أساس المسؤولية المهنية - مليكة حرباش


9anonak
أساس المسؤولية المهنية

أساس المسؤولية المهنية
من إعداد: مليكة حرباش طالبة

مقدمة
المسؤولية هي جزاء الإخلال بالتزام أدبي أو قانوني يقع على الفرد داخل مجتمعه، وتكون المسؤولية من حيث طبيعتها أدبية حالة الإخلال بالتزام أدبي أو أخلاقي، وتكون قانونية حالة الإخلال بالتزام قانوني.
والقاعدة العامة أن المسؤولية الأدبية أمرها موكول إلى الضمير بالخصوص، ولا تدخل في نطاق القانون ولا يترتب عنها جزاء قانوني، وإنما هو تأنيب الشخص لنفسه أو استنكار الجماعة لفعله.
أما المسؤولية القانونية فتترتب عادة عن الإخلال بالتزام ينظمه القانون ويحميه، وجزاؤها مادي تتكفل به السلطة العامة كمبدإ عام، وهي قد تكون جنائية أو مدنية.
فالمسؤولية الجنائية تنطلق في أساسها العام من ضرر لحق بالمجتمع حيث يتدخل المشرع لتجريم الأفعال التي تصل إلى درجة من الخطورة، وحيث " لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص"، أما المسؤولية المدنية فتنطلق في أساسها من ضرر يلحق بالفرد، فالأولى تحمي السلم والأمن والنظام داخل المجتمع، بينما الثانية فتحمي الفرد في جوانب تتصل بذمته المالية  أو بسلامته أو بعاطفته[1] علما بأن الأفعال غير المشروعة التي تحدث الضرر بالغير تظل غير واردة على سبيل الحصر.
والمسؤولية المدنية تكون إما عقدية أو تقصيرية، فالأولى تتعلق بجزاء عدم تنفيذ الإلتزام الناتج عن العقد حيث يحق للطرف الذي ووجه بالإخلال المطالبة بالفسخ، والثانية هي جزاء القيام بعمل غير مشروع يحدث الضرر بالغير، وأركان المسؤولية المدنية عموما الخطأ، الضرر، والعلاقة السببية بين الخطأ والضرر وتتمثل آثارها في التعويض.
إن الأفعال المرتبة للمسؤولية كما يأتيها أي فرد من المجتمع قد يأتيها المهني في علاقته بمستهلك خدماته، ونقصد بالمهني كل من ينتمي لمهنة حرة.
والمهن الحرة هي التي يزاولها المهنيون من خلال مجموعة من الأنشطة التي تمارس بكيفية مستقلة، وذلك لتوفرهم على التكوين اللازم  الفني والعملي لذلك.
ونقصد باستقلالية المهن الحرة: استقلال فني واستقلال إداري أو إشرافي، فالأول يشكل صميم عمل الممارس، إذ يستقل المهني بإبراز الجوانب الفنية للمهنة أو استعمالها بصدد كل علاقة فردية مع كل زبون على حدى، أما الإستقلال الإداري أو الإشرافي فيعني عدم خضوع المهني من الناحية الإدارية لزبونه من خلال عدم خضوعه لتعليمات وتوجيهات الزبون المستهلك لخدمات هذا المهني.
إلا أن التكوين العلمي أو الفني عموما والضروري لممارسة أي مهنة، لا يمنع من حدوث أخطاء مهنية وأضرار تلحق بالمستهلكين سواء عن قصد أو إهمال.
وبالتالي تكون مسؤولية المهني متعددة الطبيعة القانونية بتعدد أسبابها، فتكون إما جنائية قائمة على ارتكاب فعل مجرم من طرف القانون بمناسبة مزاولة نشاطه المهني، ومن ذلك تزوير وثيقة بالنسبة للعدل أو الموثق، أو تكون تأديبية عند وجود مخالفة لقواعد المهنة التي يفرضها القانون المنظم لها، أو توجبها الأعراف المهنية[2]، التي تسري في العديد من المجالات المهنية الحرة مثل مهنة الطب والصيدلة والمحاماة والهندسة وغيرها، وقد تكون مسؤولية المهني المدنية مسؤولية عقدية، حيث تتم مساءلة المهني في إطار النظرية العامة للعقد عندما يخل هذا الأخير بالتزام عقدي يربطه بأحد زبنائه في إطار  ممارسته لمهنته، كما قد تكون مسؤولية تقصيرية عندما يصدر عنه عمل غير مشروع يضر بالغير.
وتجدر الإشارة إلى أن الأصل هو المسؤولية العقدية لافتراض وجود عقد بين المهني وزبونه، وقد تصبح في بعض الحالات الخاصة مسؤولية تقصيرية.
وإذا كان المهنيون – تاريخيا -  يخضعون للقواعد العامة للمسؤولية المدنية، فقد ظلت جل التشريعات تخص هذه الأوساط المهنية بأنظمة قانونية ولوائح تنظيمية تؤطرها، وهذا ما شكل سند بروز النظام القانوني الخاص بالمسؤولية المهنية.
وتبرز أهمية الموضوع كونه مازال محل جدال فقهي، ونابع من أهمية حياتنا العصرية بما تلحظه من تطور في العلاقات القانونية وازدياد في الالتزامات المفروضة، وقد ازدادت هذه الأهمية بازدياد أخطاء أصحاب المهن، وكثيرا ما ينجم عن أخطائهم المهنية أضرارا، مما يفسح المجال لتكاثر دعاوى المسؤولية عن الأخطاء المهنية، وتزداد الأهمية شأنا عندما يتعلق الأمر بدراسة الأساس، أي على ماذا تقوم هذه المسؤولية؟ فإذا كانت دراسة الأركان تبين مدى وجود هذه المسؤولية من عدمه، فإن تناول أساس المسؤولية يرشدنا إلى مدى الحماية القانونية المخولة لأحد طرفي هذه العلاقة بين المهني والمضرور.
وإذا كان الخطأ كقاعدة عامة هو أساس المسؤولية المدنية، فللمهنة أهمية كبيرة في تحديد معيار الخطأ الذي تقوم عليه المسؤولية المهنية، إذ يقدر الخطأ تقديرا مجردا ويقاس بمقياس رب الأسرة الحريص « le bon père de famille »، وهذا المعيار لا يصلح للتطبيق في المجال المهني لأن المهني لديه من – الخبرات العلمية والعملية- ما لا يتوفر لدى الشخص العادي، هذا من جهة ومن جهة أخرى لأن ما ينتظر منه يفوق بكثير ما ينتظر من الشخص العادي[3] الذي يشمل عادة أواسط الناس.
لذلك يذهب غالبية الفقه الحديث إلى أن الخطأ المهني يجد أساسه ومصدره الحقيقي في أعراف المهنة وأخلاقياتها على اعتبار أن المسؤولية المهنية تتخطى التقسيم الثنائي للمسؤولية المدنية (مسؤولية عقدية وأخرى تقصيرية).
من خلال ما سبق يمكننا التساؤل عن ماهية طبيعة الإخلال الذي يقوم كأساس للمسؤولية المهنية؟ هل أساسها الخطأ أم بدون خطأ؟ وإذا كان غالبية الفقه الحديث يذهب إلى أن الخطأ المهني يجد أساسه  ومصدره الحقيقي في أعراف المهنة وأخلاقياتها، فما المقصود بأخلاقيات المهنة، وما مدى إمكانية اعتبارها مصدرا وأساسا للمسؤولية المهنية؟ وهل تشدد المشرع أم خفف على المهنيين؟ أي حماية كرسها المشرع لمستهلك خدمات المهني؟
في ضوء هاته الإشكاليات ارتأينا تقسيم هذا الموضوع وفق التصميم التالي:
المبحث الأول: الخطأ المهني كأساس للمسؤولية المهنية
المبحث الثاني: أخلاقيات المهنة ودورها في إقرار المسؤولية المهنية

المبحث الأول: الخطأ المهني كأساس للمسؤولية المهنية
يمكن تعريف الخطأ بكونه الإخلال بالتزام قانوني مع إدراك المخل بذلك، علما بأن الالتزام القانوني هو أن يسلك الشخص قدرا من التبصر والاحتراس لتفادي الإضرار بالغير[4]. وتتعلق المسؤولية المهنية بالنظام القانوني الذي يساءل المهنيين والفنيين من محامين وعدول وموثقين وأطباء وغيرهم عما تلحقه أخطاؤهم من أضرار على الأشخاص المستهلكين لخدماتهم.
وتنتج المسؤولية المهنية عند إخلال المهني بالتزام عقدي يربطه بأحد زبنائه في إطار ممارسته لمهنته، وبذلك يدخل في نطاق الفصل 230 من ق ل ع المقر لمبدأ العقد شريعة المتعاقدين، وبذلك تكون المسؤولية النابعة عن الإخلال بالعقد الجامع لمهني وزبونه عقدية، حيث أن كلا منهما يجمعه مع الآخر عقد شكلي أو رضائي.
كما قد تنتج المسؤولية المهنية عند إخلال المهني بالتزام قانوني يفرضه القانون وعندها نكون أمام المسؤولية التقصيرية، والتي سنتطرق لها في المطلب الثاني.
ولقد نظم المشرع المغربي المسؤولية العقدية في الفصل 230 وما يليه، حيث ينص الفصل 263 من ق ل ع على ما يلي: " يستحق التعويض إما بسبب عدم الوفاء بالإلتزام وإما بسبب التأخر في الوفاء به ولو لم يكن هناك أي سوء نية من جانب المدين".
يتضح إذن من صياغة الفصل 263 من ق ل ع أن الخطأ العقدي يتخذ أكثر من مظهر، فهو قد يتمثل في امتناع أحد المتعاقدين عن التنفيذ العيني، أو في شكل تأخر في التنفيذ. ومقياس تحقق الخطأ العقدي تناولته نظريتان، نظرية تقليدية يرى أنصارها أن رصد الخطأ العقدي للمسؤولية العقدية، يتم باعتماد المعيار الشخصي الذي يربط الخطأ بالمخطئ، بحيث لا يتحقق الإخلال بالإلتزام إلا إذا كان الفعل الذي ارتكبه المدين داخلا ضمن زمرة الأخطاء الجسيمة، أو التي تكون على جانب من الخطورة حتى ولو كانت في أصلها أخطاء يسيرة، وهي التي يتحاشى الوقوع فيها من كان على درجة متوسطة من الذكاء[5].
وقد خلقت هذه النظرية صعوبات لدى القضاء بخصوص مسألة تحديد نوع الشريحة التي ينتمي إليها المخطئ، فيما إذا كان رجلا عاديا متوسط الحرص، أو يقظا جدا، أو متهاونا مهملا، مما أدى إلى ظهور تيار جديد في ميدان الفقه يذهب إلى هجر هذه التفرقة التقليدية، واستبدالها بأخرى ذات معيــار موضوعـي مجـرد مـرن مـن حيـث التطبيـق، وتتمثـل هـذه التفرقـة في وجود نوعين من الإلتزامـات العقديـة التـي يتحمل بهـا المديـن، ويتعلـق الأمـر بالإلتـزام بنتيجــة (Obligation de résultat)، والإلتـــــزام بوسيلة أو ببذل عناية (Obligation de moyen)[6].
