد رسمي أو عرفي وإما بمحضر يحرر أمام الهيئة التحكيمية المختارة وهذا ما ذهبت إليه أغلب التشريعات، لكن التساؤل يطرح حول ما إذا كانت الكتابة شرطا للانعقاد أم شرطا للإثبات؟
كان شرط التحكيم في قانون التحكيم الفرنسي القديم عقدا رضائيا، ينعقد صحيحا بتحقق رضا الطرفين دون إفراغ هذا الرضا في قالب شكلي معين كالكتابة التي كانت للإثبات فقط وللأهمية الكبرى التي يحظى بها اتفاق التحكيم باعتباره أساس عملية التحكيم كله يلزم توافرها وإلا عد الشرط باطلا ، أي أن الكتابة أضحت في عقد التحكيم شرطا لانعقاده، فأصبح عقدا شكليا لا رضائيا .
ويرى جانب من الفقه انه " إذا نص المشرع صراحة على جعل كتابة اتفاق التحكيم للإثبات. فإن الكتابة والحالة هذه تكون للإثبات وليست للانعقاد ومن ثم يجوز إثبات هذا الاتفاق بالكتابة أو ما يقوم مقامها من إقرار ويمين حاسمة ويستطرد هذا الجانب من الفقه بالقول بأنه لا معنى للاعتراف بالكتابة كوسيلة إثبات، ثم نعود وبعد ذلك ولا نسمح بهذا الإثبات إلا بالكتابة. إذ أن من المقرر أن الإقرار واليمين الحاسمة هما وسيلتان من وسائل الإثبات يصح الإثبات بأي هما في الحالات التي يجب إثباتها بالكتابة .
ويرى جانب آخر من الفقه أن شرط الكتابة في عقد التحكيم يعد شرط انعقاد يترتب على تخلفه بطلان الاتفاق بطلانا مطلقا. لأنه بدون كتابة لا يمكن إدراج باقي الشروط اللازمة لانعقاد عقد التحكيم ، و من جهتنا نؤيد ما ذهب إليه الرأي الثاني من الفقه والذي اعتبر أن الكتابة شرط انعقاد وليست للإثبات فقط.
ب- تعيين المحكمين: ألزم المشرع المغربي الأطراف بضرورة تعيين المحكمين تحت طائلة البطلان وهذا ما جاء به الفصل 315 من القانون 08.05، والذي نص على: " يجب أن يتضمن عقد التحكيم تحت طائلة البطلان -2- تعيين الهيئة التحكيمية أو التنصيص على طريقة تعيينها. " ويمكن تعيين المحكمين بشكلين رئيسيين:
الشكل الأول: يتمثل في تحديد أسماء المحكمين هم فلان وفلان ... وذلك بتحديد أسمائهم الشخصية والعائلية بشكل يجعل التعرف عليهم سهلا.
الشكل الثاني: فيتحقق عند تعيين المحكمين من خلال صفاتهم أو مراكزهم، كان يتم التنصيص على أن المحكمين هم: أعضاء مكتب الغرفة التجارية بمدينة كذا أو نقيب المحامين بمدينة كذا ... ففي هذه الحالة فإنه يكفي أن يكون تحديد الصفات والمراكز واضحا بشكل يسهل التعرف على أشخاصهم .
ج- تحديد موضوع النزاع: إن تحديد موضوع النزاع يكتسي أهمية بالغة في تسهيل عمل المحكمين، ونظرا لأهميته، نص المشرع على ضرورة تحديد موضوع النزاع من خلال الفصل 315 من القانون 08.05 ، والذي جاء فيه: " يجب أن يتضمن عقد التحكيم تحت طائلة البطلان تحديد موضوع النزاع.".
ويعتبر تحديد موضوع النزاع تسهيلا لعمل المحكمين حتى لا يتم الفصل في موضوع غير مطلوب، ونظرا لأهمية هذا الموضوع فإن المشرع المغربي رتب على خرق قاعدة تعيين موضوع النزاع جزاء البطلان على خلاف موقف القضاء الفرنسي الذي لا يتشدد في تطبيق هذه القاعدة مكتفيا بالإشارة إلى موضوع النزاع دونما حاجة إلى تفصيل الأمور المختلفة فيها .
