المرتفق في عمق الإصلاح الإداري بالمغرب : أي دلالات؟ - رشيد أقجي


مجلة قانونك
المرتفق في عمق الإصلاح الإداري بالمغرب : أي دلالات؟


المرتفق في عمق الإصلاح الإداري بالمغرب : أي دلالات؟


من إعداد: رشيد أقجي
باحث في الاجتهاد القضائي الإداري


 


توطئــــــــــة:
لا يمكن الحديث عن إصلاح إداري دون رصد واقع الإدارة المغربية على مستوى الاعتلالات الإدارية التي تحول دون أجرأة المفهوم/النظرية/ الجديد للسلطة[1] من عدمه، هذا الأخير-أي المفهوم- الذي تم تأكيده كخيار استراتيجي للإصلاح في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإدارية، ينبغي تحقيق الأهداف المتجلية في تكريس إدارة القرب من خلال الانفتاح على المواطنين والاحتكاك المباشر بهم والملامسة الميدانية لمشاكلهم، وتعزيز المشاركة الإدارية ودمقرطة المجال الإداري من خلال إشراكهم في إيجاد الحلول المناسبة للمشاكل القائمة، وتفعيل إدارة متطورة قادرة على التفاعل مع محيطها، تساير وتتكيف مع التطورات التي يشهدها المجتمع، وتعكس انشغالاته من خلال التركيز على الميادين التي تحظى بالأولوية من قبل مكونات المجتمع المدني.
 فضلا عن ضرورة تجاوز واقع إدارة الجمود أو التدبير البيروقراطي للشأن العام، وذلك إعمالا لإدارة المبادرة، لكون أن المجال الإداري يعد بامتياز فضاء الاختلالات بين القوى الفاعلة فيه، حيث نجد هيمنة مطلقة لإدارة يطبعها التسلط و ثقل الجهاز البيروقراطي، إذ يعتبر المرتفق الحلقة الضعيفة في هذه المعادلة، نظرا لدواع تاريخية، اقتصادية، اجتماعية، وثقافية، وأيضا بسبب مواجهة المرتفقين للإدارة بشكل فردي، وغياب الدور الرقابي عليها-الإدارة-، حيث تشتغل بعيدا عن كل الأسس الإدارية الرامية إلى  تحقيق تنمية إدارية ،ديدنها الرفع من أداءاتها - أي الإدارة - خدمة للمواطنين، مما يحول دون تطوير ممارستها بما يتناغم ومرتكزات الحكامة الإدارية الجيدة الراشدة، بل تحقيق إقلاع إداري على جميع المستويات يكون في عمق المقتضيات الدستورية الجديدة الواردة في دستور يوليوز 2011، تأهيلا وتحديثا، و مواكبة للتطورات و المستجدات الطارئة التي تفرزها طبيعة الظروف الآنية والمستقبلية، والتي تفرض اعتماد استراتيجية على المستوى الأفقي والعمودي تتوخي تجاوز كل المعوقات والإكراهات التي تقعد إن لم تعوق الإصلاحات المنهوض بها في جميع المجالات التي دعا إليها صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله تعالى وأيده.
 مما يحتم ضرورة العمل إذن، على بناء مقترب منهجي وموضوعي، يمكن من استبطان المحددات التي كيفت هذا الوضع من جهة، ومن استشراف مألات وآفاق تطوره من جهة ثانية، ليشكل في تصورنا مقدمة ضرورية لتعميق الوعي بالديناميكية التي أفضت بالوضع الإداري إلى ما هو عليه اليوم من انحرافات بله اعتلالات بنيوية تستدعي تضافر الجهود ذات الطابع المؤسساتي، كل مؤسسة من موقعها الدستوري، وتكثيف دورات تكوينية لكل أطراف المعادلة الفارضة ذاتها في سياق هذه الظرفية الإدارية الراهنة، في أفق التفكير لوضع لبنات تقويمية تستأصل شأفة مظاهر الانحراف المستشري إداريا، وبلورة مقاربة مجدية قمينة بفك طلاسم المستقبل الإداري.
