قراءة في قرارات المجلس الأعلى المتعلقة بقضايا التطليق - التطليق للضرر نموذجا


قراءة في قرارات المجلس الأعلى المتعلقة بقضايا التطليق
- التطليق للضرر نموذجا -
من إعداد: محمد بيسي

9anonak
Lire les résolutions du Conseil suprême concernant les questions de divorce   - Modèle de divorce pour faute


قراءة في قرارات المجلس الأعلى المتعلقة بقضايا التطليق
"التطليق للضرر نموذجا"

ذة. زهور الحر
رئيسة غرفة بالمجلس الأعلى بالرباط

إن التشريع والتقنين مهما بلغ من الدقة والإحاطة بكل جوانب المادة المراد تقنينها لا يمكن أن يستوعب جميع الحالات ويضع الحلول لكل النوازل والقضايا التي يطرحها الواقع المعيشي في أي مجتمع من المجتمعات لذلك يبقى للقضاء دور أساسي في تطويع النصوص عن طريق تفسيرها وتأويلها والاجتهاد فيها للوصول إلى هدف المشرع وهو إقرار العدالة والإنصاف.
فالمشرع وهو بصدد وضع التشريع كان دائما يستنجد بالقضاء، لكي يترجم إرادته الرامية إلى تحقيق العدالة وفض النزاعات على نحو يضمن الحقوق والاستقرار في المعاملات وفي العلاقات.
وتظل القواعد المنظمة للأحوال الشخصية وقضايا الأسرة خير مثال على ذلك، ففيها يوجد هامش هام لسلطة القاضي في الاجتهاد وفي وضع قواعد ومبادئ مستنبطة ومستمدة من الفهم الصحيح والعميق لإرادة المشرع، ورفع ما قد يشوب النص من غموض والتباس، وأحيانا في سد للثغرات التي من الطبيعي أن توجد في كل تشريع مهما بلغ من الشمولية والدقة لذلك فإن الاجتهاد القضائي والعمل القضائي يعد أحد مصادر التشريع والتقنين فكثيرا ما يأخذ المشرع قواعده ونصوصه مما انتهى إليه الاجتهاد القضائي خاصة إذا كان صادرا من أعلى هرم في المؤسسة القضائية وهو المجلس الأعلى.
وفي القضايا المتعلقة بالأحوال الشخصية والأسرة كانت مقاصد المشرع وأهدافه هو الحفاظ على استقرار الأسرة واستمرارها من خلال خلق توازن في العلاقات السائدة بين طرفيها الزوج والزوجة، ومن خلال ضمان حقوق الأطفال وهم الجانب الأضعف في هذه العلاقة.
لكن إلى أي حد استطاع التشريع وإلى جانبه العمل القضائي تحقيق هذه الأهداف النبيلة؟
ففي ظل مدونة الأحوال الشخصية الصادر في نونبر 1957 إلى غاية 3 فبراير 2004 وهو تاريخ دخول مدونة الأسرة حيز التطبيق، ومرورا بتعديلات 1993، كانت المراكز القانونية لكل من الزوج والزوجة غير متكافئة، خاصة فيما يتعلق بإنهاء العلاقة الزوجية فقبل تعديلات 1993 كان يتم الطلاق من طرف الزوج بشكل انفرادي وبدون سبب، وأحيانا دون حضور الزوجة أو علمها مما تترتب عنه آثار وخيمة بالنسبة للزوجة وبالنسبة للأطفال وكان كذلك يتم خلال أيام معدودة بإجراءات سهلة ومبسطة، على عكس ما كان يتطلبه الأمر فيما لو تقدمت الزوجة بطلب التطليق بناء على أحد الأسباب المذكورة قانونا، حيث كانت الإجراءات معقدة والمساطر طويلة والوصول إلى النتيجة نسبته ضئيلة وهو ما خلق حالات من الاحتقان في العلاقات الأسرية، وخلق كذلك ظاهرة البحث عن حلول بديلة تجلت في اللجوء إلى طلاق الخلع حيث تفتدي الزوجة نفسها بالمقابل الذي يرضى به الزوج حيث شكل طلاق الخلع في ظل مدونة الأحوال الشخصية نسبة وصلت إلى ما بين 58 في المائة و 60 في المائة. وللمقارنة فبعد تطبيق المدونة الجديدة انخفضت هذه النسبة المتعلقة بطلاق الخلع إلى 38 في المائة حسب إحصائيات سنة  2006 ويمكن هنا أن نورد نموذجا لنوع من أنواع التطليق وهو تطليق للضرر وكيف تم التعامل معه من خلال قرارات المجلس الأعلى.
يستفاد من الفصل 56 من مدونة الأحوال الشخصية أنه إذا ادعت الزوجة على زوجها أضراره بها بأي نوع من أنواع الضرر الذي لا يستطاع معه دوام العشرة بين أمثالها وثبت ما ادعته وعجز القاضي عن الإصلاح بينهما طلقها عليه وأنه في حالة ما إذا تم رفض طلب التطليق وتكررت الشكوى ولم يثبت الضرر بعث القاضي بحكمين للسداد بينهما حول أسباب الشقاق فإذا أمكن الصلح فذاك، و إلا رفع الأمر إلى القاضي لينظر في القضية حسب التقرير المنجز من طرف الحكمين.