ثانيا: الشروط الموضوعية
أ الرضا: لقيام اتفاق التحكيم لا بد من توافر التراضي، وهو تطابق إرادتين تتجهان لإحداث أثر قانوني معين، وهو إنشاء الالتزام، ولكي يكون الرضا صحيحا يجب أن يكون المتصرف مميزا يعقل معنى التصرف، ويقصده، أي أن يكون مدركا ماهية العقد والتزاماته فيه، وتكون لديه إرادة حقة لقيام الالتزام، لأن الإرادة ركن من الأركان الأساسية لأي تصرف قانوني وبدونها لا يصح التصرف
ب الأهلية: نص المشرع في الفصل 308 من القانون 08.05 على " يجوز لجميع الأشخاص من ذوي الأهلية الكاملة سواء كانوا طبيعيين أو معنويين أن يبرموا اتفاق تحكيم في الحقوق التي يملكون حرية التصرف فيها ضمن الحدود ووفق الإجراءات والمساطر المنصوص عليها في هذا الباب وذلك مع التقيد بمقتضيات الظهير الشريف الصادر في 9 رمضان 1331 ( 12 أغسطس (1913) بمثابة قانون الالتزامات والعقود، كما وقع تغييره وتتميمه ولاسيما الفصل 62 منه..)
فالشخص حتى يتمكن من الاتفاق على التحكيم يجب أن يتوفر على الأهلية الكاملة التي يشترطها القانون لإبرام التصرفات القانونية والتي يجب أن يتوفر عليها الشخص عند إقدامه على رفع الدعوى التحكيمية أمام الهيئة التي تم اختيارها للفصل في النزاع موضوع اتفاق التحكيم، فالمحتكم يجب أن يتوفر على أهلية التقاضي حتى يكون على بينة من أمره فيما يقوم به، والأهلية تنقسم إلى قسمين، أهلية الوجوب والتي تثبت في الأصل لكل ابن آدم منذ ولادته بل حتى للجنين وهو في بطن أمه، وأهلية الأداء وهي صلاحية الشخص للقيام بالعمليات القانونية على الوجه السليم نفسه
ومن هنا يتضح أن القاصر أو ناقص الأهلية لا يحق لهم إبرام اتفاق التحكيم إلا إذا أذن لهم بذلك أو عن طريق نائبهم القانوني. بخصوص التشريع المغربي نص على إمكانية إبرام اتفاق التحكيم في النزاعات التي تكون الدولة طرفا فيها أو المؤسسات العمومية التابعة لها .
ومن الشروط المحددة من قبل مجالس إدارتها، ويرى الفقه أن الحرية التي أعطاها القانون للأشخاص العامة في إبرام اتفاق التحكيم يجب أن تواكبها إجراءات صارمة للمراقبة والتتبع، وأن يتم وضع الشخص المناسب في المكان المناسب لأن تضمين العقود والاتفاقات التي يبرمها الشخص العام لشرط التحكيم تحتاج إلى فنيين وتقنيين من أجل التفاوض وتبادل الإيجاب والقبول بشكل حرفى ليتسنى صياغة اتفاق التحكيم والعقود المرتبطة به بصورة جيدة ودقيقة حماية للثروة الوطنية .
أما بالنسبة للسبب: فهو عنصر متميز عن الإرادة، يتعين أن يكون موجودا ومشروعا وصحيحا طبقا لمقتضيات قانون الالتزامات والعقود.
وأخيرا المحل: فإن أي اتفاق لا بد له من محل، ومحل اتفاق التحكيم هو تسوية النزاع الذي من الممكن أن ينشأ مستقلا عن تنفيذ العقد عن طريق التحكيم، وما يهم هو توفر هذه الشروط في اتفاق التحكيم، وإلا كان الاتفاق باطلا، ومعرضا للرقابة اللاحقة للحكم.
