تسخير التكنولوجيات الحديثة في البحث الجنائي والمحاكمة الجنائية - أشرف الإدريسي

 




تسخير التكنولوجيات الحديثة في البحث الجنائي والمحاكمة الجنائية

أشرف الإدريسي

طالب باحث بسلك الماستر، تخصص إدارة الشؤون القانونية للمقاولة، خريج كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية سلا، جامعة محمد الخامس الرباط

 

Harnessing modern technologies in criminal investigation and criminal trial

Achraf IDRISSI

 

الملخص: يعتبر البحث التحقيق الجنائيين ركيزتين أساسيتين لاستظهار الحقائق المتعلقة بالجرائم المرتبكة، ولا تقل مرحلة المحاكمة أهمية عنهما باعتبارها الفيصل الذي يحدد براءة المتهم من إدانته، ومعلوم ما يترتب عن ذلك -بل وقبل ذلك- من سلب لحرية المشتبه فيه أو المتهم، لذلك كان لزاما على التشريعات أن تواكب التطورات التكنولوجية لتستفيد من محاسنها قصد تجويد الإجراءات القضائية الجنائية والرفع من نجاعتها بهدف ضمان وعدم هدر الحقوق؛ وترشيدا للزمن القضائي.

تهدف هذه الدراسة الى سبر أغوار أثر التكنولوجيات الحديثة على الإجراءات القضائية الجنائية، وقد سلطت الضوء على أوجه وصور تسخير هذه التكنولوجيات على مستوى البحث التمهيدي؛ التحقيق الإعدادي؛ والمحاكمة.

الكلمات المفتاحية: رقمنة الإجراءات القضائية الجنائية، التكنولوجيات الحديثة والقضاء الجنائي، الذكاء الاصطناعي والقضاء الجنائي، الرقمنة وإجراءات البحث والتحقيق الجنائي، المحكمة الرقمية، المحكمة الإلكترونية، المحكمة عن بعد، رقمنة الإجراءات القضائية، التقاضي عن بعد، التحول الرقمي لمنظومة العدالة.

 

Summary: Research and criminal investigation are considered two fundamental pillars for uncovering the facts related to committed crimes. The trial phase is no less important, as it serves as the decisive stage that determines the innocence or guilt of the accused. It is well known what consequences arise from this - and even before that - the deprivation of the suspect or accused of their freedom. Therefore, it was necessary for legislations to keep pace with technological developments to benefit from their advantages in order to improve criminal judicial procedures and enhance their efficiency with the aim of ensuring rights are not wasted and judicial time is optimized.

This study aims to probing the impact of modern technologies on criminal judicial procedures. It has highlighted the aspects and forms of utilizing these technologies at the levels of preliminary investigation, preparatory investigation, and trial.

Keywords: Digitization of criminal judicial procedures, modern technologies and criminal justice, artificial intelligence and criminal justice, digitization and criminal investigation procedures, digital court, electronic court, remote court, digitization of judicial procedures, remote litigation, digital transformation of the justice system.

 

مقدمة:

ما فتئت التكنولوجيات الحديثة تلقي بظلالها على مختلف الميادين، ولم تكن الإجراءات القضائية بمنأى عن الظلال التي ألقت بها هذه التكنولوجيات، فقد ظهرت أوجه عديدة لتسخير تكنولوجيا المعلومات والاتصالات -ولاسيما التكنولوجيا الرقمية[1]-؛ وتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، بغية تحديث الإجراءات القضائية والرفع من نجاعتها سواء على المستوى المدني أو الجنائي، وإن مسلسل رقمنة القضاء سيشمل بلا ريب إجراءات التقاضي في المادة الجنائية، بل يتعين أن تشمل الرقمنة جميع الإجراءات الجنائية السابقة لمرحلة المحاكمة.