وبما أن هذا الفصل هو الوحيد الذي ينظم أحكام التطليق للضرر فإن مسألة مفهوم الضرر وأنواعه التي تخول الحق في طلب التطليق، وكذا وسائل الإثبات المقبولة لإثبات الضرر وطريقة تحديد التعويض المستحق عن الأضرار الناجمة عن فعل الضرر المرتكب من الزوج ظلت ضمن الهامش الذي يخضع للسلطة التقديرية للعمل القضائي واجتهاده.
فكيف تم تفسير مفهوم الضرر وصوره وكذا وسائل الإثبات المقبولة؟
أولا : مفهوم الضرر
فيما يخص مفهوم الضرر وصوره التي تعتبر ضررا مبررا للتطليق صدر عن المجلس الأعلى قرار بتاريخ 21 يوليوز 1987 تحت عدد 844  في نازلة تقدمت فيها الزوجة بطلب التطليق لآن زوجها طردها من بيت الزوجية وأسكن زوجة أخرى في بيتها ومكنها من ملبوسها وفراشها وحليها، ووصل به الأمر إلى اتهامها بارتكاب الخيانة الزوجية والزنى مع شيخ من أصدقاء أبيها بواسطة تصريح أدلى به الزوج أمام الضابطة القضائية، مما الحق بها ضررا وشوه سمعتها وهي أم لأربعة أطفال وبعد الإجراءات المسطرية قضت المحكمة الابتدائية برفض طلب التطليق بعلة أن إقدام الزوج على تقديم شكاية بالخيانة الزوجية لا يعتبر قذفا لها بالزنى لأنه مارس حقا مشروعا، كما أن الزوجة لم تدل بما يفيد أن الزوج أساء معاشرتها وألحق بها ضررا، وقد أيدته محكمة الاستئناف  إلا أن المجلس الأعلى نقض هذا القرار استنادا إلى أن اتهام الزوج لزوجته بالزنى وتعاطي الفساد يعتبر ضررا فادحا يبرر التطليق لقول خليل :"إن قذفها بزنى في نكاحه".
وفي قرار آخر صادر بتاريخ 3 يناير 2001 تحت عدد 4 اعتبر المجلس الأعلى : أن المشرع لم يقيد الضرر المدعى به من طرف الزوجة على زوجها في نوع معين وإنما أطلق فيه حتى أن الفقه عد من الضرر الذي تطلق به الزوجة تحويل زوجها وجهه عنها وقطع كلامه عنها، وأن محكمة الموضوع لما استخلصت من الوثائق المدلى بها بما لها من سلطة تقديرية في تقييم الحجج  لثبوت الضرر تكون قد عللت قرارها تعليلا كافيا ومطابقا للقانون.
وحول أنواع الضرر وأشكاله ظن وهل يعتبر الضرر المعنوي مخولا للتطليق إلى جانب الضرر المادي، ورد في قرار المجلس الأعلى صادر بتاريخ 11 أكتوبر 2000 تحت عدد 956:
إن المقصود بالضرر المبرر للتطليق سواء كان ماديا أو معنويا هو الذي يستحيل معه دوام العشرة الزوجية، ولو حدث مرة واحدة، إذ يقول الشيخ الزرقاني تعليقا على قول الشيخ خليل: ولها التطليق بالضرر البين، بل ولو لم تشهد البينة بتكراره ولو شهدت بأنه حصل مرة واحدة.
ومن أنواع الضرر الذي اعتمدها المجلس الأعلى ما جاء في القرار عدد 982 الصادر بتاريخ 19/11/2000. الذي اعتبر أن عدم الدخول بالزوجة وبقائها عذراء لعدة سنوات وهي ببيت الزوجية مع زوجها في فراش واحد من قبيل الضرر المبرر للتطليق والذي أدى إلى خلاف مستحكم بين الزوجين ونقض القرار الاستئنافي الذي قضى على الزوجة بالرجوع إلى بيت الزوجية.
وفي قرار آخر صادر بتاريخ 8/10/2000 تحت عدد 978 اعتبر المجلس الأعلى أن محكمة الموضوع لما اعتبرت أن التزام الزوج بعدم الاقتراب من زوجته والكلام معها سواء في البيت أو العمل أو الشارع دليل على التنافر واستحكام النزاع بين الطرفين بالإضافة إلى اعتماد قرائن وحجج أخرى في ثبوت الضرر تكون قد طبقت القانون.وفي قرار صادر عن محكمة الموضوع تم فيه رفض طلب التطليق للضرر رغم إدلاء الزوجة بالشواهد الطبية ورغم إدانة الزوج جنحيا طبقا للفصل 401 من القانون الجنائي بعلة أن الضرب وإن حصل فهو غير مبرح لأنه لم تنتج عنه عاهة مستديمة، إلا أنه بعض عرض القضية على المجلس الأعلى تم نقضه على أساس أن التعليل جاء فاسدا وخارقا لمقتضيات الفصل 56 من مدونة الأحوال الشخصية (قرار عدد 632 الصادر بتاريخ 13/6/2001) .
إن هذا المسار الذي نهجه المجلس الأعلى في التعامل مع أشكال الضرر والتوسع في مفهومه، وهذا التفسير الذي أعطاه من خلال العديد من القرارات، والانتقال من معيار موضوعي يعتمد أنواع الضرر الذي لا يستطيع معها دوام العشرة إلى معيار ذاتي يرتبط بفكرة النظام العام والأخلاق الحميدة وكل ما يجعل الزوجة غير قادرة على الاستمرار في العلاقة الزوجية كان وراء صياغة المادة 99 من مدونة الأسرة الجديدة التي نصت على أنه : (يعتبر ضررا مبررا لطلب التطليق كل تصرف أو سلوك مشين أو مخل الأخلاق الحميدة يلحق بالزوجة إساءة مادية أو معنوية تجعلها غير قادرة على الاستمرار في العلاقة الزوجية).