المحور الثاني: الإجراءات المنظمة للعملية التحكيمية
عن الأصل في التحكيم التجاري هو إعفاء المحكمين من التنفيذ بالإجراءات المفروضة على القضاة، فاتفاق الأطراف يحدد قدر المرونة التي يتمتع بها المحكم، بحيث يمكن أن يلجأ الأطراف إلى تقييده بإجراء معين، وقد يكتفوا بالاتفاق على التحكيم دون وضع أي إجراءات، وكما نص المشرع في الفصل 327.18 من المسطرة المدنية فإن هيئة التحكيم تطبق القواعد القانونية المتفق عليها من قبل الأطراف، لكن في حالة عدم اتفاقهم طبقت القواعد القانونية الواجبة التطبيق والتي لها علاقة بموضوع النزاع مع الاعتداد بشروط العقد والعادات والأطراف التجارية الجاري بها العمل.
ولدراسة الإجراءات المنظمة للعملية التحكيمية يجب الحديث في الفقرة الأولى عن التحكيم التجاري بين إرادة الأطراف وسلطة المحكم ثم في الفقرة الثانية عن اتفاق التحكيم بين استقلالية الشرط التحكيمي والدفع باتفاق التحكيم.
الفقرة الأولى: التحكيم التجاري بين إرادة الأطراف وسلطة المحكم
تتميز المنازعات التجارية بخصوصيات عدة بسبب الطبيعة الخاصة للأطراف ( التجار) وكذا العقود محل تلك النزاعات، فالعلاقات التجارية تثير مشاكل قانونية معقدة تتصف بتعدد أوجهها مقارنة بالنزاعات الأخرى، لهذا الأمر وجب اختيار هيئة تحكيمية قوية ذات تكوين فني وقانوني، لأن الحكم القانوني لا غنى عنه في تسوية المنازعات أيا كان شكلها. كما يجب أيضا معرفة القانون الواجب التطبيق على النزاع.
أولا : تشكيل الهيئة التحكيمية
تتكون هيئة التحكيم من أفراد يطلق عليهم اسم المحكم، هذا الأخير وحتى يقوم الحكم الصادر من لدنه بشكل صحيح، وجب أن تتوفر فيه مجموعة من المبادئ ترسيخا للقوة الملزمة للحكم التحكيمي، إذ هي مبادئ مؤثرة في إصدار هذا الحكم .
فالهيئة التحكيمية تتشكل من محكم واحد أو عدة محكمين تكون للأطراف حرية تحديد إجراءات تعيينهم وعددهم، إما في الاتفاق التحكيمي وإما بالاستناد إلى نظام التحكيم الموضوع للمؤسسة المختارة، وإذا لم يتفق الأطراف على عدد المحكمين كان العدد ثلاثة وإذا تعدد المحكمون وجب أن يكون عددهم وترا وإلا كان التحكيم باطلا، وهذا ما أشار إليه الفصل 2.327 من القانون 08.05 .
ويمكن للطرفين أن يستعينا بقائمة المحكمين الموضوعة في محكمة الاستئناف من لدن الوكيل العام للملك، وهذا ما نص عليه الفصل 231 من القانون 08.05، حيث يتبين من مقتضيات هذا الفصل أن المشرع يحاول تنظيم مهنة المحكمين، لكن يظهر أنه لا زال في حاجة إلى كثير من القواعد التنظيمية ذلك أن هذه المقتضيات، لا تبين متى يتحقق الاعتياد على ممارسة التحكيم، إضافة إلى أنها تؤسس لتنظيم بعدي، متروك لمحض إرادة الشخص المتعود على التحكيم
وبالرجوع للفصل 5.327 من القانون 08.05 نجـــــد أن المشرع قيد تعييـــــن الهيئة التحكيمية بأجل 15 يـــــوم في حالة عدم اتفاق الأطراف على تعيين الهيئة التحكيمية أو لم تعين مسبقا، فهــــذا الأجل القصير الذي حدده المشرع نرى أنه يتماشى مع السرعة التي يتميز بها التحكيم في حل النزاعات وهذا الأمـــــــر يتطابق مع السرعة التي يتميز بها القانون التجاري، وبالتالي فهذه الخاصية تتجسد بشكل كبير إذا كانت القضايا المعروضة على التحكيم تجارية.