 لذا، ارتأينا أن نعالج الموضوع من خلال المحاور التالية:
المحور الأول، والذي سنتطرق فيه إلى إشكالية الإصلاح الإداري وتحدياته الراهنة؛
المحور الثاني: و فيه سنعرج على دلالة موضوع الدراسة أي تبسيط المساطر الإدارية و الولوج إلى الخدمات العمومية،  باعتبارها ركيزة أساسية من ركائز الإصلاح الإداري الرامي إلى تكريس تنمية إدارية، باعتبار هذه الأخيرة عملية، طابعها الاستمرار والشمولية.


المحــــــور الأول:  إشكالية الإصلاح الإداري بالمغرب وتحدياته الراهنة
"مادام التغيير من الأمور المسلم بها في أي تنظيم معاصر، فإن تحديد وإعادة تحديد أهداف برامج التنظيم و نشاطاته، تعتبر من أهم مسؤوليات الإدارة" - مارشال دعويك -
تطرح مسألة الإصلاح الإداري بالمغرب العديد من الإشكالات ذات الارتباط العميق بمجمل التحولات السياسية والسوسيو اقتصادية وثقافية التي تعرفها بنية المجتمع، وتتجلى درجة الصعوبة خصوصا على المستوى المنهجي، فنظرا لتشعب العلاقات التي نسجتها الإدارة العمومية مع كل فعاليات المجتمع، وحتمية تدخلها في سيرورة العلاقة الجدلية مع كل المكونات، فرض عليها التفاعل مع ثقل الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والإدارية التي تفرضها طبيعة العلاقات وما تلاه من تفكير استراتيجي في التعامل مع هذه الافرازات المجتمعية يتوخى فهم الميكانزمات الظاهرة والخفية التي تحرك آليات عمل الإدارة العمومية.
ومن أجل تجلية بعض اللبس الذي يلف مسألة الإصلاح الإداري بالمغرب،[2]  يستوجب ذلك طرح بعض المفارقات التي تسترعي الاهتمام، في خضم التحديات التي تعرفها الإدارة المغربية، علما أن بدون إدارة قوية فعالة، يستعصي رفعها-أي التحديات والإكراهات- لتحقيق تنمية بشرية مستدامة، حيث تبرز في النظرة السلبية حيال الإدارة والصورة القاتمة والتي يجب تغييرها لما فيه خير للمواطن المترسخة في ذهنية المرتفق، جعل منها محط انتقادات[3] لاذعة تنأى بها عن الاضطلاع بأدوارها الوظيفية خدمة للمواطنين وتحقيقا للتنمية الإدارية في علاقتها المتلازمة بالديموقراطية[4] في النسق السياسي المغربي، اعتبارا لكونها-أي التنمية الإدارية- من الأولويات التي شكلت موضوع بل محط اهتمامات الدولة، مع فكرة جوهرية وهي أن التحول الديموقراطي هو في حاجة إلى تضافر جميع الفعاليات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية، بل هو عملية مركبة ومعقدة، من حيث إنه يمس كافة جوانب الحياة اليومية، علاوة أنه يهدف إلى تغيير سلوكيات أفراد المجتمع.