وقد ساعدت هاته التفرقة التي توصل إليها الفقيه ديموج بين الإلتزامات بغاية والإلتزامات ببذل عناية، ساعدت القضاء في التغلب على الصعوبات التي أثارتها مسألة إثبات الخطأ العقدي.
وسنتناول في (مطلب أول) الإخلال بالإلتزام العقدي، على أن نتطرق إلى  حالات تحول مسؤولية المهني من مسؤولية عقدية إلى مسؤولية تقصيرية في (المطلب الثاني).
المطلب الأول: الإخلال بالإلتزام العقدي
تتخذ صورة إخلال المهني بالإلتزام العقدي إما إخلال ببذل عناية (الفقرة الأولى) أو إخلال بتحقيق نتيجة (فقرة ثانية).
الفقرة الأولى: إخلال المهني ببذل عناية
إن الإلتزامات العقدية التي يلتزم فيها المدين ببذل العناية اللازمة كالعقد الرابط بين الطبيب والزبون، أو الذي يربط هذا الأخير بالمحامي، لا يتحدد منذ البداية في تحقيق نتيجة معينة، وإنما مجرد أمل في الحصول على هذه النتيجة، وهكذا فالطبيب لا يضمن نتيجة الشفاء لزبونه عند إبرام عقد التطبيب، وإنما هو يتعهد ببذل مجهوداته العلمية التي اكتسبها في ميدان الطب بشرط ألا يثبت التقصير والإهمال في جانبه.
والمحامي بدوره يتعهد أمام موكله أن يرافع بالنيابة عنه أملا في كسب القضية، إلا أنه لا يضمن نتائج هذا الفوز لاحتمال أن يكون موكله هو الطرف الخاسر في الدعوى، إلا أن ذلك لا يمنع المحامي من بذل مجهوداته القانونية لتبرئة موكله، أو على الأقل للتخفيف من الحكم الصادر ضده، وبإخلال كل من الطبيب والمحامي.....بإلتزامهم ببذل العناية اللازمة يعرضهم إلى ارتكاب أخطاء مهنية تنتج عنها مسؤوليتهم المهنية.
وتتعدد صور الإخلال بالإلتزام ببذل عناية التي قد ترتكبها هذه الطائفة من المهنيين.
وسنتعرض لكل من الخطأ المهني للمحامي (أولا) ثم الخطأ المهني للطبيب (ثانيا).
أولا: الخطأ المهني للمحامي
تقام المسؤولية المهنية للمحامي حينما يخل هذا الأخير بما التزم به من قبل الغير قانونا أو اتفاقا، ويترتب عن إخلاله تعويض الضرر الناتج عن هذا الإخلال، أي الإخلال بواجبات الحيطة والحذر وبذل العناية المفروضة قانونا وتعاقدا، فالمحامي ملزم ببذل العناية والإهتمام، واتخاذ جميع الإحتياطات اللازمة، وأن يكون حذرا ويقظا في معاملاته المهنية.
ومن بين الأخطاء التي قد يرتكبها المحامي وهو بصدد تنفيذ التزاماته اتجاه زبونه نجد:
- الإخلال بواجب الحيطة والحذر: فالمحامي ملزم باتخاذ الحيطة والحذر وبالتالي فإن أي خطأ منه بهذا الشأن قد يؤدي إلى الإضرار بزبونه أو بالغير.
- الإخلال بواجب العناية والإهتمام: إن أساس العلاقة التي تنشأ بين المحامي وزبونه تتمثل فيما يبذله الأول من عناية واهتمام بنشاطاته ومهامه اتجاه الثاني ولفائدته، لذلك فإن الإهمال والتقصير في جانبه، كأن يفوت المحامي آجال الاستئناف أو النقض عن الزبون بسبب الإهمال أو النسيان مثلا قد ينشأ الدعاوى المتعلقة بالمسؤولية.
- إفشاء السر المهني: ومن صور الإخلال بالالتزام العقدي كذلك إفشاء السر المهني، فالمحامي ملزم بالمحافظة على السر المهني لموكله.
ويعتبر المحامي مخلا بالتزامه بالمحافظة على السر المهني إذا قبل التعهد بدعوى ضد أحد زبنائه القدامى، إذا كانت هذه الدعوى الجديدة لها علاقة بالدعاوى التي سبق وتعهد بها لصالحه، لأنه في هذه الحالة يكون مطلعا على أسرار خصمه الجديد، كما أنه إذا كان مستشارا للطرفين وتلقى بحكم ذلك أسرارا من كليهما، فلا يحق له أن يترافع بعد ذلك عن أحدهما في حالة النزاع حول نفس المسألة، لأنه ملزم بكتمان السر في مواجهتهما[7].
وحتى الخطابات المتبادلة بين المحامي وزبنائه تدخل بدوره تحت كتمان السر المهني، ولا يجب إفشاء محتواها أو عرضها في قاعات المحاكم إلا إذا قبل الأطراف المعنيين بذلك صراحة.
وعموما فإذا كانت الصفة الغالبة على التزامات المحامي تتمثل في الإلتزام ببذل عناية، فإن هناك من الالتزامات التي يتعين فيها على المحامي تحقيق نتيجة وإلا كان مرتكبا لخطأ مهني، فمعلوم أن عمل المحامي قد يكون قضائيا، أو غير قضائي، فالأول يتجسد في النيابة لدى القضاء، وكذلك المساعدة، أما الثاني فيتمثل في الاستشارة والتفاوض وتحرير العقود.
فالأعمال في نطاق التوكيل على النزاع والمتجلية في النيابة، فيجب التمييز فيها بين نوعين: إجراءات يقوم بها المحامي في حق موكله كتحرير مقال الدعوى ورفعها والقيام بالإجراءات القانونية أمام المحاكم والطعن في الأحكام، فأي خطأ في هذه الإجراءات يقيم مسؤولية المحامي باعتباره ملزم بتحقيق نتيجة، كما يكون ملزما بتحقيق نتيجة فيما يتعلق بصحة العقود من الناحية الشكلية، فهو يضمن صحتها.
وبناء على ما سبق فإن عدم تنفيذ المحامي للإلتزام الكلي الملقى على عاتقه، فإن خطأه يكون سهل الإثبات ومفترضا، ولا يقع على الزبون إلا إثبات عدم التنفيذ الكلي ليتحول عبء الإثبات على المحامي الذي يلزم بالبرهنة على القيام بالإجراء أو أداء العمل المطلوب منه عموما، أو يثبت وجود القوة القاهرة التي منعته من التنفيذ.
وبخصوص الاستشارة كعمل من أعمال المحامي، فالالتزام الملقى على كاهل المحامي مبدئيا هو التزام ببذل عناية، إلا أن مسؤوليته تقوم إذا أثبت اقترافه لخطأ قانوني فادح، كاعتماده مثلا في الاستشارة على نص قانوني ملغى[8].
بعد تطرقنا لحالة المحامي كنموذج للإخلال بالإلتزام ببذل عناية، سنتطرق لحالة الطبيب كنموذج ثان.
ثانيا: الخطأ المهني للطبيب   
يمكن التمييز بين نوعين من الأخطاء الطبية، أخطاء تتمثل في الإخلال بالواجبات الإنسانية، وأخطاء تتعلق بالأصول الفنية والتقنية لمهنة الطب، ويرى الفقهاء أن هذه الأخيرة تكون صعبة التحديد وعسيرة الإثبات.
- الإخلال بالواجبات الإنسانية: يتمثل هذا النوع في حالة عدم تقديم المساعدة لشخص في خطر، فالواجب الإنساني يفرض على الطبيب أن يغيث شخصا محتاجا لمساعدته، وقد تشدد المشرع في هذا الإلتزام، واعتبر الإخلال به جرما يتعرض مقترفه للحبس، بل لقد جعله واجبا على جميع الأشخاص، وقد أكد الفصل الثالث من قواعد السلوك الطبي هذه القاعدة، معتبرا أن كل طبيب مهما كان تخصصه ومهامه يجب عليه أن يقدم المساعدة لكل مريض يوجد في حالة خطر إذا لم يكن بالإمكان تقديم إسعافات طبية أخرى له.
ذلك أن صفة الطبيب تعطيه وصفا خاصا إزاء هذا الإلتزام، لأنه يكون ملزما في أغلب الحالات بإغاثة المريض وتقديم المساعدة له بنفسه، مما يفيد أن صفته هذه توسع التزامه بالإنقاذ إلى مدى أكبر بكثير مما يتطلب من شخص عادي، فإذا كان يتطلب ممن يتطوع لنجدة غريق أن يكون سباحا ماهرا، فإن المريض أو الجريح، أو المصاب بوعكة قلبية أو أزمة تنفس يجد ضالته لدى الطبيب أكثر مما يجدها لدى عامة الناس[9].
- التزام الطبيب بإعلام المريض: إذا كان من المسلم به أن الطبيب يلتزم بإعلام المريض وتبصيره بمخاطر العلاج أو الجراحة، فإن من المسلم به أيضا، أن الطبيب لن يستطيع أن يؤدي عمله بنجاح إن كان ملتزما وبكل الأحوال بهذا الإعلام، خاصة عندما يكون مقدما على عملية جراحية خطيرة، إذ قد يؤدي إخبار المريض بكامل التفاصيل إلى قيام بعض العقبات المادية والمعنوية.
ومن أجل تجنب ذلك، وتحديدا لنطاق الإلتزام بإعلام المريض وتبصيره يميز القضاء الفرنسي بين نوعين من المخاطر: المخاطر العادية المتوقعة، والمخاطر الغير العادية غير المتوقعة، وبينما يجب على الطبيب إخبار المريض بالأولى، فإنه يعفى إخباره بالثانية.
ومع ذلك فتوجد بعض الفروض التي يلتزم فيها الطبيب بإعلام المريض إعلاما كاملا وتبصيره بكل المخاطر ولو كانت استثنائية، ويشمل ذلك عمليات التجميل واستئصال الأعضاء، والإجهاض الإرادي، وإلا فإنه يتحمل حينئذ إثبات واقعة سلبية، تتمثل في عدم إخباره وتبصيره بمخاطر العلاج أو الجراحة، وأن عبء الإثبات يقع عليه.
- التزام الطبيب للحصول على موافقة المريض: يقع على الطبيب إلتزام محدد بضرورة الحصول على موافقة المريض قبل أن يشرع في مباشرة عمله الطبي على جسم المريض، وعليه عبء إثبات هذه الموافقة، وإلا أنه سيفترض أنه أخطأ، وتنعقد مسؤوليته عن الأضرار التي لحقت بالمريض.
وإذا كان الأصل أن الطبيب لا يلتزم حين معالجة المريض بأية نتيجة، والمطلوب منه هو بذل عناية طبيب يقظ في نفس مستواه المهني وجد في نفس الظروف الخارجية، فإنه في بعض الأحوال الاستثنائية يكون ملزما بتحقيق نتيجة معينة ليست في شفاء المريض، ولكن ضمان سلامته وعدم تعرضه لأي أذى أو إصابته بأي ضرر، ويتعلق هذا النوع من الإلتزام – بتحقيق نتيجة -  ببعض الأعمال الفنية والتي تتعلق أساسا بالفحوصات المخبرية التي تكون بمناسبة التشخيص أو العلاج كتحليل الدم وتحديد فصيلة ونسبة محتواياته، فإذا كانت نتائج هذه الفحوصات غير صحيحة يفترض حينئذ خطأ الطبيب لأن التزامه في مثل هذه الأعمال يكون التزام محدد بتحقيق نتيجة، كذلك استعمال الأشعة في التشخيص وعلاج الأمراض يلقي على عاتقه التزاما محددا لحماية المريض مما قد تنجم عنها من أضرار.