فالأصل إذن هو تولي الأطراف تعيين الهيئة التحكيمية، لكن يرد على هذا الأصل استثناء وهو منح هذه المهمة للقضاء في شخص رئيس المحكمة. فقد تشهد العملية التحكيمية خلافا بشأن تشكيل الهيئة سواء بالامتناع عن تعيين المحكم أو عدم الاتفاق على محكم معين، وهذه المسائل تكون من اختصاص القضاء، لاسيما في غياب تنظيم المسألة بموجب اتفاق التحكيم .
وبالتامل في الفصل السابق ذكره نجده ينص على أنه في حالة عدم تعيين الهيئة التحكيمية وكانت هيئة التحكيم تتكون من محكم واحد يتولى رئيس المحكمة المختصة تعيين المحكم بناء على طلب أحد الطرفين، وبالتالي فيمكن القول أن رئيس المحكمة المختص نوعيا للبث في تعيين الهيئة التحكيمية يحدده موضوع اتفاق التحكيم، فإذا كان تجاريا يعقد الاختصاص لرئيس المحكمة التجارية، وإذا كان إداريا لرئيس المحكمة الإدارية، وإذا كان مدينا لرئيس المحكمة الابتدائية، فالمشرع في ظل القانون 08.05 يتحدث عن أن المقصود برئيس المحكمة هو رئيس المحكمة التجارية ما لم يرد خلاف ذلك
ثانيا: القانون الواجب للتطبيق
تطبق هيئة التحكيم على موضوع النزاع القواعـــــــــــد التي يتفق عليها الطرفان، وإذا اتفـــــــقا على تطبيق قانون دولة معينة، اتبعت القواعد الموضوعية فيه دون القواعـــــــــد الخاصة بتنازع القوانين، ما لم يتفق على غير ذلك وللحديث عن القانون الواجب التطبيق يقتضــــــــــي الأمر التطرق بداية للقانون الإجرائي ثم للقانون الموضوعي.
1- القانون الإجرائي:
يقصد بقانون الإجراءات القواعد التي تتبعها الهيئة التحكيمية وعلى هديها تسير المنازعة إلى حين صدور الحكم التحكيمي، وتحديد هذا القانون يثار أكثر بالنسبة للتحكيم الحر دون التحكيم المؤسساتي الذي يخضع فيه الأفراد القواعد لوائح هذه المؤسسات.
ويعتبر تضمين اتفاق التحكيم القواعد القانونية التي ستطبق على الإجراءات من الأهمية بمكان، فاتفاق التحكيم الجيد هو الذي يتضمن صراحة الإشارة إلى تلك القواعد التفصيلية الواجبة التطبيق على إجراءات سير تسوية المنازعات بالنسبة للتحكيم الحر أو الخاص، وإذا كانت أهمية هذا الإجراء تبدو واضحة في التحكيم العادي، فإن الأمر يبدو أكثر أهمية في التحكيم الذي يكون موضوعه تجاريا .
وبالنسبة للتحكيم الحر فمسألة تحديد القانون الذي يحكم إجراءات التحكيم لا تثار إلا في حالة عدم الاختيار سواء الصريح أو الضمني للقانون الإجرائي الواجب التطبيق من27 المادة 312 من قانون المسطرة المدنية. طرف الأطراف فيتركون ذلك للمحكمين أنفسهم في إطار سلطتهم التقديرية للقانون الملائم للنزاع المطروح .
يتضح مما سبق أن المشرع أعطى دورا إيجابيا لهيئة التحكيم في اختيار القانون الإجرائي التي تراه مناسبا لموضوع النزاع، فتنشئ بذلك نظامها الإجرائي الخاص الذي يسري على المنازعة المعروضة عليها دون سواها.