 ولعل من جملة السلوكيات الإدارية أو المفارقات التي جعلت الإدارة تسقط ضحية التجاوزات والاختلالات، فضلا عما أصبحت هذه الأخيرة تنعت به من تصرفات لا تمت إلى العقلية الإدارية المستشعرة لرقابة الضمير المهني ومبادئ العدل والإنصاف، كأساس لكل عملية إدارية نزيهة، هناك الجمود الإداري، وضعف الخدمات، وغياب المسؤولية، وهي صفات طبعت الإدارة المغربية، في وقت أصبح فيه المواطن يتطلع إلى خدمات مهمة جديدة، وبجودة عالية، علما أن التطور الحقوقي والقانوني لمطالب المرتفقين يتجاوز التطور الإداري،
وهو ما يستدعي تشخيصا موضوعيا ودقيقا للواقع الإداري المتردي على مستوى مظاهر اعتلالاته الإدارية، ومواطن قوته، كأول خطوة في عملية التحديث المتجلية في البحث عن الجودة في أي مظهر من مظاهر العمل، من خلال التعرف على احتياجات المستفيد، وانتهاء بتقييم ما إذا كان المستفيد راضيا عن الخدمات والمنتجات المقدمة له، ضمانا لتطور مستمر للجودة والإنتاجية والكفاءة، إذ أن عملية التحديث هاته تقوم على إرادة سياسية ورؤية موحدة ومشتركة تحول دون الإكراهات والتحديات التي تتسم بها الإدارة المعتلة، والمتجلية في ضعف آليات التنسيق عند إنجاز المشاريع المشتركة بين الوزارات على المستوى المركزي والمحلي، كأحد المؤشرات الكبرى لغياب رؤية موحدة لتحديث وتحسين أداء القطاع العام،
 علاوة عن تمركز المصالح والسلطات والوسائل في مقابل ضعف الإمكانات والمردودية للمصالح الخارجية، في حين يساهم تعقيد المساطر والإجراءات الإدارية، والتضخم في عدد الوثائق التي تطلب من المواطنين في ضعف الخدمة العامة، مما كان مدعاة لتنظيم المناظرة الوطنية لإصلاح الإدارة المغربية سنة 2002 تحت عنوان" الإدارة المغربية في أفق سنة 2010"، والتي فتحت ورش الإصلاح الإداري في مجالات عدة أهمها:
 تعقد الإجراءات الإدارية والمساطر الإدارية، وعقلنة تدبير الموارد البشرية، وترسيخ القيم الأخلاقية بالمرفق العمومي لغياب الثقة في الإدارة، من خلال الأبواب السبعة للمناظرة سالفة الذكر، نذكر منها :
دعم اللاتركيز، وإعادة تحديث مهام الإدارة، تحسين علاقة الإدارة بالمرتفقين، تدبير وتأهيل الموارد البشرية، تبسيط المساطر والإجراءات الإدارية، وإصلاح منظومة الأجور في الوظيفة العمومية. وهي إشكالات، بله معوقات تعترض تحديث الإدارة المغربية، الذي يفرض حلولا آنية في ظل تطور السياق الاجتماعي الداخلي الذي يشي بوعي المرتفقين بحقوقهم وواجباتهم، فضلا عن ديناميكية ارتقاء الحياة السياسية والدولية والإقليمية.
 ونظرا لكون المساطر الإدارية تعتبر أدوات لتنفيذ القوانين والتنظيمات الجاري بها العمل وممارسة الصلاحيات و السلطات المخولة للجهاز الإداري، باعتبارها القناة الرئيسية، التي من خلالها يتم تقديم الخدمات للمرتفقين والمستثمرين، إن لم نقل الوسيلة الأساسيـــة للتدخل في كل عملية تنموية.
بل هو الخطوة الأولى للوصول إلى تحديث وإصلاح الإدارة، فقد أصبح من اللازم إعادة النظر في منظومة هذه المساطر بجعلها تستجيب لمتطلبات سرعة النمو ومقاييس جودة الخدمة بالمرفق العام مسايرة للإصلاحات والأوراش المنهوض بها على كافة الأصعدة، توطيدا لمستلزمات التنافسية والانفتاحية على العالم، وأيضا الوفاء بالالتزامات الدولية المرتبطة بتحديث الإدارة، علاوة عن مقتضيات الدستور المغربي الجديد لسنة 2011، وما تضمنته من تطور قانوني وحقوقي باعتراف دولي في مجال الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية والتنموية، كإضافة قانونية مهمة، بل كإطار هيكلي لمجموعة من المؤسسات التي أصبحت دستورية تعنى بالحكامة الإدارية الجيدة القائمة على أساس المشاركة الفعالة في تسيير الشأن العام بكل شفافية.
إن الارتقاء بالإدارة المغربية وتحدياتها وتطوير آليات اشتغالها، مواكبة للعصر المتغير والمتجدد، رهين بأجرأة آليات تثمين الموارد البشرية والرفع من قدراتها، ودعم سياسة القرب ،واللاتمركز الإداري، وتحسين علاقة الإدارة بالمواطنين  وتبسيط المساطر الإدارية والولوج إلى الخدمات العمومية.
وإذا كانت هذه الأخيرة- عدم  أجرأة  آلية تبسيط المساطر الإدارية والولوج إلى الخدمات العمومية - تندرج ضمن المعوقات التي تقف كعقبة كؤود في وجه التحديث والحداثة الإدارية، فما هي دلالة هذا المسلسل وإطاره المرجعي؟
وهو ما سنتطرق إليه في المحور الثاني.