ثانيا : إثبات الضرر

وبالنسبة لوسائل الإثبات في التطليق للضرر، فقد كانت تشكل أحد المعيقات الأساسية في الحصول على التطليق، وكانت تشكل أحيانا تعجيزا للمتضررة التي كانت مطالبة بنوعية محددة لقبول الإثبات، خاصة وأن مكان الضرر يكون داخل بيت الزوجية وهو فضاء مغلق يصعب إطلاع الأخيار على ما يجري فيه.
ففي نازلة تقدمت فيها الزوجة بطلب التطليق للضرر على أساس أن الزوج اعتدى عليها اعتداءا شنيعا حيث تركها مثخنة بالجراح وقصدت الطبيب ولما رجعت وجدت البيت مغلقا ولا أثر للزوج أو الطفلين رغم أن أحدهما لازال رضيعا، مما جعلها تلجأ إلى بيت والديها وترفع شكاية إلى وكيل الملك حيث تمت متابعة الزوج وإدانته بحكم جنحي وأدلت بموجب سماعي لإثبات الضرر وقضت المحكمة الابتدائية بالتطليق وأيدته محكمة الاستئناف، إلا أنه بعد الطعن فيه أمام المجلس الأعلى من طرف الزوج استجاب المجلس لطلب النقض على أساس أن لفيف إثبات الضرر سماعي وأن شهوده يشهدون بمعرفتهم للزوجين ويجمعون أن الزوج يضر بزوجته بأنواع الضرر المختلفة وأن كل ذلك في علمهم وصحة يقينهم بالسماع الفاشي، وموجب كهذا لا يمكن قبوله شرعا لإثبات الضرر بالسماع إلا أن يشهد الشهود بأن إساءة الزوج لزوجته تكون من غير ذنب جنته لقول الزرقاني في شرحه لقول خليل: كأن يشهدوا بالسماع الفاشي أن فلانا يضر بزوجته بالإساءة إليها من غير ذنب صرح الشيخ أبو الغازي في شرحه لوثيقة إثبات ضرر الزوجين بالسماع نقلا عن الإمام المتيطي "التدريب على الوثائق" : فلا تكون الشهادة بالضرب أو الضرر عاملة حتى يقول الشهود أنه ضربها أو أضر بها من غير ذنب تستوجبه لذا فإن موجب إثبات الضرر السماعي الذي اعتمدته المحكمة في إثبات الضرر ساقط عن درجة الاعتبار وأنها قومته تقويما مخالفا لنصوص الفقه (قرار صادر بتاريخ 20/03/1984 تحت عدد 2546).
ومن حسن الحظ أن هذا القرار ظل يتيما وجاءت بعده مجموعة من القرارات التي صارت في اتجاه توسيع دائرة الإثبات فقد قضت محكمة الموضوع في نازلة بعدم قبول طلب التطليق على الحالة بحجة أن الموجب الذي شهد شهوده بأن الزوج يضر بزوجته غامض وعديم البيان لأنه لم يبين نوع الضرر. ولما تقدت الزوجة بالطعن فيه استجاب المجلس الأعلى على أساس أن محكمة الموضوع لما كان موجب الضرر المدلى به من الطاعنة ناقصا في نظرهما ولم تسألها هل في استطاعتها إتمامه أو الإدلاء بموجب أخر تكون قد أخلت بقاعدة جوهرية من قواعد المرافعات.
وفي نفس السياق نذكر القرار عدد 977 الصادر بتاريخ 18/10/2000 الذي رفض فيه المجلس الأعلى الطعن الذي تقدم به الزوج ضد القرار الاستئنافي القاضي بالتطليق للضرر مؤكدا : (إن الضرر المبرر للتطليق يعتبر واقعة مادية يمكن إثباته بجميع الوسائل التي  تستلخصها المحكمة من مجموع وثائق الملف وجلسات البحث وظروف النازلة، رغم أن الزوج دفع بكونه قد تم الحكم عليه بالبراءة مما اتهمته به الزوجة من الضرب والجرح . لكن محكمة الموضوع لم تأخذ بذلك وارتكزت على ما استخلصته من جلسات البحث التي أجرتها مع الطرفين ومن خلال الحجج المدرجة بالملف والتي تؤكد أن النزاع أصبح مستحكما بينهما منذ سنتين وأن استمرار المعاشرة بينهما أصبح مستحيلا).