2- القانون الموضوعي:
أعطى المشرع المغربي في الفصل 17.327 من القانون 08.05 الحرية للأطراف في اختيار القانون الواجب التطبيق على موضوع النزاع، وفي حالة عدم الاتفاق تطبق هيئة التحكيم القواعد الموضوعية في القانون الذي ترى انه الأكثر اتصالا بالنزاع، وعليها في جميع الأحوال أن تراعي شروط العقد موضوع النزاع وتأخذ بعين الاعتبار الأعراف التجارية والعادات وما جرى عليه التعامل بين الطرفين، هذا وإذا اتفق طرفا التحكيم صراحة على تفويض هيئة التحكيم صفة وسطاء بالتراضي، تفصل الهيئة في هذه الحالة في موضوع النزاع بناء على قواعد العدالة والإنصاف دون التقيد بالقانون.
مما سبق يمكن القول أن الاختيار الصريح للقانون الواجب التطبيق على موضوع النزاع بواسطة الأطراف يمنع احتمال نشوء نزاع حول هذه المسألة، ويجنب المخاطرة غير المحسوبة التي يحملها لهم قرار التحكيم في شأن القانون الواجب التطبيق، وإرادة الأطراف بهذا الخصوص قد تكون صريحة أو ضمنية .
الفقرة الثانية: اتفاق التحكيم بين استقلالية الشرط التحكيمي والدفع باتفاق التحكيم
إن وجود اتفاق بين الأطراف على عرض منازعاتهم على مؤسسة التحكيم بدلا من القضاء العادي، أو مجرد إيراد شرط التحكيم في أي علاقة تعاقدية يعد تعبيرا صريحا عن
إرادة الأطراف مما يفرض بداهة احترام هذه الإرادة. لكن قد يرغب أن يتنصل احد الأطراف مما سبق أن ارتضى عليه، لذلك أوجدت التشريعات بعض الآليات من أجل التقليل من إمكانية عدم احترام الأطراف لشرط أو اتفاق التحكيم، أهمها استقلالية الشرط التحكيمي (أولا) والدفع باتفاق التحكيم ( ثانيا).
أولا : استقلالية شرط التحكيم
ينص الفصل 318 من ق.م.م على انه يعتبر شرط التحكيم اتفاقا مستقلا عن شروط العقد الأخرى، ولا يترتب عن بطلان العقد أو فسخه أو إنهائه أي أثر على شرط التحكيم الذي يتضمنه إذا كان هذا الشرط صحيحا في ذاته."
يلاحظ من خلال هذا النص أن المشرع المغربي أقر بمبدأ استقلالية الشرط التحكيمي، هذا المبدأ الذي يقصد به سلامة الشرط التحكيمي وتمتعه بكيان مستقل قائم بذاته لا يتأثر بالعقد الأصلي، فلو تضمن عقد البيع التجاري الدولي مثلا بندا تحكيميا، وثم الطعن في العقد الأصلي بالبطلان لسبب من الأسباب فإن ذاك البطلان الإيطال شرط التحكيم ويظل هذا الأخير مطهرا من كل الشوائب التي قد تصيب العقد الأصلي .
والملاحظ في العمل القضائي المغربي أن هذا الأخير صار يشكل الضامن الأكبر الفعالية ومصداقية اتفاق التحكيم من خلال الاعتراف له بالمبادئ التي يقوم عليها - والتي من أهمها " مبدأ استقلالية شرط التحكيم من العقد الأصلي" -،
حيث أكد قرار المحكمة الاستئناف بمراكش هذا التوجه وقد جاء فيه:
" حيث أن المتعارف عليه قانونا، فقها وقضاء انه يجوز للتجار حل النزاعات الناشئة بخصوص معاملاتهم بإدراج شرط التحكيم تحت طائلة عدم القبول وأنه تبث لهاته المحكمة أن طرفي النزاع ضمنوا العقد الرابط بينهم البند 1-8 شرط التحكيم، وأن الدعوى ترمي بالأساس إلى الحكم بالتعويض عن الضرر الذي ترتب عن فسخ العقد بمعنى أن النزاع مرتبط بالعقد وأن القول إنه بمجرد ما فسخ العقد من قبل المستأنف عليها فإن إعمال شرط التحكيم يبقى غير مؤسس .