الفقرة الثانية: الإخلال بالإلتزام بتحقيق نتيجة
الإلتزام بتحقيق نتيجة هو ذلك الإلتزام أو الأداء الذي التزم به المدين والذي يجب أن يأتي مطابقا للغاية التي يرمي ويهدف الدائن إلى تحقيقها، ويعرفه بعض الفقه[10] بأنه: " هو ذلك الإلتزام الذي يجب على المدين فيه أن يدرك غاية معينة أو أن يحقق نتيجة معينة، بحيث لا يمكن تصور التنفيذ إلا في حالة تحقق النتيجة المتفق عليها"، يتضح من خلال هذا التعريف إذا أن الالتزام بتحقيق نتيجة يكون مرتبطا بغاية أو هدف معين حصل الاتفاق عليه من قبل المتعاقدين، ولا تبرأ ذمة المدين من هذا الالتزام إلا بتحقيق النتيجة المتفق عليها عند التعاقد، وفي حالة عدم تحقق النتيجة المتفق عليها تثار حينها مسؤولية عدم التنفيذ من الدائن اتجاه المدين، ونضرب مثال بذلك التزام الناقل بضمان سلامة الركاب، ومن ثم لا يستطيع الناقل أن يدفع المسؤولية عن إصابة المسافر على إثر حادثة ما، ومن الأمثلة أيضا على الالتزام بتحقيق نتيجة نجد كلا من المهندس المعماري أو المقاول الذين يسألون عن جودة أعمالهم، فالتزام المقاولة بضمان سلامة البناء وإتمامه هو التزام بتحقيق نتيجة، وإذا ما أخل بالتزامه تقوم مسؤوليته المهنية.
وعموما تتعدد حالات وصور الالتزام بتحقيق نتيجة، لذلك سنقتصر على دراسة الناقل كأحد صور الالتزام بتحقيق نتيجة (أولا) ونتطرق إلى دراسة حالة المهندس المعماري (ثانيا).
أولا: أساس مسؤولية الناقل
في بداية الأمر أثير جدال فقهي حول طبيعة التزام الناقل هل هو التزام بتحقيق نتيجة أم التزام ببذل عناية، ليتدخل القضاء الفرنسي ويحسم الأمر بحيث قضت محكمة النقض الفرنسية: " بأن على عاتق الناقل التزام بإيصال المسافر سالما معافى إلى جهته المقصودة وهو التزام بتحقيق نتيجة"[11]، وجاء في حكم آخر بأن عقد نقل تلاميذ المدرسة، يفرض على الناقل إيصال التلاميذ سالمين معافين إلى وجهتهم المقصودة – أي مكان الوصول-  ثم أكثر من ذلك فالناقل ملزم باتخاذ اليقظة والحيطة حتى يسهل دخول التلاميذ إلى الناقلة، وتبعا لذلك اعتبر الناقل إثر انزلاق قدمه نتيجة اندفاع مع زملائه قبل وقوفها، ولا يحق للناقل دفع المسؤولية بخطأ للمضرور إذ كان عليه اتخاذ التدابير اللازمة التي تسمح بتفاديه".
ومن خلال ما سبق يبدو أن القضاء الفرنسي كان أكثر تشددا وصرامة على الناقل، حيث لم يسمح له بدفع المسؤولية عنه، إلا بإثبات السبب الأجنبي الذي لا يد له فيه، هذا من جهة، ومن جهة أخرى أكد على أن طبيعة الالتزام بضمان السلامة هو التزام بتحقيق نتيجة، وليس ببذل عناية، وما على المسافر إلا إثبات أن الضرر الذي أصابه كان أثناء عملية النقل، الشيء الذي يحرك مسؤولية الناقل العقدية[12].
أما بخصوص التطبيقات القضائية حول طبيعة التزام الناقل في المغرب، فنجد المجلس الأعلى (محكمة النقض حاليا) أكد في قرار له على أن " المحكمة وهي تطبق مقتضيات الفصل 106 من القانون التجاري لم تكن ملزمة بأن تذكر الأخطاء المرتكبة من طرف الناقل، ذلك أن مسؤولية هذا الأخير مفترضة حسب الفصل المذكور، ومن جهة أخرى حيث أن المحكمة عندما حملت الضحية جزءا من المسؤولية بعلة أنها لم تتخذ الاحتياطات اللازمة، دون أن توضح المحكمة ما هي الاحتياطات اللازمة تكون بصنيعها هذا قد أضرت بمصالح الضحية لا بمصالح الطاعن"[13].
انطلاقا مما سبق وباستحضار العلاقة التعاقدية بين الراكب والناقل يمكن القول بأن التزام الأخير يظل التزاما بتحقيق نتيجة والمتمثلة في ضمان إيصال الراكب معافى إلى وجهته المحددة في عقد النقل.
ثانيا: حالة المهندس المعمارس
يعتبر تحضير تصاميم البناء والإشراف والرقابة على أعمال المشروع من مهام المهندس المعماري، وبالتالي فإن إلتزامات المهندس بخصوص التصميم تصنف ضمن الإلتزامات بتحقيق نتيجة، وأي إخلال بهذه النتيجة إلا ويستلزم مساءلة المهندس عن خطأه في وضع التصميم.
ويتحمل المهندس المعماري المسؤولية عن أعمال البناء لمدة عشر سنوات التالية لإتمام البناء، ذلك ما نستشفه من خلال الفصل 769 من ق ل ع الذي ينص على أن: " المهندس المعماري أو المهندس والمقاول المكلفان مباشرة من رب العمل يتحملان المسؤولية إذا حدث خلال العشر سنوات التالية لإتمام البناء أو غيره من الأعمال التي نفذاها أو أشرفا على تنفيذها إن انهار البناء كليا أو جزئيا، أو هدده خطر واضح بالانهيار بسبب نقص المواد أو عيب في طريقة البناء أو عيب في الأرض.
المهندس المعماري الذي أجرى تصميم البناء ولم يشرف على تنفيذ عملياته، لا يضمن إلا عيوب تصميمه..."
من خلال هذا النص يتبين لنا أن جوهر مهنة المهندس المعماري هو وضع تصميم البناء، إلا أنه بالإضافة إلى ذلك قد يكون مكلفا بمهمة الإشراف على تنفيذ البناء، وقبل ذلك يكون مسؤولا عن عيوب الأرض.
- مسؤولية المهندس عن عيوب الأرض: لقد ألزم المشرع المغربي كلا من المهندسين والمقاولين بضمان تهدم البناء خلال عشر سنوات من تسليمه، ولو كان مرجع هذا التهدم إلى عيب في الأرض، فالأصول الفنية تستوجب من المهندس أن يجري دراسة التربة وتكريبتها، وذلك لإختيار مدى صلاحيتها وتحملها للأعمال المزمع إنشاؤها، وذلك قبل البدء في تنفيذ هذه الأعمال[14].
ويبدي القضاء تشددا واضحا مع المهندسين في هذا الشأن، ويحملهم مسؤولية ما يعتري البناء من خلل متى كان يرجع هذا الأخير إلى عيب في التربة، أو في طبيعة الأرض التي أقيم عليها، ويعتبر عدم التأكد المسبق من طبيعة الأرض من قبيل الأخطاء الجسيمة التي يرتكبها المهندس، ولم يجز لهذا الأخير بأن يتحلل من التزامه بدراسة التربة[15].
- مسؤولية المهندس عن عيوب التصاميم:
تعد مهمة إعداد التصميم من أهم المراحل وأخطرها في عملية البناء كلها، فالمهندس المعماري أثناء إنجازه للتصميم يتقيد بمجموعة من القيود التي تمليها عليه قواعد الفن المعماري، هذا ما ينص عليه الفصل 18 من قانون التعمير الذي يحدد بعض هذه القواعد والضوابط التي تحد من السلطة المطلقة للمهندس المعماري، حيث يتعين عليه أن يراعي المسافات والإرتفاقات الدنيا للبناءات وأن يتقيد بإحترام خط التنظيم والسياجات.
إذن فالتزام المهندس في هذه الحالة هو التزام بتحقيق نتيجة، وأي إخلال بهذه النتيجة إلا ويقيم مسؤولية المهندس المهنية، ويقع عبء الإثبات على صاحب المشروع الذي عليه تقديم الدليل على خطأ المهندس في التصاميم، هذا ما ذهبت إليه محكمة الاستئناف بالرباط في قرار لها صادر بتاريخ 24-3-65: " إن مسؤولية المهندس المعماري خارج نطاق الضمان العشري لا تقوم إلا إذا ارتكب خطأ في التصميم أو قصر في واجب الإشراف على الأشغال".
- سوء الإشراف والرقابة على أعمال المشروع: إذا كانت مهمة المهندس الأساسية تكمن في وضع التصميم فإنه غالبا ما يقوم بالإضافة إلى ذلك بمهمة الإشراف على تنفيذ أعمال المشروع محل التعاقد، لأن من شأن ذلك ضمان حسن سير عملية البناء، وبالرجوع إلى قانون الواجبات المهنية للمهندسين المعماريين المغربي نجده قد حدد في الفصل 19 مفهوم التوجيه والإشراف التي يتوجب على هؤلاء القيام بها: " يتعين على المهندس المعماري أن يعطي للبناء التوجيه العقلاني الذي يستوجبه"، وبالتالي فإن سوء الإشراف والإهمال قد يعرض المهندس للمسؤولية المهنية.
المطلب الثاني: تحول أساس المسؤولية المهنية
على خلاف معظم التشريعات الحديثة التي عمدت إلى تحويل أساس المسؤولية ليكون هو حماية الطرف الضعيف في مواجهة المهني، فالمشرع المغربي لازال يقف إلى جانب هذا الأخير، ويعمل على حمايته ماعدا في حالات استثنائية، والتي تتجلى في حالة افتراض الخطأ في جانب المهني بقرينة قانونية قاطعة غير قابلة لإثبات العكس، وكذا المسؤولية عن حراسة الشيء، بالإضافة إلى المسؤولية الجنائية، وذلك عندما يرتقي الفعل المرتكب من طرف المهني إلى مستوى الجريمة.
إذا كانت هذه هي حالات تحول أساس مسؤولية المهني وتشدد المشرع عليه فكيف تتحقق هذه الحالات؟
ذلك ما سنجيب عنه من خلال التطرق إلى الإخلال بالتزام قانوني (الفقرة الأولى) على أن نتطرق في (الفقرة الثانية) إلى المسؤولية الجنائية.
الفقرة الأولى: الإخلال بالتزام قانوني
ويتحقق ذلك في حالتين كلتاهما مفترضة بقرينة قانونية قاطعة وهما:
-         حالة مسؤولية المتبوع عن أعمال التابع؛
-         وحالة مسؤولية المهني عن حراسة الشيء.