وفي قرار آخر صادر بتاريخ 22/11/2000 تحت عدد 1124 اعتبر المجلس الأعلى أن للمحكمة السلطة التقديرية في تقييم الأدلة المعروضة عليها خاصة الحكم الجنحي القاضي بإدانة الطاعن بجنحة السكر العلني واعتباره ضررا لا يستطاع معه دوام العشرة.
انطلاقا من هذه التفسيرات التي أقرها المجلس الأعلى في وسائل الإثبات المعتمدة والتي حاول أن يجنح فيها إلى المرونة والتوسع بدل التضييق والتعجيز كانت صياغة المادة 100 من مدونة الأسرة التي نصت على أنه : تثبت وقائع الضرر بكل وسائل الإثبات بما فيها شهادة الشهود الذين تستمع إليهم المحكمة في غرفة المشورة.
فلم يعد الإثبات مقيدا في قوالب معينة كموجب اللفيف وشروطه الفقهية، بل أصبح القاضي هو الذي يستمع إلى الشهود في غرفة المشورة ويجري البحث للوقوف على الحجج والقرائن التي تبتت الضرر مستعملا سلطته التقديرية في تقديم الحجج والوثائق المدلى بها.
بل إن الواقع الذي كانت تعيشه بعض الزوجات اللواتي وجدن أنفسهن متضررات من علاقات زواج، لكن ليس لديهن وسائل إثبات جعل المشرع يصوغ الفقرة الثانية من المادة 100 الذي نصت على أنه: إذا لم تثبت الزوجة الضرر وأصرت على طلب التطليق يمكن اللجوء إلى مسطرة الشقاق.
كما أنه جعل الأحكام الصادرة بالتطليق مهما كان السبب هي أحكام نهائية غير قابلة لأي طعن في الشق المتعلق بالفرقة وتصبح نافذة بمجرد صدور الحكم الابتدائي، ولا يحتاج هذا الحكم إلى العدلين للإشهاد عليه، وهو ما أشار إليه القرار الصادر عن المجلس الأعلى بتاريخ 21/10/1975 تحت عدد 36 والذي ورد فيه:
(إن الحكم بالتطليق لا يحتاج إلى إشهاد به أمام العدلين ولا إلى تحرير رسم به ولا يتوقف على التجاء المرأة المحكوم بتطليقها إلى العدلين للإشهاد بأنها تطلق نفسها حتى تبتدئ عدتها، فالعدة تبدأ من تاريخ النطق بالحكم بالتطليق(.
وإذا كانت الفقرة الأخيرة من المادة 100 من مدونة الأسرة قد أحالت الزوجة المتضررة والتي لم تستطع إثبات الضرر ولا تريد الاستمرار في العلاقة الزوجية على مسطرة الشقاق. كما أن المادة 101 خولت للزوجة المطالبة بمبلغ التيض المستحق عن الضرر وهي تمارس دعوى التطليق للضرر، فإن ذلك ينطلق من فلسفة المشرع الذي أحدث مؤسسة التطليق للشقاق للخروج من النظرية التقليدية للتطليق المرتكزة على عنصر الضرر وإثباته إلى نظرية جديدة تعتمد على التوازن في المركز القانوني لطرفي العلاقة الزوجية، وذلك عن طريق الاعتراف للزوجة بحقها المماثل للزوج في إنهاء العلاقة الزوجية كلما استحال الاستمرار فيها وهو ما يجعل مؤسسة الزواج قائمة على الحوار والتفاهم وليس العنف والرضا والمساواة في الحقوق والواجبات.