المحور الثاني: مسلسل تبسيط المساطر والإجراءات الإدارية والولوج إلى الخدمات العمومية
في إطار المحور الثاني المشار إليه أعلاه، سنشطره إلى فرعين، حيث التركيز في الفرع الأول منه على أهمية تبسيط المساطر و الإجراءات الإدارية، باعتبارها رافدا إداريا محوريا يندرج ضمن سلسلة الإصلاحات الإدارية التي يعرفها المغرب، ومعرجين في الفرع الثاني على دلالة الولوج إلى الخدمات العمومية وخصائصها.
الفرع الأول: مسلسل تبسيط المساطر والإجراءات الإدارية
لقد اعتبر تبسيط المساطر الإدارية هاجسا مستمرا في مسلســـل إصلاح وتطوير الممارسة الإداريـــة، وقـــد عبر عــن ذلك جلالة الملك محمد السادس سنـــة 1999 حيث جاء في فقراته ما يلي:
" إننا ننتظر من حكومتنا ترسيخ دولة القانون بإعطاء دفعة قوية للإصلاح الإداري"،  لكون أنه تتقاطع فيه المصالح السياسية والاقتصادية والاجتماعية و الإنسانية وحتى النفسية.
فالمسطرة الإدارية التقاء و تجمع لكل الفاعلين في مسلسل تبسيطها، فهو يعود إلى مرحلة تصل إلى بدايات القرن، وأصبح منذ سنة 1995 من ضمن أولويات الأجندة السياسية بضغط خارجي، من خلال تقرير البنك الدولي،  حيث تم إحداث عدة مؤسسات على الصعيد الوطني و المحلي للمساهمة في عملية التبسيط الإداري، إذ أحيطت بمجموعة من ا لقواعد التقنية والضوابط الفنية، لتيسير المسلسل، لكن بالنظر إلى العراقيل التي تحيط به يبقى دون الفعالية المرجوة.
إن مسلسل تبسيط المساطر الإدارية والولوج إلى الخدمات العمومية، يبتغي معالجة البطء الإداري، في الخدمات الإدارية داخل الإدارة وخارجها، خاصة على مستوى تحسين علاقة الإدارة بالمرتفقين، لكون أن الاهتمام الذي أخذه مصطلح المواطن أو المرتفق  والإدارة المواطنة في السياسات العمومية على كافة المستويات، هو تجسيد للمفهوم الجديد للسلطة سالف الذكر ولإدارة القرب والتنمية البشرية وحماية حقوق الإنسان والانتقال الديمقراطي، فهي مقومات ومنطلقات العهد الجديد الذي أعلنه جلالة الملك محمد السادس نصره الله في رسالة موجهة إلى أشغال الندوة الوطنية لتخليق المرفق العام سنة 1999،
" ....نحو سيادة القانون والوضوح والشفافية وتحقيق خدمة الأمن العام للمواطن، ولهذا وجهنا أوامرنا السامية  لتبسيط المساطر و تحسين الوثائق الإدارية وتحديث طرق التدبير وتحقيق التكامل بين المستلزمات الإدارية واحترام كامل الوقت الذي يحكم العلاقات الإنسانية"..، كما يهدف إلى إزالة وتجاوز العوامل السياسية المالية والاجتماعية التقنية والنفسية.
إن تبسيط المساطر الإدارية يشكل أهم إجراء في مسلسل إصلاح الإدارة، ففي غياب أية استراتجية للتبسيط الإداري، تظل مجهودات الإصلاح غير ذات فعالية، بحيث إنه تأكيد على تكريس الحريات العامة وحقوق الإنسان ومساعدة المواطن في إطار من الشرعية والمشروعية، علاوة عن تسهيل الحياة اليومية للمواطنين بتوطيد العلاقات و التواصل بين المنتفع والإدارة، وتسهيل الخدمات ذات العلاقة بالدولة لكون أن كل عملية في التبسيط تهدف إلى رفع التعقيد على المساطر و المسارات والمسالك الإدارية.