أولا: مسؤولية المتبوع (المهني) عن الفعل الضار لتابعه
يعرف المتبوع عادة بأنه الشخص الذي يختار شخصا آخر للاستعانة به للقيام بخدمة معينة لحسابه وتحت إمرته وتوجيهه ورقابته مثل حالات: الخادمة بالبيت والبستاني في حديقة منزل والسائق الخاص لسيارة والممرضة في عيادة خاصة[16].
وتعد مسؤولية المتبوع عن أعمال تابعيه الجرمية من أهم مظاهر المسؤولية التقصيرية عن فعل الغير، وقد عرض لها المشرع المغربي كغيره من التشريعات الأخرى وخصها بأحكام مستقلة تعتبر في مجملها في صالح الضحية، فهي مبنية على الخطأ المفترض غير القابل لإثبات العكس، وهكذا فإن المشرع لم يترك للشخص المتبوع أية فرصة للتخلص من هذه المسؤولية الموضوعية إلا في حالة واحدة وهي ثبوت السبب الأجنبي، وقد ورد النص على هذه المسؤولية في الفقرة الثالثة من الفصل 85 من ق ل ع التي جاء فيها: " المخدمون ومن يكلفون غيرهم برعاية مصالحهم يسألون عن الضرر الذي يحدثه خدامهم ومأمورهم في أداء الوظائف التي شغلوهم فيها"[17].
وتتمثل الشروط اللازمة لقيام مسؤولية المتبوع في:
- ارتباط المتبوع بخدمه بمقتضى علاقة تبعية؛
- أن يتسبب التابع في ارتكاب الفعل الضار أثناء تأديته للوظيفة المسندة إليه أو بمناسبتها.
وعندما تتحقق عناصر المسؤولية المدنية للمتبوع عن أخطاء تابعيه فإن الضحية له أكثر من طريق للمطالبة بحقوقه المدنية، فله الحق في مقاضاة المتبوع وحده، كما أن له حق الرجوع على التابع أيضا باعتباره طرفا في النزاع، وليس هناك ما يمنع المضرور من مطالبة التابع والمتبوع في دعوى واحدة لوجود التضامن بينهما.
إن المهني لا يسأل إلا عن خطأ اقترفه، ونظرا لصعوبة إثبات الخطأ في جانبه، ونظرا كذلك لأنه يشغل أشخاصا تحت رقابته وتوجيهه قابلين لارتكاب أخطاء أثناء تأدية وظائفهم أو بمناسبتها، فإن المشرع المغربي عمد إلى تقرير المسؤولية في جانب المهني عن خطأ ارتكبه في الرقابة والتوجيه على خدامه، وهو خطأ مفترض عن رقابة غير في نطاق المسؤولية عن فعل الغير، وكمثال لذلك سنتطرق بإيجاز لمسؤولية المحامي والمقاول والطبيب عن فعل الغير.
- مسؤولية المحامي عن فعل الغير:
إن المقصود بالغير هنا هم مساعدو المحامي، سواء كانوا بدلاء أو معاونين له في القيام بمهام أعماله لتنفيذ الالتزامات الملقاة على عاتقه، مسؤولية عقدية في حالة البدلاء لأنهم ينوبون عنه بمقتضى عقد الوكالة المفترضة، ومسؤولية تقصيرية في حالة المعاونين له، باعتبار علاقة التبعية التي تربطه وإياهم. حيث أن المشرع سمح للمحامي أن ينيب عنه غيره، وإن بدون توكيل خاص، أي أن المشرع افترض وجود وكالة بين المحامي وغيره من المحامين تيسيرا عليهم في أداء مهامهم.
اتضح لنا أن مسؤولية المحامي عن فعل الغير تكون عقدية في الحالات التي يرتبط فيها بعقد مع عميله، ويصدر من أعوانه وبدلائه – الذين لا تربطهم به علاقة تبعية- فعل يلحق ضررا بالعميل. أما إذا لم يكن للمحامي مرتبطا بعقد، وكلف غيره من المحامين أو غير المحامين ممن يخضعون لإشرافه وتوجيهه بتنفيذ التزامه، وألحق فعل الغير بالعميل ضررا، فإن مسؤولية المحامي هنا مسؤولية تقصيرية عن فعل الغير، ويجب تطبيق قواد مسؤولية المتبوع عن أفعال تابعه عندئذ[18].
-         مسؤولية المقاول عن فعل الغير:
إن المقاول يكون مسؤولا في مواجهة رب العمل باعتباره متبوعا عن الأضرار التي تصيبه من جراء خطأ عماله الذين يستعين بهم في أداء العمل، مادام أن هذا الخطأ قد وقع منهم حالة تأديتهم لعملهم وبسببه. أما بالنسبة لسؤال المقاول بصفته متبوعا عن أخطاء مقاوليه من الباطن باعتبارهم تابعين له، فهو يتوقف على مدى السلطة والرقابة والتوجيه التي للمقاول على المقاولين من الباطن في تنفيذهم للأعمال الموكلة إليهم، وكذا مدى توافر علاقة التبعية، وهي مسألة واقع أكثر منها مسألة قانون، على أن المقاول لا يعتبر تابعا للمهندس، ولو كان هذا الأخير يشرف على عماله ويراقب تنفيذ العمل، لأن السلطة الفعلية في الرقابة والتوجيه، لا تستثير مسؤولية المتبوع، إلا إذا كانت في شأن أعمال يؤديها التابع لحساب المتبوع، وهو ما لا يتوافر في علاقته بالمقاول، حيث يشرف الأول على أعمال الثاني لحساب صاحب البناء [19].
- مسؤولية الطبيب عن فعل الغير:
رأت محكمة الاستئناف بالرباط أنه: " عند وجود ممرض مخدر عوض طبيب مخدر، يعتب الجراح رئيسا للفريق الطبي، وبالتالي مسؤولا عن جميع الأخطاء المرتكبة منهم أثناء العملية الجراحية"، لأنه أهمل واجب الرقابة والتوجيه والدراية الذي يفرض عليه التحقق من سلامة الأعمال التي يقوم بها الفريق[20].
ويكون الجراح مسؤولا عن مساعديه من الممرضين، فهو رئيس الفريق الجراحي الذين يعملون تحت إمرته، إذ أن المريض في أغلب الأحوال لا يعرف سوى الطبيب الذي يتعاقد معه، غير أن الجراح لا يسأل عن أخطاء طبيب التخدير إن كان المريض قد علم به وارتضاه، وأما إذا لم يتعرف عليه المريض فإن الجراح يبقى مسؤولا عنه نتيجة للعقد الذي يربط بينه وبين المريض، وقد قضت محكمة "تولوز" بتاريخ 11 يناير 1960 بمسؤولية الطبيب عن خطأ الممرضة في معرفة فصيلة الدم، لأنه لم يتأكد من مدى تخصصها قبل أن يعهد إليها بذلك.
تنضاف إلى تحول مسؤولية المهني العقدية إلى مسؤولية تقصيرية في إطار حالة مسؤولية المتبوع عن الفعل الضار لتابعه، حالة أخرى لتحول أساس هذه المسؤوية، وهي حالة مسؤولية المهني عن حراسة الأشياء التي يستعملها في مباشرة مهامه، فكيف تتحقق هذه المسؤولية؟
ثانيا: مسؤولية المهني عن حراسة الشيء الذي يستعمله        
لا شك أن هذه المسؤولية تظل من أهم جميع أنواع المسؤولية التي نظمتها التشريعات، وذلك للإعتبارات التالية: منها أن الأضرار الناتجة سواء عن القاصر أو التابع مثلا تظل في أغلب الحالات أقل خطورة، مما يمكن أن ينتج عن الشيء الجامد والمتحرك بفعل الإنسان الذي إزداد انتشارا واستعمالا مع التقدم الآلي والتكنولوجي[21].
ولعل ذلك ما يفسر نهج المشرع إلى التحقيق على فعل المضرور من الشيء في مجال الإثبات، وبذلك عمد إلى إعفاءه من إثبات الخطأ في جانب حارس الشيء سواء طبيبا أو مقاولا، مع إفتراضه في جانب هذا الأخير بمقتضى قرينة قانونية قاطعة.
ينص الفصل 88 من قانون الالتزامات والعقود على أن: " كل شخص يسأل عن الضرر الحاصل من الأشياء التي في حراسته، إذا تبين أن هذه الأشياء هي السبب المباشر للضرر، وذلك ما لم يثبت:
1- أنه فعل ما كان ضروريا لمنع الضرر؛
2- وأن الضرر يرجع إما لحدث فجائي أو لقوة قاهرة أو لخطأ المضرور".
والمشرع من خلال هذا الفصل ساير التشريعات الحديثة واستجاب للحاجيات المستجدة التي تمخضت عن التطور الصناعي نتيجة ظهور الآلات الميكانيكية والأدوات الخطرة وتزايد استعمالها، مع ما صاحب ذلك من أخطاء وأضرار كان يصعب على المضرور في أغلبها إقامة الدليل على خطأ الحارس، ومن ثم الحصول على التعويض، وهذا الوضع هو الذي جعل الفقه والقضاء الفرنسي خلال القرن التاسع عشر يحاول تقوية وضع المضرور وتخفيف عبء الإثبات عنه، الشيء الذي وصله الفقه من خلال توسعه في تفسير الفصل 1384 من القانون المدني الفرنسي، عندما اعتبر أن الفقرة الأولى من هذا الفصل تقول: " يسأل الشخص كذلك عن الأشياء التي في حراسته" تتضمن قرينة عامة على خطأ كل شخص يحرس شيئا واعتبرها بالتالي أساسا للمسؤولية عن فعل الأشياء غير الحية، ومن ثم اعتبر الفقه – وأكد القضاء الفرنسي- أن النص المذكور يعفي المضرور من إثبات خطأ حارس الشيء الذي أحدث الضرر، باعتبار أن مسؤولية الحارس تقوم على خطأ مفترض من جانبه في رقابة الشيء، وهو خطأ بقرينة قاطعة غير قابلة لإثبات العكس[22].
والمقصود بحارس الشيء المسؤول عن الفعل الضار الناتج عنه موكل من له السلطة الفعلية على هذا الشيء من استعمال ورقابة وتوجيه[23].
والمقصود بالشيء هو كل شيء مادي غير حي يخرج من نطاقه ما ليس شيئا أو ما نظمه المشرع بمقتضى نص خاص في القانون، ولا يهم بعد ذلك مدى خطورة هذا الشيء.
ولتقوم مسؤولية حارس الشيء يجب توافر شرطين:
1- أن يتولى الشخص حراسة شيء مادي غير حي؛
2- أن يحدث الشيء ضررا للغير.
ويبقى إعفاء المضرور الزبون من عبء إثبات الخطأ في جانب حارس الشيء مع افتراضه في جانب هذا الأخير بقرينة قانونية قاطعة غير قابلة لإثبات العكس، مظهر آخر من مظاهر تشدد المشرع على المهني، وذلك لحماية الطرف الضعيف من عبء إثبات الخطأ في جانب المهني، وهو ما سنتناوله عبر مسؤولية الطبيب والمقاولة عن حراسة الأشياء التي يستعملونها.
- مسؤولية الطبيب عن حراسة الأشياء التي يستعملها
يحدث كثيرا أن تكون أدوات الأطباء والجراحين هي السبب فيما يصيب المريض أو الغير من أضرار، وحينئذ يكون الضرر قد نشأ عن شيء غير حي يستخدمه الطبيب كآلات الفحص وعلاج الأسنان وأجهزة التخدير وأدوات الجراحة[24].