فرض التحول التكنولوجي على التشريعات أن تواكبه وتسعى الى تقنينه، كما شجع المنظومات القضائية على تسخير هذه التكنولوجيات للرفع من نجاعة قضائها والاستفادة من حسناتها، فانبثق من كل هذا بروز مصطلحات عصرية كالمحكمة الرقمية؛ التقاضي عن بعد ...إلخ، ويعد المغرب من بين الدول التي آمنت بقدرة التكنولوجيات الحديثة على تجويد الإجراءات القضائية وضمان حسن سيرها، وتحت الرعاية السامية لجلالة الملك محمد السادسة مضى المغرب في مسار رقمنة القضاء وإجراءات القضائية، وتوجت الخطب الملكية السامية بصدور ميثاق إصلاح منظومة العدالة، هذا الميثاق الذي نص صراحة في البند 9 من الرؤيا العامة لإصلاح منظومة العدالة على "وضع أسس محكمة رقمية منفتحة على محيطها وعلى المتقاضين"، ولما كان القضاء الجنائي ركيزة من ركائز القضاء وجزء لا يتجزأ منه فإن الميثاق الآنف ذكره تضمن بين طياته توصيات تتعلق برقمنة الإجراءات القضائية الجنائية سواء على مستوى البحث التمهيدي؛ أو التحقيق الإعدادي؛ أو المحاكمة.

في نفس الصدد، صدر المخطط التوجيهي للتحول الرقمي 2020 عن وزارة العدل وتضمن برامج وأهداف ترمي في مجملها الى رقمنة القضاء -سواء على مستوى الإجراءات القضائية أو الإدارة القضائية-، ولم يغفل هو الآخر عن إدماج رقمنة القضاء الجنائي في إطار التحول الرقمي لقطاع العدالة.

على المستوى التشريعي وضع المشرع المغربي في مسودة مشروع قانون المسطرة الجنائية (نسخة أكتوبر 2022) عدة نصوص ذات صلة برقمنة الإجراءات القضائية الجنائية، من بينها نصوص استبقاها بعد أن نص عليها سابقا مشروع قانون استعمال الوسائل الإلكترونية.

أولا: أهمية الدراسة

يكتسي موضوع تسخير التكنولوجيات الحديثة في الإجراءات القضائية الجنائية أهمية بالغة على المستوى النظري والعلمي، تكمن هذه الأهمية في كونه موضوع مستجد وذو جدوى، فهو يعد من مستجدات المجال القانوني في وقتنا الحالي، كما أنه موضوع متشعب يجمع بين المجال القانوني والتقني، لذلك لا بد من توسيع المدارك في المجالين معا. بالإضافة الى ذلك تتجلى أهمية هذا الموضوع على المستوى التطبيقي والعملي في كونه ذو راهنية، فالمغرب أصبح يتجه نحو تنزيل مشروع المحكمة الرقمية والانتقال بالإجراءات القضائية -المدنية والجنائية- من الحيز المادي الى الفضاء الرقمي، كما تبرز الأهمية العملية لهذا الموضوع في الأثر الإيجابي الذي عادت به هذه التكنولوجيات على الإجراءات القضائية الجنائية فيما يتعلق بالنظم القضائية التي تبنت هذه التكنولوجيات.

ثانيا: إشكالية الدراسة

سنقوم في الدراسة بمناقشة إشكالية جوهرية ومباشرة مفادها ما هي أوجه تسخير التكنولوجيات الحديثة في البحث الجنائي والمحاكمة الجنائية؟

لمعالجة هذه الإشكالية بشكل دقيق نطرح مجموعة التساؤلات الفرعية الآتية المنبثة من الإشكالية السابقة:

-        ما هي أوجه تسخير تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في البحث التمهيدي والتحقيق الإعدادي والمحاكمة؟

-        كيف يمكن أن نستفيد من تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي في المراحل الآنف ذكرها؟

-        كيف يمكن للتكنولوجيات السالف ذكرها أن تؤثر على وسائل الإثبات في المادة الجنائية؟

ثالثا: المنهج المتبع

اعتمدنا في دراسة هذا الموضوع على المنهج الوصفي بغرض وصف أوجه استعمال التكنولوجيات الحديثة في الإجراءات القضائية الجنائية بناء على حقائق وبيانات متعلقة بتجارب الأنظمة القضائية المقارنة التي سبقتنا في هذا الباب، كما اعتمدنا على المنهج التحليلي بغية تحليل هذه الحقائق والبيانات؛ وكذلك بغرض الغوص في سطور وما بين سطور النصوص القانونية ونصوص مشاريع القوانين ببلادنا، كما اعتمدنا المنهج المقارن بهدف مقارنة نصوص القانون ومشاريع القوانين ببلادنا مع التشريعات المقارنة في بعض المسائل.  