  وحيث إن ارتباط عملية الإصلاح الإداري بتسهيل حياة المواطنين وضمان سرعة وجودة الخدمات العمومية، يعد جوهر تحديث الإدارة العمومية، إن لم نقل أنه يعد إحدى مقومات عملية تبسيط المساطر الإدارية المركزة على أساس احترام مجموعة من التقنيات الضرورية لإنجازها رفعا لكل مظاهر التعقيد الذي تتميز به المسطرة المراد تبسيطها، وعبر اعتماد مقاربة ما يشكل أهم تحديات الإصلاح الإداري هو تقليص الآجال و مختلف الوثائق والمطبوعات والوثائق المطلوبة من المواطن،  الناتجة عن غياب مراجع تنظيمية للمساطر في الإدارات العمومية شمولية وحلول ملموسة تأخذ بعني الاعتبار تعدد المتدخلين وتعدد النصوص المطبقة ووضع تقرير تحليلي يفسر مقترحات التبسيط، ويدعو مختلف الإدارات إلى التفاعل و بلورة برامج  لتبسيط المساطر الإدارية التي تشكل أهم متطلبات المرتفقين، ولتحقيق هذه الأهداف على مستوى تبسيط المساطر الإدارية المذكورة، يتحتم على الإدارات والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية الإيفاء بالغرض المطلوب.
وللإشارة، فإنه منذ 1992، اتخذت تدابير التبسيط من طرف الإدارة العمومية كمناشير السيد رئيس الحكومة -الوزير الأول سابقا- المؤرخة على التوالي في 6 أكتوبر 1992، 25 نونبر 1992 و 26 فبراير 1993، أو عن  طريق توجيه تعليمات و أوامر أو مبادرة شخصية، وتحليل هذه التدابير يدل على أنه في خضم هذه المبادرات، لم تأت كغيرها على التعقيدات التي ظلت مستمرة في العمل المرفقي.
بل إن هذه التدابير تغطي بعض القصور، وباستثناء بعض الإدارات التي وضعت مطبوعا تنظيميا للمسالك و المساطر، فإن غالب المرافق الإدارية لم توضح المسالك مما يحول دون وضوح وشفافية مسار الملفات الإدارية، كما أن جميع عمليات التبسيط لا تكون ذات أثر ملموس على المواطن، مما يحتم على الحكومة  اعتماد سياسة منهجية للقضاء على كل ا لمعوقات الحائلة دون مسلسل ا لتبسيط الإداري.
الفرع الثاني: دلالة الولوج إلى الخدمات العمومية وخصائصها:
تعد الخدمة العمومية بالنسبة للمواطن ذات أهمية بالغة، إذ من شأنها أن تمكنه من اقتناء مبتغاه بكل يسر، وذلك بتحقيق هدف تقريب الإدارة منه، بإعطائه أداة معلوماتية رحبة كأحد الآليات المعتمدة بغاية تحسين تدبير المرافق العمومية، حيث تخص كل الإجراءات والمرافعات الإدارية مجيبة على أكثر الأسئلة إلحاحا إلى أي مصلحة نتوجه ؟ أي مستندات أو وثائق نقدم ؟ ما هي أسعار ولوازم الخدمة ؟ ما هي آجالها ؟ ما هي العناوين المفيدة ؟ و إلى أي جهة نلجأ في حالة عدم تلبية المبتغى؟
 إذ يعتبر هذا التجديد إذن يعتبر بالغ الأهمية وخطوة عملاقة على درب عصرنة الإدارة وخصوصا الرفع من فعالية ودقة هذه الأخيرة في علاقاتها مع مستخدميها، إن لم تكن  لبنة أساسية على درب تحسينها-أي العلاقة (مرتفق/إدارة) - ترسيخا  لمبدأ الشفافية في التدبير العمومي.
ومن خلال نتائج الأعمال والدراسات التي خلص إليها معظم الباحثين في مجال علم الإدارة العمومي management  ، أن عملية التسيير لنشاطات الخدمة العمومية تستدعي استخدام قواعد مشتركة تعد بمثابة قيم تستمد منها شرعيتها وصفاتها، والمتمثلة في المبادئ التالية:
أولا: معيار المساواة أمام المرافق العمومية، كونه يمثل ترجمة إدارية للفكرة السياسية الظاهرة في المساواة أمام القانون.