فإذا كان الشيء محدث الضرر مما يحتاج في حراسته إلى عناية خاصة، فإن الطبيب يسأل عن تعويض هذا الضرر دون حاجة إلى إثبات خطأ من جانبه، بل إنه لا يستطيع في هذه الحالة أن يتخلص من المسؤولية حتى ولو أثبت انتفاء الخطأ في جانبه، وبعبارة أخرى، إذا كان الطبيب حارسا لأشياء خطرة مما تحتاج في حراستها عناية خاصة، ثم وقع للمريض ضرر بسببها، وبفعل إيجابي فسوف يكفي هذا المريض أن يثبت وقوع الضرر له، وعندئذ يعفى من إثبات خطأ الطبيب، حيث يصبح هذا الخطأ مفترضا، بيد أن افتراض خطأ الطبيب في الحراسة يقتضي توافر شرطين أساسيين:
أ‌-        أن يكون الطبيب حارسا للشيء:
ويكون ذلك إذا كان يباشر سيطرة فعلية على الشيء لحسابه الخاص، ولذلك فإن الطبيب الذي عمل في مستشفى حكومي ويخضع لإشراف وتوجيه إدارة المستشفى، لا يعتبر حارسا للأشياء والآلات التي تخصصها المستشفى لعلاج المريض، بل تكون المستشفى هي الحارس للأشياء والآلات، وبالتالي تسأل بهذه الصفة عن الأضرار الناشئة عن هذه الأشياء، دون حاجة إلى إثبات خطأ في جانب أي شخص[25].
ب- أن تكون العلاقة بين الطبيب والمريض غير عقدية:
قد يوجد عقد علاج أو عقد طبي بين الطبيب والمريض يلتزم الطبيب بمقتضاه في مواجهة المريض بالتشخيص والعلاج في مقابل أجر أو بدونه، وفي هذه الحالة تستبعد النصوص الخاصة بمسؤولية حارس الشيء. ولا يستفيد المريض من قرينة الخطأ التي تعفيه من المسؤولية وتبرير ذلك، يتمثل في أنه متى كانت مسؤولية الطبيب عقدية، فلن توجد أهمية لتحديد المصدر المادي للضرر، لأن أحكام المسؤولية تختلف تبعا لما إذا كان الضرر ناشئا عن الفعل الشخصي، أو عن فعل شخص تابع له أو عن شيء استخدمه الطبيب في العمل الطبي.
- مسؤولية المقاول عن فعل الشيء:
وتفترض مسؤولية المقاول عما تحدثه الآلات الميكانيكية أو الأشياء الخطرة التي يستعملها في عملية التشييد عن أضرار الغير، باعتباره حارسا لها، أو بعبارة أخرى حارسا لموقع العمل، ومن التطبيقات القضائية لذلك، ما قضى في فرنسا من مسؤولية المقاولة عن الحادث الذي وقع لأحد الأغيار من جراء سقوط آلة عليه، كانت للمقاول في حراستها لغاية انتهاء الأعمال التي كان مكلفا بتنفيذها، وكذلك مسؤوليته عن الحادث الذي وقع لصبي اصطدم بمخلفات حفر تركت على طريق مؤدية إلى منازل العمال[26].
وننتقل إلى التحدث عن المسؤولية الجنائية حين وصول الفعل المرتكب من طرف المهني إلى درجة الخطأ الجنائي فكيف يتحقق ذلك؟
الفقرة الثانية: المسؤولية الجنائية   
لقد تشدد المشرع المغربي كذلك على المهني عندما يرتقي الفعل المرتكب من طرف هذا الأخير إلى مستوى الجريمة، فوصول الخطأ الطبي مثلا درجة الجرم الجنائي يوجب تطبيق قواعد المسؤولية التقصيرية، فكل جريمة جنائية نشأ عنها ضرر للغير توجب تطبيق قواعد المسؤولية التقصيرية تغليبا للناحية الجنائية في الموضوع، وهذه الفكرة هي المستقر عليها حاليا في القضاء والفقه.
ويستند هذا الموقف إلى مجموعة من الاعتبارات يمكن تلخيصها كالتالي[27]:
- البحث عن مصلحة الطرف المتضرر (الضحية في الجريمة وهو الزبون أو المستهلك)، وذلك بجعله يستفيد من مدة التقادم في المجال التقصيري التي هي في القانون المغربي أطول من مدة التقادم التعاقدي.
- إن المفاضلة بين نوعي المسؤولية (التقصيرية من جهة والعقدية من جهة أخرى) يجعل من المسؤولية التقصيرية أصلح اختيار للمضرور حيث لا يجوز فيها الإعفاء من المسؤولية، والتضامن مفترض بقوة القانون، التعويض عن الضرر المتوقع والضرر الغير المتوقع وعدم إلزامية الإعذار.
- كون الدعوى المدنية التابعة، أي دعوى التعويض لم تنشأ إلا استنادا للجريمة، وعليه فإن المشرع لم يسمح للقاضي الجنائي بالبحث فيها إلا على اعتبار أن الخطأ يكون إخلالا بالقانون الجنائي يترتب عنه ضرر خاص، أي إخلال بالتزام مصدره القانون، وهو ما يمكن المتضرر من أن يقيم دعوى التعويض على أساسه وتبعا للدعوى الجنائية أمام القاضي الجنائي، وذلك حتى ولو كان مصدر العلاقة (بين المهني والمستهلك) عقدا، إذ لا فائدة ترجى من وراء تمسك المضرور بالمسؤولية العقدية مادام أنه ملزم بتكييف الإخلال بالالتزام التعاقدي بنص من نصوص القانون الجنائي.
وتتجلى المسؤولية التقصيرية الناجمة عن جرم في بعض التصرفات الصادرة عن الطبيب خارج الأخطاء الفنية لمهنته، ومن أمثلتها عدم إسعافه لشخص في حالة خطر، وهي الجنحة التي يعاقب عليها الفصل 431 من مجموعة القانون الجنائي المغربي[28]، ومن أمثلتها بالنسبة للمحامي جنحة إفشاء السر المهني المنصوص عليها في الفصل 446 من القانون الجنائي كذلك.
المبحث الثاني: أخلاقيات المهنة ودورها في تكريس المسؤولية المهنية
يعرف الفقه الحديث أخلاقيات المهنة بأنها تكريس للمبادئ والمثل العليا التي يجب على المهني التشبث بها عند ممارسة المهنة في علاقته بزبنائه وزملائه. يتبين لنا من خلال هذا التعريف أن قواعد أخلاقيات المهنة هي مجموعة القواعد التي تحدد السلوك الذي يجب على المهني التزامه في ممارسته لمهنته، فقواعد أخلاقيات مهنة الطب تتضمن تحديد الواجبات التي على الطبيب مراعاتها في ممارسته لمهنة الطب، وقواعد أخلاقيات مهنة المحاماة هي تبيان الواجبات التي تقع على عاتق المحامي في أدائه لأعمال مهنته، وهكذا بالنسبة لجميع المهن الحرة.
وإذا كان الفقه يجمع على أن قواعد أخلاق المهنة ما هي إلا تكريس للمبادئ والمثل العليا التي يجب على المهني التشبث بها عند ممارسة المهنة، فالتساؤل الذي يطرح في هذا الصدد هو: هل يمكن اعتبار قواعد سلوك المهنة قواعد قانونية ملزمة وعند مخالفتها تترتب مسؤولية المهني؟ وهل يمكن للقضاء المدني أن يحتكم إلى هذه القواعد ليحدد الخطأ المهني ويرتب مسؤولية المهني عن الضرر الناشئ عن الإخلال بهذه القواعد؟
نجيب على هذين التساؤلين من خلال رصد مواقف الفقه من مدى اعتبار قواعد أخلاقيات المهنة مصدرا لالتزامات ذوي المهن الحرة، وكذا موقف القضاء من خلال مدى اعتماد المحاكم على قواعد أخلاق المهنة من أجل مساءلة المهني عن أخطائه المهنية.
وستتم الإجابة باعتماد نموذجين للمهن الحرة ويتعلق الأمر كل من المحامي والموثق.
المطلب الأول: مدى اعتبار قواعد أخلاقيات المهنة مصدر ا لالتزامات المحامي والموثق
اختلفت آراء الفقه بخصوص إلزامية قواعد أخلاقيات المهنة بين من اعتبرها قواعد ملزمة، وبين من أنكر على قواعد أخلاقيات المهنة صفة الإلزام، وإذا كان الاتجاه الأخير قد بنى رأيه على أساسا افتقار قواعد أخلاقيات المهنة على خصائص القاعدة القانونية وخاصة عنصر الجزاء على اعتبار أن هذا الأخير يعتبر أهم معيار للتمييز بين القاعدة القانونية والقاعدة الأخلاقية، فإن الاتجاه المناصر لاعتبار قواعد أخلاقيات المهنة قواعد ملزمة فصفة الإلزام تجد أساسها لدى أصحاب هذا الرأي في أعراف المهنة وتقاليدها وما الجزاءات التأديبية إلا نتيجة عن مخالفتها، وهذه الجزاءات التأديبية وإن كانت تختلف عن الجزاء المدني أو الجزاء الجنائي فإنها لا تقل عنهما أهمية من حيث قوتها في الردع، فالتشطيب على المحامي أو الموثق من لائحة الممارسين ومنعهم من ممارسة المهنة قد يكون أخطر من الحكم عليه بالتعويض المادي يحكم به أمام المحاكم العادية إعمالا لقواعد المسؤولية المدنية[29].
ولتوضيح الصورة أكثر سنتعرض في (فقرة أولى) لحالة إخلال المحامي بقواعد أخلاقيات المهنة، على أن نتطرق في (الفقرة الثانية) لحالة الموثق.
الفقرة الأولى: أخلاقيات مهنة المحاماة
المحامي هو رجل القانون المؤهل للدفاع عن الحقوق بمختلف أنواعها المادية والأدبية والحريات الفردية وغيرها، لذلك خول له المشرع مجموعة من الصلاحيات والمهام المرتبطة بمهنة المحاماة باعتبارها مهنة حرة ومستقلة وشريفة، وتقديرا لهذه الثقة التي وضعها المشرع في المحامي فإن من واجبه أن يترجم هذه الثقة إلى أفعال ويحافظ على المكانة الرفيعة التي بوأها له القانون[30]، وبالتالي يكون المحامي ملزما بالوفاء بالتزاماته وإلا ترتبت مسؤوليته.
والمسؤولية ليست ذات طبيعة واحدة فهي على أنواع، فهناك المسؤولية المدنية القائمة على الخطأ والضرر والعلاقة السببية بينهما، وهناك المسؤولية الجنائية وهي تقوم على ارتكاب أحد الأفعال المجرمة بمقتضى القانون الجنائي، ثم هناك المسؤولية التأديبية وهي التي تكون على شكل أخطاء أو مخالفات لا تتخذ لا الصيغة المدنية ولا الصيغة الجنائية وإنما يتم فيها الإخلال بضوابط المهنة وأصول اللياقة وأعراف وتقاليد وقواعد ممارسة المهنة.