رابعا: خطة الدراسة

لدراسة هذا الموضوع والإجابة على الإشكالية والتساؤلات الفرعية الواردة أعلاه سنقسم هذا الموضوع الى مبحثين، وحسبنا في المبحث الأول أن نقف عند صور استعمال التكنولوجيات الحديثة في إجراءات البحث التمهيدي والتحقيق الإعدادي، على أن نترك التطرق لأثر التكنولوجيات الحديثة على وسائل الإثبات في المادة الجنائية؛ وعلى المحاكمة الجنائية للمبحث الثاني.

المبحث الأول: البحث الإلكتروني

يتمثل الغرض من الإجراءات التي تمارس قبل مرحلة المحاكمة في جمع المعلومات والأدلة في شأن من ارتكب الفعل المخالف للقانون الجنائي حتى يتسنى بذلك إسنادها الى مرتكبها وتوقيع الجزاء عليه[2]. وتنقسم هذه الإجراءات الى مرحلتين رئيسيتين، مرحلة البحث التمهيدي، ومرحلة التحقيق الإعدادي، لذلك سنقف عند البحث التمهيدي الإلكتروني (المطلب الأول)، ثم سننتقل للحديث عن التحقيق الإعدادي الإلكتروني (المطلب الثاني)، وبعدها سنتعرض لموضوع اعتماد الذكاء الاصطناعي في إجراءات البحث (المطلب الثالث).

المطلب الأول: البحث التمهيدي الإلكتروني

يمكن تعريف البحث التمهيدي بأنه " مجموع الإجراءات والعمليات التي يقوم بها جهاز الشرطة القضائية والتي تنتهي بعرض المشتبه فيه على النيابة العامة لتقرر المتابعة أو حفظ الملف أو التماس إجراء التحقيق الإعدادي[3]"، ولا يبدأ البحث التمهيدي إلا ببلوغ وقوع الجريمة الى علم الضابطة القضائية أو النيابة العامة، ويتم ذلك إما بشكاية[4] أو وشاية[5] تقدم للنيابة العامة المتمثلة في وكيل الملك (المادة 40 من ق.م.ج) أو الوكيل العام للملك (المادة 49 من ق.م.م)، أو تقدم لجهاز الشرطة القضائية، وفي ضوء ملابسات القضية تصنف حالة الجريمة إما كحالة تلبس أو حالة عادية[6]، وبناء على هذا التصنيف تحدد المسطرة الواجبة التطبيق، إما مسطرة البحث التمهيدي العادي، أو مسطرة البحث التمهيدي التلبسي.

لا شك بأن رقمنة إجراء تقديم الوشاية أو الشكاية الى النيابة العامة -أو الشرطة القضائية- هو أمر حتمي في إطار مشروع المحكمة الرقمية، باعتبار أن القضاء الواقف يشكل القطب الثاني[7] للمحكمة، لذلك ستطال الرقمنة مهام النيابة العامة وستشمل مهام الشرطة القضائية باعتبارها جهاز تابع لها -للنيابة العامة-. ويرى بعض الباحثين بإمكانية فتح نافذة تتلقى من خلالها الضابطة القضائية شكايات المواطنين مباشرة عبر العناوين الإلكترونية، ثم تتولى إحالتها عبر وسائط الى النيابة العامة لإعطاء تعليماتها بخصوصها وحفظ القضايا التي لا تتوفر فيها عناصر البحث إما لمدنية النزاع أو لتقادم الأفعال أو غير ذلك[8]. بناء على ذلك حري بالمشرع أن يضع إطارا تشريعيا وآليات تقنية لتمكين الضابطة القضائية أو النيابة العامة من تسخير أجهزة الاتصال عن بعد لتلقي الشكايات والوشايات، ومن أجل مواجهة المشتبه فيه مع غيره[9]، ولتبادل المحاضر من والى النيابة العامة وأخذ الإذن منها في الحالات التي أوجب القانون فيها ذلك[10]، وأخذ التعليمات منها، وإشعارها بمختلف الإجراءات التي اتخذتها أو ستتخذها الضابطة القضائية.

فضلا عما سبق، يمكن اعتماد تقنيات الاتصال عن بعد قصد عرض المشتبه فيه على النيابة العامة بعد انتهاء مدة الحراسة النظرية لتقوم بالاستماع إليه، ثم تقرر إما المتابعة أو حفظ القضية أو تمديد الحراسة النظرية[11]، وفي هذا الصدد نص المشرع المغربي في الفقرة الثالثة من المادة 97 من مسودة مشروع قانون المسطرة الجنائية نسخة أكتوبر 2022[12] على ما يلي "يمكن لوكيل الملك أو الوكيل العام للملك بغرض تمديد الحراسة النظرية الاستماع إلى الشخص المعني عن طريق تقنية الاتصال عن بعد". ونلاحظ على أن المشرع حافظ في هذه المادة على نفس ما ورد في المادتين 66 و80 من مشروع قانون الوسائل الإلكترونية.