إنه مبدأ عام يفرض على كل مسير لمرفق عام حتى في غياب مقتضيات تشريعية أو تنظيمية صريحة. ويتفرع عنه- أي المعيار المذكور- المساواة في الاستفادة من خدمات المرفق العام حيث يقتضي ذلك أن تتم معاملة المستفيدين من خدمات المرافق العامة ومستعمليها على قدم المساواة[5]، والمساواة في تحمل أعباء المرفق العام( القرار الصادر عن الغرفة الإدارية بالمجلس الأعلى سابقا  المؤرخ في 16 يوليوز 1959بخصوص قضية السيد مارتان).
فالمساواة والمشروعية مبدآن مرتبطان، ذلك أن المساواة بين المرتفقين هي مساواة طبقا للقانون، فهي لا تمس سوى المرتفقين الذين تتوفر فيهم الشروط  المطلوية [6]والمحددة بواسطة القانــون.
و هنا يكمن دور المجلس الدستوري الذي صرح باحتمالية عدم دستورية بعض المقتضيات التشريعية التي تحدد شروط ولوج المرفق العام والاستفادة من خدماته، لتعارضها مع معيار المساواة المرتفقين الملازم لمبدأ المساواة أمام ا لقانون، وبالتالي، فإن القاضي الإداري، واستنادا إلى المعيار المذكور مبدأ المساواة الذي ينظم عمل المرافق العامة، له إمكانية إلغاء قوانين مختلف السلطات الإدارية العاملة باسم الدولة أو الجماعات الترابية أو المؤسسات العمومية، والتي لا تعترف بمبدأ المساواة في ولوج المرافق العمومية والاستفادة من خدماتها، حيث تتطلب هذه الأخيرة غياب كل تمييز قانوني بين المرتفقين كيفما كانت وضعياتهم القانونية.
 إن عملية الولوج إلى الخدمات العمومية و ما تعرفه من صعوبات، لا يجب أن يتم تقييمها أو مراقبتها أو تطويرها أو إصلاحها من قِبل أحد طرفي المعادلة في غياب الطرف الآخر الذي هو المجتمع المدني، باعتبار هذا الأخير رافدا أساسيا من روافد الإصلاح بكافة أبعاده ارتكازا إلى النصوص الدستورية التي جعلت منه قطبا تقريريا في كل المجالات الإصلاحية، التي تهم مجال تدبير السياسات العمومية.
و في سياق ذي ارتباط بالموضوع، فإن التساؤل الذي يمليه الطرح الواقعي مدار الإشكال يتبدي في:
 أي موقع لسيرورة تبسيط المساطر الإدارية والولوج إلى الخدمات العمومية في أجندة العمل الحكومي؟ وهو ما سنتناوله من خلال المحور الثالث المشار إليه أدناه.
المحور الثالث: تبسيط المساطر الإدارية في أجندة العمل الحكومي
منذ نهاية التسعينيات، شكل تبسيط المساطر الإدارية الذي يقصد به مجموع الإجراءات العملية والبراغماتية التي من شأنها تطوير العلاقة بين الإدارة والمرتفقين، أحد أولويات عمل الحكومة المغربية ضمـــن برامج عملها في مجال تحديث الإدارة. ويحظى اليوم بأهمية استراتيجية في مجال تطوير جودة الخدمات العمومية ودعم شفافية العلاقة بين الإدارة والمواطنين وتحســين مناخ الأعمال ببلادنا
ولضمان حسن التتبع والتنسيق لمختلف عمليات التبسيط الإداري، واستناد إلى الإطار المرجعي المتجسد في  منشور السيد رئيس الحكومة -الوزير الأول سابقا- عدد 99/31 الصادر في 23 نونبر 1999 حول تبسيط المساطر والإجراءات الإدارية، والذي تضمن تحديدا للإطار المؤسساتي لتبسيط  المساطر الإدارية ، وذلك في مستويين أحدهما أ فقي  و الآخر قطاعي،  ولقد تم بهذا الخصوص، إحداث لجنة مركزية لتبسيط المساطر الإدارية تعمل تحت إشراف اللجنة الإستراتيجية للإصلاح الإداري و(التي تتكون من وزارة الوظيفة ا لعمومية وتحديث الإدارة التي تتولى مهمة رئاستها ووزارة الاقتصاد والمالية والداخلية والصناعة والتجارة والتكنولوجيا الحديثة بالإضافة إلى القطاع المعني بالمساطر الإدارية موضوع جدول أعمال، حيث تتولى:
§      دراسة وتبسيط المساطر الإدارية الأفقية، والمصادقة على المساطر الإدارية العمودية التي تحال عليها من طرف اللجان القطاعية للتبسيط.