تنص المادة 3 من القانون المنظم لمهنة المحاماة المغربي الحالي على ما يلي: "يتقيد المحامي في سلوكه المهني بمبادئ الاستقلال والتجرد والنزاهة والكرامة والشرف وما تقتضيه الأخلاق الحميدة وأعراف وتقاليد المهنة".....وهي مبادئ يجب على المحامي التقيد بها وبمفهوم المخالفة للمادة المذكورة فإن الإخلال بهذه المبادئ أو عدم التقيد بها في السلوك المهني للمحامي يشكل مخالفة تأديبية تستوجب المؤاخذة التأديبية.
كما جاء في المادة 12 من القانون المتعلق بالمحاماة بالمغرب الحالي ما يلي: " أقسم بالله العظيم أن أمارس مهام الدفاع والاستشارة بشرف وكرامة وضمير ونزاهة واستقلال وإنسانية وأن لا أحيد عن الاحترام الواجب للمؤسسات القضائية وقواعد المهنة التي أنتمي إليها وأن أحافظ على السر المهني وأن لا أبوح أو أنشر ما يخالف القوانين والأنظمة والأخلاق العامة وأمام الدولة والسلم العموميين" وبمفهوم المخالفة لنص المادة فإن الإخلال بالقسم المهني يعتبر مخالفة تأديبية.
واضح إذن أن رسالة المحامي غير عادية وتخضع لقانون الشرف، إذ على المحامي أن يتسلح بسلاح الفضيلة والكرامة، وفي هذا يقول الأستاذ لورديكماستر: " إن الصفات التي يجب أن يتسلح بها المحامي، هي أن يكون لديه إحساس بالشرف، وأن تتوفر لديه شجاعة لا تهزم، وعقيدة لا تزعزع"[31] وهذا ما كرسته جل قوانين الدول المنظمة لمهنة المحاماة ومنها المشرع المغربي الذي أوجب على المحامي قبل البدء في ممارسة مهام الدفاع وتقديم الاستشارة أن يقسم بممارستها بشرف وكرامة وضمير ونزاهة واستقلال وإنسانية وأن يتقيد في سلوك المهني بمبادئ الاستقلال والتجرد والنزاهة والكرامة والشرف وما تقتضيه الأخلاق الحميدة وأعراف وتقاليد المهنة.
لكن قد يحدث أن لا ينضبط المحامي لتلك المبادئ والقواعد المومأ إليها أعلاه فيرتكب مخالفة للنصوص القانونية أو التنظيمية، وقواعد المهنة أو أعرافها أو إخلاله بالمروءة والشرف، ولو تعلق الأمر بأعمال خارج النطاق المهني. وتتخذ المخالفات التي قد يأتيها المحامي أشكالا وصورا متعددة يصعب حصرها، ويمكن الإشارة إلى بعضها وهي كالتالي:
1- ممارسة العمل التجاري والقيام بأعمال السمسرة:
جاء في الفقرة الأخيرة من المادة 9 من مشروع النظام الداخلي الموحد لهيئات المحامين بالمغرب: " يمنع عليه ممارسة أي عمل من الأعمال التي تتنافى مع مهنة المحاماة مما حدده القانون المنظم للمهنة"، وهو ما أكدته بعض الأنظمة الداخلية لهيئات المحامين بالمغرب ومنها النظام الداخلي لهيئة المحامين بالرباط في المادة 26 منه، والنظام الداخلي لهيئة المحامين بمكناس في أحكام عامة والتي جاء فيها: " المحامي لا يعتبر تاجرا ويمنع عليه أي نشاط تجاري ولا يعتبر مكتبه محلا تجاريا ولا يطبق في حقه ما يسري أو يخضع له التجار".
بل إن نفس القانون كان أشد قسوة عندما ذهب إلى حد التشطيب من الجدول أو من لائحة المتمرنين على المحامي الذي أصبح نتيجة لظروف جديدة حدثت بعد تقيده، يوجد في حالة من حالات التنافي المنصوص عليها في الفصل 7 من نفس القانون.
وبالإضافة إلى ذلك فإن جل الأنظمة الداخلية لهيئات المحامين بالمغرب قد منعت المحامي من البحث عن الزبناء سواء بصفة شخصية أو بواسطة الغير. وقد نص النظام الداخلي لهيئة المحامين بالرباط في المادة 12 على الأفعال التي تشكل إخلال مهنيا خطيرا تعرض مرتكبها للعقوبات التأديبية:
" كل بحث عن الزبناء بسماع أو إعلانات محظورة كليا على المحامي سواء قام بصفة مباشرة أو بواسطة الغير، سواء كان ذلك بموافقته الصريحة أو الضمنية.
- كل اقتسام للأتعاب بين محام وأشخاص ليسو بمحامين أو كل تنازل عنها لفائدة الغير؛
- كل استغلال لزميل مساعدا كان أو متمرنا بمكتب آخر في جلب الزبناء أو الوساطة أو باقتسام الأتعاب معهم".
هكذا يظهر أن مهنة المحاماة تقوم على مبادئ الاستقامة والتنافس الشريف والابتعاد عن كل ما من شأنه أن يخدش كرامته ومصداقيته بصفة خاصة والمهنة بصفة عامة والتي تفرض عليه الالتزام بالأمانة والنزاهة وعدم الاستفادة من موضوع المهمة[32].
2- عدم الانضباط للقرارات والأعراف والتقاليد المهنية:
الأعراف والتقاليد هي نتيجة الممارسة المهنية وثمرة إحساس فردي وجماعي يسمو بمهنة المحاماة وهي قواعد وضوابط استقرت في وجدان وضمائر أصحاب المهنة الذين يحملون معهم شعورا بضرورة الالتزام بها وحمل الغير على مشاركتهم نفس الشعور وذات الإحساس، فهي قيم مهنية سامية يلتزم بها المهنيون ويتقيدون بها، وقد قال عنها النقيب عبد الواحد جعفر: " إن الفضيلة المهنية يجب أن تسكن القلوب وليس الأفواه وأن الاعتراف الحقيقي مرتبط بالاعتراف بالواجبات، وعندما تحترم الواجبات بيقظة وضمير ومسؤولية سنشيد رافعة للتحول من سجن مجتمع التأديب إلى فضاء مجتمع الانتشار والإبتكار"[33].
وعموما فإن الأخلاقيات التي يجب على المحامي الالتزام بها هي عديدة منها ما يخص مهنة المحاماة، ومنها ما يشترك فيه مع بعض المهن الحرة كالالتزام بالمحافظة على السر المهني وعدم القيام بأعمال السمسرة....إلخ.
الفقرة الثانية: أخلاقيات مهنة التوثيق
مهنة التوثيق من المهن القانونية المنظمة، وتعتمد في تنظيمها على مرجعية قانونية تتمثل في القانون الأساسي للمهنة، إلا أن هذه المرجعية ليست هي المصدر الوحيد لقواعد مهنة التوثيق، بل هناك أيضا إلى جانب هذه القواعد القانونية ضوابط أخرى يخضع لها المنضوون تحت المهنة والمزاولون لها وهي أخلاقيات المهنة، أو ما يعبر عنه بأعراف المهنة وتقاليدها وأدبياتها.
وإذا كان معيار الكفاءة المهنية والثقافة القانونية وتقنية تحرير العقود من بين الضوابط الهامة لمهنة التوثيق، فإن أدبيات وأخلاقيات المهنة تأتي في صدارة الضوابط وتشكل دعامة أساسية للمهنة، فهي من ثوابتها ومقوماتها وهي النقطة المركزية تدور معها المهنة وجودا وعدما، منها تستمد قوتها وإشعاعها ويشكل التمسك بها سبيلا لإشاعة الثقة بين الموثق وزبونه، وبينه وبين شركائه الذين يشاركونه في عملية التوثيق، وعلى النقيض فإن اضمحلال هذه الأخلاقيات واندثارها وزوالها بين عموم الموثقين ينعكس سلبا على المهنة فتفقد رونقها وتعيش أزمتها[34].
والكلام في أخلاقيات مهنة التوثيق هو الحديث عن حياة الموثق اليومية وسلوكه ونمط حياته في المحيط الذي يزاول فيه مهنته، وهو محيط يضم من يتعامل معهم الموثق ويحرر لفائدتهم العقود، كما يتعلق الأمر بعلاقته بزملائه في المهنة، ومع نفسه أيضا.
1- أخلاقيات مهنة التوثيق التي تحكم الموثق بزبنائه:
في مقدمة الواجبات الأخلاقيات التي تربط الموثق بزبنائه أن يقدم الموثق النصيحة والرشد إلى طرفي العلاقة، لأن النصيحة تدخل في إطار مساعدة الأطراف على تفادي الوقوع في المحظور، بالإضافة إلى أن عدم الإرشاد الذي يسبب ضررا يرتب المسؤولية خصوصا وأن التزام الموثق هو التزام بتحقيق نتيجة مما يجعل الموثق يلتزم بضمان فعالية العقد مما يجعله بالتبعية ملزما بالنصح حتى لا يقدم على تحرير عقد لا جدوى منه ولا فعالية.
كما يلتزم الموثق تجاه الأطراف بالشفافية والصدق وعدم إخفاء الحقائق التي من شأنها أن تؤثر على العملية الموكولة إليه، وعليه أن يقدم المساعدة للأطراف عند وجود صعوبة في التلقي بسبب اختلاف اللغات وتباين الألسنة، وذلك بالاستعانة بترجمان مقبول لدى المحاكم أو بأي شخص يراه الموثق أهلا للقيام بهذه المهمة بعد قبول الطرف المعني.
ومن بين مظاهر أخلاقيات مهنة التوثيق أيضا أن يلتزم الموثق في ممارسة مهنته بالتصرف بكل حياد واستقلالية وبشكل مناسب وبطريقة بناءة، وأن لا يمتنع عن القيام بالمطلوب منه، إلا إذا كان لسبب مشروع تحت طائلة المسؤولية المدنية في مواجهة المتضرر من الضرر المترتب عن هذا الامتناع.
وأقدس واجب يتحمله الموثق تجاه زبنائه هو المحافظة على السر المهني الذي يعتبر مقومات المهنة، ويعد رافعة تعلو بالمهنة إلى أعلى، فهو من أوكد الواجبات الملقاة على كاهل الموثق، إذ يمنع عليه أن يفشي سرا من الأسرار المهنية أو الأسرار الشخصية التي اطلع عليها بحكم المهنة، فهو مدين بالكتمان المطلق لسر زبونه لا يمكنه أن يفشيه إلا في حالات استثنائية جد ضيقة. إذا كانت هذه الأخلاقيات التي تربط الموثق بزبنائه فماذا عن أخلاقيات مهنة الموثق التي تنظم علاقته بزملائه؟
2- أخلاقيات المهنة التي تنظم علاقة الموثق بزملائه:
إن هذه الطائفة من الأخلاقيات المهنية التي تقوم أساسا على ما تقتضيه قواعد اللياقة والآداب التي يجب أن تسود كل تصرفات الموثق مع زملائه في المهنة الذين يوقعون فيما بينهم ميثاق شرف يضم قيما أخلاقية مستقرة في ضمائرهم ووجدانهم.