وإن كل ما ذكرناه سلفا لمن شأنه أن يكرس لما ورد في البند 94 من ميثاق إصلاح منظومة العدالة " اعتماد التقنيات والوسائل التكنلوجية في البحث والتحري، ...إلخ"، بالإضافة الى ما سبق، إن الأذون والملتمسات والملاحظات الكتابية الصادرة عن النيابة العامة، وكذلك المحاضر التي ستحررها الضابطة القضائية سواء في إطار الاستماع، أو الحجز، أو نحو ذلك من العمليات المنجزة، ستتخذ حتما شكل مستندات إلكترونية موقعة إلكترونيا، ويجب أن يضفي عليهما المشرع المغربي -على غرار ما فعل المشرع الإماراتي في المادة 425 من مرسوم قانون الإجراءات الجزائية[13]- نفس حجية المستندات الورقية أو التوقيع العادي وذلك إذا استوفيا الشروط المحددة قانونا.

اعتمدت المملكة المتحدة تقنية الروابط الحية «live links»[14] في قانون العدالة الجنائية لسنة 2003، وخولت للمحكمة أن تطلب أو تسمح للأشخاص بالمشاركة في الإجراءات الجنائية بواسطة تقنيات الروابط الصوتية الحية، أو الروابط المرئية الحية. ويعتقد بعض الباحثين بأن هذه التقنيات من شأنها المس بخصوصية المشتبه فيه إبان اتصاله بمحاميه نظرا لكون اتصاله غير منفصل عن نظام الاتصال المرئي بالمحكمة أو بقسم الشرطة، كما ينصح المحامين باعتماد طرق منفصلة عن ذلك النظام قصد التواصل مع موكليهم[15]. وحري بنا أن نشير الى أن المشرع المغربي اهتم بهذه مسألة ونص في المادة 66 من ق.م.م على أنه "يتم الاتصال بمحام بترخيص من النيابة العامة، لمدة لا تتجاوز ثلاثين دقيقة تحت مراقبة ضابط الشرطة القضائية في ظروف تكفل سرية المقابلة". ويضمن هذا النص القانوني خصوصية اتصال المشتبه بمحاميه سواء تم الاتصال عن طريق الهاتف أو الوسائل الإلكتروني أو في مواجهة حضورية.

تجدر الإشارة الى ضرورة تسخير التكنولوجيات الحديثة وإحداث نظام تقني متطور وآمن بغية الربط بين مختلف النيابات العامة بالمملكة لتسهيل التنسيق فيما بينها تكريسا لمبدأ وحدة النيابة العامة، ولتمكين الرؤساء من بسط رقابتهم على المرؤوسين استنادا الى خاصية التدرج والخضوع الرئاسي.

المطلب الثاني: التحقيق الإعدادي الإلكتروني

يعتبر التحقيق الإعدادي مرحلة وسطى بين مرحلة البحث التمهيدي ومرحلة المحاكمة، ويمكن تعريفه بأنه "بحث قضائي يقوم به جهاز قضاء التحقيق قصد استجلاء حقيقة الوقائع موضوع المتابعة من ناحية ثبوتها، ومن ناحية تكييفها القانونية، ثم نسبتها الى المتهم[16]"، وطبقا للمادة 83 فإن التحقيق الإعدادي إما إلزامي، وإما اختياري بناء على ملتمسات النيابة العامة، ويضطلع قاضي التحقيق -أو المستشار المكلف بالتحقيق-[17] بمهمة القيام بهذا البحث، كما يمكن أن تصل القضية الى قاضي التحقيق بشكاية مباشرة إليه يقدمها المطالب بالحق المدني طبقا للمادة 92 من ق.م.ج. وعند إحالة القضايا الى قاضي التحقيق يتخذ مجموعة من الإجراءات التي يراها صالحة للكشف عن الحقيقة، فيجري بحث حول شخصية المتهم وحالته العادية والاجتماعية (المادة 87 من ق.م.ج)، كما يمكنه انتداب خبراء كلما عرضت له مسألة تقنية إما تلقائيا أو بناء على طلب من النيابة العامة أو من الأطراف (المادة 194 من ق.م.ج)، ويقوم باستنطاق للمتهم ومواجهته مع الغير (المواد 134 الى 141 من ق.م.ج)، ويمكن له استدعاء الشهود للاستماع إليهم (المواد 117 الى 133 من ق.م.ج). وفضلا عن الإجراءات الآنف ذكرها يمكن لقاضي التحقيق إصدار مجموعة من الأوامر المتعلقة بالمتهم (المواد 142 الى 158 من ق.م.ج)، كالأمر بالحضور، والأمر بالإحضار، والأمر بالإيداع في السجن (الاعتقال الاحتياطي[18])، والأمر بإلقاء القبض، بالإضافة الى الأوامر المتعلقة بانتهاء التحقيق.