§      إعداد التقارير التركيبية بخصوص برامج التبسيط المنجزة و اقتراح بعض الحلول التبسيطية.
 كما تم إحداث لجان قطاعية لتبسيط المساطر الإدارية، حيث إن كل لجنة قطاعية على صعيد كل وزارة، يعهد لها بجرد المساطر الإدارية العمودية على الصعيد القطاعي وتصنيفها إلى مساطر عمودية  و أفقية، فضلا عن دراسة وتبسيط المساطر الإدارية العمودية وعرضها للمصادقة  عليها من طرف اللجنة المكلفة بتبسيط المساطر الإدارية، وإعداد تقارير دورية بحصيلة التبسيط الإداري على الصعيد القطاعي، كما  يتم بموازاة  مع ذلك، خلق شبكة للمخاطبين في مجال تبسيط المساطر الإدارية من أجل تتبع مشاريع التبسيط على الصعيد القطاعي.
إن الجرد الشامل لمختلف التعقيدات المسطرية التي تساهم فيها عدة قطاعات، والتي تقتضي معالجتها نهج مقاربة موحدة وبلورة حلول ملائمة تأخذ بعين الاعتبار تعدد الأجهزة المختصة وتحدد النصوص التي يتعين تطبيقها، بالإضافة إلى إعداد تقرير تركيبي يتضمن حصيلة الإصلاحات التبسيطية المعتمدة والاقتراحات ا لتصحيحية، علاوة عن قيام اللجنة المذكورة بمهمة تفحص مجموع الوثائق و الملفات المتضمـــنة لمختلف الصعوبات و البيانات المتعلقـــة بالمسطرة موضـــوع التبسيط، كما تبدي رأيها في مختلف البرامج البنيوية الخاصـــة بالتبسيط والتي تنجزها مختلــف القطاعات الوزارية.
إن الإجراءات المتخذة في إطار اعتماد مقاربة تشاركية ومتدرجة ، تأتي في سياق تعقد المساطر الإدارية وتعدد المتدخلين فيها، علاوة عن الصعوبات التي تعترض تنفيذ كل عملية تبسيط، مقاربة تشاركية نهدف إذن إلى وضع تصور جديد فيما يخص تيسير الولوج للخدمات العمومية في إطار علاقة متوازنة بين الإدارة والمرتفقين.
إن عملية التبسيط المعتمدة في هذا الإطار, والتي تندرج ضمن مسيرة تحسن المساطر الإدارية، لا تهدف إلى تغيير راديكالي للعمل الإداري ولا إلى إعادة تفسير المساطر الإدارية التي هي من تصميم هندسة المنظمات، بل هي عملية مستمرة ومنتظمة حول  المساطر الموجودة ومسار تقييمي لطرق خدمة المر تفق، ترتكز على تقنيات مرتبطة بطبيعة ونوعية المسطرة المراد تبسيطها، وبالإطار القانوني المحدث للمسطرة والمنظم للإجراءات المعتمدة للوصول إلى كل خدمة، وكذا بالجانب المؤسساتي و البنائي  للوحدة الإدارية، وقد تمتد إلى كل الفاعلين أو المتدخلين في المسطرة، وبالتالي، فإن كل مرحلة تحتاج إلى تقنية خاصة لتبسيط المسطرة التي تبتدئ من عملية الجرد عبر الدراسة.
 إن عملية تبسيط المساطر الإدارية والولوج إلى الخدمات العمومية إذن، لا تشكل  هاجسا إداريا أو إكراها من الإكراهات ا لبنيوية التي تعرفها الإدارة المغربية، فحسب، بل هي مشكل إن لم تكن معضلة إدارية  تعاملت معها  بعض الدول العربية و الأوروبية[7] من خلال مقاربات منهجية.