وتتأسس الزمالة بين الموثقين على الثقة والتضامن والتكافل التي تأتي مضامينها على شكل ميثاق غير مكتوب، ومن صور هذه القيم أن الموثق لا يجوز له أن ينافس زميله منافسة غير مشروعة أو تتنافى مع خصوصيات المهنة كأن يقوم الموثق مباشرة أو بواسطة الغير بأي إشهار لجلب الزبناء. ومن مظاهر الأخلاقيات أيضا التضامن بين الزملاء والذي من صوره أن لا يقبل الموثق القيام بمهمة سبق لزميل له أن كلف بها إلا بعد استئذانه والتحقق من توصله بأتعابه ومصاريف مكتبه، كما يقتضي أيضا مساندة الزميل الذي يعاني مكروها وشد أزره للتغلب على الصعوبات التي يتخبط فيها.
وصفوة القول أن الصور السالفة ما هي إلا الحدود الدنيا من القدر الواجب احترامه من الموثق، إذ تبقى القاعدة العامة أن الموثق يلتزم بكل ضوابط المهنة التي تواضع عليها الموثقون وكل القواعد النابعة من الآداب، لأن كل تصرف مزعج من شأنه أن ينال من قدسية وسلوكيات وقيم المهنة، بمعنى أنه يتعين الابتعاد عن كل ما يسيء إلى المهنة بمختلف الإساءات التي يمجها الذوق السليم والخلق القويم بين عموم الناس.
المطلب الثاني: جزاء الإخلال بقواعد وأخلاقيات المهنية
إن العقوبات التأديبية المنصوص عليها في القانون ما هي إلا جزاءات عن إخلال المهني بأخلاقيات المهنة، وسنتطرق لهذه العقوبات في (فقرة أولى) على أن نتطرق للمساطر والجهات التي تقع عليها مهمة إنزال العقوبات التأديبية في (فقرة ثانية).
الفقرة الأولى: العقوبات التأديبية
لا شك أن لكل مهنة واجباتها الأدبية تنشأ معها وتترعرع في أحضانها، ويجد الممارس لهذه المهن نفسه ملزما بها بوازع من ضميره وبباعث من خلقه، دون النظر إلى إهتمام المشرع بها من عدمه[35].
وحتى تحفظ لهذه المهن جلالها ومكانتها تشدد المشرع في كل خطأ يمكن أن يصدر من المهني أثناء مزاولته لمهنته، حيث يبدو واضحا من الاطلاع على القانون المنظم لمهنة المحاماة، والقانون المنظم لمهنة الهندسة المعمارية، وكذا القانون رقم 03-16 المنظم لخطة العدالة، أن المشرع المغربي قد تشدد في الجزاءات التأديبية على المهني المخل بالتزاماته المهنية، غير أن المشرع المغربي لم يحدد الأعمال التي تعتبر أخطاء تأديبية، وإنما لجأ على غرار التشريع المقارن إلى وضع صياغة عامة تخضع إلى تقدير الجهة التي يعود إليها الاختصاص في هذا المجال[36].
فكل مخالفة للنصوص القانونية والتنظيمية وقواعد المهنة، وكل إخلال بالمروءة والشرف ولو تعلق الأمر بأعمال خارجة عن النطاق المهني تعد أخطاء تأديبية يمكن المعاقبة عليها طيلة مدة معينة، هذه المدة تختلف من مهنة لأخرى، وكل إجراء من إجراءات التحقيق تتخذه السلطة التأديبية، أو تأمر به يوقف أمد التقادم، فالمادة 42 مثلا من القانون المنظم لخطة العدالة تصرح بأنه: "يتعرض العدل كلما ارتكب مخالفة للقواعد المقررة أو إخلالا بالواجبات المفروضة عليه طبقا للنصوص القانونية أو التنظيمية المعمول بها لمتابعة تأديبية، وفق المقتضيات المحددة..." ولا تحول المتابعة التأديبية دون تحريك الدعوى العمومية من قبل النيابة العامة أو المتضررين، زجرا للأفعال التي تكون جنحا أو جنايات[37].
وقد حدد المشرع المغربي في القانون التنظيمي لمهنة المحاماة وفي مدونة الهندسة المعمارية، وفي القانون المتعلق بخطة العدالة العقوبات التأديبية التي يمكن للمجلس أن يحكم بها على المهني المتابع، وهي إما عقوبات أصلية وإما عقوبات إضافية. علما أن العقوبات الأصلية هي التي يسوغ الحكم بها وحدها دون أن تنضاف إليها عقوبات أخرى، أما العقوبات الإضافية فهي التي لا يمكن الحكم بها وحدها، ولا يمكن أن تكون إلا مندمجة في حكم بعقوبة أصلية.
هكذا ينص الفصل 43 من قانون 03-16 المتعلق بخطة العدالة على ما يلي: " تحدد العقوبات التأديبية فيما يلي:
-         الإنذار؛
-         التوبيخ؛
-         الإقصاء المؤقت عن العمل لمدة لا تتجاوز سنة؛
-         العزل"
وقد تعرض المشرع كذلك للعقوبات التأديبية الأصلية منها والإضافية في المادة 60 من القانون المنظم لمهنة المحاماة، حيث جاء فيها أن العقوبات التأديبية هي:
- الإنذار؛
- التوبيخ؛
- الإيقاف عن ممارسة المهنة لمدة لا تزيد عن ثلاث سنوات؛
- التشطيب من الجدول أو من قائمة التمرين أو سحب الصفة الشرفية.
ويمكن أن يتضمن المقرر الصادر بالإنذار أو التوبيخ أو الإيقاف عقوبة إضافية بتعليق منطوقه بكتابة الهيئة لمدة معينة. وكذا في مدونة الهندسة المعمارية حيث نصت المادة 74 على العقوبات الأصلية " الإنذار – التوبيخ – الوقف عن ممارسة المهنة لمدة لا تتجاوز ستة أشهر – سحب الإذن في ممارسة المهنة بصورة نهائية، وتصدر العقوبات الثلاث الأولى عن مجالس الهيئة.
وتقرر الإدارة سحب الإذن بصورة نهائية بناء على اقتراح من المجلس الوطني للهيئة".
كما نصت المادة 79 على العقوبات التأديبية الإضافية حيث: " يمكن للمجلس التأديبي أن يضيف إلى الإنذار أو التوبيخ أو الوقف عن ممارسة المهنة كعقوبة تكميلية تتمثل في منع المعني بالأمر من عضوية مجالس الهيئة طوال مدة لا تتجاوز 6 سنوات".
وبخصوص التطبيقات العملية للقضاء المغربي لحالات عرضت عليه تتعلق بإلإخلال بقواعد أخلاقيات المهنة نسوق هنا ما جاء في قرار صادر عن محكمة الاستئناف بالدار البيضاء بتاريخ 3 يوليوز 1987 ومن ضمن ما جاء فيه: " إن القواعد الخاصة التي تنظم مهنة المحاماة ويلتزم المحامي بممارسة مهنته وفقا للقواعد المنصوص عليها في القانون المنظم لمهنة المحاماة والمبادرة المنصوص عليها في النظام الداخلي لكل نقابة.
-         إن إفادة النقيب بما يخالف الحقيقة يعد إخلالا بالاحترام الواجب له ويندرج ذلك تحت المخالفات المهنية المنصوص عليها في الفصل 115 من النظام الداخلي لهيئة المحامين بالدار البيضاء.
-         إن استعمال المحامي لعبارات مشينة في حق زميله حتى ولو في الرسائل المتبادلة بينهما يشكل مخالفة عدم التحلي بقواعد الزمالة كما هي واضحة في الفصل 24 من النظام الداخلي"[38].
يتضح من خلال ما سبق عرضه أن الجزاءات التأديبية التي أتى بها المشرع أو تضمنتها الأنظمة الداخلية لكل مهنة حرة، ما هي إلا إقرار باعتبار قواعد أخلاقيات المهنة مصدرا من مصادر التزامات ذوي المهن الحرة، وأن أي لإخلال بها إلا ويرتب جزاءات تأديبية قد تكون في بعض الأحيان أقسى من العقوبات المدنية أو الجنائية.
كما أن صرامة العقوبات والجزاءات التأديبية المقررة بالنسبة للمهني في حال متابعته تأديبيا تمنح  للزبون أو المستهلك حق تحريك المتابعة التأديبية في كل وقت ظن فيه أن المهني قد أخل بالتزاماته، وبما تفرضه عليه أصول المهنة، حيث قد تصل العقوبة التأديبية درجة العزل (العدول)، أو التشطيب من الجدول (المحامين) أو السحب النهائي للإذن بممارسة المهنة (المهندسين المعماريين)، وما هذا الحق المخول للزبون إلا مظهر من مظاهر تشدد المشرع على المهني.
هذا وإن كان القانون قد أحاط المتابعة التأديبية بضمانتين هامتين تتجلى الأولى في كون الجهة المختصة بالتأديب ما هي في نهاية المطاف إلا أعضاء في مجلس أو هيئة يزاولون نفس مهنة المهني المتابع، ولا يستبعد هنا تعاطفهم معه، وتتجلى الضمانة الثانية في حق المهني في الطعن في المقررات التأديبية الصادرة في حقه، وهو ما يحقق وإن بتحفظ نوعا من التوازن بين مصلحة الزبون ومصلحة المهني.
الفقرة الثانية: مسطرة المتابعة والجهات المختصة بالتأديب
لقد حدد المشرع الجهات المختصة بالتأديب والعقوبات التأديبية ونظم الإجراءات الواجب إتباعها للتحقيق، وإذا كان مجلس الهيئة المؤلف من أعضاء نقابة المحامين هو المختص بالتأديب بالنسبة للمحامين، والمجالس الجهوية ابتدائيا والمجلس الوطني استئنافيا هي من تمارس سلطة هيئة المهندسين المعماريين في الميدان التأديبي بالنسبة للمهندسين، فإن تحريك مسطرة تأديب المحامي قد تتم بناء على شكوى تقدم من الوكيل العام للملك، أو من المتظلم نفسه أو تلقائيا من قبل مجلس الهيئة، أما تحريك مسطرة تأديب المهندس المعماري فتتم بشكوى صادرة عن أي شخص يعنيه الأمر تنسب إلى مهندس معماري ارتكاب خطأ شخصي يبرر إقامة دعوى تأديبية عليه، أو من طرف رئيس المجلس الجهوي إما تلقائيا أو بطلب من ثلثي أعضاء المجلس أو من رئيس المجلس الوطني أو تقوم بتقديمها الإدارة أو نقابة أو جمعية للمهندسين المعماريين[39].
خاتمة:
 في ختام هذا البحث نستنتج أن موقف المشرع المغربي مازال موقفا تقليديا حيث يراعي أساسا مصلحة المهني على حساب المستهلك، ففي جل الحالات تكون المسؤولية المهنية قائمة على خطأ واجب الإثبات وليس خطأ مفترضا، والخطأ يكون عقديا وليس تقصيريا، بالإضافة إلى وجوب اشتراط أن يكون جسيما، والإلتزام هو ببذل عناية وليس بتحقيق نتيجة، والتأمين غالبا ما يكون اختياريا وليس إجباريا.
ونحن أمام هذا الميل الواضح لمصالح المهني لا يمكن إلا أن نسجل هذا الموقف السلبي للمشرع اتجاه المستهلك، وندعوه إلى إعادة النظر في أساس المسؤولية المهنية، وذلك نحو تبني خيار التشريعات الحديثة القائمة على إعمال كل من فكرتي الضمان والتأمين، كما نناشد المشرع كذلك بأن يعمل على تحقيق توازنا عادلا بين المهني ومستهلك خدمات هذا الأخير.