تقتضي رقمنة إجراءات التحقيق الإعدادي الاعتماد على المستندات الإلكترونية بدءا من إحالة القضية الى قاضي التحقيق مرورا بكل الإجراءات الى غاية انتهاء التحقيق الإعدادي، وكذلك اعتماد تقنيات الاتصال عن بعد للاستماع الى الشهود، أو لاستنطاق المتهم ومواجهته مع الغير، لاسيما إذا كان متابع في حالة اعتقال (الاعتقال الاحتياطي). وبما أن الاعتقال الاحتياطي تحول من حالة استثنائية الى أصل جرى به العمل حري بنا أن نتوقف عند الآثار التي ترتب عنه في الواقع الحالي، وأبرزها مشكل الاكتظاظ بالمؤسسات السجنية. وتشير الإحصائيات الى أن نسبة المعتقلين احتياطيا بلغت في نهاية دجنبر لسنة 2023 نسبة 37.56 في المائة[19]. في هذا الصدد جاء المشرع في مشروع قانون 43.22 بثلة من العقوبات البديلة من بينها المراقبة الإلكترونية باستعمال سوار إلكتروني يوضع بجزء من جسد المحكوم عليه، والملاحظ على أن المشرع لم ينص على اعتماد المراقبة الإلكترونية كبديل للاعتقال الاحتياطي بالرغم من أن المراقبة الإلكترونية -حسب اعتقادنا- ستكون ذات جدوى في مرحلة التحقيق أكثر من اعتمادها كعقوبة.

من زاوية أخرى، تستلزم رقمنة إجراءات استنطاق المتهم والاستماع الى الشهود توفير آليات الاتصال عن بعد في مقار قضاة التحقيق، كما تستلزم تجهيز غرف معدة لهذا الغرض في المؤسسات السجنية، أما المتهم المتابع في حالة سراح فلا مانع من استنطاقه عن بعد، اللهم إلا أن يرى قاضي التحقيق ضرورة حضوره، وحسب ما نص عليه المشرع في المادة 1-193 من مسودة قانون الوسائط الإلكترونية في الإجراءات القضائية فإن لجوء قاضي التحقيق الى تقنيات الاتصال عن بعد يكون عند توفر أسباب جدية تحول دون حضور المتهم، أو المجني عليه، أو الشاهد، أو الخبير، أو غيرهم. ويرى بعض الباحثين بأنه كان حري بالمشرع أن يشترط وجود أسباب جدية فقط دون قرنها بتعذر الحضور، لأنه قد تطرأ خلال إجراءات التحقيق بعض الأسباب الجدية التي تستدعي اللجوء الى هذه الآلية دون أن يكون سببها تعذر الحضور، ولعل أهمها مطلب السرعة في القيام بالإجراء خشية اندثار الأدلة أو موت الضحية الى غير ذلك[20]. ومن جانبنا نرى بأن اللجوء الى تقنيات الاتصال عن بعد يجب أن يُعتمد كأصل وليس استثناء، وذلك انطلاقا من الحسنات التي تعود بها هذه التقنيات على حسن سير إجراءات التحقيق، وسيكرس ذلك لما ورد في البند 91 من ميثاق اصلاح منظومة العدالة في إطار ضمان نجاعة آليات العدالة الجنائية[21]، كما سيضمن ترشيد الزمن القضائي، وسيمكن الشهود والخبراء والمجني عليه من الإدلاء بأقوالهم دون تخوف من بطش الجاني.