وقد كان مبدأ استقلالية شرط التحكيم موضوع نقاش فقهي واسع باعتبار شرط التحكيم بندا من العقد الأصلي فكيف لا يتأثر ببطلان الالتزام الأصلي، بناءا على " قاعدة ما بني على باطل فهو باطل" إلا انه ومع امتداد نظرية تحول العقد التي ابتدعها الفقه الألماني ومؤداها أن التصرف الباطل قد يتضمن عناصر تصرف آخر فيتحول التصرف الباطل إلى التصرف الذي توفرت عناصره، وبذلك يمكن القول بأن التصرف الباطل أنتج أثرا قانونيا عرضيا لا أصليا، وتجد هذه النظرية إحدى تطبيقاتها على الشرط التحكيمي
ثانيا: الدفع باتفاق التحكيم
يشكل الاتفاق على اللجوء إلى المؤسسة التحكيمية اختيار صريح من الأطراف على تعويض القضاء الرسمي العادي بقضاء خاص متمثل في التحكيم، لكن قد يعمد احد الأطراف على التراجع عن اختياره ويقرر العودة للاختصام أمام القضاء، الرسمي تفاديا لذلك أقر المشرع المغربي الحق في الدفع باتفاق التحكيم أمام المحكمة من أجل الحكم أو التصريح بعدم القبول وذالك بموجب الفصل 327 من ق.م.م. الذي جاء فيه "عند ما يعرض نزاع مطروح أمام هيئة تحكيمية باتفاق التحكيم على نظر إحدى المحاكم، وجب على هذه الأخيرة إذا دفع المدعى عليه بذالك قبل الدخول في جوهر التنازع أن تصرح بعدم القبول إلى حين استنفاد مسطرة التحكيم أو إبطال اتفاق التحكيم".
فالمشرع أوجب بشكل صريح على المحكمة بطلب من المدعى عليه أن تصرح بعدم القبول في حالة ما إذا كان النزاع لم يعرض على الهيئة التحكيمية، ما لم يكن بطلان اتفاق التحكيم واضحا وقبل الدخول في جوهر النزاع.
كما يتضح بشكل جلي أن المشرع المغربي قد اعتبر الدفع بوجود اتفاق التحكيم دفعا بعدم القبول وليس دفعا بعدم الاختصاص، غير أن المحكمة لا يمكنها أن تثير هذا الدفع من تلقاء نفسها إذ من شأن لجوء الأطراف إلى قضاء الدولة قصد حل النزاع على الرغم من وجود اتفاق التحكيم دون أن يثيره أحد الأطراف،
تراجعا عن ذالك الاتفاق وإنهاء ضمنيا له ، وعموما فإن المحكمة المعروضة عليها النزاع ملزمة قانونا بالتصريح بعدم القبول بالتصريح إذا ما أثار أحد الأطراف وجود اتفاق التحكيم، وفي هذه النقطة يكون قرار المحكمة الفاصل في النزاع على الرغم من إثارة الدفع بوجود التحكيم قبل الدخول في الجوهر خرقا للقانون، ويتعرض القرار المذكور للنقض .
ويبدوا أن عدم منح المشرع المحكمة إمكانية الدفع بعدم القبول بشكل تلقائي عند عدم اللجوء للهيئة التحكيمية، توجه يتماشى مع فلسفة التحكيم. فالتحكيم كنظام يقوم على حرية الإدارة التي تعلو فوق كل شيء، فإن هي أرادت أبرمت الإتفاق وإن هي أرادت تخلصت منه، ولا يوجد ما يلزمها أن تبقى حبيسة اتفاقها، فإن كان الاتفاق تراضيا، فإن التراضي يمكن أن يلغي ذلك أو بعدمه، والأمر نفسه بالنسبة لاتفاق التحكيم فمتى سعى الأطراف إلى القضاء الرسمي في ظل الاتفاق التحكيم فإن ذالك بعد تراجع ضمنيا منهم عن ذالك الاتفاق .