على سبيل الختم:
إن التغييرات الدولية التي تموج بها دول العالم، و ما خلفته من آثار ذات انعكاسية على جميع المستويات، تستدعي بقوة الحتمية الآنية والمستقبلية، النهوض بكافة القطاعات الإدارية، استلهاما من مرتكزات الخطاب الملكي السامي الأخير، تحقيقا لتنمية شاملة على كافة المناحي والأصعدة، يكون المواطن/المرتفق أهم محاورها، لكونه السلسلة الأساسية في حلقات الإصلاح الإداري، إن لم يكن أس الدوافع له، وهوما يستوجب إلزاما، تظافر الجهود في أفق خلق وعي إداري حقيقي يرقى إلى مستوى التحديات ذات الراهنية، والتي تتطلب رفعها و التعامل معها بناء على تقنيات التخطيط الاستراتيجي المحكمة، ودراسات تشخيصية للوضع الإداري القائم، غائيتها، هو تقويم كل الاعتلالات الإدارية التي لا تنفك أن تشكل عقبة كؤود حائلة دون عملية التطور والتطوير، و هو غاية ما ننشده، اعتمادا على الكفاءات و المقدرات الهائلة التي يزخر بها هذا البلد الحبيب.


[1]  الخطاب الملكي المؤرخ في 12/10/1999 ، والذي تم إ لقاؤه أمام أعضاء الحكومة ومسؤولي الإدارات الترابية ومسؤولي الجهات.
2 يتجلى الإصلاح الإداري في مجموعة من الإجراءات التي تتوخي إدخال تغيير نوعي على دور الدولة أو على هياكل وطريقة عمل جهازها الإداري أو كما عرفه روفايل توزمان " بأنه تغيير مظاهر في الجهاز البيروقراطي وتطوير العلاقات بين الهياكل والوظائف الجديدة والهادفة لزيادة مقدرة الجهاز الإداري على تحقيق تدبير عمومي يتلاءم مع الأهداف والغايات أو أنه "كل برنامج أو نشاط يهدف لإدخال تغييرات إدارية في أجهزة القطاع العام من أجل تحسين التسيير كما عرفته المجلة الدولية للعلوم الإدارية
[3] يمكن عد المظاهر الاختلالية الإدارية في :
§         الإدارة كمرتع للفساد والعبث بالمال العام؛
§         غياب تام للمحاسبة و لمعاقبة؛
§         تفشي البيروقراطية في أفظع أشكالها؛
§         عدم الاكتراث بحاجيات واحتجاجات المواطنين؛
§         إدارة صماء بعيدة عن هموم و مشاكل المرتفقين؛
[4] د. محمد يحيا: الديموقراطية وسؤال التنمية الإدارية: المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية عدد 65 نونبر-دجنبر 2005
[5]  د.محمد نشطاوي: المرافق العامة الكبرى: الطبعة الأولى  أكتوبر 2002 ص: 183
[6]  هي شروط متنوعة، كشرط الإقامة، الوضعية القانونية، الشواهد، المداخيل . المرجع السابق ذكره: د.محمد نشطاوي  ص: 185   
[7]   قد نتطرق لاحقا في دراسة خاصة كملحق  للموضوع، في إطار التتبع، والتي تتمحور حول الإصلاح الإداري وتحدياته في بعض الدول العربية ( الأردن، لبنان وتونس) والأوروبية( فرنسا وبلجيكا)، مبرزين كيفية تعاملها مع الإشكالية الإدارية عبر اعتماد ثمة مواثيق وإجراءات تحول دون إمكانية تعميق الإشكالية الإدارية المذكورة وتفاديا لكل الأزمات الإدارية المستقبلية ذات الأثر البليغ على التنمية الإدارية في منظورها المتعدد الأبعاد والمناحي سواء على المنظور الآني أو المستقبلي..

من أجل تحميل هذا المقال -  إضغط هناك - أو أسفله

قانونك

من أجل تحميل هذا العدد الثالث - إضغط هنا أو أسفله على الصورة
مجلة قانونك - العدد الثالث