تبعا لما سلف، تقتضي رقمنة الإجراءات السالف ذكرها احترام الضمانات التي ينص عليها القانون بخصوص التحقيق الإعدادي، ومن أهم هذه الضمانات حضور دفاع مبدأ السرية، وقصد ضمان هذه السرية يتعين تعزيز الحماية والأمن السيبراني بخصوص الوسائل المستعملة في كل إجراءات التحقيق الإعدادي، سواء فيما يتعلق بتبادل المستندات الإلكترونية بين مختلف الفاعلين في هذه المرحلة، أو الوسائل المستعملة للاتصال عن بعد، من زاوية أخرى ستطال الرقمنة أيضا عمليات إصدار وتنفيذ الإنابات القضائية سواء بين القضاة بعضهم لبعض، أو بينهم وبين ضباط الشرطة القضائية.

المطلب الثالث: اعتماد الذكاء الاصطناعي في إجراءات البحث

يعتبر اعتماد الذكاء الاصطناعي في البحث التمهيدي والتحقيق الإعدادي أمرا في غاية الأهمية نظرا لما يمكن أن توفره هذه التكنولوجيا من إيجابيات على سير البحث وحل الجرائم. فيمكن الاستعانة بالذكاء الاصطناعي عبر التعلم العميق «Deep Learning»[22] للتعرف على هوية أصحاب الأصوات الواردة في التسجيلات الصوتية ومطابقتها مع صوت المشتبه فيه أو غيره عن طريق بصمة الصوت «Voice Print»، وذلك بواسطة ما يسمى بالتعرف على الصوت «Voice Recognition». ويمكن تعريف هذا الأخير بأنه "طريقة تعتمد على التقاط ورقمنة الموجات الصوتية، وتحويل الوحدات اللغوية الأساسية والصوتيات، وبناء الكلمات وتحليلها ضمن السياق لضمان النطق الصحيح للكلمات حسب النطق المعتاد[23]". ويمكن أيضا أن تساعد هذه التقنية على مراقبة الجريمة المنظمة عبر الهاتف والإنترنت أو كاميرات المراقبة، ويمكن استخدامها للتحليل الاستباقي لقمع الجرائم[24] والتقاط معلومات تشير الى نشاط إجرامي محتمل[25]. وما قلناه حول تقنية التعرف على الصوت ينطبق على تقنية التعرف على الأوجه «Facial Recognition» التي يمكن تسخيرها للتأكد من مطابقة وجه المشتبه فيه أو غيره مع ما تلتقطه التسجيلات المرئية.     وقد سمحت سلطات الدنمارك باستخدام هذه التقنية لمراقبة الملاعب قصد الحد من شغب الملاعب وزجر المشاغبين[26].

بالإضافة الى ذلك يمكن استعمال هذه التقنيات في مجال الاستخبارات الاستباقية قصد زجر الجرائم قبل تحقق النتيجة الإجرامية، وذلك من خلال رصد المبحوث عنهم، والمجرمين ذوي السوابق، والمشكوك فيهم، وتجدر الإشارة الى أن الذكاء الاصطناعي إذا ما تم إعداده بالشكل السليم وباعتماد بيانات صحيحة فسيكون باستطاعته التفرس في ملامح وهيئة الأشخاص في الأماكن العامة أو الخاصة وملاحظة سلوكاتهم والكلمات التي يستعملونها ونبرة أصواتهم، والتنبؤ بنواياهم أو أفكارهم، ومن ثم تصنيفهم الى مجرمين محتملين أو أشخاص عاديين.

وقد استفادت جامعة هيوستن «University of Houston» من التمويلات الفيدرالية الأمريكية الممنوحة من طرف وزارة العدل وقامت بالعمل على تطوير خوارزميات توفر مراقبة مستمرة عبر كاميرات المراقبة، وتعمل على تحليل هذا كل نشاط والتنبؤ بالسلوك المشبوه والإجرامي[27].

كما يمكن استخدام الذكاء الاصطناعي بهدف ضبط الكذب والخداع. وذلك إما عبر تحليل تعابير الوجه انطلاقا من مجموعات من البيانات وملاحظة تعابير الوجه الدقيقة الدالة على الكذب والتي لا يمكن ملاحظتها بالعين المجردة، أو ملاحظة نسبة التوتر انطلاقا من لغة الجسد أو من نبرة الصوت نظرا لأن الكذب يسبب التوتر[28]. ويمكن تسخيره كذلك لكشف التلاعب في الصور والمرئيات.