كما ننتظر من المشرع أن يوفر الآليات القانونية المناسبة لضمان تكوين مستمر لمزاولي المهن الحرة، وذلك بغاية مواكبة التطورات العملية التي تعرفها تلك المهن، ودرءا للمخاطر المحتملة التي قد تصيب المستهلكين من جراء جهل أو رعونة المهنيين.
لائحة المراجع المعتمدة
ü     أحمد ادريوش (تقديم أحمد شكري السباعي): مسؤولية الأطباء المدنية بالمغرب (محاولة في تأصيل فقه القضاء واجتهاد الفقه) دار النشر للمعرفة، الرباط، 1989.
ü     أحمد حسن بدعي: " نظرية الالتزام في القانون المغربي" الشركة الجديدة، دار الثقافة طبعة 1989.
ü     الحمزاوي موحى: " مسؤولية المحامي في التشريع المغربي" مكتبة إديال المغرب، 1994.
ü     طاهر كركري: المسؤولية المدنية (التقصيرية والعقدية) مطبعة أنفوابرانت.
ü     عبد الجليل اليزيدي: "تأصيل الخطأ في المسؤولية المهنية بين النظام الفقهي والنص القانوني" أطروحة لنيل الدكتوراه في الحقوق، جامعة القاضي عياض، مراكش السنة الجامعية 2004-2005.
ü     عبد الحق صافي: " دروس في القانون المدني، مصادر الالتزامات)، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، الطبعة الثانية 2004.
ü     عبد القادر العرعاري: " مصادر الالتزامات، الكتاب الثاني: المسؤولية المدنية"، مطبعة الكرامة، الرباط، الطبعة الثانية 2005[1] - عبد الباقي محمود سوادي: " مسؤولية المحامي المدنية عن أخطائه المهنية" مكتبة دار الثقافة للنشر والتوزيع، عمان – الأردن – طبعة 1999.
ü     عبد القادر العرعاري: "مصادر الإلتزامات الكتاب الثاني: المسؤولية المدنية" الطبعة الثانية، 2005.
ü     عبد اللطيف الحسيني: " المسؤولية المسؤولية المهنية عن الأخطاء المهنية" دار الكتاب اللبناني 1987.
ü     عبد الله درميش: " أخلاقيات مهنة التوثيق وسلطة التنظيم"، مجلة رحاب المحاكم العدد الثالث دجنبر 2009.
ü     عبد الواحد جعفر: "قواعد مهنة المحاماة" الطبعة الأولى سنة 1999 مطبعة النجاح الجديدة .
ü     محسن عبد الحميد إبراهيم " نظرة حديثة إلى خطأ الطبيب الموجب للمسؤولية المدنية في ظل القواعد القانونية التقليدية" مكتبة الجلاء الجديدة 1993.
ü     محمد الشرقاني: " القانون المدني (العقد، الإرادة المنفردة، المسؤولية التقصيرية)، مطبعة دار القلم – الرباط- الطبعة الأولى يناير 2003.
ü     محمد الشرقاني: "المسؤولية المدنية" طبعة 2011-2012.
ü     محمد الكشبور: " حوادث الشغل والأمراض المهنية – المسؤولية والتعويض-" الطبعة الأولى، مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء 1995.
ü     محمد بلهاشمي التسولي: " رسالة المحامي عبر التاريخ" الجزء الأول الطبعة الثانية مطبعة الوراقة الوطنية 2009.
ü     محمد بنجلون: "شرح القانون الجنائي العام وتطبيقاته" سنة 2000.
ü     محمد شكري سرور: " مسؤولية مهندسي ومقاولي البناء" دراسة مقارنة دار الفكر العربي.
ü     محمد عبد النباوي (تقديم محمد الكشبور): " المسؤولية المدنية لأطباء القطاع الخاص، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، الطبعة 2005.
ü     المعزوزو البكاي: "تأمين المسؤولية المدنية في حوادث السير بين السقوط وعدم الضمان" أطروحة لنيل دكتوراه في القانون الخاص الموسم الجامعي 2001-2002.
ü     وفاء الصالحي: "الممارسة المهنية بين المسؤولية والأخلاقيات" ، منشورات المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، دجنبر 2008، العدد 83.


[1] - محمد الكشبور: " حوادث الشغل والأمراض المهنية – المسؤولية والتعويض-" الطبعة الأولى، مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء 1995 ص. 16.
[2] - محمد بنجلون: "شرح القانون الجنائي العام وتطبيقاته" سنة 2000 ص. 125.
[3] - عبد اللطيف الحسيني: " المسؤولية المسؤولية المهنية عن الأخطاء المهنية" دار الكتاب اللبناني 1987، ص.313 وما بعدها.
- أشارت إليه وفاء الصالحي: "الممارسة المهنية بين المسؤولية والأخلاقيات" ، منشورات المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، دجنبر 2008، العدد 83.
 [4]- محمد الشرقاني: "المسؤولية المدنية" طبعة 2011-2012 ص. 279.
[5] - عبد القادر العرعاري: "مصادر الإلتزامات الكتاب الثاني: المسؤولية المدنية" الطبعة الثانية، 2005، ص. 35.
 [6]- يعد الفقيه (ديموج) (Demogue) أول من قال بهذه التفرقة بين الالتزامات بغاية والالتزامات بعناية، إلا أنه بالرجوع إلى مقتضيات الفقه الإسلامي بخصوص هذا الموضوع، يتبين لنا أن هذا التصنيف لم يكن غريبا عنهم، وقد بحثوه في الأبواب المتعلقة بيد الضمان ويد الأمانة، ومعيار التفرقة عندهم يكمن في فكرة المعاوضة، فإذا كان العقد على سبيل المعاوضة، فإن الضمان يستحق بمجرد الإخلال بالإلتزام، أما إذا كان العقد على سبيل التبرع، فإن المدين لا يتحمل بالضمان إلا إذا ثبت الإهمال والتقصير في جانبه، وقد اعتبر هؤلاء الفقهاء كلا من البيع والقسم والصلح والمخارجة والقرض بمثابة عقود الضمان، في حين جعلوا من الوديعة والإعارة والوكالة عقودا للأمانة.
- أشار إليه عبد القادر العرعاري: م س ص. 35.
 [7]- عرض لطلبة الماستر تحت عنوان: أساس المسؤولية المهنية، وحدة القانون والمقاولة.
[8] - طاهر كركري: المسؤولية المدنية (التقصيرية والعقدية) مطبعة أنفوابرانت ص. 123.
[9] - عبد الجليل اليزيدي: "تأصيل الخطأ في المسؤولية المهنية بين النظام الفقهي والنص القانوني" أطروحة لنيل الدكتوراه في الحقوق، جامعة القاضي عياض، مراكش السنة الجامعية 2004-2005، ص. 304.
[10] - أحمد حسن بدعي: " نظرية الالتزام في القانون المغربي" الشركة الجديدة، دار الثقافة طبعة 1989 ص. 18.
[11] - المعزوزو البكاي: "تأمين المسؤولية المدنية في حوادث السير بين السقوط وعدم الضمان" أطروحة لنيل دكتوراه في القانون الخاص الموسم الجامعي 2001-2002 ص. 172.
 [12]- المعزوز البكاي، م س ص. 173.
[13] - قرار المجلس الأعلى بتاريخ 28/02/1958 منشور بمجلة رابطة القضاء عدد 16 و17 سنة 22 مارس 1986.
أشار إليه المعزوز البكاي م س ص. 174.
 [14]- محمد شكري سرور: " مسؤولية مهندسي ومقاولي البناء" دراسة مقارنة دار الفكر العربي ص. 57.
[15] - نفسه.
[16] - محمد الشرقاني: " القانون المدني (العقد، الإرادة المنفردة، المسؤولية التقصيرية)، مطبعة دار القلم – الرباط- الطبعة الأولى يناير 2003، ص. 305.
[17] - عبد القادر العرعاري: " مصادر الالتزامات، الكتاب الثاني: المسؤولية المدنية"، مطبعة الكرامة، الرباط، الطبعة الثانية 2005 ص. 144.
 [18]- عبد الباقي محمود سوادي: " مسؤولية المحامي المدنية عن أخطائه المهنية" مكتبة دار الثقافة للنشر والتوزيع، عمان – الأردن – طبعة 1999، ص. 243.
 [19]- شكري سرور.
[20] - محمد عبد النباوي (تقديم محمد الكشبور): " المسؤولية المدنية لأطباء القطاع الخاص، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، الطبعة 2005، ص.ص. 159-161.
[21] - محمد الشرقاني: م س ص. 76.
[22] - عبد الحق صافي: " دروس في القانون المدني، مصادر الالتزامات)، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، الطبعة الثانية 2004، ص. 201.
[23] - محمد الشرقاني، م س ص. 310.
[24] - محسن عبد الحميد إبراهيم البنة
[25] - محسن عبد الحميد إبراهيم " نظرة حديثة إلى خطأ الطبيب الموجب للمسؤولية المدنية في ظل القواعد القانونية التقليدية" مكتبة الجلاء الجديدة 1993.ص. 238
[26] - سرور محمد شكري م س ص. 394.
[27] - أحمد ادريوش (تقديم أحمد شكري السباعي): مسؤولية الأطباء المدنية بالمغرب (محاولة في تأصيل فقه القضاء واجتهاد الفقه) دار النشر للمعرفة، الرباط، 1989، ص.ص. 120-121.
[28] - محمد عبد النباوي (تقديم محمد الكشبور) م س ص. 90.
[29] - وفاء الصالحي: م س ص.175.
[30] - محمد بلهاشمي التسولي: " رسالة المحامي عبر التاريخ" الجزء الأول الطبعة الثانية مطبعة الوراقة الوطنية 2009، ص. 152.
[31] - أشار إليها اسماعيلي مولاي حفيظ: المسؤولية التأديبية للمحامي" رسالة لنيل دبلوم الماستر السنة الجامعية 2009-2010، ص.39.
[32] - اسماعيلي مولاي حفيظ: م س ص. 45.
[33] - عبد الواحد جعفر: "قواعد مهنة المحاماة" الطبعة الأولى سنة 1999 مطبعة النجاح الجديدة ص. 9.
[34] - عبد الله درميش: " أخلاقيات مهنة التوثيق وسلطة التنظيم"، مجلة رحاب المحاكم العدد الثالث دجنبر 2009، ص.2-3.
[35] - سرور محمد شكري م س ص. 394.
[36] - الحمزاوي موحى: " مسؤولية المحامي في التشريع المغربي" مكتبة إديال المغرب، 1994 ص. 136.
[37] - المادة 46 من القانون رقم 03-16 المتعلق بخطة العدالة.
[38] - قرار محكمة الاستئناف بالدار البيضاء رقم 1359 صادر بتاريخ 3 يوليوز 1987 ملف عدد 2382/86 منشور بمجلة المحاكم المغربية عدد 51، ص. 121.
[39] - المادة 85 من القانون المنظم لمهنة الهندسة المعمارية.

من أجل تحميل هذا المقال على شكل PDF - إضغط هنا أسفله
9anonak