[1] هي أدوات وأجهزة وموارد إلكترونية تقوم بإنشاء وتخزين ومعالجة البيانات. (المصدر: www.igi-global.com/dictionary/digital-technology/7723 تم الاطلاع عليه بتاريخ 13/07/2024). مثال ذلك أجهزة الحاسوب وباقي الأجهزة الإلكترونية.

[3] أستاذنا سعد الستاتي: محاضرات حضورية في مادة المسطرة الجنائية، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية سلا، جامعة محمد الخامس، 2022-2023.

[4] الشكاية هي إجراء خوله المشرع للمتضرر من الجريمة أو من ينوب عنه للتقدم الى السلطات المعنية قصد إخبارها إما كتابة أو شفهيا عن الجريمة.

[5] الوشاية هي إجراء يسلكه شخص سواء كان معلوما أو مجهولا، وليس متضررا من الجريمة بشكل مباشر وليس نائب عن متضرر، يقوم بمقتضاه بإخبار -بكافة الوسائل- السلطات المختصة عن وقوع تلك الجريمة.

[6] دون خوض في التمييز بينهما، فإن أغلب الإجراءات في هاتين الحالتين تتشابه الى حد كبير، مع بعض الاستثناءات المتعلقة بإجراءات التفتيش والحجز والحقوق المكفولة للمشتبه فيه، كما أن الفرق يكمن في أن صلاحيات الشرطة القضائية في إطار البحث التمهيدي التلبسي تكون واسعة، ولا يتصل -مبدئيا- ضابط الشرطة القضائية بالنيابة العامة إلا على وجه الإخطار، عكس البحث التمهيدي العادي فإن ضابط الشرطة القضائية غالبا ما يسير وفق تعليمات النيابة العامة.

[7] والقطب الأول للمحكمة هو القضاء الجالس.

[8] سعيد بوطويل: مشروع المحكمة الالكترونية بالمغرب "دراسة أولية في آليات المحكمة الالكترونية وأحكامها"، دار الافاق المغربية للنشر والتوزيع، المغرب الدار البيضاء، 2021، ص118.

[9] وهذا من شأنه أن يخفف عبء انتقال الضابطة القضائية الى مختلف أرجاء المملكة ونقلها للمشتبه فيه قصد مواجهته مع غيره، وقد شبه بعض الباحثين أبحاث الشرطة القضائية بكرة الثلج التي كلما تدحرجت كبرت، في إشارة الى أن التحريات والأبحاث تكشف عن وجود أشخاص آخرين لهم علاقة بالجريمة، ويجب الاستماع إليهم ومواجهتهم مع المعني بالأمر، وهذا ما لا يسعه الوقت الضيق المخصص للحراسة النظرية، وتجدر الإشارة الى أن هذا الأمر لن يتم إلا بتنسيق بين النيابة العامة بمحكمة الدائرة التي يحتفظ فيها بالمعني بالأمر، وبين النيابة العامة بالمحكمة التي يتواجد بها الشخص الذي له علاقة بتلك الجريمة.

[10] كحالة الحصول على إذن كتابي من النيابة العامة للقيام بتفتيش منزل أو معاينته في غير الوقت القانوني في إطار جريمة إرهابية (المادة 62/3 من ق.م.ج)

[11] إن عرض المشتبه فيه على النيابة العامة عن بعد بدلا من نقله ماديا الى المحكمة كفيل بتوفير تكلفة النقل، وبضمان عدم ضياع الوقت المخصص للحراسة النظرية، لذلك يجب سن إطار قانوني لهذه العملية وتجهيز مراكز الشرطة بالتقنيات والأجهزة اللازمة.

[12] مسودة مشروع قانون المسطرة الجنائية نسخة أكتوبر 2022: للاطلاع عليه أنظر drive.google.com/file/d/1zxNyL9iHhWz1TBlarTW59ROI1e_7ATqR/view

[13] تنص هذه المادة على ما يلي: "

1. يكون للتوقيع الإلكتروني ذات الحجية المقرّرة للتوقيعات المشار إليها في هذا القانون، إذا روعي فيه الأحكام المقررة في قانون المعاملات الإلكترونية وخدمات الثقة.

2. يكون للمستندات الإلكترونية ذات الحجية المقررة للمحررات الورقية الرسمية والعرفية في هذا القانون متى استوفت الشروط والأحكام المقررة في قانون المعاملات الإلكترونية وخدمات الثقة."

[14] هو مصطلح اعتمده تشريع المملكة المتحدة للدلالة على تقنيات سمعية بصرية تمكن الشخص من المشاركة في إجراءات المحكمة دون حضور فعلي.

[15] Stephen Mason: “The use of video conferencing in courts”, On behalf of the Council of Europe For a webinar with the CEELI Institute, o.p.s, 2020, pp3,4, rm.coe.int/ceeli-institute-the-use-of-video-conferencing-in-courts-by-mr-stephen-/16809f2785, Accessed 27 Mar 2024.

[16] أستاذنا سعد الستاتي: مرجع سابق.

[17] هو قاض -أو مستشار بمحكمة الدرجة الثانية- من قضاة الموضوع يعينه المجلس الأعلى للسلطة القضائية باقتراح من رئيس المحكمة -أو الرئيس الأول- لمدة ثلاث سنوات (المادتين 47 و70 من القانون 38.15) ليقوم المهام المنوطة بمؤسسة قاضي التحقيق.

[18] هو تدبير بمقتضاه يُحرم المتهم الخاضع له من حريته عن طريق الأمر بإيداعه في السجن (بعد استنطاقه) خلال المدة التي يسمح بها القانون، والتي تمتد بين فترة افتتاح التحقيق الإعدادي في القضية المتهم بسببها، الى حين صدور حكم نهائي فيها، شريطة أن تكون الجريمة موضوع القضية جناية او جنحة معاقب عليها بعقوبة سالبة للحرية.

[19] المصدر موقع رئاسة النيابة العامة: www.pmp.ma/

[20] سعيد بوطويل: مرجع سابق، ص132.

[21] ورد فيه ما يلي: "اعتماد وسائل الاتصال عن بعد في تنفيذ الإنابات القضائية والاستماع الى الشهود".

[22] هو مجموعة فرعية من التعلم الآلي تستخدم هياكل خوارزمية محددة تُسمى الشبكات العصبونية العميقة (نوع أكثر تعقيدا من الشبكات العصبية الاصطناعية) التي تشمل الشبكات العصبية الالتفافية (أو الترشيحية) «CNNs» والشبكات العصبية المتكررة «RNN». يتميز التعلم العميق بقدرته على معالجة كميات كبيرة من البيانات وتعلم الميزات والأنماط المعقدة بشكل تلقائي. يُستخدم بشكل أساسي في المهام المعقدة مثل التعرف على الصور، معالجة اللغة الطبيعية، والتعرف على الكلام.

[23] Takialddin Al Smadi, et al: Artificial Intelligence for Speech Recognition Based on Neural Networks, Journal of Signal and Information Processing, vol 6, no 2, 2015, p66. http://dx.doi.org/10.4236/jsip.2015.62006

[24] مثال ذلك مجموعة من المجرمين يخططون لجرائم إجرامية عبر الهاتف أو وسائل التواصل الاجتماعي سيستخدمون كلمات معينة سواء بالعامية أو العربية أو غيرها من اللغات، كالمصطلحات المرتبطة بالمخدرات، الإرهاب، ونحو ذلك، وسيكون للذكاء الاصطناعي القدرة على رصد هذه الكلمات للتمكن من زجر الجرائم مباشرة بعد الشروع في تنفيذها، وذلك للتمكن من معاقبة الجناة، فمعلوم أن القانون الجنائي -مع مراعاة بعض الجرائم التي شذ فيها المشرع عن القاعدة كجريمة المؤامرة - لا يوقع العقاب إلا على من تجاوز مرحلة الأعمال التحضيرية الى مرحلة الشروع في التنفيذ.

[25] Koshinaka Takafumi, LEE Kong Aik: Safety, Security, and Convenience: The Benefits of Voice Recognition Technology, NEC Technical Journal, vol 3, no 2, 2019, p86.

[27] للاطلاع على التقرير المنجز حول هذه العملية أنظر: Shishir K. Shah: Learning Models for Predictive Behavioral Intent and Activity Analysis in Wide Area Video Surveillance, U.S. Department of Justice, Oct 2016. www.ojp.gov/pdffiles1/nij/grants/250273.pdf

[28] Fatma M. Talaat: Explainable Enhanced Recurrent Neural Network for lie detection using voice stress analysis, Multimedia Tools and Applications, vol 83, 2024, p32278. https://doi.org/10.1007/s11042-023-16769-w



من أجل تحميل هذا المقال كاملا - إضغط هنا أو أسفله

قانونك


 من أجل تحميل العدد 21  - إضغط هنا أو أسفله

مجلة قانونك - العدد الثالث